انطلاق موسى لدعوة فرعون إلى الله

انطلاق موسى لدعوة فرعون إلى الله

متابعةً لما سبق من حديثٍ عن المحطّات الّتي تقلّب فيها النّبيّ موسى(ع)، لبلوغ ما بلغه من المرتبة النّبويَّة، نتوقَّف عند المحطَّة الخامسة، وكيف واجه موسى التَّكليف الإلهيّ الّذي كلّفه الله به في مواجهة فرعون وقومه، بالدَّعوة إلى الله، والسَّير في خطِّ التَّقوى بالعبادة التّوحيديَّة، والطَّاعة لأوامره ونواهيه، وتحرير المستضعفين الَّذين استعبدهم، ومنعه من ذبح أطفالهم واستحياء نسائهم، وهل تقبّل حمل هذه المسؤوليَّة الكبرى الّتي قد يواجه فيها الخطر على حياته؟

التّقوى عنوان الدَّعوة

إنَّ القرآن ـ في عدّة آيات ـ صوّر لنا إحساس موسى(ع) بصعوبة المهمَّة، وخوفه من عدم القدرة على القيام بها، لما تحتاجه من عناصر القوَّة الّتي لا يملكها في ذاته، إضافةً إلى عنصر الضَّعف في التَّعبير عمّا يريده في خطابه للنّاس، ولا سيَّما في الموقف الّذي يفرض عليه الأخذ بأسلوب الفصاحة في النّطق، والبلاغة في البيان.

لذلك، تمنّى على الله أن يكلّف أخاه هارون بالرّسالة، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[1]، الّذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعدوان على الآخرين، لأنَّ الله لا يريد للظّلم الذاتيّ أو الاجتماعيّ أن ينتشر في حياة الناس، وخصوصاً ما يصيب الضعفاء من المستكبرين، حتى إنَّ الله سبحانه يرفض ظلم الإنسان لنفسه بمختلف الوسائل الداخليّة والخارجيّة، لأنَّ رفض الظّلم ينطلق من القاعدة الدينيَّة الإنسانيَّة في إقامة الواقع على أساس العدل الكلّي. ولذلك، فإنَّ الصّفة التي أعطاها الله لهؤلاء الفراعنة، هي صفة القوم الظّالمين، وهي تختصر كلَّ واقعهم المنحرف في عقيدتهم الباطلة، وكلّ سلوكهم في الحكم، وتعاملهم مع النّاس، ما جعل الأوضاع العامَّة خاضعةً للألم النفسيّ والفساد العمليّ.

وهكذا، أراد الله لنبيِّه موسى(ع) أن يتوجَّه إلى موقع السّلطة الأقوى في السَّاحات العامَّة؛ إلى فرعون الذي عاش ضخامة الشّخصيَّة وانتفاخ الذّات، حتى خيِّل إليه أنّه يقف في موقع الربوبيّة للمستضعفين الّذين استعبدهم واستغلَّ ضعفهم، ففرض عليهم عبادته، وصادر حريّتهم في الإرادة من خلال قوّته وملكه، وذلك من خلال التفاف قومه حوله، وطاعتهم له، وخضوعهم لسلطانه على خطِّ العصبيَّة العائليَّة، لأنّهم كانوا يحصلون من خلاله على الامتيازات الكثيرة في مواقعهم وأوضاعهم الماليَّة والسّلطويَّة، تماماً كأيّة قبيلة يملك رئيسها السّلطة المطلقة، فيستعين بأهل قبيلته في تعزيز ملكه وتقوية سلطانه.

وكان العنوان الحركيّ الكبير في دعوته الإصلاحيّة التغييريّة، هو عنوان التقوى، {أَلَا يَتَّقُونَ}[2]، ما يجعلهم يخافون الله ويحسبون حسابه في أعمالهم ومواقفهم، من خلال المستقبل الّذي ينتظرهم في الدّار الآخرة، الّتي ينال التقيّ فيها ثوابه، والشّقيّ عقابه.

وقد أراد الله لنبيّه أن يدعوهم إلى الالتزام بهذا العنوان، لأنّه يلخّص كلّ القيم الروحيّة في الانفتاح على العدل كلّه، والخير كلّه، والإحسان كلّه، والمسؤوليّة كلّها، ما يوحي بالواقع التغييريّ للإنسان في تفكيره العقليّ وفي سلوكه العمليّ، وهذا ما أكَّده الأنبياء في رسالاتهم، وبشّروا السَّائرين في خطّه بالجنّة الّتي وعد الله بها المتَّقين.

