طافت بزهراء الرسول موجات عاتية من الآلام على فقد أبيها وغصب حقّها، فقد برح بها المرض، وأضرّ الأسى بقلبها الرقيق المعذّب، وقد فتكت بها الآلام، ومشى إليها الموت سريعاً، وهي في فجر الصبا وروعة الشباب، فقد حان موعد اللّقاء بينها وبين أبيها الذي طلبت لقياه بفارغ الصبر.
ودعت زهراء الرسول الإمام، فلمّا مثل عندها، أوصته بأمور كان منها :
1 ـ أن يواري جثمانها المقدّس في غلس اللّيل البهيم.
2 ـ أن لا يحضر جنازتها أحد من الذين ظلموها وجحدوا حقّها، فإنّهم أعداؤها وأعداء أبيها.
3 ـ أن يعفي موضع قبرها ليكون رمزاً لاستيائها على امتداد التاريخ.
4 ـ أن يصنع لها نعشاً يواري جثمانها المقدَّس؛ لأنّ الناس كانوا يضعون أمواتهم على سرير تبدو فيه الجثّة، فكرهت ذلك، وما أحبّت أن ينظر أحد إلى جثمانها .
وتعهَّد الإمام لها بتنفيذ ذلك، وانصرف عنها وهو غارق في البكاء، قد استجاب لأحاسيس نفسه الولهى التي استوعبتها الهموم والآلام.
وفي اليوم الأخير من حياتها، ظهرت عليها المسرّات، فقد علمت أنّها ستلتحق بأبيها الذي كرهت الحياة من بعده، وقد عمدت إلى ولديها السبطين، فغسلتهما، وصنعت لهما من الطعام ما يكفيهم يومهم، وأمرتهما بالخروج لزيارة مرقد جدّهما، وألقت عليهما نظرة الوداع الأخير، وهي تذرف أحرّ الدموع، وذاب قلبها من اللوعة والوجد عليهما.
وخرج الحسنان، وقد هاما في تيارات مذهلة من الهواجس، وأحسّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالأسى والشجون، والتفتت وديعة النبي إلى أسماء بنت عميس، وكانت هي التي تتولّى تمريضها وخدمتها، فقالت لها: يا أمّاه .
قالت: نعم يا حبيبة رسول الله. فقالت (عليه السلام): اسكبي لي غسلاً .فانبرت أسماء وهيّأت لها الماء، فاغتسلت فيه، ثمّ قالت لها: ايتيني بثيابي الجدد .
فناولتها ثيابها، وهتفت بها ثانية: اجعلي فراشي في وسط البيت .
وذعرت أسماء، ومشت الرعدة بأوصالها، فقد أحسّت أنّ وديعة النبيّ لا حقة بأبيها. ووضعت أسماء الفراش لها، فاضطجعت عليه، واستقبلت القبلة، والتفتت إلى أسماء فقالت لها بصوت خافت :
يا أمَّاه، إنّي مقبوضة الآن، وقد تطهَّرت فلا يكشفني أحد، وأخذت سيّدة النساء تتلو آيات من القرآن الكريم، حتى فارقت الحياة، ولسانها يلهج بذكر الله تعالى.
لقد سمت روحها العظيمة إلى الله تعالى، شاكيةً إليه ما لاقته من الخطوب والكوارث. لقد ارتفعت تلك الروح العظيمة إلى جنان الله ورضوانه، تحفّها ملائكة الله، ويستقبلها أنبياء الله، فما أظلّت سماء الدنيا في جميع مراحل الحياة مثل بضعة الرسول في قداستها وإيمانها. لقد انقطع بموتها آخر من كان في دنيا الوجود من نسل رسول الله (صلى الله عليه واله). وقفل الحسنان إلى الدار بلهفة يسألان عن أمّهما، فأخبرتهما أسماء بوفاتها، وهي غارقة في العويل والبكاء، فكان ذلك كالصّاعقة عليهما، فهرعا مسرعين إلى جثمانها، فوقع عليها الحسن وهو يقول: يا أمّاه، كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني؛ وألقى الحسين نفسه عليها وهو يقول بذوب روحه: يا أمّاه، أنا ابنك الحسين، كلّميني قبل أن ينصدع قلبي. وأخذت أسماء توسعهما تقبيلاً وتعزّيهما، وطلبت منهما أن يخبرا أباهما بوفاة أمِّهما، فانطلقا إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهما غارقان في البكاء، فاستقبلهما المسلمون بفزع قائلين لهما: ما يبكيكما يا ابني رسول الله؟ لعلّكما نظرتما موقف جدّكما فبكيتما شوقاً إليه؟.
فأجابا بلوعة: أوليس قد ماتت أمّنا فاطمة؟ واضطرب الإمام حينما سمع النبأ المؤلم، وراح يقول: بمن العزاء يا بنت محمّد؟ كنت بك أتعزَّى، ففيم العزاء بعدك؟
وخفّ مسرعاً إلى الدار وهو يذرف أحرّ الدموع، فلمّا انتهى إليها، ألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وطافت به الآلام والهموم، وأخذ ينشد :
لكلّ اجتماع من خليلين فرقة وكلّ الّذي دون الفراق قليل
وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد دليل على أن لا يدوم خليل
وارتفعت الصيحة في المدينة، وهرع الناس من كلّ صوب نحو بيت الإمام ليفوزوا بتشييع جثمان وديعة نبيّهم الّتي ما رعوا حقّها، وعهد الإمام إلى سلمان المحمّدي أن يصرف الناس ويعرّفهم بتأجيل تشييع جنازتها، فأخبرهم بذلك، فانصرفوا، وأقبلت عائشة نحو بيت الإمام لتلقي نظرة على الجثمان المقدَّس، فحجبتها أسماء وقالت لها: لقد عهدت إليّ أن لا يدخل أحد عليها... ولما مضى من اللّيل شطره، قام الإمام، فغسّل الجسد الطاهر، ومعه الحسنان وزينب وأسماء، وقد أخذت اللّوعة بمجامع قلوبهم، وبعد أن أدرج جسدها في أكفانها، دعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان أمّهم، ليلقوا عليها نظرة الوداع، ومادت الأرض من كثرة صراخهم وبكائهم، ثمّ عقد الرداء عليها، ولمّا حلّ الهزيع الأخير من اللّيل، قام فصلّى عليها، ومعه النخبة من أصحابه، بحمل الجثمان المعظّم إلى مثواه الأخير، ولم يخبر أحداً سواهم، ثمّ أودع الجثمان في قبرها وأخفاه امتثالا لوصيّتها ووقف على حافّة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه واندفع يؤبّنها بهذه الكلمات:
"السّلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النّازلة في جوارك، والسّريعة اللّحاق بك! قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، ورقّ عنها تجلّدي، إلّا أنّ في التّأسّي لي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزّ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فلقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرّهينة! أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها، فأحفها السّؤال واستخبرها الحال؛ هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذّكر، والسّلام عليكما سلام مودّع، لا قال ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصّابرين...
*من "موسوعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب"، ج2.