النبوَّاتُ موضعُ نقاشٍ في مجتمعاتِها؟!

النبوَّاتُ موضعُ نقاشٍ في مجتمعاتِها؟!

كانت النبوَّات ـــ في كلّ عهد انطلقت فيه ـــ موضع نقاش في المجتمع الذي تعيش فيه، باعتبارها حَدَثاً غير عاديّ في حياة النّاس، لأنّها ليست مجرّد دعوة تغييريّة تتحرّك على أساس بشريّ، تخضع لما يخضع له البشر ـــ عادةً ـــ من إمكانات وطاقات وقوّة وضعف، بل هي دعوة تتميّز بارتباطها بما وراء هذا العالم، من خلال الوحي بوصفه ظاهرةً غير عاديّة، تمثّل الاتصال غير المنظور بالقوى غير المنظورة البعيدة التي تنتمي إلى عالم آخر يختلف عن عالمنا هذا في شكله وفي طبيعته، وهي لذلك لا تخضع لأيّ ضعف في الصّدق والصّواب والانسجام مع المصلحة الأساسية للحياة، لأنّها من الله العالم بما يصلحهم وما يفسدهم.

وقد شاركت هذه الصفة التي تتميَّز بها النبوَّات عن الدعوات الأخرى، في إثارة العديد من علامات الاستفهام التي اتخذت لنفسها طابعاً جدليّاً عنيفاً، لم يقتصر على الكلمات التي أُثيرت في هذا السّبيل، بل امتدّ إلى المواقف العمليّة التي تحوّلت إلى رفضٍ حاسمٍ للأشخاص الّذين تتجسَّد فيهم فكرة النبوَّة وتتحرَّك معهم.

ففي البداية، كان السّؤال الذي أُثير مع أكثر الأنبياء حول شخصيّة النبيّ، من خلال تصوّر الناس لما يجب أن تكون عليه هذه الشخصيّة. فإذا كانت النبوّة حدثاً غير عاديّ، فيجب أن تتجسَّد في شخص غير عاديّ؛ ولهذا، فإنَّ من الضروريّ أن لا يكون النبيّ بشراً، ما دامت النبوّة مرتبطة بغير عالم البشر، وما دامت طرق الاتصال غير بشريّة.

ومن هنا، وُلدت فكرة رفض تصديق الأنبياء، لأنّهم بشر مثلهم يأكلون الطّعام ويمشون في الأسواق؛ فلا ينسجم ذلك مع التصوّر العام للنبيّ الّذي يجب أن يكون ملكاً من السّماء ليصلح لحمل رسالة السّماء.

وينطلق ـــ بعد ذلك ـــ سؤال ثانٍ في هذا المجال، فقد نتقبَّل فكرة النبيّ ـــ البشر، ولكن لا بدَّ أن يكون إنساناً غير عاديّ، يتميَّز بقوى خارقة تحمل ظلال الألوهيّة في قدراتها، وإن لم تكن لها هذه الصفة، لأنَّ اتصالها المباشر بالله، وحملها الرّسالة منه بطريق الوحي، يفرض ذلك كلّه.

وفي ضوء ذلك، كانت علامات الاستفهام تتكاثر حول الأنبياء الّذين لا يتميَّزون عن النّاس العاديين بشيء في قدراتهم وأوضاعهم العمليّة في الحياة، فلا نجدهم يستجيبون لأيّ اقتراح من الاقتراحات التي تُطلَب منهم في القيام ببعض الأعمال، أو إيجاد بعض الظّواهر الخارقة في الحياة.

أمّا رسالة الإسلام، فقد جابهت ـــ إلى جانب علامات الاستفهام هذه ـــ في شخصيّة النبيّ محمّد (ص) علامات استفهام من نوع آخر؛ كانت تتحدّى ما جاء به، وما لم تستطع أن تجابهه بالمنطق والمعرفة الواعية الهادئة، بأنّه سحر. ولهذا أعطت النبيّ صفة السّاحر الذي يتّخذ لنفسه صفة الشّاعر، ويجمع أساطير الأوّلين التي اكتتبها فهي تُملى عليه بكرةً وأصيلا.. وتحوّلت القضيّة في تفاعلٍ مرير حاقد إلى ما يشبه التشنّجات الانفعاليّة، فكان الوصف بالجنون أحد الأشياء التي تعرّضت لها شخصيّة الرسالة في شخص الرسول.

ونحن لا ندّعي اختصاص هذه الصّفات بنبيِّ الإسلام، لأنّ القرآن قد أشار في بعض الآيات إلى أنّ الأنبياء ـــ بشكلٍ عام ـــ قد حوربوا باتهامهم بالجنون، كما جاء في قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} الذاريات: ٥٢

ولكنّنا نقول إنّ هذه الأمور كانت بارزةً في موقف أعداء الإسلام من الرّسول.

وقد واجه الرّسول هذا كلّه بأسلوب رساليّ هادئ، ينطلق من الثقة العميقة بنفسه وبرسالته، ومن الفهم الواعي للظّروف وللدوافع وللتصوّرات التي شاركت في ولادة علامات الاستفهام الرافضة التي واجهت رسالته وأساءت إلى شخصه. فقد كان للتصوّر المنحرف لمعنى النبوّة، وللعوامل الاجتماعيّة والذاتيّة الّتي كانت تقود خطى المعاندين نحو معاندة الحقّ الّذي أطلقه، ولغير ذلك، الأثر الكبير في هذا كلّه.

وعلى هُدى ذلك، بدأ الحوار معهم من أجل تصحيح المفهوم الخاطئ الذي يحملونه عن النبوّة ودورها في الحياة، وعن شخصيّة النبيّ وطاقاته، ثمّ عمل بالهدوء نفسه على تصحيح أفكارهم الخاطئة، عن طبيعة رسالته، وعن صفة القرآن، وعن الصّفات التي يلصقونها بشخصه، تحت تأثير الانفعالات المتباينة التي ولّدها الجوّ المحموم للمعارضة.

* من كتاب "الحوار في القرآن".

كانت النبوَّات ـــ في كلّ عهد انطلقت فيه ـــ موضع نقاش في المجتمع الذي تعيش فيه، باعتبارها حَدَثاً غير عاديّ في حياة النّاس، لأنّها ليست مجرّد دعوة تغييريّة تتحرّك على أساس بشريّ، تخضع لما يخضع له البشر ـــ عادةً ـــ من إمكانات وطاقات وقوّة وضعف، بل هي دعوة تتميّز بارتباطها بما وراء هذا العالم، من خلال الوحي بوصفه ظاهرةً غير عاديّة، تمثّل الاتصال غير المنظور بالقوى غير المنظورة البعيدة التي تنتمي إلى عالم آخر يختلف عن عالمنا هذا في شكله وفي طبيعته، وهي لذلك لا تخضع لأيّ ضعف في الصّدق والصّواب والانسجام مع المصلحة الأساسية للحياة، لأنّها من الله العالم بما يصلحهم وما يفسدهم.

وقد شاركت هذه الصفة التي تتميَّز بها النبوَّات عن الدعوات الأخرى، في إثارة العديد من علامات الاستفهام التي اتخذت لنفسها طابعاً جدليّاً عنيفاً، لم يقتصر على الكلمات التي أُثيرت في هذا السّبيل، بل امتدّ إلى المواقف العمليّة التي تحوّلت إلى رفضٍ حاسمٍ للأشخاص الّذين تتجسَّد فيهم فكرة النبوَّة وتتحرَّك معهم.

ففي البداية، كان السّؤال الذي أُثير مع أكثر الأنبياء حول شخصيّة النبيّ، من خلال تصوّر الناس لما يجب أن تكون عليه هذه الشخصيّة. فإذا كانت النبوّة حدثاً غير عاديّ، فيجب أن تتجسَّد في شخص غير عاديّ؛ ولهذا، فإنَّ من الضروريّ أن لا يكون النبيّ بشراً، ما دامت النبوّة مرتبطة بغير عالم البشر، وما دامت طرق الاتصال غير بشريّة.

ومن هنا، وُلدت فكرة رفض تصديق الأنبياء، لأنّهم بشر مثلهم يأكلون الطّعام ويمشون في الأسواق؛ فلا ينسجم ذلك مع التصوّر العام للنبيّ الّذي يجب أن يكون ملكاً من السّماء ليصلح لحمل رسالة السّماء.

وينطلق ـــ بعد ذلك ـــ سؤال ثانٍ في هذا المجال، فقد نتقبَّل فكرة النبيّ ـــ البشر، ولكن لا بدَّ أن يكون إنساناً غير عاديّ، يتميَّز بقوى خارقة تحمل ظلال الألوهيّة في قدراتها، وإن لم تكن لها هذه الصفة، لأنَّ اتصالها المباشر بالله، وحملها الرّسالة منه بطريق الوحي، يفرض ذلك كلّه.

وفي ضوء ذلك، كانت علامات الاستفهام تتكاثر حول الأنبياء الّذين لا يتميَّزون عن النّاس العاديين بشيء في قدراتهم وأوضاعهم العمليّة في الحياة، فلا نجدهم يستجيبون لأيّ اقتراح من الاقتراحات التي تُطلَب منهم في القيام ببعض الأعمال، أو إيجاد بعض الظّواهر الخارقة في الحياة.

أمّا رسالة الإسلام، فقد جابهت ـــ إلى جانب علامات الاستفهام هذه ـــ في شخصيّة النبيّ محمّد (ص) علامات استفهام من نوع آخر؛ كانت تتحدّى ما جاء به، وما لم تستطع أن تجابهه بالمنطق والمعرفة الواعية الهادئة، بأنّه سحر. ولهذا أعطت النبيّ صفة السّاحر الذي يتّخذ لنفسه صفة الشّاعر، ويجمع أساطير الأوّلين التي اكتتبها فهي تُملى عليه بكرةً وأصيلا.. وتحوّلت القضيّة في تفاعلٍ مرير حاقد إلى ما يشبه التشنّجات الانفعاليّة، فكان الوصف بالجنون أحد الأشياء التي تعرّضت لها شخصيّة الرسالة في شخص الرسول.

ونحن لا ندّعي اختصاص هذه الصّفات بنبيِّ الإسلام، لأنّ القرآن قد أشار في بعض الآيات إلى أنّ الأنبياء ـــ بشكلٍ عام ـــ قد حوربوا باتهامهم بالجنون، كما جاء في قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} الذاريات: ٥٢

ولكنّنا نقول إنّ هذه الأمور كانت بارزةً في موقف أعداء الإسلام من الرّسول.

وقد واجه الرّسول هذا كلّه بأسلوب رساليّ هادئ، ينطلق من الثقة العميقة بنفسه وبرسالته، ومن الفهم الواعي للظّروف وللدوافع وللتصوّرات التي شاركت في ولادة علامات الاستفهام الرافضة التي واجهت رسالته وأساءت إلى شخصه. فقد كان للتصوّر المنحرف لمعنى النبوّة، وللعوامل الاجتماعيّة والذاتيّة الّتي كانت تقود خطى المعاندين نحو معاندة الحقّ الّذي أطلقه، ولغير ذلك، الأثر الكبير في هذا كلّه.

وعلى هُدى ذلك، بدأ الحوار معهم من أجل تصحيح المفهوم الخاطئ الذي يحملونه عن النبوّة ودورها في الحياة، وعن شخصيّة النبيّ وطاقاته، ثمّ عمل بالهدوء نفسه على تصحيح أفكارهم الخاطئة، عن طبيعة رسالته، وعن صفة القرآن، وعن الصّفات التي يلصقونها بشخصه، تحت تأثير الانفعالات المتباينة التي ولّدها الجوّ المحموم للمعارضة.

* من كتاب "الحوار في القرآن".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية