ليست صلتنا بقضيّة «المبعث النبويّ» صلة ذكرى نعيشها فتستوقفنا قليلاً ثمّ لا تلبث أن يلفّها الصّمت في غمار النّسيان، وإنّما هي صلة العقيدة بمولدها، والرّسالة بمنطلقها، والإنسان بانطلاقة كيانه وبداية مجده.
إنّها الحدث الذي هزَّ كيان الإنسانيّة، بعد أن غفا مدّةً من الزّمن، وفتح كلَّ جانبٍ من جوانب الحياة على الحقّ والخير والجمال، وانطلق بالإنسان إلى حياة مُثلى يسودها العدل والأمن، بينما تنفجر أعماقها بالفكر النيّر والروحيّة الخلّاقة المبدِعة، في عمليّة خصب وعطاء. وهي ـ بعد ذلك ـ قضيّة الحياة الكبرى الّتي تنطلق لتبلغ بنا شاطئ الأمن والسّلامة.
تلك هي قصَّة المبعث كما نتمثَّلها في أعماقنا، وكما يعيها الفكر النّاقد الّذي يلائم بين البداية والنّهاية، فلا يتصوّر البداية إلّا بالعظمة التي تسير بها النهاية، لا سيَّما إذا كانت البداية بداية نبوّة ورسالة، تستهدف إعداد إنسانٍ ما لحمل فكرة السّماء على الأرض، ولتبديل القيم الجاهليّة بقيم إسلاميّة جديدة، لتهزّ الضمير الإنسانيّ في عملية تجديد وإبداع.
لا بدَّ لهذه البداية من أن تكون رائعةً في جوّها وتفاصيلها، ولا بدَّ لهذا الإنسان من أن يكون عظيماً في وعيه وتفكيره وقوَّته، لأنّ قضية النبوَّة تختلف عن أيّ قضية أخرى من حيث طبيعة المرسِل والرسول والرسالة...
لقد واجه النبيّ (ص) في حركته الرساليّة في الدّعوة إلى الله وإلى تعاليمه، تحدّيات عديدة من قِبَل الكفّار، باعتبار أنَّ الدَّعوة إنَّما هدفت إلى تغيير مفاهيمهم عن الكون والحياة، على الصّعيدَيْن الفكريّ والعمليّ مما اختلف عمّا كانوا يفكّرون فيه أو يمارسونه.
وكان من بين الأهداف التي يرمي الإسلام إلى تحقيقها في دعوته، أن يرسم للأمّة منهجاً جديداً، سواءٌ في طريقة التّفكير، أو في طريقة محاكمة القضايا التي تواجهها في حياتها، لأنَّ قيمة أيّ عمليّة تغييريّة، لا تتمثّل فيما يُطرح فيها من قضايا وأفكار، بقدر ما تتمثّل في عملية التغيير المنهجيّ في فهم الحياة ومواجهة القضايا، إمَّا بالطريقة العقليّة التي تتمثّل في محاكمة الفكرة على ضوء المقاييس العقليّة، أو بالطّريقة الاستقرائيّة التي تعتمد على استقراء الواقع في جميع صُوَره ومظاهره من أجل الوصول إلى المعرفة من جهة أخرى.
كان النبيّ (ص) يفكّر في أنّ المسألة ليست هي أن ترضى قريش أو ترضى القبائل عنه؛ كان يفكِّر في أن يرضى الله عنه: "إنْ لم يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عليَّ فلا أُبالي"... وقال للمسلمين كونوا الأعزّة، إنّكم إذا كنتم مؤمنين، فالإيمان يمثّل قوّة وقيمة تربطكم برسول الله، وتربطكم بالله، لتكون العزّة صفتكم كما هي صفة رسول الله، ولتكون العزّة صفتكم كما هي صفة الله، فإنَّ الله لا يريد لعباده المؤمنين أن يكونوا الأذلّة أمام الكافرين والمستكبرين {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...}[المنافقون: 8]. كونوا الأعزّاء من موقع عزّة الله ورسوله في ما تؤمنون به بالله وبرسوله وبخطّ الله ورسوله.
وهكذا انتصر لأنّه كان يخاف من الله وحده، وانتصر لأنّه كان يراقب الله وحده، وانتصر لأنّه كان يستمدّ ثقته بنفسه وبحركته وبرسالته من موقع إيمانه بالله وثقته بالله.
ما هو دورنا الآن في ذكرى المبعث؟! بعض النّاس يقيمون مهرجاناً خطابيّاً، وبعض الناس يقيمون مسيرة إيمانيّة، وبعض النّاس يكتب كلمةً هنا وحديثاً هناك. ولكنَّ المسألة ليست أن نقيم مهرجاناً لبعثة الرّسول، بل القصّة أن نتحرّك في اتّجاه أن نعرف مسؤوليّتنا في جيلنا وفي مرحلتنا عن المعنى الّذي بعث به الرّسول؛ كيف نحرّك القرآن في الحياة كما حرَّكه، وكيف ندعو إلى الإسلام في الحياة كما دعا إليه، وكيف نقوّي مواقع الإسلام في كلّ ساحات الصّراع كما قوَّاه، وكيف نطلقه دعوةً للعالم كلّه كما كان دعوةً للعالم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً...}[سبأ: 28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]...
إنَّ مسألة إسلامكم ليست حدودها حدود حياة رسول الله، فرسول الله بشر يحيا كما يحيا البشر، ويموت كما يموت البشر، ولكنَّ الإسلام رسالة الله، فاحملوه بعد رسول الله (ص)، وتحمَّلوا مسؤوليَّته بعد رسول الله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
هذه قصّة المبعث في حركة رسول الله (ص) في اتّجاه الرّسالة التي يمثّلها المبعث.
*من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".