اللُّطف الإلهيّ بموسى

ولكنَّ موسى(ع) ناجى ربّه بأن يذلِّل له العقبات الّتي قد تصادفه أثناء قيامه بهذه المهمَّة الصَّعبة، وذلك من خلال بعض الأوضاع الخاصَّة الّتي قد تثير لديه القلق في نجاحه في مسؤوليَّته الرساليّة. {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}[3]، لأنهم قد ينظرون إليَّ نظرة الاستضعاف، لانتمائي ـ في نظرهم ـ إلى النّاس المستضعفين، فلا يستمعون إليَّ فيما أدعوهم إليه، تماماً كما هي حال القوم الّذين يحتقرون النّاس من حولهم ممن هم دونهم في الطبقة الاجتماعيَّة، فلا يلتفتون إليهم، لذلك، لا فائدة تُرجى من إرسالي إليهم، لأنَّ النّتيجة معلومة منذ البداية، وهي الرفض.

{وَيَضِيقُ صَدْرِي}، بسبب ما قد أتعرَّض له منهم، مما لا أستطيع تحمّله بقدرتي الذاتيَّة، بحيث تتضاءل حريّتي في الدَّعوة والمواجهة، الأمر الّذي قد يترك تأثيره السّلبيّ في حالتي النفسيّة، التي تتمثّل بضيق الصّدر في هذا الموقف. {وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي}، مما أعانيه من حالات احتباس الكلام، حيث لا يسمح لي بالحوار والجدال وإدارة الصّراع بالكلمات القويّة الفصيحة والأسلوب الدّقيق.

وعلى أساس ذلك، فإني أقترح أن تكلّف أخي هارون بالمهمَّة، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}[4]، ليكون عوناً لي على أداء الرّسالة، لما يتميَّز به من صفات تسدّ النَّقص الّذي أعانيه، كفصاحة اللِّسان ونحوه، أو ليتحمَّل المسؤوليَّة وحده، وخصوصاً أنَّ هناك مشكلةً خطيرةً بسبب قتلي شخصاً فرعونيّاً منهم، انتصاراً لظلامة قريبـي الّذي هجم عليه لقتله، بينما لا يعيش هارون هذه المشكلة. {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}[5]، لذلك عندما أبرز أمامهم، فإنهم سيعتقلونني ويقتلونني، فلا أستطيع ـ من خلال ذلك ـ استكمال المهمَّة الرساليَّة.

وفي آيةٍ أخرى مماثلة، ولكنَّها أكثرُ تفصيلاً: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}[6]، ليتَّسع صدري للرِّسالة في التحدّيات الّتي أواجهها، ولأنفتح على حقائقها وآفاقها وامتداداتها، لأنَّني بحاجةٍ إلى الصَّدر الرَّحب الّذي تتحرَّك في جنباته القيم الإنسانيَّة الّتي يملك فيها الإنسان الدَّاعية أن يقدِّمها للنّاس ويهديهم إليها. {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}[7]، في هذه الرّحلة الرّساليَّة الّتي قد تكلِّفني الكثير من العسر في خطِّ الدَّعوة وفي موقف المواجهة. {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي}[8]، لأملك الأسلوب الفصيح الواضح الصَّريح الَّذي يتحدَّث إلى النَّاس بانفتاح الفكرة والكلمة. {يَفْقَهُوا قَوْلِي}[9]، حتى يفهموا كلامي بعيداً عن العقدة في طريقة النّطق الّتي ابتليت بها.

الشّراكة الرساليّة

{وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي}[10]، يساعدني في أداء الرِّسالة، لنتكامل كما يتكامل الرّئيس مع وزيره الخبير بالأوضاع المحيطة به، وبالأساليب المقنعة الّتي يقتنع بها الآخرون، {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}[11]، لأتقوَّى به، {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[12]، ليكون رسولاً من قِبَلِك في موقع الوزارة والمساعدة لي في حمل الرّسالة، {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِير}[13]، بأن نستحضر عظمتك في الوجود كلّه، في تسبيح إيمانيّ روحيّ يمتدّ في حياتنا كلِّها. {وَنَذْكُرَكَ كَثِير}[14]، لنعيش حضورك في العقل والقلب والشّعور والحياة، فلا ننساك، بل ننفتح على ربوبيَّتك في كياننا كلّه.

{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِير}[15]، فأنت تعلم كلَّ أسرار الذّات في وجودنا، وكلَّ مشاعر الإيمان بك، وكلَّ أحاسيسنا في حبِّك والإخلاص لك. {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}[16]، فقد استجبنا لكلِّ طلباتك في إشراك أخيك معك في حمل الرّسالة، وفي إفاضة اللّطف عليك في تقوية نقاط الضَّعف عندك، لتنطلق بكلِّ قوّة في موقع المواجهة.

