{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ}.
وهذا الاصطفاء هو الاختيار، فلقد اختارها من بين نساء العالمين لتكون مظهراً لقدرته،
وأمّاً لعيسى من دون أب. هذا هو معنى الاصطفاء فيما توحي به الكلمة {وَطَهَّرَكِ}،
فكانت الطاهرة من كلّ دنس، والطاهرة في عقلها وفي قلبها وجسدها.
{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}، أي اختارك من بين نساء العالمين،
وميَّزك في لطفه ورعايته.
{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ}، أي تابعي عبادتك بالقنوت {وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}. ويحدِّث الله نبيّه عن هذا أنَّه لم يسبق أنْ
تحدّث به أحد للنبيّ (ص) ولقومه، لأنّه من غيب الله {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ
نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ}، أي يجرون
القرعة بينهم {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، لأنها كانت طفلة جميلة ذكيّة مهذّبة،
فكلّهم كان يريد أن يحتضنها ليرعاها، لأنّها فقدت أمّها وأباها، {وَمَا كُنتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في أيّهم يحتضن هذه الطفلة المحبّبة.
ثم انطلقت الملائكة بحديثٍ آخر: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ
اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}. وبدأت الآيات تتحدّث عن موقع هذا الإنسان،
فهو وجيه في الدنيا، من جهة أنّه يتحرّك في رسالة الله بالدَّرجة التي يفتح فيها
الدنيا على رسالة الله، ليكون وجيهاً في الآخرة، حيث يعطيه الله سبحانه وتعالى في
الآخرة الدرجات العليا، {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} الذين قرّبهم إليه من جهة إخلاصهم
وجهادهم وروحانيَّتهم.
وبذلك تنطلق المعجزة في بدايات طفولته {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْل} يكلّم الناس برسالة الله، {وَمِنَ الصَّالِحِينَ}.
وفوجئت مريم (ع) {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ}، لأنّ قضية الولد تنطلق من الوضع الطبيعي الذي قدّرته في ولادة الناس، {وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} لا بطريقة شرعية ولا غير شرعية ممّا أنا بعيدة عنه، {قَالَ
كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُن فَيَكُونُ}[آل عمران: 42 – 47]...
ونتابع الآيات القرآنيّة لنعرف كيف حدثت ولادة عيسى (ع) وكيف هي أجواؤها، لأنّنا
نريد الاحتفال بالسيِّد المسيح في أجواء الولادة بالطريقة القرآنية، وهذا ما ينبغي
للمسلمين إذا أرادوا أن يشاركوا المسيحيّين الاحتفال بميلاد السيِّد المسيح، حيث
عليهم أن يقرأوا "سورة مريم" ليزدادوا وعياً في قدرة الله ولطفه ورحمته، ورسالة
السيِّد المسيح، حتى لا تختلط عليهم الكلمات التي تنحرف بالعقيدة عن السيّد المسيح.
فكيف عاشت مريم (ع) أجواء الولادة {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ
انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّ}، لقد انعزلت لتتعبَّد إلى الله،
ولتتأمَّل وتخلو بنفسها بعيداً من كلّ هذا اللَّغو الذي يدور حولها في مجتمعها، لأنَّ
الإنسان عندما يعيش اللَّغو الاجتماعي، فإنَّه يشغله عن روحانيَّته وتأمّلاته وصفاء
فكره.
{إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّ}، فاتخذت من دونهم حجاباً
يعزلها عنهم حتى في الشَّكل، فربّما جلست في الخيمة، أو وضعت أيّ حجاب آخر، {فَأَرْسَلْنَا
إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّ}. وكلمة "روح الله" يقال
إنّها "جبرائيل"، ويقال إنّه خلق عظيم من الملائكة، ولا يهمّنا أن نحدّد ذلك،
ولكنّنا نفهم أنّه ملكٌ مزوَّد بميزة تختلف عن بقية الملائكة، حتى إنّ الله تحدّث
عنه أنّه روحه، وهذه منزلة كبيرة.
{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّ}، وتصوّروا
هذه الشابَّة الطاهرة العفيفة التي تعيش العفّة في معنى الإيمان والطهر والصفاء
والنقاء، تصوّرها وقد هجم عليها شابٌّ لا عهد لها به، قد تمثّل لها بشراً سوياً،
فلربّما جاء ليعتدي عليها.
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ}، أستجير بالله منك، فليس عندي من
يحميني منك أنا الضعيفة في جسدها، القويّة بالله {إِن كُنتَ تَقِيّ} إن كنتَ تخاف
الله وتراقبه في كلِّ ما تتحرّك به.
ولم يتركها في كلِّ هذا القلق والخوف. وهنا كانت المفاجأة الكبرى {قَالَ إِنَّمَا
أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ}، فلست بشراً {لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّ}، وأضحت
المفاجأة أكبر {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}
بالطريقة الشرعيَّة {وَلَمْ أَكُ بَغِيّ} بالطريقة غير الشرعية.
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ}، فالمفاجآت إنما تكون في حديث الإنسان، وفيما يفعله
الإنسان بالإنسان، ولكن عندما تكون القضيَّة قدرة الله، فليس هناك مفاجآت، إنّه على
كلِّ شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ}.
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، ثمَّ أراد أن يبيّن لها
نوعيَّة هذا الغلام، وأنّه مميّز {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً
مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّ}[مريم: 16 – 21].
*من كتاب "الندوة"، ج 2.