للذّكرى، لأيّ عظيم من عظائمنا في التّاريخ، طريقتان في الإثارة وفي حركة الأجيال؛ هناك طريقة يعيش فيها النّاس في الماضي، بحيث تنتقل الأمّة إلى التاريخ لتسكن في التاريخ، ولتنفصل عن حاضرها، فنعيش مع الذين عاشوا في التاريخ دون أن نعطي حاضرنا أيّ شيء، وهناك طريقة أخرى، وهي أن ننقل التاريخ إلى الحاضر، لنجعله يتفاعل مع الحاضر، ويعطيه من إيحاءاته ومن أفكاره ومن خطواته ما يجعل منه قوّة تتحرّك نحو المستقبل.
طريقتان لإحياء الذّكرى
في الطريقة الأولى، لن تستفيد الأجيال شيئاً من التاريخ، ولن تستفيد من العظماء، بل تتحوّل المسألة عندهم إلى عبادة للعظيم، يذكرون فضائله، ويستغرقون في شخصيّته، وينسون دوره. وهذه طريقة الكثيرين الذين عاشوا مع العظماء في التأريخ ولكنهم لم يستفيدوا منهم شيئاً، كما نلاحظ في الكثيرين ممن يحتفلون بميلاد السيّد المسيح (ع) ويؤلّهونه، ولكنّهم لم يأخذوا منه شيئاً في كلّ حياتهم.
وهكذا الذين ينصبون للسيّدة العذراء (ع) مريم في كلّ مكان تمثالاً، ويتعبّدون للتمثال، ويعطون كلّ مشاعرهم وأحاسيسهم لها، ولكنهم ليسوا مستعدّين أن يقتربوا من روح مريم ومن طهر مريم خطوةً واحدة، هؤلاء يتعبّدون لمريم ولا يعيشونها.
وهكذا، نجد الكثيرين من المسلمين يستذكرون النبيّ محمداً (ص) في يوم مولده، ولكن أين محمّد وأين المسلمون؟ نحتفل به، نقيم الموالد في كلّ مناسبة، ولكن بشرط أن لا نسمح لمحمّد بأن يأتي إلى بيوتنا ليصلحها، أو يأتي إلى عقولنا ليحركها، أو يأتي إلى ساحاتنا حتى يدفعها نحو العمل ونحو الجهاد.
وهكذا، عندما ندخل في حياة أهل البيت (ع)، فسنتذكر عليّاً وفاطمة والحسن والحسين (ع)، بشرط أن يبقوا في أمكنتهم في التّاريخ، لأنهم إذا جاؤوا إلى حياتنا، فإنّهم يخرّبون علينا حياتنا التي اخترناها، في كلّ ما نأخذ فيه من ضلال وفسق وفجور وانحراف!
أمّا الطريقة الثانية، فهي أن ندعو عظماء التاريخ إلينا، نحن نقول للسيّد المسيح (ع) ولأمّه العذراء أن يزورانا في جيلنا هذا، لا زيارة الجسد، ولكن زيارة الفكر والأخلاق والحركة والجهاد. وهكذا عندما نتذكّر رسول الله (ص) وأهل بيته (ع)، فإننا نريدهم أن يأتوا إلينا ليدخلوا بيوتنا، وليدخلوا نوادينا، وليدخلوا كلّ ساحاتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، حتى نستطيع أن نستلهم منهم ما استلهمه الذين عاشوا معهم في التاريخ.
وإذا كنّا نعرف أنّ العظماء في عظمتهم لا يمثّلون جسداً، حتى يُقال إنّ الجسد قد أصبح تحت التراب وغاب عن أنظارنا، ولكنّهم يمثّلون روحاً والروح خالدة، ويمثّلون رسالة والرسالة خالدة، ويمثّلون حركة والحركة التي أطلقوها منذ انطلقوا، هي نفسها الحركة التي تتحرّك في حياتنا الآن.
استحضار فاطمة (ع)
في هذا الجوّ، أريد أن ندعو فاطمة (ع) إلى زيارتنا، أن يزورنا روح فاطمة وخلق فاطمة وحركة فاطمة ودور فاطمة ومناجاة فاطمة لله، وحركتها في توجيه المجتمع في الخطّ الذي يرفع للمجتمع مستواه ويقرّبه إلى الله. ذلك هو ما نحتاجه في احتفالاتنا؛ أن نقول لها في يوم ذكرى مولدها الذي كان انطلاقتها في كلّ ما قامت به، أن نقول لها: يا سيّدة النساء، ها هو جمهور النساء والرّجال ممن آمنوا بالرّسالة في إيمان أبيك بالرّسالة، وممن انفتحوا على زوجك في حركته في الجهاد، وممن انطلقوا مع ولديك الحسنين ومع الأئمّة من أولاد الحسين (ع) في خطّ الإسلام، يبنون للإسلام قاعدةً في كلّ مكان في خطّ أهل البيت، ويرفعون للإسلام هياكل في كلّ موقع من خلال أجواء أهل البيت (ع).