وفي آياتٍ أخرى، يختلف فيها الأسلوب التّعبيريّ في الطلب الذي قدَّمه موسى إلى ربّه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَان}، لوجود بعض الضّعف في عمليّة النطق، وأسلوبي في البيان، {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْء}، أي عوناً وناصراً، والرّدء هو الّذي يتبع غيره معيناً له. {يُصَدِّقُنِي} يدعم منطقي ودعوتي، ويؤيّدني في تأكيد الصِّدق الّذي أتحدَّث به، {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}[17]، فإذا دعا إلى ما أدعو إليه، ووقف معي في خطِّ الرّسالة، فقد يضعف موقفهم في التّكذيب، لأنَّ انضمام الإنسان الآخر الّذي لم يعرف الكذب في تاريخه، يجعل المكذِّبين في موقع القلق بما تحدَّثوا به، {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}، ليدعم كلّ واحدٍ منكما الآخر، ويثبّت موقعه وموقفه. {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَان}، في القوّة الإعجازيّة الّتي يفيض بها الله عليكما ليجعلكما الأقوى، {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَ}، وهي آية العصا واليد البيضاء وغيرهما، {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}[18].

ونتساءل: هل إنَّ الطلب الذي تقدَّم به موسى إلى ربّه هو استعفاءٌ من موسى وهروب من تأدية الرّسالة على أساس نقاط الضّعف الذاتيّة التي تحدّث عنها، والمخاوف الّتي كانت تطوف في ذهنه أمام القيام بهذه المهمّة الصّعبة، ولا سيّما خوفه على نفسه من القتل؟ وهل يمكن أن يرفض موسى رسالة الله إليه؟ وكيف يتهرَّب من مسؤوليَّته؟

والجواب: هذا الطّلب لا يعني أنَّ هناك استعفاءً أو هروباً أو رفضاً للقيام بالمسؤوليَّة، بل هو شعور بالحاجة إلى اللّطف الإلهيّ في شكواه إلى الله، تماماً كما يشكو الإنسان إليه في حالات الضّعف الّتي يتعرَّض لها، وتهاويل المستقبل الّتي يقبل عليها؛ فهي مسألة شعور بالحاجة إلى المساعد والمعين، بالنّظر إلى المشاكل الّتي تنتظر المهمَّة، والمخاوف التي تحيط بها، ممّا يمكن أن يضعفها أو يعطّلها، وبذلك، فإنّه يبحث عن الوسيلة الفضلى الّتي تحقِّق للرّسالة قوّتها وسلامتها، ما يجعل من خوفه خوفاً على الرّسالة الموكولة إليه، لا خوفاً ذاتيّاً على نفسه. ولذلك، لم يطلب من الله إعفاءه من الرّسالة، بل طلب مشاركة هارون له ليَكْمُل به ويقوّي به جانب الضّعف عنده.

أسلوب مواجهة فرعون

أمّا ما هي القضايا الّتي أراد الله منهما إثارتها مع فرعون؟ وما هو الأسلوب الّذي طلب منهما أن يتحرَّكا به في حديثهما معه؟ فقد جاء ذلك في قوله تعالى: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي}، وهي المعجزة الّتي سوف تقهر جبروت فرعون وقومه، من خلال الإيحاء بالقوّة التي لم يعهد في حياته مثيلاً لها، {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}[19]، أي ولا تقصِّرا في ذكري، أو تهملا أمري، ولا تضعفا في أداء رسالتي، {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[20]، في دعوته النّاس إلى الالتزام بربوبيَّته، عندما قال لهم: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[21]، وفي تجاوزه الحدود الإنسانيَّة في تعامله مع النّاس، ولا سيَّما المستضعفين منهم.

{فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[22]؛ لأنَّ من الضّروريّ للرساليّين أن يخطِّطوا للدّعوة من أجل تغيير المفهوم المنحرف لدى الطّغاة وأمثالهم، بتغيير القاعدة الفكريّة الّتي ينطلق منها هؤلاء فيما يفكّرون فيه ويتحركون نحوه، ولا بدَّ في هذا المجال من دراسة أفضل الأساليب الفكريّة والعمليّة والروحيّة، من أجل تحقيق الاتّصال الهادئ الّذي ينفذ إلى القلب بهدوء، بعيداً عن كلِّ عوامل الإثارة القاسية الّتي تشبه الصَّدمة القويّة المضادّة؛ لأنَّ الأسلوب هو العنصر الحيويّ في تحريك الفكر والشّعور نحو الارتباط بالقناعات الرساليّة، فهو الّذي يهيِّئ لعمليّة الانسجام مع الفكرة في خطواتها العمليَّة، ولهذا أكَّد الله سبحانه لهما، أنَّ عليهما أن يختارا الأسلوب اللّيّن في الكلمة والأسلوب، والابتعاد عن طبيعة الإثارة في ذلك.

{فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّن}، لا خشونة فيه ولا عنف ولا إثارة، {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ}، عندما يقوده الأسلوب الحكيم إلى التّفكير في الحقيقة، {أَوْ يَخْشَى}، عندما تثير فيه الذّكرى الخوف أمام قضيَّة المصير في الآخرة، فيما ينتظره من عذاب الله، عندما يتحدَّثان إليه عن يوم القيامة، حيث {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}[23].

أحسن الحديث

وربّما يوحي التحدُّث عن الغاية بكلمة [لعلَّه]، بالترقُّب لحصول التذكّر والخشية، انطلاقاً من دراسة طبيعة تأثير الأسلوب في النّتيجة، بعيداً عن الجانب الذّاتيّ الخاصّ في الشّخص المدعوّ، لأنَّ الأساليب الرّقيقة الهادئة التي يتعامل بها الأشخاص من موقع الدِّراسة الواعية لكلّ العوامل المؤثِّرة في أفكارهم ومشاعرهم، لا بدَّ من أن تؤدّي إلى النّتائج المرجوّة. وعلى هذا الأساس، فإنَّ المسألة لا تخرج عن طبيعتها بسبب بعض العوامل المعاندة في حياة هذا الشَّخص أو ذاك، لأنّ المبدأ يبقى قائماً في علاقة النَّتائج بالمقدِّمات بنسبة عالية.

وقد لا يرد في هذا المجال، الاعتراض الّذي مفاده: كيف يقدِّم الله المسألة بأسلوب الترقّب الّذي يعني إمكانيّة التذكّر والخشية من قِبَل فرعون، مع أنَّ الله يعلم أنّه لا يقبل الانفعال بالكلمات الهادئة الرّساليّة الّتي يلقيها موسى وهارون عليه؟

إنّ المسألة في ملاحظتنا للموضوع، هي أنّ الترجّي كان بلحاظ طبيعة الأسلوب، لا بلحاظ خصوصيّة الشّخص والموقع.

{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى}[24]، وكانا لا يزالان يختزنان في ذاتيهما جبروت فرعون وطغيانه، فقد يرفض استقبالهما والاستماع إليهما، أو يطردهما من مجلسه، أو يتجاوز الحدّ في ظلمه لهما أو لقومهما، باللّجوء إلى وسائل ضاغطة وقاسية.

ولكنّ الله عرّفهما بأنهما ينطلقان في رعايته وحمايته، {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[25]، فالله تعالى هو الّذي يسمع الكلام الّذي يدور بينهم ويرى صورة لقائهما به، ويعرف أنّه لا يملك إيذاءهما أو مواجهتهما بالضّغط والطغيان، لأنهما لا يتحركان من موقعهما الذّاتيّ، بل من موقعهما الرّساليّ الّذي يرتبط بالله الَّذي يملك القوَّة جميعاً.

{فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}[26]، فنحن نحمل إليك رسالة الله الّذي هو ربّك وربّ العالمين جميعاً، ثمّ أعلنا له المطلب الإنسانيّ أوّلاً، واختصرا المسألة وقدّماها بشكلٍ حاسم: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ}، أخرجهم من دائرة الاستضعاف من خلال ضغطك عليهم، وأطلق سراحهم، وامنحهم الحريَّة الّتي يستحقّونها من خلال موقعهم الإنساني، فلطالما استعبدتهم بدون حقّ، لأنّهم أحرار، ولطالما أهدرت إنسانيّتهم وأذللت عزّتهم وكرامتهم؛ إنّها رسالة الله إليك وليست كلمتنا الشّخصيَّة، وإذا لم تصدّق ذلك، فسترى أنّا {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ}، تعرِّفك طبيعة الصّفة الرّساليَّة الّتي نتّصف بها من خلال الوحي الإلهيّ.

{وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}، في لفتةٍ إيحائيّةٍ لفرعون أنّه لا سلام معه وعليه إذا بقي على ضلاله الاستكباريّ، لأنَّ السَّلام هو للمهتدين المنسجمين مع دعوة الهدى المنفتحة على الله سبحانه.

ويتصاعد الموقف في خطابهما المتحدّي، {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[27]، وهذه هي النَّصيحة الّتي نقدِّمها إليك في نهاية المطاف، لتتفادى العذاب الّذي ستتعرَّض له في الدّار الآخرة، إذا بقيت مصرّاً على كفرك وضلالك وطغيانك.

فكيف كان ردّ فعل فرعون على هذه الدّعوة؟

هذا ما نرجو أن نوفَّق له في الحلقة الآتية بإذن الله، والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الشعراء: 10].

[2]  [الشعراء: 11].

[3]  [الشعراء: 12].

[4]  [الشعراء: 13].

[5]  [الشعراء: 14].

[6]  [طه: 25].

[7]  [طه: 26].

[8]  [طه: 27].

[9]  [طه: 28].

[10]  [طه: 29، 30].

[11] [طه: 31].

[12]  [طه: 32].

[13]  [طه: 33].

[14]  [طه: 34].

[15]  [طه: 35].

[16]  [طه: 36].

[17]  [القصص: 33، 34].

[18]  [القصص: 35].

[19]  [طه: 42].

[20]  [طه: 43].

[21]  [النازعات: 24].

[22]  [طه: 44].

[23]  [الانفطار: 19].

[24]  [طه: 45].

[25]  [طه: 46].

[26]  [طه: 47].

[27]  [طه: 48].

متابعةً لما سبق من حديثٍ عن المحطّات الّتي تقلّب فيها النّبيّ موسى(ع)، لبلوغ ما بلغه من المرتبة النّبويَّة، نتوقَّف عند المحطَّة الخامسة، وكيف واجه موسى التَّكليف الإلهيّ الّذي كلّفه الله به في مواجهة فرعون وقومه، بالدَّعوة إلى الله، والسَّير في خطِّ التَّقوى بالعبادة التّوحيديَّة، والطَّاعة لأوامره ونواهيه، وتحرير المستضعفين الَّذين استعبدهم، ومنعه من ذبح أطفالهم واستحياء نسائهم، وهل تقبّل حمل هذه المسؤوليَّة الكبرى الّتي قد يواجه فيها الخطر على حياته؟

التّقوى عنوان الدَّعوة

إنَّ القرآن ـ في عدّة آيات ـ صوّر لنا إحساس موسى(ع) بصعوبة المهمَّة، وخوفه من عدم القدرة على القيام بها، لما تحتاجه من عناصر القوَّة الّتي لا يملكها في ذاته، إضافةً إلى عنصر الضَّعف في التَّعبير عمّا يريده في خطابه للنّاس، ولا سيَّما في الموقف الّذي يفرض عليه الأخذ بأسلوب الفصاحة في النّطق، والبلاغة في البيان.

لذلك، تمنّى على الله أن يكلّف أخاه هارون بالرّسالة، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[1]، الّذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعدوان على الآخرين، لأنَّ الله لا يريد للظّلم الذاتيّ أو الاجتماعيّ أن ينتشر في حياة الناس، وخصوصاً ما يصيب الضعفاء من المستكبرين، حتى إنَّ الله سبحانه يرفض ظلم الإنسان لنفسه بمختلف الوسائل الداخليّة والخارجيّة، لأنَّ رفض الظّلم ينطلق من القاعدة الدينيَّة الإنسانيَّة في إقامة الواقع على أساس العدل الكلّي. ولذلك، فإنَّ الصّفة التي أعطاها الله لهؤلاء الفراعنة، هي صفة القوم الظّالمين، وهي تختصر كلَّ واقعهم المنحرف في عقيدتهم الباطلة، وكلّ سلوكهم في الحكم، وتعاملهم مع النّاس، ما جعل الأوضاع العامَّة خاضعةً للألم النفسيّ والفساد العمليّ.

وهكذا، أراد الله لنبيِّه موسى(ع) أن يتوجَّه إلى موقع السّلطة الأقوى في السَّاحات العامَّة؛ إلى فرعون الذي عاش ضخامة الشّخصيَّة وانتفاخ الذّات، حتى خيِّل إليه أنّه يقف في موقع الربوبيّة للمستضعفين الّذين استعبدهم واستغلَّ ضعفهم، ففرض عليهم عبادته، وصادر حريّتهم في الإرادة من خلال قوّته وملكه، وذلك من خلال التفاف قومه حوله، وطاعتهم له، وخضوعهم لسلطانه على خطِّ العصبيَّة العائليَّة، لأنّهم كانوا يحصلون من خلاله على الامتيازات الكثيرة في مواقعهم وأوضاعهم الماليَّة والسّلطويَّة، تماماً كأيّة قبيلة يملك رئيسها السّلطة المطلقة، فيستعين بأهل قبيلته في تعزيز ملكه وتقوية سلطانه.

وكان العنوان الحركيّ الكبير في دعوته الإصلاحيّة التغييريّة، هو عنوان التقوى، {أَلَا يَتَّقُونَ}[2]، ما يجعلهم يخافون الله ويحسبون حسابه في أعمالهم ومواقفهم، من خلال المستقبل الّذي ينتظرهم في الدّار الآخرة، الّتي ينال التقيّ فيها ثوابه، والشّقيّ عقابه.

وقد أراد الله لنبيّه أن يدعوهم إلى الالتزام بهذا العنوان، لأنّه يلخّص كلّ القيم الروحيّة في الانفتاح على العدل كلّه، والخير كلّه، والإحسان كلّه، والمسؤوليّة كلّها، ما يوحي بالواقع التغييريّ للإنسان في تفكيره العقليّ وفي سلوكه العمليّ، وهذا ما أكَّده الأنبياء في رسالاتهم، وبشّروا السَّائرين في خطّه بالجنّة الّتي وعد الله بها المتَّقين.

اللُّطف الإلهيّ بموسى

ولكنَّ موسى(ع) ناجى ربّه بأن يذلِّل له العقبات الّتي قد تصادفه أثناء قيامه بهذه المهمَّة الصَّعبة، وذلك من خلال بعض الأوضاع الخاصَّة الّتي قد تثير لديه القلق في نجاحه في مسؤوليَّته الرساليّة. {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}[3]، لأنهم قد ينظرون إليَّ نظرة الاستضعاف، لانتمائي ـ في نظرهم ـ إلى النّاس المستضعفين، فلا يستمعون إليَّ فيما أدعوهم إليه، تماماً كما هي حال القوم الّذين يحتقرون النّاس من حولهم ممن هم دونهم في الطبقة الاجتماعيَّة، فلا يلتفتون إليهم، لذلك، لا فائدة تُرجى من إرسالي إليهم، لأنَّ النّتيجة معلومة منذ البداية، وهي الرفض.

{وَيَضِيقُ صَدْرِي}، بسبب ما قد أتعرَّض له منهم، مما لا أستطيع تحمّله بقدرتي الذاتيَّة، بحيث تتضاءل حريّتي في الدَّعوة والمواجهة، الأمر الّذي قد يترك تأثيره السّلبيّ في حالتي النفسيّة، التي تتمثّل بضيق الصّدر في هذا الموقف. {وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي}، مما أعانيه من حالات احتباس الكلام، حيث لا يسمح لي بالحوار والجدال وإدارة الصّراع بالكلمات القويّة الفصيحة والأسلوب الدّقيق.

وعلى أساس ذلك، فإني أقترح أن تكلّف أخي هارون بالمهمَّة، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}[4]، ليكون عوناً لي على أداء الرّسالة، لما يتميَّز به من صفات تسدّ النَّقص الّذي أعانيه، كفصاحة اللِّسان ونحوه، أو ليتحمَّل المسؤوليَّة وحده، وخصوصاً أنَّ هناك مشكلةً خطيرةً بسبب قتلي شخصاً فرعونيّاً منهم، انتصاراً لظلامة قريبـي الّذي هجم عليه لقتله، بينما لا يعيش هارون هذه المشكلة. {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}[5]، لذلك عندما أبرز أمامهم، فإنهم سيعتقلونني ويقتلونني، فلا أستطيع ـ من خلال ذلك ـ استكمال المهمَّة الرساليَّة.

وفي آيةٍ أخرى مماثلة، ولكنَّها أكثرُ تفصيلاً: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}[6]، ليتَّسع صدري للرِّسالة في التحدّيات الّتي أواجهها، ولأنفتح على حقائقها وآفاقها وامتداداتها، لأنَّني بحاجةٍ إلى الصَّدر الرَّحب الّذي تتحرَّك في جنباته القيم الإنسانيَّة الّتي يملك فيها الإنسان الدَّاعية أن يقدِّمها للنّاس ويهديهم إليها. {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}[7]، في هذه الرّحلة الرّساليَّة الّتي قد تكلِّفني الكثير من العسر في خطِّ الدَّعوة وفي موقف المواجهة. {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي}[8]، لأملك الأسلوب الفصيح الواضح الصَّريح الَّذي يتحدَّث إلى النَّاس بانفتاح الفكرة والكلمة. {يَفْقَهُوا قَوْلِي}[9]، حتى يفهموا كلامي بعيداً عن العقدة في طريقة النّطق الّتي ابتليت بها.

الشّراكة الرساليّة

{وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي}[10]، يساعدني في أداء الرِّسالة، لنتكامل كما يتكامل الرّئيس مع وزيره الخبير بالأوضاع المحيطة به، وبالأساليب المقنعة الّتي يقتنع بها الآخرون، {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}[11]، لأتقوَّى به، {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[12]، ليكون رسولاً من قِبَلِك في موقع الوزارة والمساعدة لي في حمل الرّسالة، {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِير}[13]، بأن نستحضر عظمتك في الوجود كلّه، في تسبيح إيمانيّ روحيّ يمتدّ في حياتنا كلِّها. {وَنَذْكُرَكَ كَثِير}[14]، لنعيش حضورك في العقل والقلب والشّعور والحياة، فلا ننساك، بل ننفتح على ربوبيَّتك في كياننا كلّه.

{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِير}[15]، فأنت تعلم كلَّ أسرار الذّات في وجودنا، وكلَّ مشاعر الإيمان بك، وكلَّ أحاسيسنا في حبِّك والإخلاص لك. {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}[16]، فقد استجبنا لكلِّ طلباتك في إشراك أخيك معك في حمل الرّسالة، وفي إفاضة اللّطف عليك في تقوية نقاط الضَّعف عندك، لتنطلق بكلِّ قوّة في موقع المواجهة.

وفي آياتٍ أخرى، يختلف فيها الأسلوب التّعبيريّ في الطلب الذي قدَّمه موسى إلى ربّه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَان}، لوجود بعض الضّعف في عمليّة النطق، وأسلوبي في البيان، {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْء}، أي عوناً وناصراً، والرّدء هو الّذي يتبع غيره معيناً له. {يُصَدِّقُنِي} يدعم منطقي ودعوتي، ويؤيّدني في تأكيد الصِّدق الّذي أتحدَّث به، {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}[17]، فإذا دعا إلى ما أدعو إليه، ووقف معي في خطِّ الرّسالة، فقد يضعف موقفهم في التّكذيب، لأنَّ انضمام الإنسان الآخر الّذي لم يعرف الكذب في تاريخه، يجعل المكذِّبين في موقع القلق بما تحدَّثوا به، {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}، ليدعم كلّ واحدٍ منكما الآخر، ويثبّت موقعه وموقفه. {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَان}، في القوّة الإعجازيّة الّتي يفيض بها الله عليكما ليجعلكما الأقوى، {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَ}، وهي آية العصا واليد البيضاء وغيرهما، {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}[18].

ونتساءل: هل إنَّ الطلب الذي تقدَّم به موسى إلى ربّه هو استعفاءٌ من موسى وهروب من تأدية الرّسالة على أساس نقاط الضّعف الذاتيّة التي تحدّث عنها، والمخاوف الّتي كانت تطوف في ذهنه أمام القيام بهذه المهمّة الصّعبة، ولا سيّما خوفه على نفسه من القتل؟ وهل يمكن أن يرفض موسى رسالة الله إليه؟ وكيف يتهرَّب من مسؤوليَّته؟

والجواب: هذا الطّلب لا يعني أنَّ هناك استعفاءً أو هروباً أو رفضاً للقيام بالمسؤوليَّة، بل هو شعور بالحاجة إلى اللّطف الإلهيّ في شكواه إلى الله، تماماً كما يشكو الإنسان إليه في حالات الضّعف الّتي يتعرَّض لها، وتهاويل المستقبل الّتي يقبل عليها؛ فهي مسألة شعور بالحاجة إلى المساعد والمعين، بالنّظر إلى المشاكل الّتي تنتظر المهمَّة، والمخاوف التي تحيط بها، ممّا يمكن أن يضعفها أو يعطّلها، وبذلك، فإنّه يبحث عن الوسيلة الفضلى الّتي تحقِّق للرّسالة قوّتها وسلامتها، ما يجعل من خوفه خوفاً على الرّسالة الموكولة إليه، لا خوفاً ذاتيّاً على نفسه. ولذلك، لم يطلب من الله إعفاءه من الرّسالة، بل طلب مشاركة هارون له ليَكْمُل به ويقوّي به جانب الضّعف عنده.

أسلوب مواجهة فرعون

أمّا ما هي القضايا الّتي أراد الله منهما إثارتها مع فرعون؟ وما هو الأسلوب الّذي طلب منهما أن يتحرَّكا به في حديثهما معه؟ فقد جاء ذلك في قوله تعالى: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي}، وهي المعجزة الّتي سوف تقهر جبروت فرعون وقومه، من خلال الإيحاء بالقوّة التي لم يعهد في حياته مثيلاً لها، {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}[19]، أي ولا تقصِّرا في ذكري، أو تهملا أمري، ولا تضعفا في أداء رسالتي، {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[20]، في دعوته النّاس إلى الالتزام بربوبيَّته، عندما قال لهم: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[21]، وفي تجاوزه الحدود الإنسانيَّة في تعامله مع النّاس، ولا سيَّما المستضعفين منهم.

{فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[22]؛ لأنَّ من الضّروريّ للرساليّين أن يخطِّطوا للدّعوة من أجل تغيير المفهوم المنحرف لدى الطّغاة وأمثالهم، بتغيير القاعدة الفكريّة الّتي ينطلق منها هؤلاء فيما يفكّرون فيه ويتحركون نحوه، ولا بدَّ في هذا المجال من دراسة أفضل الأساليب الفكريّة والعمليّة والروحيّة، من أجل تحقيق الاتّصال الهادئ الّذي ينفذ إلى القلب بهدوء، بعيداً عن كلِّ عوامل الإثارة القاسية الّتي تشبه الصَّدمة القويّة المضادّة؛ لأنَّ الأسلوب هو العنصر الحيويّ في تحريك الفكر والشّعور نحو الارتباط بالقناعات الرساليّة، فهو الّذي يهيِّئ لعمليّة الانسجام مع الفكرة في خطواتها العمليَّة، ولهذا أكَّد الله سبحانه لهما، أنَّ عليهما أن يختارا الأسلوب اللّيّن في الكلمة والأسلوب، والابتعاد عن طبيعة الإثارة في ذلك.

{فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّن}، لا خشونة فيه ولا عنف ولا إثارة، {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ}، عندما يقوده الأسلوب الحكيم إلى التّفكير في الحقيقة، {أَوْ يَخْشَى}، عندما تثير فيه الذّكرى الخوف أمام قضيَّة المصير في الآخرة، فيما ينتظره من عذاب الله، عندما يتحدَّثان إليه عن يوم القيامة، حيث {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}[23].

أحسن الحديث

وربّما يوحي التحدُّث عن الغاية بكلمة [لعلَّه]، بالترقُّب لحصول التذكّر والخشية، انطلاقاً من دراسة طبيعة تأثير الأسلوب في النّتيجة، بعيداً عن الجانب الذّاتيّ الخاصّ في الشّخص المدعوّ، لأنَّ الأساليب الرّقيقة الهادئة التي يتعامل بها الأشخاص من موقع الدِّراسة الواعية لكلّ العوامل المؤثِّرة في أفكارهم ومشاعرهم، لا بدَّ من أن تؤدّي إلى النّتائج المرجوّة. وعلى هذا الأساس، فإنَّ المسألة لا تخرج عن طبيعتها بسبب بعض العوامل المعاندة في حياة هذا الشَّخص أو ذاك، لأنّ المبدأ يبقى قائماً في علاقة النَّتائج بالمقدِّمات بنسبة عالية.

وقد لا يرد في هذا المجال، الاعتراض الّذي مفاده: كيف يقدِّم الله المسألة بأسلوب الترقّب الّذي يعني إمكانيّة التذكّر والخشية من قِبَل فرعون، مع أنَّ الله يعلم أنّه لا يقبل الانفعال بالكلمات الهادئة الرّساليّة الّتي يلقيها موسى وهارون عليه؟

إنّ المسألة في ملاحظتنا للموضوع، هي أنّ الترجّي كان بلحاظ طبيعة الأسلوب، لا بلحاظ خصوصيّة الشّخص والموقع.

{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى}[24]، وكانا لا يزالان يختزنان في ذاتيهما جبروت فرعون وطغيانه، فقد يرفض استقبالهما والاستماع إليهما، أو يطردهما من مجلسه، أو يتجاوز الحدّ في ظلمه لهما أو لقومهما، باللّجوء إلى وسائل ضاغطة وقاسية.

ولكنّ الله عرّفهما بأنهما ينطلقان في رعايته وحمايته، {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[25]، فالله تعالى هو الّذي يسمع الكلام الّذي يدور بينهم ويرى صورة لقائهما به، ويعرف أنّه لا يملك إيذاءهما أو مواجهتهما بالضّغط والطغيان، لأنهما لا يتحركان من موقعهما الذّاتيّ، بل من موقعهما الرّساليّ الّذي يرتبط بالله الَّذي يملك القوَّة جميعاً.

{فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}[26]، فنحن نحمل إليك رسالة الله الّذي هو ربّك وربّ العالمين جميعاً، ثمّ أعلنا له المطلب الإنسانيّ أوّلاً، واختصرا المسألة وقدّماها بشكلٍ حاسم: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ}، أخرجهم من دائرة الاستضعاف من خلال ضغطك عليهم، وأطلق سراحهم، وامنحهم الحريَّة الّتي يستحقّونها من خلال موقعهم الإنساني، فلطالما استعبدتهم بدون حقّ، لأنّهم أحرار، ولطالما أهدرت إنسانيّتهم وأذللت عزّتهم وكرامتهم؛ إنّها رسالة الله إليك وليست كلمتنا الشّخصيَّة، وإذا لم تصدّق ذلك، فسترى أنّا {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ}، تعرِّفك طبيعة الصّفة الرّساليَّة الّتي نتّصف بها من خلال الوحي الإلهيّ.

{وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}، في لفتةٍ إيحائيّةٍ لفرعون أنّه لا سلام معه وعليه إذا بقي على ضلاله الاستكباريّ، لأنَّ السَّلام هو للمهتدين المنسجمين مع دعوة الهدى المنفتحة على الله سبحانه.

ويتصاعد الموقف في خطابهما المتحدّي، {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[27]، وهذه هي النَّصيحة الّتي نقدِّمها إليك في نهاية المطاف، لتتفادى العذاب الّذي ستتعرَّض له في الدّار الآخرة، إذا بقيت مصرّاً على كفرك وضلالك وطغيانك.

فكيف كان ردّ فعل فرعون على هذه الدّعوة؟

هذا ما نرجو أن نوفَّق له في الحلقة الآتية بإذن الله، والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الشعراء: 10].

[2]  [الشعراء: 11].

[3]  [الشعراء: 12].

[4]  [الشعراء: 13].

[5]  [الشعراء: 14].

[6]  [طه: 25].

[7]  [طه: 26].

[8]  [طه: 27].

[9]  [طه: 28].

[10]  [طه: 29، 30].

[11] [طه: 31].

[12]  [طه: 32].

[13]  [طه: 33].

[14]  [طه: 34].

[15]  [طه: 35].

[16]  [طه: 36].

[17]  [القصص: 33، 34].

[18]  [القصص: 35].

[19]  [طه: 42].

[20]  [طه: 43].

[21]  [النازعات: 24].

[22]  [طه: 44].

[23]  [الانفطار: 19].

[24]  [طه: 45].

[25]  [طه: 46].

[26]  [طه: 47].

[27]  [طه: 48].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية