محمد الحسيني
عُرِف السيّد بأنّه الحاضر دوماً على السّاحة الإسلاميّة والعربيّة والدّوليّة، وكذلك على السّاحة العلمية والدّينية والاجتماعية، ولم يكن ليغيب عن أيّ حدث، سواء بتحديد الموقف السياسي والشرعي تجاهه، أو بالتعليق عليه وإبداء الرأي، لم يكن يحجبه شيء، فيتذرّع، كما يتذرّع الآخرون، بالاعتبارات الاجتماعية أو التقاليد والموروثات والأعراف.
فقط قبل عشرة أيّام من رحيله صمت السيّد، وكان صمته مريباً، فقد استشعر محبّوه وأنصاره والعالم كلّه بأن ثمة أمراً خطيراً، إذ لم يألفوا هذا النّوع من الصّمت، فدقّ ناقوس الخطر، واضطربت قلوب المحبّين، وأنا منهم، بانتظار كلّ خبرٍ يتعلّق بصحّة السيد، لأنّه لم يكن ليحجب السيّد شيء عنهم، باستثناء الأمر الخطير، فتوافد المحبّون حيث يرقد في مشفاه "مستشفى بهمن"، وتجمّعوا عند بابه وفي الباحات.
وفجأةً، يصمت السيّد، ويتوقّف القلب الكبير، وتفيض الدّموع وتنزف العيون، ويبكيه الرّجال قبل النّساء، إلى درجةٍ يتخلّى فيه الرّجال عن كبريائهم، فلا يخفون دموعهم أو يضمرون مشاعرهم تجاهه.
رحل السيّد وهو (الرابح) الأكبر، لأنّه رحل إلى خالقه، وهو الّذي وطّد علاقته به، وشاد لحياته الآخرة موقعاً كما شاد لها موقعاً في حياته الدّنيا، وفي الطّرف المقابل، كنّا (الخاسر) الأكبر، ونحن نودّع السيّد في وقتٍ نحن أحوج ما نكون إليه.
في زمن العتمة، حيث لا نور ولا ضياء، يستهدي به النّاس ويستضيئون به، فمن لمنبر الجمعة الأصيل الواعي الهادي، ومن للموقف المسؤول العاقل القويّ، ومن للكلمة القويّة قوّة الإسلام، ومن للتّعبير عن الرؤية الإسلاميّة الواضحة الصّادقة تجاه رؤى وتيارات غازية تريد بالإسلام شرّاً... ومن لاحتضان أيتام المسلمين كباراً وصغاراً، ومن للمعوزين والمقهورين والفقراء والمساكين...؟!
كان السيّد أمّةً، وهو ما يُفسِّر حزننا ويبرِّره، فهو لسانُ الإسلام ويده، لا يكلّ عن الدّفاع عنه ولا يملّ، يدفع عنه الشّبهات كما الاتهامات، ويجلّي صورته كما هو في حقيقته النّاصعة. فكان أقرب النّاس إلى محمّد المصطفى وإلى عليّ المرتضى دونما مبالغة، وقد استعار من المصطفى حبّه العميق للنّاس، وهو الّذي كانت نفسه تذهب عليهم حسرات، فيما استعار من عليّ المرتضى جرأته في قول الحقّ، فضلاً عن البيان وبلاغة الكلم، وكان صدى للحسين في شجاعته، وللسجّاد في عبادته، وهو يقرأ مزامير آل محمّد بصوته العذب، الّذي طالما روّض قلوب المؤمنين، وشرّع نوافذها على محبّة الله...
سيّدي، سيبكيك منبرك ومحرابك وقلمك ومصحفك وطلابك و"ندوة السّبت" بدمشق ومحبّوك، وكلّ مجلسٍ فاض فيه أريجك وعطر كرمك وأخلاقك... وعزاؤنا أنّك ستولد من جديدٍ مع انتصار المجاهدين، وابتسامة الأيتام، وتألّق المتعلّمين في معاهدك ومدارسك المنتشرة في لبنان وغير لبنان، ومع إشراقة العقل والفكر... فصورتك لا يحجبها غربال كما تصوّر الجاهلون والسّفهاء...
بيّنات العراق
|