كلَّما تحرَّك الدّين باتجاه العقل اقترب الإنسان من الله
|
أوَّل ما يلفت في كلام المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله(ره)، هو رسم الدَّوائر في الفكر والسِّياسة والاجتماع، حيث الإنسان مركز الدّائرة.
والدَّوائر أكمل الأشكال الهندسيَّة، وهي تقترب من هندسة الكون وكواكبه، وكذلك العقل دائريّ في الفهم إذا اكتمل.
إنَّ دور العلماء من رجال الدّين، ضروريّ لتسهيل بعض شؤون النّاس الحياتيَّة، طالما لم يتحوّل الإنسان بعد إلى مواطنٍ في دولة الإنسان العاقل، والمستمدّ نظامه الاجتماعيّ والسّياسيّ من العقل وروحيَّة الأديان ومعناها. فالعقل يتطوَّر، ويتساوق معه الاجتماع البشريّ بمنظومة أفكاره وفلسفته.
كانت الأفكار تنسخ ما قبلها، أو تكمِّلها في مجالاتٍ مختلفة، ولكنَّها كانت دائماً تبقي على مفاهيم القيم المتعلِّقة بالإنسان ولا تزال، وإن أُسقِطَت أو لم تطبّق، فلعجز في الإنسان نفسه وليس في المفاهيم، فالجمال والحقّ والخير والعدالة والمساواة والمحبَّة بين البشر هي جوهر الأديان، وإرادة الله أن يرى الإنسان يحقِّق ذلك على الأرض من خلال الرِّسالات، لتوجيه هذا الكائن نحو الصِّراط المستقيم الّذي يقود إلى السَّماء بمعناها الخلاصيّ والرّوحانيّ والجماليّ، عبر الإيمان بجوهر الوجود والقيم الموجودة داخل الإنسان نفسه، والمنبثقة من العقل الكونيّ والكلّيّ.
السيِّد، العالِم، المثقَّف، المؤمن بالخالق، تجاوز بعض التَّفاصيل المملَّة والجزئِيَّات الّتي ضيَّعت الكثرة من البشر، وأَودت أو تكاد تودي بالإنسان والإيمان، ليرسم له إطاراً أشمل وأوضح، ينزع الكثير من الخرافات والأساطير الّتي عُلِّقت في أذهانهم، ويدلُّهم على طريق العقل والعلم كمرادفٍ للدّين ونهج للإيمان والانفتاح الفكريّ الدّينيّ على مدَيَات الفهم السَّليم والعلميّ، وفضاءات حوار أوسع وأبعد من "صوامع التَّزَمُّتِ والتعصُّبِ"، والتّمترس خلف مفاهيم وأفكار ربّما كانت نتاج وضرورة عصرها الّذي ولدت فيه.
ولعلَّ العبرة العقليَّة والفكريَّة من النّصّ تكمن في الجوهر أكثر من الشَّكل، أو في تحليل العلاقة القائمة ما بين لغة النصّ والمناسبة التاريخيّة وجدليّة الأسباب، والتَّفاعل والحراك الواقعيّ والاجتماعيّ للإنسان المقصود بالنَّص.
من هنا، ربما استطاع علاَّمتنا الكبير أن يحكِّم العقل في مسائل شرعيَّة حياتيَّة، ومشاكل فقهيَّة وعلمائيَّة متراكمة، لم تجرؤ الكثرة منهم أن تنفذ منها أو تتجاوزها بحلول وفتاوى مناسبة جريئة وعقلانيَّة وعصريَّة، فكان له قصب السَّبق في اجتراح أجوبةٍ منطقيَّةٍ وعلميَّةٍ لاقت استحساناً عند النَّاس، ولم تخرج عن جوهر الدّين أو الإيمان، وتطابقت أحياناً مع مفاهيم "الضَّرورات تبيح المحظورات"، لا بل إنها قرَّبت الدّين والمذهب من عقول وقلوب الكثرة من أتباع الأديان السَّماويَّة الثَّلاثة، أو حتّى من عقول اللامُتَدَيِّنين، أو لمناداته بضرورة تقديم مفهوم الأمن الإنسانيّ على مفهوم الأمن الدّوليّ، وبما يحفظ حياة الإنسان وكرامته، ويرفع الظّلم عنه، والإكراه بالمعنى المادّيّ والفكريّ، وأنَّ حياة الإنسان ومعناه أهمّ من الدّول والأنظمة وأصحاب السّلطة الَّذين توسَّلوا الدّين خدمةً لمصالحهم.
لقد فتح سماحته نافذةً وكوَّةً في جدار "المسكوت عنه"، إمَّا خوفاً أو تقيَّة، أو في سبيل مصلحة ما، أو حتّى تأليهاً لنصّ.
كذلك أوجد السيِّد(ره) مساحة جدلٍ ومدى ما بين بعض هذا النّصّ وطرق تطبيقه في المجتمع ووسائلها، وذلك بتسخير العقل وإِعمالِهِ، ليبقى الإيمان، ويحافظ على تلازم كينونة الإنسان الاجتماعيّ وبعده الإلهيّ. وهكذا، فقد كانت دعواته إلى حوارٍ عقلانيّ بين المذاهب والأديان، باباً للخلاص من السَّائد المأزوم، "فكلَّما تحرَّك الدّين باتجاه العقل، اقترب الإنسان من الله".
وسماحته تماهى في إنسانيّته وإيمانه، فكان فكره وعقله سلطاناً نفذ به من دوائر الدّنيا الصّغرى إلى رحاب الكون الواسع، فاقترب من الحقيقة، وأصبح الله إليه" قاب فكرتين أو أدنى"، أو قل: "على مرمى بصيرة أو بصر".
جريدة صدى البلد اللّبنانيّة - د.أحمد عَلَّو
|