ما ينقطع به السفر

ما ينقطع به السفر

قد تبين مما ذكر في المبحث الأول أنَّ السفر الشرعي يتحقّق بقطع المسافة مقترنا ذلك بالنية والعزم على قطعها وطيها مع الاستمرار على هذا العزم إلى حين الوصول إلى نهاية المسافة.

ولكن أموراً قد تطرأ على هذا السفر، مثل المرور بالوطن ونحوه، فتقطعه وتلغيه وترتب على المكلّف وضعاً جديداً، وهي ما اصطلح على تسميته بـ (قواطع السفر)، وهي ثلاثة: المرور بالوطن، والبقاء في مكانه متردداً مدة ثلاثين يوماً، ونية الإقامة عشرة أيام في مكان معين.

وتفصيل ذلك على النحو التالي:

الأول: المرور بالوطن، وهو الوطن بأحد المعاني المتقدمة، ولا يشترط الدخول فيه أو الوصول إلى أول البيوت، بل يكفي الدخول في "حدّ الترخص" بالنحو الذي سوف نبينه فيما بعد؛ فإذا مرّ المسافر خلال طي المسافة بوطنه فإنه ينقطع سفره ويلحقه حكم الحاضر في وطنه في صلاته وصيامه، ولا فرق في انقطاع السفر في هذه الحالة بين النزول في الوطن والمكث فيه وبين مجرّد العبور فيه، وعليه فإنه إذا كان عالماً منذ بدأ سيره أنه لن يقطع المسافة قبل المرور بوطنه لا يكون قد تحقّق منه السفر أصلاً حتى ينقطع بالمرور عليه، وعليه أن يصلي تماماً منذ خروجه، وأمّا إذا فوجئ أو اضطر للمرور فيه ولم يكن قد قطع مسافة السفر انقطع سفره ولزمه الإتمام والصيام.  وكذلك ينقطع السفر لو كان المرور بالوطن، اختياراً أو اضطرارا، بعد بلوغ المسافة الشرعية، فإنه يزول به عنوان المسافر ويجب عليه الإتمام ويستأنف سفراً جديداً منه.
كذلك فإنه لا فرق في الوطن بين الوطن الأصلي والدائم وبين الوطن المؤقت حتى لو مرّ عليه في غير الوقت المعتاد تواجده فيه، وذلك كمثل الطالب الساكن في بغداد للدراسة إذا مرّ فيها في أيام العطلة الصيفية، نعم محل العمل الذي لا يسكن فيه لا ينقطع السفر بالمرور عليه لغير داعي العمل.

م ـ 808: إذا عزم في ابتداء سفره على المرور بوطنه أثناء المسافة، ثُمَّ بعدما قطع مسافة من الطريق عدل عن نيته، أو منعه مانع من المرور عليه، فإنَّ حكمه إتمام الصلاة ما دام لم يتحقّق منه قصد المسافة حين شرع في سفره، وله ـ إذا شاء ـ أن يستأنف سفراً جديداً بعد ذلك.  وكذلك لو كان حين انطلق في سفره شاكاً ومتردّداً في المرور على وطنه وعدمه أثناء طي المسافة.
الثاني: نية الإقامة عشرة أيام فصاعداً.  والمراد بها عشرة نهارات وتسع ليالٍ إذا كانت النية عند طلوع الفجر أو قبلها من أوقات الليل، أمّا إذا كانت النية بعد الفجر من أوقات النهار فإنه يحتسبها أحد عشر نهاراً ملفقاً وعشر ليالٍ، فمن نوى الإقامة ظهر يوم الاثنين فإنَّ عليه أن يبقى إلى ظهر الخميس الثاني لتكمل إقامة العشرة عنده.
وحيث ينوي الإقامة كذلك ينقطع سفره ويصلي تماماً ويصوم كما لو كان حاضراً في وطنه، ولا فرق في تأثيرها على السفر ـ إذا وقعت بعد طي المسافة ـ بين ما لو نوى المسافر ذلك من ابتداء السفر وبين ما لو حصل ذلك فجأة أو اضطراراً، فضلاً عمّا لو وقعت بعد طي المسافة والوصول إلى المقصد غير الوطن.
وإذا كان المسافر حين شرع في سفره غير متأكد من أنه سينوي الإقامة خلال طي المسافة أو لا، لم يضر ذلك بقصد السفر، ويبقى على القصر ما لم يستقر عزمه وينوي الإقامة فعلاً.  وكذا لا يتأثر سفره فيما لو نوى الإقامة في مكان أعجبه خلال استراحته فيه ثُمَّ عدل عن ذلك وتابع سيره.