ونحن عشنا كلّ حياتك يا سيّدة النساء، عشناها في كلّ عاطفتك، وكلّ حنانك الذي أعطيته لأبيك، لا بصفة الأبوّة في شخصيّته، ولكن بصفة الرّسالة في وجدانه وفي حركته ووجوده. ولذلك، فإنّ عاطفتك تحوَّلت من عاطفةٍ إلى الأب، إلى عاطفة إلى الرسول، إلى عاطفة إلى الرسالة، إلى عاطفة لكلّ الأمّة التي سارت في خطّ الرسالة.
ولذلك، نحن يا سيّدة النساء، في كلّ هذه العاطفة الفيّاضة بالطّهر والحنان، نتحسّسها في كلّ حركتنا، وفي كلّ الآلام التي نعيشها، عندما يحتاج الحزين إلى لمسة حنان، وعندما يحتاج المثقل بالهمّ إلى شحنة من العاطفة.
هل نقتدي بفاطمة (ع)؟
لهذا، نحن عشناك يا سيّدة النساء، وفينا الذين يشعرون بعقدة النقص من شغل المرأة في البيت، فيخيَّل إليهم أنَّ شغل البيت يمثّل انتقاصاً للمرأة وتجميداً لطاقاتها. إنّنا عشناك يا سيّدة النساء، وأنت المثقلة بالأولاد ولداً ولداً، والمثقلة بمسؤوليّة الزّوج الذي كان ينطلق من حربٍ إلى حربٍ من أجل الإسلام، وفينا الذين لا يرتاحون للزّوج إذا كان مجاهداً، ولا يرتاحون للبيت إذا كان مثقلاً بالأولاد... وكنت تعيشين مثقلةً بالأولاد، وكنت تعيشين ثقل المسؤوليّة مع الزوج المجاهد، كان يأتي من الجهاد وسيفه مصبوغ بدماء أعدائه، ويعطيك السّيف لتغسليه، لتعرفي كيف استطاع زوجك أن ينصر الإسلام بهذا السّيف، ويعلّق أبوك رسول الله وهو يراكِ تغسلين السيف، ليقول لكِ: هذا سيفٌ طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله وعن الإسلام.
وعشناك وأنت في بيتك تعجنين للخبز، وتطبخين وتعملين بكلّ جهد، وأنت الإنسانة الضّعيفة الجسد، ولا تشعرين بمشكلة حتى وأنتِ تقاسين ذلك كلّه، وعندما أرادكِ عليٌّ (ع) أن تذهبي معه إلى رسول الله لتطلبي منه خادمة، لم تتجاوبي، ولكنّك أطعتِ رغبته، لأنّك أردت أن تعطي المثل على أنّ المرأة الفاضلة المخلصة تطيع زوجها فيما كان حقّاً، حتى لو لم يكن ذلك على رغبتها. وذهبتما إلى رسول الله، ولم تتحدّثي له عن شكوى، ولكنّ عليّاً كان المتحدّث، وهو يعيش في حسِّه كلّ آلامك التي كان يتحسّسها في كلّ يوم، قال: "يا رسول الله، إنّها استقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها، وطحنت بالرّحى حتّى مجُلت يدها، وكسحت البيت حتى غبرت ثيابها، وأوقدت النّار تحت القدر حتّى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادماً يكفيك ضرّ ما أنت فيه من هذا العمل". وكان رسول الله (ص) لا يريد في مرحلته تلك لأهل بيته أن يبتعدوا عن المستوى العاديّ للناس، فقال لهما: "أفلا أُعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما، فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، وأحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين". وأخرجت (ع) رأسها وقالت: "رضيت عن الله ورسوله" .
لماذا أطلق رسول الله (ص) هذه الوصيّة لهذه الإنسانة المثقلة بالجهد والتّعب، لماذا ذلك؟ لأنّه كان يعرف ابنته فاطمة، ربّاها على يديه، وعاشت روحيّته عندما كان يناجي الله في اللّيالي، وانطلقت تأخذ أخلاقه خُلقاً خُلقاً، وكانت تراقبه والآلام تشتدّ ضغطاً عليه والنّاس يقسون عليه، كانت تراقبه وهو يتخفَّف من كلّ آلامه بالجلوس مع ربِّه: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي". وتعلّمت من رسول الله أنّها إذا اشتدَّت بها الآلام، ولم تجد هناك أيّ مجالٍ تستطيع من خلاله أن تتخفَّف من آلامها بطريقة ماديّة، انفتحت على الله، فرأت في ذكر الله بلسم كلّ جراحاتها، ورأت في ذكر الله التّخفيف عن كلّ آلامها.
ولذلك، كان يقول لهما: "إذا أخذتما منامكما". والإنسان عادةً ينام بعد أن يقضي كلّ نهاره بالجهد، ويشعر بالتّعب الذي يفرض عليه أن يرتاح، ليذكر الله بأنّه الأكبر من الألم ومن كلّ شيء، فيقول: "الله أكبر"، وليتحسَّس مواضع نعم الله عنده فيقول: "الحمد لله"، وليستجلي عظمة الله في الكون، الّذي خلق اللّيل والنّهار بقوَّته، وميَّز بينهما بقدرته، وخلق السموات والأرض، ليستجلي عظمة الله فيقول: "سبحان الله".
وانطلق هذا الذّكر ليخلّد للزهراء اسمها وآلامها. وها نحن بعد كلّ صلاة نسبّح تسبيح الزهراء، وقبل كلّ منام نسبِّح تسبيح الزّهراء.
زوجة كادحة وابنة بارّة
وانطلقت في مسؤوليَّتها عن زوجها وعن أبيها وعن أولادها. كان للنبيّ عدّة زوجات، ولكن بيت فاطمة كان الأوَّل، كان إذا أراد أن يُسافر يخرج من بيت فاطمة، فتكون فاطمة آخر النّاس عهداً به، وكان إذا جاء من سفر، كان أوّل بيت يدخله بيت فاطمة، فتكون أوَّل إنسان يراه. وكان يحدّثها وتحدّثه، وكان يناجيها وتناجيه، وكان إذا أثقلته الآلام جاء إليها، فخفّفت من آلامه، وهو الأب الحاني على ابنته، كان يتحسَّس في ابنته روح البنت البارّة، وروح الأمّ التي أعطته حنان الأمّ، فكانت "أمّ أبيها".
ولذلك، كانت (ع) تحرّك كلّ طاقاتها لتوزّعها، بحيث لا يُنقِص شيءٌ من شيء؛ طاقاتها لأولادها ولزوجها ولأبيها، ولم تكن تثقلها، لأنها كانت تعتبر نفسها في طاعة الله، وكانت منسجمةً مع هذه الطّاقات.
وأظن أنّ كلّ الأخوات اللاتي عشن روحيّة المسؤوليّة في أجواء الزوج والولد والأب، يعرفن حقيقة أنّ الإنسان إذا كان منسجماً مع مسؤوليّته، فإنّه لا يشعر بالتعب من ثقل المسؤوليّة. الذين يشعرون بالعقدة، والّذين يشعرون بالتّعب، هم الذين لا ينفتحون على مسؤوليّتهم، يعتبرون المسؤوليّة ضريبةً لا بدَّ أن يحملوها، أمّا إذا أحببنا مواقعنا وأحببنا مسؤوليّاتنا، فكنا نتحرّك في مسؤوليّاتنا بحبّ، عند ذلك، مهما عشنا التّعب، فإننا إذا التفتنا إلى ما نحبّ ومن نحبّ، نشعر بأنَّ التعب راحة. صحيح أنّه يُتعب الجسد، ولكنَّه يريح الرّوح.
الارتقاء بالمسؤوليَّة
وهذا ما ينبغي لكلّ الإخوة والأخوات أن يتحسّسوه؛ أن لا تعيشوا مسؤوليّاتكم في البيت عن الأولاد وعن الزّوج وعن الأب وعن الأمّ على أنّها عمل روتينيّ جامد جافّ نمارسه لأنّ الوضع يفرض علينا أن نمارسه، إذا عشتم المسؤوليّة بهذه الطريقة، فلن تستطيعوا أن تستمروا في المسؤوليّة، لأنّ الإنسان إذا لم يحبّ عمله، فلن يستطيع أن يُبدع في عمله، وإذا لم يحبّ دوره، فلن يستطيع أن يرتفع بدوره، وإذا لم يحبّ الناس الذين هو مسؤول عنهم، فإنه لا يستطيع أن يفيدهم كثيراً.
ولذلك، كانت قيمة الأنبياء والأولياء في عطائهم أنهم يحبّون النّاس. المسؤول، سواء كان مسؤولاً في حركة الدّعوة، أو كان مسؤولاً في حركة العمل، لا بدّ أن يحبّ الناس، فينطلق معهم بقلبه قبل عقله، ويحرّك عقله من أجلهم بحنان وبعاطفة، وبذلك يستطيع أن يحرّك حياته.
الّذين ينطلقون في مسؤوليّاتهم ليعتبروا الناس مجرّد جسر يعبرون عليه إلى غاياتهم، أو ليعتبروا الناس سلَّماً يصعدون عليه إلى مواقعهم، أو يعتبرون الناس ظهراً يصعدون عليه ليحملهم إلى مراكزهم، هؤلاء لا يحبون الناس، إنما يستغلّونهم، ولذلك، نجد أنهم إذا وصلوا إلى مراكزهم، نسوا الناس كما ينسى الإنسان الجسر إذا عبر، وينسى الإنسان السلّم إذا صعد، كذلك الذين يعتبرون الناس جسراً وسلّماً، سوف لا يذكرون الناس بعد ذلك، وهذا ما نراه في كثير من المواقع الاجتماعيّة والسياسيّة.
لكنّنا نجد أنّ الأنبياء عاشوا مع الناس في فرحهم وحزنهم، واحترموا الناس في كلّ حياتهم وفي كلّ أوضاعهم. إنّ الله يخاطب نبيّه بالقرآن الكريم يقول: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، على من؟ على الكافرين. النبيّ يدعوهم إلى الله بمحبّة ويرشدهم إلى الخير، وهم يتمرّدون، فيتألم النبيّ في نفسه، ويثير الحسرة في قلبه عليهم، ولذا أراد الله أن يخفِّف عنه {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[فاطر: 8].
يُقال إنّ الحسين (ع) عندما كان يقف أمام الجيش الّذي جاء ليحاربه ليعظه ويرشده، كان يبكي، قالوا له: يابن رسول الله، لم تبكي؟ قال: أبكي على هؤلاء الناس الذي سيعذّبهم الله لأنهم جاؤوا لحربي.. هذه هي روح المسؤوليّة.
لذلك، كانت الزّهراء (ع) تحبّ الناس الذي يتحركون ضمن مسؤوليّتهم، ولذلك كانت تخلص ولا تتأفّف ولا تتشكّى من ذلك.
وهذا درس لا بدَّ للأخوات أن يتحسّسنه في حياتهنّ؛ أن لا ينظرن إلى دورهنّ في مسؤوليّة البيت أو في أيّ مسؤوليّة مماثلة تثقل الجسد، نظرة تقليديّة جامدة، بل أن تعطي الإنسانةُ قلبَها لعملها، وعقلَها لعملها، وروحَها لعملها، حتى تستطيع أن تبدع في عملها، وتحقّق لنفسها غايتَها في كلّ ما تستهدفه في العمل.
لا حجّة للنّساء!
وكانت الزهراء (ع) الإنسانة المسؤولة ثقافيّاً إسلاميّاً، هذه الإنسانة المثقلة بكلّ ما تحدّثنا عنه، كانت تجلس لتكتب حديث رسول الله وتسجّله في أوراق. وإذا كنتنّ تسمعن عن مصحف الزهراء، فكلمة المصحف لا تعني القرآن، كما يحاول البعض أن يتّهم الشيعة بأنّ لهم قرآناً غير هذا القرآن يسمّى مصحف الزّهراء، مصحف الزّهراء هو كتاب كتبته الزّهراء في صحف، كلمة مصحف من الصّحف، حتى القرآن يسمّى مصحفاً لأنّه في صحف مكرّمة، وكلمة المصحف مأخوذة من الصحف، وليس اسماً للقرآن حسب طبيعته، كان كتاباً تسجّل فيه الزهراء ما تسمعه عن رسول الله (ص)، وكانت تلقي ما تكتبه على النساء اللاتي يجتمعن إليها بين وقتٍ وآخر لتثقّفهن ثقافة الإسلام.
وهذا الموقف يمثّل التحدّي الذي يواجه كلّ امرأة مسلمة مثقلة بالعيال، عندما تعتذر بأنها لا تملك الثقافة لأنّه لا وقت لها للثّقافة، ولا تملك المعرفة لأنّه لا وقت لها للمعرفة، ولا تملك العطاء والتّثقيف والنّشاط لأنّه لا وقت لها لذلك... كيف كانت الزّهراء مشغولة بأبيها وأولادها وزوجها وبيتها وطحنها وخبزها، كيف كان لها وقت؟ لأنّ الزهراء (ع) لم يكن لها أوقات فراغ تحار فيها ماذا تفعل، كما للكثيرات من أخواتنا وللكثيرين من إخواننا، الكثيرُ من الوقت الذي يصرفونه فيما لا ينفع أو فيما يضرّ أو في الفراغ.
كم نجلس أمام التلفزيون؟ وكم نقضي الوقت في العصريات والصبحيات والمسائيات، ساعةً وساعتين، في لغوٍ طويل نخرج منه من دون أن نشعر بأننا عملنا شيئاً، تماماً كطواحين الهواء تطحن في الهواء من دون شيء؟!
عندنا وقت فراغ، ولكننا لا نحاول أن نملأه بما نحتاجه لحياتنا. نستطيع أن نقرأ في أوقات فراغنا، وإذا كنا لا نستطيع أن نقرأ، فإننا نستطيع أن نسمع. لو أنّ الأخت كانت جالسة في مطبخها أو في أيّ موقع من مواقع عملها، وكان لها مسجّلة تشغِّل عليها فقهاً أو تفسير قرآن أو حديثاً اجتماعياً أو أخلاقياً أو ما إلى ذلك، وتستمع من خلال الراديو إلى تحليل سياسيّ أو ما إلى ذلك، إنَّ ذلك لا يشغلها. بعض الأخوات إذا أرادت أن تخفّف عن نفسها السّأم، تحاول أن تغنّي غناءً حلالاً أو حراماً، وتتكلّم بكلام لا معنى له! إنّنا نستطيع أن نستفيد من وقتنا من دون أن نثقل مسؤوليَّاتنا. ونحن نملك في مرحلتنا هذه، وفي تطوّرنا العصريّ، نملك ما لم يكن يملكه آباؤنا وأجدادنا. إنَّ الأجهزة السمعيَّة تُسمعنا ما نريد أن نسمعه، مما يهيِّئه الآخرون ومما نهيِّئه نحن، أو ترينا ما نريد أن نراه إذا لم يكن لدينا وقت للقراءة.
إنّ الإمام زين العابدين (ع) عندما يتحدّث عن أوقات الفراغ يقول: "فإن قدّرت لنا فراغاً من شغل، فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبعة، ولا تلحقنا فيه سآمة" . هناك تعابير يقولها الكثير من النّاس: تعالوا نضيّع الوقت، تعالوا نقطّع الوقت، تعالوا نقتل الوقت. لماذا؟ ما هي العداوة بيننا وبين الوقت؟ الوقت هو عمرنا، وكلّ لحظةٍ تمضي هي لحظة تموت من عمرنا. نحن نموت تدريجيّاً، فالشَّخص الّذي يقول عمري أربعون سنة، في الواقع إذا بقي من عمره عشرون سنة، يكون عمره عشرين سنة، لأنّ العمر الّذي مضى راح وانتهى، نحن نستقبل عمرنا، ولذا يقولون إنّ أكبر ما يكون الإنسان يوم يولد، لأنّ عمره كلّه معه.
ولذا، يعبّر الإمام زين العابدين (ع) عن مسألة اليقظة، عندما يستيقظ الإنسان صباحاً، كأنّه كان ميتاً وبُعِث، في دعاء يوم الأربعاء: "لك الحمد أن بعثتني من مرقدي، ولو شئت جعلته سرمداً" . فنحن في كلّ لحظة نموت. ألا يقولون الخلايا تموت وتتجدّد؟!
كيف نغني حياتنا؟!
لذلك، نحن نملك عمراً نحتاج أن نحركه فيما يمدّ لنا أعمارنا، فيخلّد لنا حياتنا في الآخرة. هذه نقطة أساسيّة. وأنا الآن لا أخطب عليكم، ولكنّي أتحدّث بصوت مسموع لنفكّر معًا.
الإنسان في هذه الحياة لا بدَّ أن يغني إنسانيَّته... فنحن مشغولون من الصّباح إلى اللّيل بالأكل والشّرب واللّباس والمسكن واللذّات والشّهوات، هذه حاجات الحياة وليست رسالة الحياة. نحن نأكل لنعيش، ونشرب لنعيش، ونلبس لنعيش، ونؤمّن مسكناً لنعيش، كذلك نمارس بعض لذّاتنا وشهواتنا التي تعطينا استمراراً للعيش وللامتداد لنعيش. لكن هذه ليست رسالتنا في الحياة، هذه حاجاتنا، أمّا رسالتنا في الحياة، فهي أن ننفتح على واقع الناس، ونرفع مستوى الناس ثقافيّاً، ونرفع مستوى الناس اجتماعيّاً، ونرفع مستوانا ثقافيّاً واجتماعيّاً. الله سبحانه لم يقل: قل هل يستوي الذين يأكلون والذين لا يأكلون، هل يستوي الذي يشربون والذين لا يشربون، هل يستوي الذين يلبسون ملابس جيّدة على أحدث الموضة والذين لا يلبسون!! هل يستوي الذين يجلسون في قصر أو لا يجلسون!! لم يقل هذا، بل قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الزّمر: 9]، المعرفة هي الّتي تمثّل حقيقة امتداد الإنسانيّة للإنسان، إنسانيّتنا ليست جسدنا، وإنما جسدنا مظهر الحركة في إنسانيّتنا، إنسانيّتنا هي روحنا، إنسانيّتنا هي عقلنا.
ما الفرق بيننا وبين الحيوان؟ للحيوان جسدٌ ولنا جسد، ولجسد الحيوان حاجات ولجسدنا حاجات. ما الفرق؟ إنَّ الحيوانَ لا يملك عقلاً متحركاً، ربما بعض العلماء يقولون إنّه يملك عقلاً غريزيّاً، لكنَّ الحيوان لا يملك عقلاً متحركاً يتحرَّك لينتج فكراً جديداً، الحيوان ليس عنده روح منفتحة على الآفاق الروحيَّة في الحياة، الحيوان ليست عنده حركيَّة متنوّعة في الأدوار التي يمكن أن يقوم بها في الحياة. أمَّا إنسانيَّة الإنسان، فهي بعقله وبقلبه عندما يوجّه القلب في الاتجاه الصّحيح، إنسانيَّتنا بحركتنا، إنسانيَّتنا برسالتنا في الحياة. لذلك، لا بدّ لنا أن نشعر بأنَّ لنا رسالة في الحياة، وأنّنا نريد أن نؤكّد إنسانيّتنا.
ونحن نشعر بأنَّ المرأة المسلمة لا بدَّ أن تحترم إنسانيّتها، فتعمل على أن تغني إنسانيّتها بالعلم وبالفكر وبالعقل وبالمعرفة وبالرسالة وبحركة الحياة. وإذا كان البيت مملكة المرأة، والمعمل والمحلّ التجاري مملكة الرّجل، فالرجل لا يحبس نفسه في معمله وفي مخزنه، وإنما للمخزن وللمعمل وقت، والمرأة أيضاً كذلك، هناك مجال واسع تستطيع فيه المرأة أن تقوم بدورها.
على المرأة أن تبدع
كنت أتحدَّث أمس في خطبة الجمعة مع كثيرٍ من الأخوات، كنت أقول لهنّ: من الممكن جداً لكثير من الأخوات اللاتي يملكن مقداراً من المعرفة، أن يستفدن من ذلك، قد يكون في شخصيَّة هذه الأخت مشروع إنسانة قاصّة، مشروع إنسانة كاتبة، إنسانة مبدعة. لكن كيف نكتشف الطَّاقة في أنفسنا؟ نكتشفها إذا حرّكناها. فالشّخص إذا أبقى يده جامدةً، فهل يستطيع أن يكتشف طاقتها؟ متى نعرف إذا كان في يدنا قوّة أو لا؟ عندما نحركها، ومتى نستطيع أن نعطيها قوّةً جديدة؟ عندما ندرّبها. ولذا، بعض النَّاس بالتَّدريب تنمو عضلاتهم. والعضلات العقليّة مثل العضلات الجسديّة، العضلات الروحيّة مثل العضلات الجسديّة، كما أنّنا بالتّدريب نستطيع أن نقوّي عضلاتنا الجسديّة، أيضاً بالتّدريب نستطيع أن نقوّي عضلاتنا العقليّة. كلّما فكّرنا أكثر، نما عقلنا أكثر، كلّما انفتحنا على الله أكثر، قوّينا روحيّتنا أكثر، كلّما انطلقنا في مجال العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي لخدمة مجتمعنا، قوّينا طاقاتنا في هذا المجال أكثر.
كثير من النّساء لو كنّ يعرفن الكتابة، لصرن أفضل الكتّاب القصصيّين، فالمرأة تبدع لولدها قصّة حتى ينام، هذه القصص لو تسجَّل وتكتَب، لكانت من أفضل قصص الأطفال وما إلى ذلك. مثلاً، لو كتبت المرأة في كلّ يوم مذكّراتها وأحاسيسها ومشاعرها، تكتشف نفسها بعد سنة وسنتين أنها كاتبة بشكلٍ جيّد.
أوّل معارضة سياسيّة
كنت أتحدّث مع الأخوات بالأمس، أنّني لا أظن أنّ امرأة لا تسمع الأخبار، عندما نسمع الخبر من الإذاعة والتّلفزيون، أو نقرأه في الصّحيفة، نفكّر فيه؛ هذه الحادثة ماذا وراءها، وما هي خلفيّتها؟ فنستطيع أن نحصِّل وعياً سياسياً، وهكذا.
لذلك، نحن نلاحظ كما قلنا، أنّ الزهراء (ع) كان لها دور ثقافيّ فيما تكتب ودور سياسيّ.
الزهراء (ع) هي أوّل معارضة سياسيّة في الإسلام، العمل السياسيّ هو الذي يكون موقفاً ضدّ حكم معيّن، لمصلحة حكم معيّن، للاحتجاج على واقع معيّن، للمطالبة بمطلب معيّن. الزهراء (ع) وقفت وطالبت بحقّ عليّ (ع) فيما نعتقده الحقّ، وطالبت بإرثها من رسول الله (ص) في فدك، ووقفت واحتجّت بمختلف الوسائل، هذا عمل سياسيّ، وخطبت خطبتها المعروفة في المدينة أمام الرّجال، وكانت أوّل امرأة مسلمة تقف خطيبةً على الرجال في المسجد.
وطبعاً، عندما ندرس خطبة الزّهراء (ع)، وعندما ندرس أحاديث الزّهراء (ع) مع نساء المهاجرين والأنصار، في نقدها لأزواجهنّ، وفي ملاحظاتها على طريقتهم وعلى غفلتهم وعلى عدم وعيهم، لوجدنا أنَّ الزّهراء كانت تملك وعياً سياسياً للقضيَّة التي كانت تدافع عنها بشكلٍ واسعٍ جداً، وبشكل عميق جداً، حتى إنها عندما خطبت وطالبت ورُدَّ عليها، لم تسكت، وإنما ردّت على الردّ.
مسؤوليَّة المرأة سياسيّ
وقد كانت هناك قضيّة محدودة. الآن، القضايا التي يعيش بها العالم الإسلاميّ عندنا، قضايا المسلمين في العالم، القضيّة الفلسطينيّة، قضايانا في لبنان، قضايانا في المنطقة، قضايا المستضعفين في العالم، هذه قضايا تترك تأثيرها سلباً على الرّجل والمرأة إن كانت سلبيّة، وتترك تأثيرها إيجاباً على الرّجل والمرأة إذا كانت إيجابيّة. لا يجوز للمرأة أن تقول لا دخل لي بالسياسة، كما لا يجوز للرجل أن يقول لا دخل لي بالسياسة. الاستعمار حاول أن يبعد الرّجال والنّساء عن السياسة، حتى تبقى السياسة لجماعة معيّنة من الناس يتوارثونها ويورّثونها أولادهم، ويتدخّلون في مصير الأمّة، دون أن يفكّر أحد في أن يعارض أو أن ينقد أو ما إلى ذلك. سابقاً، عندما كان آباؤنا يمشون مع الزّعماء، كانوا يقولون ما علاقتنا بالسياسة؟ البيك يفكّر لنا، ولماذا يتعلّم الفلاّحون؟ ابن الزعيم وابن البيك إذا تعلّم يكفي، فهو يوزّع العلم على الناس!! ألم تكن هذه العقليّة موجودةً سابقاً؟
لماذا؟ لأنّه كان لا يُراد للشّعب أن يفهم سياسياً، وأن يعي سياسياً، وأن يتحرّك سياسياً، لا للرّجل ولا للمرأة. القرآن الكريم يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[التّوبة: 71]، يعني هناك عملية تكامل بين المؤمنين والمؤمنات في مسألة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. ما هو الأمر بالمعروف؟ هو الأمر بكلّ ما يحبّه الله مما يرفع مستوى الناس، والعدل من أعلى عناوين المعروف، والمنكر هو كلّ ما لا يريده الله للحياة وللنّاس، والظلم هو أعلى عناوين المنكر. ولذا، كان الإمام الحسين (ع) في ثورته يقول: "خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر". ولذلك انطلقت زينب (ع) مع الحسين في هذا الخطّ، فكانت هي وليّة الحسين، وكان الحسين وليّها، يأمران بالمعروف وينهيان عن المنكر.
لذلك، كلٌّ بحسب طاقته وبحسب إمكاناته، إذا انطلق المجتمع في وعي سياسيّ، وفي وعي اجتماعيّ، وفي وعي ثقافيّ، كلٌّ يرصد الآخر، وكلٌّ ينقد الآخر، وكلٌّ يوجّه الآخر، وكلٌّ يتكامل مع الآخر، نستطيع أن نجعل مجتمعنا ينطلق من قاعدة للقوّة، ويتحرّك في خطّ القوّة. وهذا ما نتعلّمه من الزّهراء (ع).
العابدة القانعة
وبعد ذلك، دور الزّهراء (ع) هو دور العابدة لله، الّتي كانت تعيش اللّيل مع الله، كانت تدعوه وتدعو للمؤمنين والمؤمنات، وكانت تخشع بين يديه وتتوسّل إليه، وبذلك كانت تستمدّ من هذه السّاعات التي تقضيها مع الله سبحانه وتعالى، تستمدّ الطاقة على كلّ المعاناة التي تعيشها.
ويُنقل عن الزّهراء (ع) دعاء كانت تدعو به في أوقات جلوسها بين يدي الله. في ختام الحديث، أحبّ أن أقرأ هذا الدّعاء، حتى نأخذ آفاقه، وحتى نرى ما الآفاق الّتي كانت تدعو بها الزّهراء (ع)، لأنّه لا بدَّ عندما ندعو، أن تكون لنا ثقافة الدّعاء، وأن نلتقط الأشياء التي نقدِّمها أمام الله سبحانه في الدّعاء.
لاحظوا هذا الدّعاء للزّهراء (ع) الذي يذكره صاحب "مهج الدّعوات": "اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي"، اجعلني فيما ترزقني من رزقٍ قانعةً به، أن لا أمدّ عينيَّ إلى الناس، وأن لا أشكو من رزقك، وإنما أدرس هذا العطاء الّذي أعطيتني إيَّاه من خلال ظروفي الطبيعيّة، أدرسه وأقنع به، وأحاول في رجوعي إليك، وبجهدي، أن أطوّره أكثر، ولكن قنّعني به حتى لا أمدّ يدي إلى الناس، قنّعني بما رزقتني حتّى لا أذلّ أمام الناس، قنّعني بما رزقتني حتى لا أُسقط مواقفي ولا أُسقط شرفي ولا أسقط أخلاقي من خلال ما أمدّ به يدي إلى النّاس، اجعلني أصبر على نفسي لأنّ الناس لا يصبرون عليّ.
"قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي واستُرنِي"، لا تفضحني فيما اطّلعت عليه من سرّي، "وَعَافِنِي أبداً ما أبقيتَنِي"، ارزقني العافية يا ربّ، "واغفِرْ لِي" ذنوبي التي أذنبت بها في كلّ حياتي، "وارحَمنِي إذا تَوَفّيتَني"، فإذا جاءتني الوفاة، ولم يبق لي إلّا أنت، ارحم في ذلك البيت الجديد غربتي، حتى لا أستأنس بغيرك.
"اللَّهُمَّ لا تُعْيِنِي في طَلَبِ مَا لم تقدِّر لي". تقول يا ربّ، هناك بعض الأشياء التي أنت تعرف بعلمك أني لن أحصِّلها، فلا تجعلني أتعب في السعي وراء شيء تعرف أنّني لن أحصل عليه، "وَمَا قَدَّرتَهُ علَيَّ فاجعلهُ مُيَسَّراً سَهلاً".
"اللَّهُمَّ كافِ عَنِّي وَالِدَيَّ" {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}[الإسراء: 24] "وَكُلَّ مَن لهُ نِعمَةٌ علَيَّ خيرَ مُكَافأة".. إنّني أستغفر لوالديّ، وأطلب منك أن تكافيهما، لأنهما أنعما عليّ، وأريدك يا ربّ أن تكافي عني كلّ من أنعم عليّ، وكلّ من قَدّم لي خيراً.. وهذا ما يجعل الإنسان دائماً يتحسّس الذين يقدّمون له الخير والنّعمة.
"اللَّهُمَّ فَرِّغنِي لما خَلقتَنِي لَهُ" لقد خلقتني لعبادتك، وخلقتني لطاعتك، وخلقتني للقيام بالمسؤوليّات الّتي حمّلتني إيّاها في الحياة، اللّهّم فرّغني لما خلقتني له، لا تشغلني عن طاعتك ولا عن عبادتك، فرّغني لما خلقتني له {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذّاريات: 56].. "وَلا تُشغِلنِي بما تَكَفَّلتَ لي به"، لا تشغلني بالرّزق الذي تكفّلت لي به. ليس معنى لا تشغلني أي لا تجعلني أعمل، بل لا تجعله همّي الأكبر الذي يُشغل فكري ويعطّل طاقاتي وعملي، "ولا تعذِّبنِي وَأنا أستغفرُك"، فإذا استغفرتك يا ربّ، فاعف عنّي ولا تعذّبني، "وَلا تَحرِمني وَأنَا أَسأَلُك" لأنّك تعطي كلّ من سألك.
"اللَّهُمَّ ذَلِّل نَفسِي فِي نَفسِي"، لا تجعلني أعيش الغرور، ولا تجعلني أعيش التكبّر، ولا تجعلني أعيش الاستعلاء على النّاس، اجعلني ذليلاً في نفسي، "وَعَظِّم شَأنَكَ في نَفسي، وأَلهِمْنِي طاعَتَك، وَالعَمَلَ بِما يُرضِيكَ، والتجنُّبَ لما يُسخِطُك، يا أرحَمَ الرَّاحِمِين" .
لتكن الزّهراء قدوتن
هذه آفاق الزّهراء (ع) مع الله، وتلك هي آفاقها مع النّاس، وتلك هي حركتها في الحياة؛ هذه الإنسانة العظيمة التي عاشت الآلام كأقسى ما تكون الآلام، وعاشت الاضطهاد كأقسى ما يكون الاضطهاد، وكانت الإنسانة التي أذهب الله عنها الرّجس وطهّرها تطهيراً، كانت المعصومة في القرآن، وكانت المعصومة في سلوكها.
لذلك، لا بدَّ للمرأة المسلمة أن تجعل من الزّهراء قدوةً لها في كلّ منطلقاتها، وفي كلّ حركتها، وفي كلّ قيامها بالمسؤوليّة، وذلك هو الّذي يعطينا المعنى الكبير في الاحتفال بمولد الزهراء (ع).
*محاضرة ألقاها سماحته بذكرى ولادة فاطمة الزهراء(ع) في محلة زقاق البلاط/ بيروت بتاريخ: 20 جمادى2 1414هـ| 4/12/1993م.