م ـ 809: لا بُدَّ من استقرار عزمه على الإقامة عشرة أيام، فلا تصح مع التردّد فيها أو مع الاحتمال العقلائي بعروض ما يمنع منها ويصرف عنها.  وإذا صح عزمه على الإقامة فطرأ ما يستوجب قطعها على غير توقع، أو رغب في قطعها ولو من دون ضرورة، جاز قطعها حينئذ، فإن خرج من البلد فوراً صح منه ـ إجمالاً ـ ما كان قد صلاه تماماً وصامه إن حدث منه ذلك، وإن لم يخرج منها مباشرة وبقي يوماً أو أكثر لقضاء بعض حاجاته أو للنزهة والفرجة فإن له أحكاماً متعددة نستعرضها في المسألة (816) وما بعدها.

م ـ 810: عند الإقامة في الأماكن العامرة لا بُدَّ من الارتباط بالمحل الذي نوى الإقامة فيه طوال الأيام العشرة، فلا تصح نية الإقامة في بلدتين يبيت في هذه ليلة وفي الأخرى ليلة، كذلك لا يصح الخروج من محل إقامته إلى ما يزيد عن مسافة السفر الملفقة، لا في الأيام العشرة ولا فيما بعدها إن أراد البقاء على التمام، ولذا لا يضرّ الخروج إلى بساتينها، أو إلى القرى القريبة منها، مدّة ساعة أو ساعتين أو أكثر مما هو دون المبيت.
وكذلك حكم الإقامة في البرية، فإنه لا بُدَّ من الالتزام بمكان معين فيها، ثُمَّ الذهاب منه والعودة إليه، ولكلّ مكان حدوده العرفية، كمثل الجبل والوادي والواحة ونحوها، فإن خرج عنه وبات في الموضع الآخر اعتبره العرف مبيتاً في غير محل الإقامة، وكذا لو خرج عن حدود منطقته مسافة السفر الشرعي.

م ـ 811: لا يختلف الحكم في وحدة محل الإقامة بين القرى والمدن الصغيرة والمدن الكبيرة ما دام يصدق عليها عرفاً أنها محل واحد، وهذا واضح في القرى والمدن الصغيرة، وأمّا المدن الكبيرة فهي على صور ثلاث:

1 ـ فقد تكون المدينة صغيرة في تكوينها الأصلي، ثُمَّ تبنى إلى جانبها أحياء جديدة متصلة بها أو تتصل بها بشكل تدرّجي، فتعتبر هذه الأحياء امتداداً للبلد واتساعاً في الأراضي المحيطة بها، وفي هذه الحال يكون حكم الضواحي الجديدة حكم المحلات القديمة في اعتبارها جزءاً من البلد الواحد، فلو أقام الإنسان خمسة أيام في ضاحية وخمسة أيام في ضاحية أخرى ترتب عليه حكم المقيم عشرة أيام في بلد واحد.

2 ـ وقد يكون هناك بلدان متجاوران مستقلان بحيث يكون كلّ واحد منهما منفصلاً عن الآخر بالاسم وبالأرض، ولكن العمران توسّع في كلّ منهما حتى امتد أحدهما للآخر واتصل بناؤهما وتداخل كما في الكوفة والنجف، والكاظمية وبغداد، وكثير من بلدان لبنان، رغم ذلك لا يُعتبر البَلَدان بلداً واحداً بل يبقيان على حالهما من الاستقلال، فلا تكون الإقامة في كلّ واحد منهما، مرة هنا ومرة هناك، إقامة في مكان واحد خلال الأيام العشرة، بل لا بُدَّ من القصر في الصلاة والإفطار في الصوم في الفرض المذكور.

3 ـ وقد يكون هذان البلدان اللذان اتصلا ببعضهما البعض على نحو كان أحدهما كبيراً والآخر صغيراً، بحيث طغى الكبير على الصغير فأصبح الصغير ملحقاً به عرفاً ومنصهراً فيه اجتماعياً بحسب العرف العام، كما في بيروت وما ألحق بها من القرى الصغيرة التي أصبحت من ضواحي بيروت، كالغبيري والشياح وبرج البراجنة وغيرها، إذ صارت كلّها تشكل مدينة واحدة هي مدينة بيروت لدى النّاس، وفي هذه الحال يكون حكم الجميع حكم البلد الواحد، كما تقدّم في الفرض الأول.

م ـ 812: إذا أقام في مكان واحد معين عشرة أيام ولكن بلا قصد الإقامة والعزم عليها فلا ينقطع السفر.  ومن هذا القبيل من علّق إقامته على بلوغ حاجة، فقال في نفسه: إذا لم يشتد البرد سأبقى في هذا البلد، فبقي عشرة أيام، فلا أثر لذلك، ويبقى على حكم القصر.
م ـ 813: لا يشترط في الإقامة التي تقطع حكم السفر أن يكون الإنسان خلالها مكلفاً بالصلاة، فلو سافرت المرأة الحائض إلى بلد نوت فيه الإقامة، أصبحت مقيمة، ووجب عليها أن تتمّ في صلاتها إذا طهرت.  ومثلها غير البالغ إذا سافر ونوى الإقامة ثُمَّ أكمل خمس عشرة سنة وبلغ في أثناء الأيام العشرة، فإنه يجب عليه حينئذ التمام.

م ـ 814: إذا أقام المسافر في بلد وصلّى تماماً طوال أيامه العشرة، وبعدها مكث أمداً في محل إقامته، فلا يحتاج البقاء على التمام إلى قصد الإقامة مرة أخرى، بل يبقى على التمام إلى أن يسافر في أي وقت شاء.

كذلك فإنه بعد انقضاء العشرة يجوز له المبيت في غير المكان الذي كان يبيت فيه خلال الأيام العشرة، لأنَّ وحدة الإقامة شرط في الأيام العشرة الأولى دون الأيام التي بعدها، نعم لا بُدَّ من ترك الخروج إلى المسافة لكي يبقى على التمام، فإن خرج إلى المسافة انهدمت إقامته وصارت صلاته قصراً، أو ينوي الإقامة من جديد.

م ـ 815: إذا ورد المسافر إلى بلد فلم يعزم على الإقامة فيه وصلّى قصراً كان له بعد ذلك في أي وقت أن يعزم على الإقامة إذا شاء، على أن يحتسب المدّة من حين العزم، فإذا عزم في اليوم الخامس من تواجده في ذلك البلد على البقاء فيه إلى اليوم الخامس عشر اعتبر مقيماً ووجب عليه أن يتمّ صلاته من ذلك التاريخ.
ولو اتخذ هذا القرار بالإقامة وهو يصلي الظهر أو العصر أو العشاء وجب عليه أن يصليها تامة.

م ـ 816: كنّا قد وعدنا في المسألة (809) أن نعود إلى تفصيل أحكام العدول عن نية الإقامة، وهذا هو موضع الوفاء بها في هذه المسألة وفيما بعدها، فنقول:
إذا عدل المكلّف عن نية الإقامة بعدما كان قد صلّى صلاة رباعية تماماً وجب عليه الاستمرار في صلواته التالية على التمام حتى يخرج من البلد في يومه الذي عدل فيه أو في الأيام التي تليه.  ولا بُدَّ ـ كي تؤثر الصلاة الرباعية التي صلاها تماماً أثرها ـ أن تكون أداءً وصحيحةً، فلو كانت قضاءً، أو أداءً ولكن انكشف أنها باطلة، لم تؤثر في استمراره على التمام ولزمه الصلاة قصراً.  وأمّا إذا عدل عن الإقامة ولم يكن قد صلّى صلاة رباعية تامة فإنَّ الواجب عليه هو القصر.  وأمّا حكم الصوم، فإن كان قد صلّى تلك الصلاة الرباعية تماماً بالنحو الذي سبق فإنه يستمر في صومه ويصح منه حتى يخرج من البلد، وإن كان لم يصل صلاة رباعية تماماً، فإنَّ ما عدا يومه الذي هو فيه لا يصح صومه منه، وأمّا يومه الذي هو فيه فإنه يبطل إذا كان العدول قبل الزوال ويصح بعده.

م ـ 817: إذا عزم المسافر على إقامة عشرة أيام، وبدأ صلاة الظهر على هذا الأساس، وفي أثنائها عدل عن نية الإقامة، فإنَّ حكمه يختلف على ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون قد عدل في أثناء الصلاة وهو لا يزال في الركعتين الأوليين، فينتقل عند العدول إلى نية القصر ويأتي بالصلاة قصراً.
الثانية: أن يكون قد عدل بعد أن تجاوز الركعة الثانية ودخل في الثالثة قبل أن يركع فينتقل إلى نية القصر ويلغي الركعة الثالثة ويعود إلى الجلوس فيسلم ويختم صلاته.

الثالثة: أن يكون قد عدل بعد أن ركع في الثالثة وفي هذه الحالة تبطل صلاته من الأساس كأنها لم تكن ويعيد الصلاة قصراً.

م ـ 818: إذا عدل عن نية الإقامة عشرة أيام ولكنَّه شك: هل كان قد صلّى تماماً كي يبقى ويستمر في صلاته على التمام، أو لم يأت بمثل هذه الصلاة فالأصل عدم الإتيان بها، ومعنى هذا أنَّ وظيفته القصر دون التمام.

الثالث: المتردّد المتحيّر بين السفر والإقامة، وهو المسافر الذي قطع مسافة السفر الشرعي ووصل إلى بلد أو مكان وتحيّر بين البقاء في هذا المكان عشرة أيام وبين الخروج من البلد، فحيث لم ينوِ الإقامة عشرة أيام فإنه يستمر في الصلاة قصراً إلى اليوم الثلاثين، ثُمَّ ينقطع حكم السفر في أول ساعة من اليوم الواحد والثلاثين ويلزمه الإتمام في الصلاة والصيام حتى لو كان يريد الخروج والرحيل من ذلك البلد في نفس اليوم، أو بعد يومين أو ثلاثة أو أكثر، من دون حاجة إلى نية الإقامة عشرة أيام فصاعداً.

م ـ 819: من أجل جريان ذلك الحكم على المتردّد لا بُدَّ من بقائه متردّداً في بلد واحد خلال الثلاثين يوماً، فلو ذهب خلالها إلى بلد آخر وبات فيه أو سافر عنه مسافة السفر، ولو ملفقاً، انقطع تتابع الثلاثين يوماً، ولزمه استئناف حسابها بعد عزمه على الاستقرار في بلد واحد.  وإن كان لا يضره الخروج خلال النهار إلى ما دون المسافة الشرعية إلى القرى والأماكن المجاورة من دون مبيت فيها.
وفي حالة انقضاء الثلاثين يوماً وشروعه في الصلاة تماماً يبقى على التمام في محل تردّده ما دام فيه، فإن خرج عنه مسافة السفر الشرعي زال عنه حكم التمام وعاد إليه عنوان المسافر ولزمه القصر، إلاَّ أن ينوي الإقامة عشرة أيام أو يحصل منه التردّد ثلاثين يوماً أخرى.  نعم لا يضره بعد الثلاثين الخروج إلى ما دون المسافة والمبيت فيه، مثلما ذكرنا في ناوي الإقامة.

م ـ 820: احتساب الثلاثين يوماً، إن كان من أول النهار عند طلوع الفجر أو قبله من الليل، فمقدارها ثلاثون نهاراً وتسع وعشرون ليلة، وإن كان بعد الفجر فإنه لا بُدَّ من التلفيق من اليوم الأول واليوم الحادي والثلاثين، فيمر فيه واحد وثلاثون نهاراً وثلاثون ليلة.  ولا يكفي في الثلاثين احتسابها شهراً هلالياً إذا نقص عن الثلاثين، بل يُزيد عليه يوماً ليتمّ حساب الثلاثين.

قد تبين مما ذكر في المبحث الأول أنَّ السفر الشرعي يتحقّق بقطع المسافة مقترنا ذلك بالنية والعزم على قطعها وطيها مع الاستمرار على هذا العزم إلى حين الوصول إلى نهاية المسافة.

ولكن أموراً قد تطرأ على هذا السفر، مثل المرور بالوطن ونحوه، فتقطعه وتلغيه وترتب على المكلّف وضعاً جديداً، وهي ما اصطلح على تسميته بـ (قواطع السفر)، وهي ثلاثة: المرور بالوطن، والبقاء في مكانه متردداً مدة ثلاثين يوماً، ونية الإقامة عشرة أيام في مكان معين.

وتفصيل ذلك على النحو التالي:

الأول: المرور بالوطن، وهو الوطن بأحد المعاني المتقدمة، ولا يشترط الدخول فيه أو الوصول إلى أول البيوت، بل يكفي الدخول في "حدّ الترخص" بالنحو الذي سوف نبينه فيما بعد؛ فإذا مرّ المسافر خلال طي المسافة بوطنه فإنه ينقطع سفره ويلحقه حكم الحاضر في وطنه في صلاته وصيامه، ولا فرق في انقطاع السفر في هذه الحالة بين النزول في الوطن والمكث فيه وبين مجرّد العبور فيه، وعليه فإنه إذا كان عالماً منذ بدأ سيره أنه لن يقطع المسافة قبل المرور بوطنه لا يكون قد تحقّق منه السفر أصلاً حتى ينقطع بالمرور عليه، وعليه أن يصلي تماماً منذ خروجه، وأمّا إذا فوجئ أو اضطر للمرور فيه ولم يكن قد قطع مسافة السفر انقطع سفره ولزمه الإتمام والصيام.  وكذلك ينقطع السفر لو كان المرور بالوطن، اختياراً أو اضطرارا، بعد بلوغ المسافة الشرعية، فإنه يزول به عنوان المسافر ويجب عليه الإتمام ويستأنف سفراً جديداً منه.
كذلك فإنه لا فرق في الوطن بين الوطن الأصلي والدائم وبين الوطن المؤقت حتى لو مرّ عليه في غير الوقت المعتاد تواجده فيه، وذلك كمثل الطالب الساكن في بغداد للدراسة إذا مرّ فيها في أيام العطلة الصيفية، نعم محل العمل الذي لا يسكن فيه لا ينقطع السفر بالمرور عليه لغير داعي العمل.

م ـ 808: إذا عزم في ابتداء سفره على المرور بوطنه أثناء المسافة، ثُمَّ بعدما قطع مسافة من الطريق عدل عن نيته، أو منعه مانع من المرور عليه، فإنَّ حكمه إتمام الصلاة ما دام لم يتحقّق منه قصد المسافة حين شرع في سفره، وله ـ إذا شاء ـ أن يستأنف سفراً جديداً بعد ذلك.  وكذلك لو كان حين انطلق في سفره شاكاً ومتردّداً في المرور على وطنه وعدمه أثناء طي المسافة.
الثاني: نية الإقامة عشرة أيام فصاعداً.  والمراد بها عشرة نهارات وتسع ليالٍ إذا كانت النية عند طلوع الفجر أو قبلها من أوقات الليل، أمّا إذا كانت النية بعد الفجر من أوقات النهار فإنه يحتسبها أحد عشر نهاراً ملفقاً وعشر ليالٍ، فمن نوى الإقامة ظهر يوم الاثنين فإنَّ عليه أن يبقى إلى ظهر الخميس الثاني لتكمل إقامة العشرة عنده.
وحيث ينوي الإقامة كذلك ينقطع سفره ويصلي تماماً ويصوم كما لو كان حاضراً في وطنه، ولا فرق في تأثيرها على السفر ـ إذا وقعت بعد طي المسافة ـ بين ما لو نوى المسافر ذلك من ابتداء السفر وبين ما لو حصل ذلك فجأة أو اضطراراً، فضلاً عمّا لو وقعت بعد طي المسافة والوصول إلى المقصد غير الوطن.
وإذا كان المسافر حين شرع في سفره غير متأكد من أنه سينوي الإقامة خلال طي المسافة أو لا، لم يضر ذلك بقصد السفر، ويبقى على القصر ما لم يستقر عزمه وينوي الإقامة فعلاً.  وكذا لا يتأثر سفره فيما لو نوى الإقامة في مكان أعجبه خلال استراحته فيه ثُمَّ عدل عن ذلك وتابع سيره.

م ـ 809: لا بُدَّ من استقرار عزمه على الإقامة عشرة أيام، فلا تصح مع التردّد فيها أو مع الاحتمال العقلائي بعروض ما يمنع منها ويصرف عنها.  وإذا صح عزمه على الإقامة فطرأ ما يستوجب قطعها على غير توقع، أو رغب في قطعها ولو من دون ضرورة، جاز قطعها حينئذ، فإن خرج من البلد فوراً صح منه ـ إجمالاً ـ ما كان قد صلاه تماماً وصامه إن حدث منه ذلك، وإن لم يخرج منها مباشرة وبقي يوماً أو أكثر لقضاء بعض حاجاته أو للنزهة والفرجة فإن له أحكاماً متعددة نستعرضها في المسألة (816) وما بعدها.

م ـ 810: عند الإقامة في الأماكن العامرة لا بُدَّ من الارتباط بالمحل الذي نوى الإقامة فيه طوال الأيام العشرة، فلا تصح نية الإقامة في بلدتين يبيت في هذه ليلة وفي الأخرى ليلة، كذلك لا يصح الخروج من محل إقامته إلى ما يزيد عن مسافة السفر الملفقة، لا في الأيام العشرة ولا فيما بعدها إن أراد البقاء على التمام، ولذا لا يضرّ الخروج إلى بساتينها، أو إلى القرى القريبة منها، مدّة ساعة أو ساعتين أو أكثر مما هو دون المبيت.
وكذلك حكم الإقامة في البرية، فإنه لا بُدَّ من الالتزام بمكان معين فيها، ثُمَّ الذهاب منه والعودة إليه، ولكلّ مكان حدوده العرفية، كمثل الجبل والوادي والواحة ونحوها، فإن خرج عنه وبات في الموضع الآخر اعتبره العرف مبيتاً في غير محل الإقامة، وكذا لو خرج عن حدود منطقته مسافة السفر الشرعي.

م ـ 811: لا يختلف الحكم في وحدة محل الإقامة بين القرى والمدن الصغيرة والمدن الكبيرة ما دام يصدق عليها عرفاً أنها محل واحد، وهذا واضح في القرى والمدن الصغيرة، وأمّا المدن الكبيرة فهي على صور ثلاث:

1 ـ فقد تكون المدينة صغيرة في تكوينها الأصلي، ثُمَّ تبنى إلى جانبها أحياء جديدة متصلة بها أو تتصل بها بشكل تدرّجي، فتعتبر هذه الأحياء امتداداً للبلد واتساعاً في الأراضي المحيطة بها، وفي هذه الحال يكون حكم الضواحي الجديدة حكم المحلات القديمة في اعتبارها جزءاً من البلد الواحد، فلو أقام الإنسان خمسة أيام في ضاحية وخمسة أيام في ضاحية أخرى ترتب عليه حكم المقيم عشرة أيام في بلد واحد.

2 ـ وقد يكون هناك بلدان متجاوران مستقلان بحيث يكون كلّ واحد منهما منفصلاً عن الآخر بالاسم وبالأرض، ولكن العمران توسّع في كلّ منهما حتى امتد أحدهما للآخر واتصل بناؤهما وتداخل كما في الكوفة والنجف، والكاظمية وبغداد، وكثير من بلدان لبنان، رغم ذلك لا يُعتبر البَلَدان بلداً واحداً بل يبقيان على حالهما من الاستقلال، فلا تكون الإقامة في كلّ واحد منهما، مرة هنا ومرة هناك، إقامة في مكان واحد خلال الأيام العشرة، بل لا بُدَّ من القصر في الصلاة والإفطار في الصوم في الفرض المذكور.

3 ـ وقد يكون هذان البلدان اللذان اتصلا ببعضهما البعض على نحو كان أحدهما كبيراً والآخر صغيراً، بحيث طغى الكبير على الصغير فأصبح الصغير ملحقاً به عرفاً ومنصهراً فيه اجتماعياً بحسب العرف العام، كما في بيروت وما ألحق بها من القرى الصغيرة التي أصبحت من ضواحي بيروت، كالغبيري والشياح وبرج البراجنة وغيرها، إذ صارت كلّها تشكل مدينة واحدة هي مدينة بيروت لدى النّاس، وفي هذه الحال يكون حكم الجميع حكم البلد الواحد، كما تقدّم في الفرض الأول.

م ـ 812: إذا أقام في مكان واحد معين عشرة أيام ولكن بلا قصد الإقامة والعزم عليها فلا ينقطع السفر.  ومن هذا القبيل من علّق إقامته على بلوغ حاجة، فقال في نفسه: إذا لم يشتد البرد سأبقى في هذا البلد، فبقي عشرة أيام، فلا أثر لذلك، ويبقى على حكم القصر.
م ـ 813: لا يشترط في الإقامة التي تقطع حكم السفر أن يكون الإنسان خلالها مكلفاً بالصلاة، فلو سافرت المرأة الحائض إلى بلد نوت فيه الإقامة، أصبحت مقيمة، ووجب عليها أن تتمّ في صلاتها إذا طهرت.  ومثلها غير البالغ إذا سافر ونوى الإقامة ثُمَّ أكمل خمس عشرة سنة وبلغ في أثناء الأيام العشرة، فإنه يجب عليه حينئذ التمام.

م ـ 814: إذا أقام المسافر في بلد وصلّى تماماً طوال أيامه العشرة، وبعدها مكث أمداً في محل إقامته، فلا يحتاج البقاء على التمام إلى قصد الإقامة مرة أخرى، بل يبقى على التمام إلى أن يسافر في أي وقت شاء.

كذلك فإنه بعد انقضاء العشرة يجوز له المبيت في غير المكان الذي كان يبيت فيه خلال الأيام العشرة، لأنَّ وحدة الإقامة شرط في الأيام العشرة الأولى دون الأيام التي بعدها، نعم لا بُدَّ من ترك الخروج إلى المسافة لكي يبقى على التمام، فإن خرج إلى المسافة انهدمت إقامته وصارت صلاته قصراً، أو ينوي الإقامة من جديد.

م ـ 815: إذا ورد المسافر إلى بلد فلم يعزم على الإقامة فيه وصلّى قصراً كان له بعد ذلك في أي وقت أن يعزم على الإقامة إذا شاء، على أن يحتسب المدّة من حين العزم، فإذا عزم في اليوم الخامس من تواجده في ذلك البلد على البقاء فيه إلى اليوم الخامس عشر اعتبر مقيماً ووجب عليه أن يتمّ صلاته من ذلك التاريخ.
ولو اتخذ هذا القرار بالإقامة وهو يصلي الظهر أو العصر أو العشاء وجب عليه أن يصليها تامة.

م ـ 816: كنّا قد وعدنا في المسألة (809) أن نعود إلى تفصيل أحكام العدول عن نية الإقامة، وهذا هو موضع الوفاء بها في هذه المسألة وفيما بعدها، فنقول:
إذا عدل المكلّف عن نية الإقامة بعدما كان قد صلّى صلاة رباعية تماماً وجب عليه الاستمرار في صلواته التالية على التمام حتى يخرج من البلد في يومه الذي عدل فيه أو في الأيام التي تليه.  ولا بُدَّ ـ كي تؤثر الصلاة الرباعية التي صلاها تماماً أثرها ـ أن تكون أداءً وصحيحةً، فلو كانت قضاءً، أو أداءً ولكن انكشف أنها باطلة، لم تؤثر في استمراره على التمام ولزمه الصلاة قصراً.  وأمّا إذا عدل عن الإقامة ولم يكن قد صلّى صلاة رباعية تامة فإنَّ الواجب عليه هو القصر.  وأمّا حكم الصوم، فإن كان قد صلّى تلك الصلاة الرباعية تماماً بالنحو الذي سبق فإنه يستمر في صومه ويصح منه حتى يخرج من البلد، وإن كان لم يصل صلاة رباعية تماماً، فإنَّ ما عدا يومه الذي هو فيه لا يصح صومه منه، وأمّا يومه الذي هو فيه فإنه يبطل إذا كان العدول قبل الزوال ويصح بعده.

م ـ 817: إذا عزم المسافر على إقامة عشرة أيام، وبدأ صلاة الظهر على هذا الأساس، وفي أثنائها عدل عن نية الإقامة، فإنَّ حكمه يختلف على ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون قد عدل في أثناء الصلاة وهو لا يزال في الركعتين الأوليين، فينتقل عند العدول إلى نية القصر ويأتي بالصلاة قصراً.
الثانية: أن يكون قد عدل بعد أن تجاوز الركعة الثانية ودخل في الثالثة قبل أن يركع فينتقل إلى نية القصر ويلغي الركعة الثالثة ويعود إلى الجلوس فيسلم ويختم صلاته.

الثالثة: أن يكون قد عدل بعد أن ركع في الثالثة وفي هذه الحالة تبطل صلاته من الأساس كأنها لم تكن ويعيد الصلاة قصراً.

م ـ 818: إذا عدل عن نية الإقامة عشرة أيام ولكنَّه شك: هل كان قد صلّى تماماً كي يبقى ويستمر في صلاته على التمام، أو لم يأت بمثل هذه الصلاة فالأصل عدم الإتيان بها، ومعنى هذا أنَّ وظيفته القصر دون التمام.

الثالث: المتردّد المتحيّر بين السفر والإقامة، وهو المسافر الذي قطع مسافة السفر الشرعي ووصل إلى بلد أو مكان وتحيّر بين البقاء في هذا المكان عشرة أيام وبين الخروج من البلد، فحيث لم ينوِ الإقامة عشرة أيام فإنه يستمر في الصلاة قصراً إلى اليوم الثلاثين، ثُمَّ ينقطع حكم السفر في أول ساعة من اليوم الواحد والثلاثين ويلزمه الإتمام في الصلاة والصيام حتى لو كان يريد الخروج والرحيل من ذلك البلد في نفس اليوم، أو بعد يومين أو ثلاثة أو أكثر، من دون حاجة إلى نية الإقامة عشرة أيام فصاعداً.

م ـ 819: من أجل جريان ذلك الحكم على المتردّد لا بُدَّ من بقائه متردّداً في بلد واحد خلال الثلاثين يوماً، فلو ذهب خلالها إلى بلد آخر وبات فيه أو سافر عنه مسافة السفر، ولو ملفقاً، انقطع تتابع الثلاثين يوماً، ولزمه استئناف حسابها بعد عزمه على الاستقرار في بلد واحد.  وإن كان لا يضره الخروج خلال النهار إلى ما دون المسافة الشرعية إلى القرى والأماكن المجاورة من دون مبيت فيها.
وفي حالة انقضاء الثلاثين يوماً وشروعه في الصلاة تماماً يبقى على التمام في محل تردّده ما دام فيه، فإن خرج عنه مسافة السفر الشرعي زال عنه حكم التمام وعاد إليه عنوان المسافر ولزمه القصر، إلاَّ أن ينوي الإقامة عشرة أيام أو يحصل منه التردّد ثلاثين يوماً أخرى.  نعم لا يضره بعد الثلاثين الخروج إلى ما دون المسافة والمبيت فيه، مثلما ذكرنا في ناوي الإقامة.

م ـ 820: احتساب الثلاثين يوماً، إن كان من أول النهار عند طلوع الفجر أو قبله من الليل، فمقدارها ثلاثون نهاراً وتسع وعشرون ليلة، وإن كان بعد الفجر فإنه لا بُدَّ من التلفيق من اليوم الأول واليوم الحادي والثلاثين، فيمر فيه واحد وثلاثون نهاراً وثلاثون ليلة.  ولا يكفي في الثلاثين احتسابها شهراً هلالياً إذا نقص عن الثلاثين، بل يُزيد عليه يوماً ليتمّ حساب الثلاثين.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية