تحدّي فرعون لموسى(ع) وهارون

تحدّي فرعون لموسى(ع) وهارون

في سياق الحوار بين فرعون والنّبيّ موسى(ع) وأخيه هارون(ع)، يحاول فرعون أن يتعرّف إلى ربّهما في أسمائه وصفاته وأفعاله، ليعرف أيّة رسالة يحملانها، بعد أن تمّت دعوته إلى الإيمان بالله.

تساؤل فرعون عن الله

{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى}[1]، هل اخترتما ربّاً على الطَّريقة الَّتي يختار بها النَّاس أربابهم، مما قد يختلفون فيه على أساس المواصفات الّتي يملكها هذا الربّ أو ذاك، سواء كان بشراً أو حجراً، لأني لا أعرف مثل هذا الربّ الّذي تدعوانني إليه ولم ألتقِ به؟

والملاحظ في هذا التَّساؤل الفرعوني، أنّه كان يستمع إلى موسى وأخيه بهدوء غريب، فلم يثُر أو يتشنَّج أو يتعقّد من كلامهما الَّذي فاض بالجرأة القويّة التي خاطباه بها، وربما منحه هذا الجوّ نوعاً من الفضول الباحث عن المعرفة، لأنّه لم يسبق له أن سمع كلاماً مماثلاً، فاستسلم لهذا الجوّ الغامض الجديد الّذي أخذ عليه كلَّ شعوره، حتى خُيِّل إليه أنّه يعيش في جوٍّ سحريّ مثير.

لقد حدَّثاه في البداية عن ربّه كما لو كان معترفاً به، ولكن الربَّ قد يحتاج إلى الاعتراف به من المربوب ليستكمل علاقة الربوبيّة به بطريقةٍ طبيعيَّة، لأنَّ الناس اعتادوا أن يتّخذ كلّ فريقٍ ربّاً لنفسه، يتعبَّد له ويقدّم له القرابين، أو يمارس تجاهه الطقوس، انطلاقاً من القداسة الّتي يتمثّلها به، ومن القوّة الّتي يتوهَّمها في ذاته، مما يخترعه خياله، أو ممّا يبعثه إيحاؤه الدّاخليّ بأنه يملك أسراراً غيبيّة مقدَّسة، بالمستوى الّذي يجعله أقرب إلى ربِّ الكون من غيره...

أمّا خطاب فرعون لموسى(ع)، فقد جاء على قاعدة أنّه رأى فيه الشَّخص الأصيل، القويّ في الموقف، والثّابت في القناعة، إلا أنَّ جواب موسى(ع) كان مفاجئاً له، لأنّه لم يحدّثه عن ربٍّ محسوسٍ مماثلٍ لما يتّخذه النّاس من الأرباب، بل حدَّثه عن الربّ الذي ينطلق الوجود كلّه من خلال إرادته، ويتحرّك من خلال هدايته وتدبيره له في عناصره الداخليَّة والخارجيَّة.

وكان ردّ موسى(ع): {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[2]، فهو الَّذي أوجد كلَّ شيء، ثم لم يهمله ليتركه ضائعاً، بل رعاه رعايةً شاملة، فمنحه الهدى الَّذي يضيء له حركته في الوجود والتّكوين، وينظّم له حركة نموّه وتكامله ووصوله إلى الغاية المطلوبة لوجوده. ولم تكن ربوبيَّته للخلق من خلال التزامه الذَّاتيّ به، وإقباله عليه، وتأييده له، بل كانت ربوبيّة ذاتيّة منطلقةً من طبيعة الإيجاد الّذي يمنح الموجودات سرّ الحياة، ومن الإشراف الدَّائم والرعاية الكاملة الشَّاملة القائمة على أساس العلم اللامحدود، والقدرة المطلقة، والحكمة الواسعة التي لا تغيب عن الكون في أيّة لحظة، كما لا يغيب عنها الوجود في أيِّ وقت، لاحتياجه الدّائم إلى الغنى المطلق الذي يتمثَّل بربوبيّته.

وهكذا، قد نجد الهدى قائماً في الأشياء بذاتها عبر القوانين المودعة فيها، وقد نجده في العقل الإنسانيّ الّذي يدبّر الوجود بشكلٍ مباشر، من خلال الطّاقة الكبرى التي يختزنها في داخله، وذلك من خلال وعي اختياريّ دقيق في إنتاج الفكر، وإبداع الخطّة الشَّاملة للحياة.

الاستفهام عن القرون الأولى

ويتابع فرعون سؤاله، في ظلِّ استمرار حال الفضول التي تهزّ وجدانه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}[3]، أي ما حال الأمم والأجيال الإنسانيّة الماضية، حيث لا خبر عنهم ولا أثر لهم؟ ما هي النّظرة إليهم؟ وكيف هي علاقة هذا الربّ بهم وبمستقبلهم، في حركيّة الوجود، وفي هداية الواقع؟

والسّؤال الّذي يطرح نفسه في هذا السّياق هو: ما مناسبة هذا الاستفهام من فرعون؛ فهل كان يتساءل عن أمر المعاد الَّذي هرب إليه بعدما عجز عن مواجهة أمر الربوبيّة، التي فصَّلها موسى في حديثه بما لا مجال فيه للردّ والاعتراض، لأنَّ إدراكه لم ينفتح على هذا الأفق الواسع للألوهيَّة في امتدادها في عمق الوجود، وحركتها الشَّاملة في تدبير أمره، وخصوصاً أنَّ تفكيره كان مشدوداً إلى الرّبوبيَّة الّتي تتميَّز بما تملك من عناصر القوَّة الماديَّة، ومن السلطة الواسعة، ومن خضوع الضّعفاء لإرادتها المستعلية، أم أنّه أراد معرفة المزيد عن ربّ موسى؟ فإذا كان فرعون قد فهم أنَّ من صفات الرّبّ هيمنته على النّاس في حياتهم، فإنَّ ما أثار استغرابه هو امتداد هذه السّيطرة إلى ما بعد الموت، تماماً كما كان المشركون يقولون: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}[4]، فكيف يواجهون الموقف؟ وكيف ترجع الحياة إليهم؟ وكيف يتحمَّلون المسؤوليَّة؟

{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}[5]، فقد كان جواب موسى(ع)، أنّ علمها عند الله الّذي أحياهم وأماتهم، فهو المحيط بأعمالهم، فلا يفوته منهم شيء، ولا يغيب عنه شيء، وكلّ شيء مثبت في علمه، الّذي لا يضلّ عن حقائق الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، لأنها حاضرة لديه حضوراً مطلقاً لا حدود له في كلّ مفرداتها وجوانبها، فالله يملك أمرهم وحسابهم من خلال إحاطته المطلقة بكلِّ شؤونهم في كلِّ ما عملوه، فيحاسبهم على ذلك بشكلٍ دقيق، بعد إعادة الحياة إليهم بقدرته الّتي لا يعجزها إعادة الوجود إلى الموتى، وهو الّذي أعطاهم قبل ذلك الحياة في بداية وجودهم.

وقد يخطر في البال، أنَّ هذا الاحتمال المتَّصل بفهم بعض حقائق ما بعد الموت، لا يظهر من الآية التي يبدو أنَّها مسوقة للحديث عن الربوبيّة، وهو ما تظهره الآيات التالية التي استمرّت في الحديث عن صفات الله في حركة الخلق في الكون، بما يدلُّ على عظمته وتوحيده، ولم تتحدَّث عن المعاد أو تشير إليه.

وهنا ربما يبرز احتمالٌ آخر، مفاده أنَّ السؤال قد يكون متَّجهاً إلى الحديث عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة، ليصرف موسى عن التكلّم في أصول المعارف الإلهيَّة، وإقامة البرهان على صريح الحقِّ في مسألة المبدأ والمعاد مما تنكره الوثنيَّة، فيشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأوّلين وأخبار الماضين، فكان جواب موسى مختصراً وواضحاً، وهو إرجاع العلم بذلك إلى الله، وأنَّ هذه المسألة تمثِّل بعض الغيب الَّذي لا يعلم تفاصيله إلا علاّم الغيوب.

أيضاً، قد يظهر احتمال آخر يقرب من هذا الاحتمال، ولكنَّه يتَّجه اتجاهاً آخر، وهو أنَّ فرعون أراد إثارة موضوع القرون الأولى ليثير الأجواء السّلبيَّة حول موسى، وذلك من خلال إيجاد جوٍّ عاطفيٍّ سلبيّ في المجتمع المحيط بموسى، ليدفع هؤلاء باتّجاه الدفاع عن آبائهم الّذين يرميهم موسى بإيحاءات حديثه بالضّلال ويحكم عليهم بالعذاب، فكان ردُّ موسى بإيكال العلم بمصير الماضين إلى الله، خروجاً من أجواء الجدل الضَّائع الَّذي لا يؤدِّي إلى نتيجة، بل يدخلهم في متاهات انفعاليَّة لا مجال للخروج منها إلا بالوقوع في كثيرٍ من المشاكل الاجتماعيَّة.

الأسلوب الحكيم في الجواب

وأسلوب موسى هذا يمثِّل الأسلوب الحكيم الَّذي قد يحتاج الإنسان الدّاعية إلى الأخذ به في مواجهة الأشخاص الَّذين يريدون إيقاعه في أجواء الإثارة الاجتماعيَّة أو السياسيَّة الانفعاليَّة العاطفيَّة الّتي يتحرّك فيها النّاس بعيداً عن أيّة حالةٍ عقليّة، مما يخلق الكثير من الإرباك العمليّ في مجال الدّعوة إلى الله، والجهاد في سبيله.

ثم تأتي الآيات القرآنيّة، لتحثّ الإنسان على التفكّر والتدبّر في مخلوقات الله، ليعرفوا تدبيره وعنايته: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْد}، فيما مهَّده لكم من قرارٍ وثباتٍ وراحةٍ، وببركة قانون الجاذبيّة، وكذلك الطبقة الغازية العظيمة المحيطة بالأرض. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُل}، تسهِّل لكم عملية التنقّل في أرجائها، من خلال ارتباط جميع مناطقها بعضها بالبعض الآخر.

{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، وهو ماء المطر الَّذي يتحوَّل إلى بحيرات جوفيّة في أعماق الأرض، فتتفجَّر منه الينابيع والأنهار والماء الّذي هو أساس الحياة ومصدر كلّ البركات. {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى}[6]، فيما أعطى الله الأرض من خصب وحيويّة وقدرة على تحويل التراب إلى عناصر تتكوَّن فيها البذور، وتنمو فيها الخضرة والثّمار والفواكه المتنوّعة، ففي أشكالها وخصائصها وتنوّعاتها وطعمها وريحها مصدر غذاءٍ ومنفعةٍ للإنسان والحيوان، لتستمرّ الحياة.

{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ}، لتكون الفائدة مزدوجةً لكم، بحيث تتغذّون بما أخرجه الله ممّا تقوم به حياتكم، وليكون غذاءً لأنعامكم أيضاً، الَّتي جعلها الله لكم غذاءً ومركباً، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى}[7]، الَّذين يملكون العقول الرّاجحة، ويستخدمونها وسيلةً للتفكّر في القضايا العقيديّة المتّصلة بخالق الكون والحياة، والّتي يستدلّ عليها من دقَّة النّظام، وعظمة الخلق، ووحدة القوانين الكونيَّة.

وهذا يمثِّل الخطَّ القرآني في مسألة العقيدة، فهو يحثّ العقل على التّفكير في القضايا المطروحة في دائرة العقيدة، ليكون العقل هو الأساس في تكوين القناعات الدينيَّة، لا الانفعال العاطفيّ. وبذلك تتلخَّص المعادلة القرآنيّة، في أنَّ الإنسان كلّما ازداد عقلاً، انفتح على الإيمان من بابه الواسع، وكلَّما ضعف إدراكه العقليّ وزاد انفعاله، ابتعد عن الإيمان وعن قضاياه، خلافاً للفكرة الشَّائعة التي يردّدها المادّيّون، وهي أنَّ المجتمع المتخلّف هو الّذي يلتزم الطّريقة الدّينيَّة في الفكر والحياة، بينما يلتزم المجتمع المتحضّر المثقَّف الطّريقة الماديَّة في الفكر. فالقرآن يؤكّد في مسألة تحصيل المعرفة عنصر الوجدان الّذي ينفتح على إيحاءات الفطرة في العقيدة، وعلى عنصر العقل الّذي يؤكّد صفاء الفكر وعمق التأمّل في التّفاصيل، لأنَّ القضيَّة ليست في وجود فكر ذي طابع دينيّ، بل هي قضيَّة الفكر الَّذي يثير الإيمان من خلال العقل في المبدأ والتّفاصيل بالطّريقة الّتي تبتعد عن السّطحيَّة والخرافة.

{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}، فمن تراب الأرض كانت البداية، فنحن جميعاً من آدم، وآدم من تراب، كما أنَّ كلَّ الموادّ الغذائيّة الّتي كوّنت أجسادنا وأجساد آبائنا وأمّهاتنا، قد أخذت من هذا التراب {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}، وإلى التّراب ستعودون بعد الموت، {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[8]، عندما يأذن الله للحياة ببعثكم من قلب الأجداث، فأنتم جزءٌ من هذه الأرض الّتي خلقها الله ونظّمها وأدارها وأودع فيها قوانينه، وأنتم تخضعون لكلِّ قوانين الحياة والموت فيها، كما أنَّكم تتحركون في الحياة وفيما بعد الموت بإرادة الله، فكيف تجحدون الله وتتمرَّدون عليه، وتواجهون الحياة بعيداً عنه؟!

رفض فرعون للدَّعوة

وبذلك، كان جواب موسى(ع) لفرعون حاسماً في تجسيد عظمة الله في عقله وعقول قومه، من خلال التَّفكير الهادئ، والعرض الموضوعيّ، والاستعداد للامتداد بالحوار في جوٍّ تتحرّك فيه المعجزة بطريقةٍ وبأخرى، ما جعل فرعون يشعر بالرّهبة من هذه القوَّة الجديدة الّتي تواجهه، {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَ}، فيما قدَّمه موسى لفرعون من آيات الله الّتي تدلُّ على صدقه في أنّه رسول الله إليه وإلى قومه، وإلى النّاس كافّةً؛ في العصا الّتي تحوَّلت إلى ثعبان حيّ، واليد السَّمراء التي تحوَّلت إلى يدٍ بيضاء، {فَكَذَّبَ وَأَبَى}[9]، كأمثاله من الطّغاة الّذين يعتبرون امتيازاتهم فوق كلِّ منطق، وفوق كلِّ حقيقة.

ولهذه الأسباب، لا يوافق هؤلاء الطّغاة على الدّخول في أيِّ حوارٍ جدّيّ حول قناعاتهم وأوضاعهم، لأنهم لا يريدون تغييرها، إذ قد يفقدون بذلك ـ بحسب رؤيتهم ـ مكاسبهم الذاتيَّة ومواقعهم الطّغيانيَّة. ومن هنا، فإنهم يمتنعون عن القبول بالطّروحات الفكريّة المضادّة، بل يبادرون إلى رفضها من غير تبرير، ويحاولون إثارة الشّكوك حولها وحول الدّعاة الّذين يقدّمونها ويدعون إليها.

وهكذا فعل فرعون في مواجهته لموسى(ع)، عندما استخدم أسلوب الإثارة ضدّ موسى، حتى تقف جماعته في وجه موسى بطريقة عدوانيَّة، بذريعة الدّفاع عن وجودهم في أرضهم، حين أثار قضيَّة أنَّ موسى يريد اقتلاعهم منها وإبعادهم عنها بسحره.

إثارة التحدّي بالسّحر

{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}[10]، في أسلوبٍ يستهدف إبعاد المسألة عن نطاقها الفكريّ الإيمانيّ الّذي يريد أن يحرِّك العقول نحو اكتشاف الحقيقة بالدخول في حوارٍ حولها، وذلك من أجل أن يضع الحقيقة في نطاق السِّحر الّذي كان مألوفاً عندهم، فيما كان يستعمله السَّحرة من ألاعيب وأوضاع يسحرون بها أعين النَّاس، مما لا يرقى في نفوس النّاس إلى مستوى القداسة، بل يعتبرونها جزءاً من امتيازات النِّظام الّذي يعمل على إلحاق السَّحرة بخدمته، بما يمنحهم من أموالٍ ومواقع، بشرط أن يتحركوا في مواقعه ويتبنّوا مواقفه.

ثم نرى فرعون بعد ذلك يعمل على إثارة النَّاس على موسى، كما يفعل الكثير من الإعلاميّين اليوم في مواجهة الدّعاة إلى الله والعاملين في سبيله، لإثارة المجتمع ضدّهم ببعض الشِّعارات المضادَّة الّتي تثير عدوانيَّة النّاس عندهم، بحجَّة درء الأضرار الّتي تلحق بهم.

وانطلاقاً من هذا، تحرّك فرعون لإثارة البلبلة تجاه موقف موسى(ع)، فقال: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ}، لأنَّ طبيعة السّحر لا تقابَل إلا بسحر مماثل، وستجد هناك من هو الأقوى. {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِد}، أي زماناً معيّناً، {لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ}، بل نلتزمه جميعاً، {مَكَاناً سُوًى}[11]، أي مكاناً وسطاً في السّاحة المشتركة. {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}، وهو من أعيادهم الّتي كانوا يجتمعون فيها ويتزيّنون، {وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}[12]، فيلتقون هناك في وقت الضّحى ليعرفوا كيف يكون التحدّي الرّساليّ المستند إلى قوَّة الله في مواجهة التحدّي الفرعونيّ المستند إلى تهاويل الشَّيطان.

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ}، لتهيئة السَّحرة الّذين سيواجهون موسى بالتحدّي، في مشهدٍ عظيم يشهد فيه النّاس ـ حسب تصوّر فرعون ـ هزيمة موسى، فيقضي فرعون على أيِّ أملٍ لدعوته إلى الإيمان بالله والكفر بكلِّ الآلهة المزيّفين من الطّغاة الجبابرة أمثاله، ممن يدّعون الربوبيَّة للنّاس، وبذلك يستقيم لفرعون عرشه وملكه وجبروته، من دون خوفٍ من أيّة حالة اهتزاز من أيّ فريق كان، ولا سيَّما من هذا الشَّخص الّذي أرعبه فيما قدَّمه من الآيات الكبرى التي زلزلت طغيانه.

{فَجَمَعَ كَيْدَهُ}، وقد تجسَّد هذا الكيد بحشد السَّحرة الّذين أعدّهم للتأثير في المجتمع، وذلك في عرضٍ مهيب للقوّة الّتي يملكها أمام شعبه المأخوذ بسحر هؤلاء السّحرة.

وهكذا، كان فرعون يكيد للنّاس من خلال سحرته، فكانوا أدوات كيده وحِيَلِهِ وخِدَعِهِ أمام الآخرين من شعبه أو أقرانه أو أعدائه، وقد أعدَّهم إعداداً هائلاً، ثم حشد النَّاس لذلك، ثمّ استكمل كلَّ استعداداته للحدث العظيم، {ثُمَّ أَتَى}[13]، وواجه موسى من جديد، فوقف مع السَّحرة في موقع، ثمّ وقف موسى في موقعٍ آخر.

محاولة إنذارٍ من العذاب

وبدأت المواجهة، وحان وقت التّحدِّي، ولكنَّ موسى النّبيّ الرّساليّ لم يبغِ من وراء هذا التحدّي استعراضاً للقوّة من أجل إيقاع الهزيمة بالسَّحرة كمنافسين لحساب الزّهو الذاتيّ، بعيداً عن مسألة الرّسالة الهادية الّتي تستند إلى التّوعية على الإيمان لا على القهر والغلبة. ولذلك، وقف وقفة الرّسول الهادي المنذر لكلّ هؤلاء الّذين جعلوا من أنفسهم أدوات لإضلال النّاس، خدمةً للطّاغية الجبّار، من دون أن يحسبوا حساب النّتائج السّلبيَّة الّتي توجب عذاب الله في الدّنيا والآخرة.

وكانت خطّة موسى(ع) أن يثير فيهم الخوف من عذاب الله في أفكارهم ومشاعرهم، {قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِب}، فيما تعتقدونه من عقائد باطلة، وفيما تنسبونه إلى مخلوقاته من قوى خفيَّة غامضة، وفيما تتوسَّلون به من وسائل مزيَّفة خادعة، وتتمسّكون به من شرائع باطلة كاذبة، {فَيُسْحِتَكُمْ}، أي يستأصلكم ويهلككم، {بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}[14]، لأنَّ المفتري على الله لن ينال الفلاح في الدّنيا والآخرة.

وقد أراد موسى(ع) أمام هذا الجمع الغفير الَّذي يجمع النَّاس كلّهم، وفي انتظار تعرّف مواقع القوّة لدى فرعون، أن يبلّغ الرِّسالة الإلهيَّة في الإنذار بالعذاب الَّذي قد يدفعهم إلى التّفكير في الأمر بجديّة على مستوى المصير، قبل أن يدخل معهم معركة التّحدّي، لأنّه أراد أن يستفيد من هذا الاجتماع الواسع من أجل القيام بمسؤوليَّته أمام الله.

فماذا كان موقف هؤلاء من إنذاره؟ وكيف واجهوا الموقف؟ وكيف بدأت المعركة؟

هذا ما سنتحدَّث عنه في العدد القادم، إن شاء الله.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [طه: 49].

[2]  [طه: 50].

[3]  [طه: 51].

[4]  [السجدة: 10].

[5]  [طه: 52].

[6]  [طه: 53].

[7]  [طه: 54].

[8]  [طه: 55].

[9]  [طه: 56].

[10]  [طه: 57].

[11]  [طه: 58].

[12]  [طه: 59].

[13]  [طه: 60].

[14]  [طه: 61].

في سياق الحوار بين فرعون والنّبيّ موسى(ع) وأخيه هارون(ع)، يحاول فرعون أن يتعرّف إلى ربّهما في أسمائه وصفاته وأفعاله، ليعرف أيّة رسالة يحملانها، بعد أن تمّت دعوته إلى الإيمان بالله.

تساؤل فرعون عن الله

{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى}[1]، هل اخترتما ربّاً على الطَّريقة الَّتي يختار بها النَّاس أربابهم، مما قد يختلفون فيه على أساس المواصفات الّتي يملكها هذا الربّ أو ذاك، سواء كان بشراً أو حجراً، لأني لا أعرف مثل هذا الربّ الّذي تدعوانني إليه ولم ألتقِ به؟

والملاحظ في هذا التَّساؤل الفرعوني، أنّه كان يستمع إلى موسى وأخيه بهدوء غريب، فلم يثُر أو يتشنَّج أو يتعقّد من كلامهما الَّذي فاض بالجرأة القويّة التي خاطباه بها، وربما منحه هذا الجوّ نوعاً من الفضول الباحث عن المعرفة، لأنّه لم يسبق له أن سمع كلاماً مماثلاً، فاستسلم لهذا الجوّ الغامض الجديد الّذي أخذ عليه كلَّ شعوره، حتى خُيِّل إليه أنّه يعيش في جوٍّ سحريّ مثير.

لقد حدَّثاه في البداية عن ربّه كما لو كان معترفاً به، ولكن الربَّ قد يحتاج إلى الاعتراف به من المربوب ليستكمل علاقة الربوبيّة به بطريقةٍ طبيعيَّة، لأنَّ الناس اعتادوا أن يتّخذ كلّ فريقٍ ربّاً لنفسه، يتعبَّد له ويقدّم له القرابين، أو يمارس تجاهه الطقوس، انطلاقاً من القداسة الّتي يتمثّلها به، ومن القوّة الّتي يتوهَّمها في ذاته، مما يخترعه خياله، أو ممّا يبعثه إيحاؤه الدّاخليّ بأنه يملك أسراراً غيبيّة مقدَّسة، بالمستوى الّذي يجعله أقرب إلى ربِّ الكون من غيره...

أمّا خطاب فرعون لموسى(ع)، فقد جاء على قاعدة أنّه رأى فيه الشَّخص الأصيل، القويّ في الموقف، والثّابت في القناعة، إلا أنَّ جواب موسى(ع) كان مفاجئاً له، لأنّه لم يحدّثه عن ربٍّ محسوسٍ مماثلٍ لما يتّخذه النّاس من الأرباب، بل حدَّثه عن الربّ الذي ينطلق الوجود كلّه من خلال إرادته، ويتحرّك من خلال هدايته وتدبيره له في عناصره الداخليَّة والخارجيَّة.

وكان ردّ موسى(ع): {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[2]، فهو الَّذي أوجد كلَّ شيء، ثم لم يهمله ليتركه ضائعاً، بل رعاه رعايةً شاملة، فمنحه الهدى الَّذي يضيء له حركته في الوجود والتّكوين، وينظّم له حركة نموّه وتكامله ووصوله إلى الغاية المطلوبة لوجوده. ولم تكن ربوبيَّته للخلق من خلال التزامه الذَّاتيّ به، وإقباله عليه، وتأييده له، بل كانت ربوبيّة ذاتيّة منطلقةً من طبيعة الإيجاد الّذي يمنح الموجودات سرّ الحياة، ومن الإشراف الدَّائم والرعاية الكاملة الشَّاملة القائمة على أساس العلم اللامحدود، والقدرة المطلقة، والحكمة الواسعة التي لا تغيب عن الكون في أيّة لحظة، كما لا يغيب عنها الوجود في أيِّ وقت، لاحتياجه الدّائم إلى الغنى المطلق الذي يتمثَّل بربوبيّته.

وهكذا، قد نجد الهدى قائماً في الأشياء بذاتها عبر القوانين المودعة فيها، وقد نجده في العقل الإنسانيّ الّذي يدبّر الوجود بشكلٍ مباشر، من خلال الطّاقة الكبرى التي يختزنها في داخله، وذلك من خلال وعي اختياريّ دقيق في إنتاج الفكر، وإبداع الخطّة الشَّاملة للحياة.

الاستفهام عن القرون الأولى

ويتابع فرعون سؤاله، في ظلِّ استمرار حال الفضول التي تهزّ وجدانه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}[3]، أي ما حال الأمم والأجيال الإنسانيّة الماضية، حيث لا خبر عنهم ولا أثر لهم؟ ما هي النّظرة إليهم؟ وكيف هي علاقة هذا الربّ بهم وبمستقبلهم، في حركيّة الوجود، وفي هداية الواقع؟

والسّؤال الّذي يطرح نفسه في هذا السّياق هو: ما مناسبة هذا الاستفهام من فرعون؛ فهل كان يتساءل عن أمر المعاد الَّذي هرب إليه بعدما عجز عن مواجهة أمر الربوبيّة، التي فصَّلها موسى في حديثه بما لا مجال فيه للردّ والاعتراض، لأنَّ إدراكه لم ينفتح على هذا الأفق الواسع للألوهيَّة في امتدادها في عمق الوجود، وحركتها الشَّاملة في تدبير أمره، وخصوصاً أنَّ تفكيره كان مشدوداً إلى الرّبوبيَّة الّتي تتميَّز بما تملك من عناصر القوَّة الماديَّة، ومن السلطة الواسعة، ومن خضوع الضّعفاء لإرادتها المستعلية، أم أنّه أراد معرفة المزيد عن ربّ موسى؟ فإذا كان فرعون قد فهم أنَّ من صفات الرّبّ هيمنته على النّاس في حياتهم، فإنَّ ما أثار استغرابه هو امتداد هذه السّيطرة إلى ما بعد الموت، تماماً كما كان المشركون يقولون: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}[4]، فكيف يواجهون الموقف؟ وكيف ترجع الحياة إليهم؟ وكيف يتحمَّلون المسؤوليَّة؟

{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}[5]، فقد كان جواب موسى(ع)، أنّ علمها عند الله الّذي أحياهم وأماتهم، فهو المحيط بأعمالهم، فلا يفوته منهم شيء، ولا يغيب عنه شيء، وكلّ شيء مثبت في علمه، الّذي لا يضلّ عن حقائق الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، لأنها حاضرة لديه حضوراً مطلقاً لا حدود له في كلّ مفرداتها وجوانبها، فالله يملك أمرهم وحسابهم من خلال إحاطته المطلقة بكلِّ شؤونهم في كلِّ ما عملوه، فيحاسبهم على ذلك بشكلٍ دقيق، بعد إعادة الحياة إليهم بقدرته الّتي لا يعجزها إعادة الوجود إلى الموتى، وهو الّذي أعطاهم قبل ذلك الحياة في بداية وجودهم.

وقد يخطر في البال، أنَّ هذا الاحتمال المتَّصل بفهم بعض حقائق ما بعد الموت، لا يظهر من الآية التي يبدو أنَّها مسوقة للحديث عن الربوبيّة، وهو ما تظهره الآيات التالية التي استمرّت في الحديث عن صفات الله في حركة الخلق في الكون، بما يدلُّ على عظمته وتوحيده، ولم تتحدَّث عن المعاد أو تشير إليه.

وهنا ربما يبرز احتمالٌ آخر، مفاده أنَّ السؤال قد يكون متَّجهاً إلى الحديث عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة، ليصرف موسى عن التكلّم في أصول المعارف الإلهيَّة، وإقامة البرهان على صريح الحقِّ في مسألة المبدأ والمعاد مما تنكره الوثنيَّة، فيشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأوّلين وأخبار الماضين، فكان جواب موسى مختصراً وواضحاً، وهو إرجاع العلم بذلك إلى الله، وأنَّ هذه المسألة تمثِّل بعض الغيب الَّذي لا يعلم تفاصيله إلا علاّم الغيوب.

أيضاً، قد يظهر احتمال آخر يقرب من هذا الاحتمال، ولكنَّه يتَّجه اتجاهاً آخر، وهو أنَّ فرعون أراد إثارة موضوع القرون الأولى ليثير الأجواء السّلبيَّة حول موسى، وذلك من خلال إيجاد جوٍّ عاطفيٍّ سلبيّ في المجتمع المحيط بموسى، ليدفع هؤلاء باتّجاه الدفاع عن آبائهم الّذين يرميهم موسى بإيحاءات حديثه بالضّلال ويحكم عليهم بالعذاب، فكان ردُّ موسى بإيكال العلم بمصير الماضين إلى الله، خروجاً من أجواء الجدل الضَّائع الَّذي لا يؤدِّي إلى نتيجة، بل يدخلهم في متاهات انفعاليَّة لا مجال للخروج منها إلا بالوقوع في كثيرٍ من المشاكل الاجتماعيَّة.

الأسلوب الحكيم في الجواب

وأسلوب موسى هذا يمثِّل الأسلوب الحكيم الَّذي قد يحتاج الإنسان الدّاعية إلى الأخذ به في مواجهة الأشخاص الَّذين يريدون إيقاعه في أجواء الإثارة الاجتماعيَّة أو السياسيَّة الانفعاليَّة العاطفيَّة الّتي يتحرّك فيها النّاس بعيداً عن أيّة حالةٍ عقليّة، مما يخلق الكثير من الإرباك العمليّ في مجال الدّعوة إلى الله، والجهاد في سبيله.

ثم تأتي الآيات القرآنيّة، لتحثّ الإنسان على التفكّر والتدبّر في مخلوقات الله، ليعرفوا تدبيره وعنايته: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْد}، فيما مهَّده لكم من قرارٍ وثباتٍ وراحةٍ، وببركة قانون الجاذبيّة، وكذلك الطبقة الغازية العظيمة المحيطة بالأرض. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُل}، تسهِّل لكم عملية التنقّل في أرجائها، من خلال ارتباط جميع مناطقها بعضها بالبعض الآخر.

{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، وهو ماء المطر الَّذي يتحوَّل إلى بحيرات جوفيّة في أعماق الأرض، فتتفجَّر منه الينابيع والأنهار والماء الّذي هو أساس الحياة ومصدر كلّ البركات. {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى}[6]، فيما أعطى الله الأرض من خصب وحيويّة وقدرة على تحويل التراب إلى عناصر تتكوَّن فيها البذور، وتنمو فيها الخضرة والثّمار والفواكه المتنوّعة، ففي أشكالها وخصائصها وتنوّعاتها وطعمها وريحها مصدر غذاءٍ ومنفعةٍ للإنسان والحيوان، لتستمرّ الحياة.

{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ}، لتكون الفائدة مزدوجةً لكم، بحيث تتغذّون بما أخرجه الله ممّا تقوم به حياتكم، وليكون غذاءً لأنعامكم أيضاً، الَّتي جعلها الله لكم غذاءً ومركباً، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى}[7]، الَّذين يملكون العقول الرّاجحة، ويستخدمونها وسيلةً للتفكّر في القضايا العقيديّة المتّصلة بخالق الكون والحياة، والّتي يستدلّ عليها من دقَّة النّظام، وعظمة الخلق، ووحدة القوانين الكونيَّة.

وهذا يمثِّل الخطَّ القرآني في مسألة العقيدة، فهو يحثّ العقل على التّفكير في القضايا المطروحة في دائرة العقيدة، ليكون العقل هو الأساس في تكوين القناعات الدينيَّة، لا الانفعال العاطفيّ. وبذلك تتلخَّص المعادلة القرآنيّة، في أنَّ الإنسان كلّما ازداد عقلاً، انفتح على الإيمان من بابه الواسع، وكلَّما ضعف إدراكه العقليّ وزاد انفعاله، ابتعد عن الإيمان وعن قضاياه، خلافاً للفكرة الشَّائعة التي يردّدها المادّيّون، وهي أنَّ المجتمع المتخلّف هو الّذي يلتزم الطّريقة الدّينيَّة في الفكر والحياة، بينما يلتزم المجتمع المتحضّر المثقَّف الطّريقة الماديَّة في الفكر. فالقرآن يؤكّد في مسألة تحصيل المعرفة عنصر الوجدان الّذي ينفتح على إيحاءات الفطرة في العقيدة، وعلى عنصر العقل الّذي يؤكّد صفاء الفكر وعمق التأمّل في التّفاصيل، لأنَّ القضيَّة ليست في وجود فكر ذي طابع دينيّ، بل هي قضيَّة الفكر الَّذي يثير الإيمان من خلال العقل في المبدأ والتّفاصيل بالطّريقة الّتي تبتعد عن السّطحيَّة والخرافة.

{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}، فمن تراب الأرض كانت البداية، فنحن جميعاً من آدم، وآدم من تراب، كما أنَّ كلَّ الموادّ الغذائيّة الّتي كوّنت أجسادنا وأجساد آبائنا وأمّهاتنا، قد أخذت من هذا التراب {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}، وإلى التّراب ستعودون بعد الموت، {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[8]، عندما يأذن الله للحياة ببعثكم من قلب الأجداث، فأنتم جزءٌ من هذه الأرض الّتي خلقها الله ونظّمها وأدارها وأودع فيها قوانينه، وأنتم تخضعون لكلِّ قوانين الحياة والموت فيها، كما أنَّكم تتحركون في الحياة وفيما بعد الموت بإرادة الله، فكيف تجحدون الله وتتمرَّدون عليه، وتواجهون الحياة بعيداً عنه؟!

رفض فرعون للدَّعوة

وبذلك، كان جواب موسى(ع) لفرعون حاسماً في تجسيد عظمة الله في عقله وعقول قومه، من خلال التَّفكير الهادئ، والعرض الموضوعيّ، والاستعداد للامتداد بالحوار في جوٍّ تتحرّك فيه المعجزة بطريقةٍ وبأخرى، ما جعل فرعون يشعر بالرّهبة من هذه القوَّة الجديدة الّتي تواجهه، {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَ}، فيما قدَّمه موسى لفرعون من آيات الله الّتي تدلُّ على صدقه في أنّه رسول الله إليه وإلى قومه، وإلى النّاس كافّةً؛ في العصا الّتي تحوَّلت إلى ثعبان حيّ، واليد السَّمراء التي تحوَّلت إلى يدٍ بيضاء، {فَكَذَّبَ وَأَبَى}[9]، كأمثاله من الطّغاة الّذين يعتبرون امتيازاتهم فوق كلِّ منطق، وفوق كلِّ حقيقة.

ولهذه الأسباب، لا يوافق هؤلاء الطّغاة على الدّخول في أيِّ حوارٍ جدّيّ حول قناعاتهم وأوضاعهم، لأنهم لا يريدون تغييرها، إذ قد يفقدون بذلك ـ بحسب رؤيتهم ـ مكاسبهم الذاتيَّة ومواقعهم الطّغيانيَّة. ومن هنا، فإنهم يمتنعون عن القبول بالطّروحات الفكريّة المضادّة، بل يبادرون إلى رفضها من غير تبرير، ويحاولون إثارة الشّكوك حولها وحول الدّعاة الّذين يقدّمونها ويدعون إليها.

وهكذا فعل فرعون في مواجهته لموسى(ع)، عندما استخدم أسلوب الإثارة ضدّ موسى، حتى تقف جماعته في وجه موسى بطريقة عدوانيَّة، بذريعة الدّفاع عن وجودهم في أرضهم، حين أثار قضيَّة أنَّ موسى يريد اقتلاعهم منها وإبعادهم عنها بسحره.

إثارة التحدّي بالسّحر

{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}[10]، في أسلوبٍ يستهدف إبعاد المسألة عن نطاقها الفكريّ الإيمانيّ الّذي يريد أن يحرِّك العقول نحو اكتشاف الحقيقة بالدخول في حوارٍ حولها، وذلك من أجل أن يضع الحقيقة في نطاق السِّحر الّذي كان مألوفاً عندهم، فيما كان يستعمله السَّحرة من ألاعيب وأوضاع يسحرون بها أعين النَّاس، مما لا يرقى في نفوس النّاس إلى مستوى القداسة، بل يعتبرونها جزءاً من امتيازات النِّظام الّذي يعمل على إلحاق السَّحرة بخدمته، بما يمنحهم من أموالٍ ومواقع، بشرط أن يتحركوا في مواقعه ويتبنّوا مواقفه.

ثم نرى فرعون بعد ذلك يعمل على إثارة النَّاس على موسى، كما يفعل الكثير من الإعلاميّين اليوم في مواجهة الدّعاة إلى الله والعاملين في سبيله، لإثارة المجتمع ضدّهم ببعض الشِّعارات المضادَّة الّتي تثير عدوانيَّة النّاس عندهم، بحجَّة درء الأضرار الّتي تلحق بهم.

وانطلاقاً من هذا، تحرّك فرعون لإثارة البلبلة تجاه موقف موسى(ع)، فقال: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ}، لأنَّ طبيعة السّحر لا تقابَل إلا بسحر مماثل، وستجد هناك من هو الأقوى. {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِد}، أي زماناً معيّناً، {لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ}، بل نلتزمه جميعاً، {مَكَاناً سُوًى}[11]، أي مكاناً وسطاً في السّاحة المشتركة. {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}، وهو من أعيادهم الّتي كانوا يجتمعون فيها ويتزيّنون، {وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}[12]، فيلتقون هناك في وقت الضّحى ليعرفوا كيف يكون التحدّي الرّساليّ المستند إلى قوَّة الله في مواجهة التحدّي الفرعونيّ المستند إلى تهاويل الشَّيطان.

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ}، لتهيئة السَّحرة الّذين سيواجهون موسى بالتحدّي، في مشهدٍ عظيم يشهد فيه النّاس ـ حسب تصوّر فرعون ـ هزيمة موسى، فيقضي فرعون على أيِّ أملٍ لدعوته إلى الإيمان بالله والكفر بكلِّ الآلهة المزيّفين من الطّغاة الجبابرة أمثاله، ممن يدّعون الربوبيَّة للنّاس، وبذلك يستقيم لفرعون عرشه وملكه وجبروته، من دون خوفٍ من أيّة حالة اهتزاز من أيّ فريق كان، ولا سيَّما من هذا الشَّخص الّذي أرعبه فيما قدَّمه من الآيات الكبرى التي زلزلت طغيانه.

{فَجَمَعَ كَيْدَهُ}، وقد تجسَّد هذا الكيد بحشد السَّحرة الّذين أعدّهم للتأثير في المجتمع، وذلك في عرضٍ مهيب للقوّة الّتي يملكها أمام شعبه المأخوذ بسحر هؤلاء السّحرة.

وهكذا، كان فرعون يكيد للنّاس من خلال سحرته، فكانوا أدوات كيده وحِيَلِهِ وخِدَعِهِ أمام الآخرين من شعبه أو أقرانه أو أعدائه، وقد أعدَّهم إعداداً هائلاً، ثم حشد النَّاس لذلك، ثمّ استكمل كلَّ استعداداته للحدث العظيم، {ثُمَّ أَتَى}[13]، وواجه موسى من جديد، فوقف مع السَّحرة في موقع، ثمّ وقف موسى في موقعٍ آخر.

محاولة إنذارٍ من العذاب

وبدأت المواجهة، وحان وقت التّحدِّي، ولكنَّ موسى النّبيّ الرّساليّ لم يبغِ من وراء هذا التحدّي استعراضاً للقوّة من أجل إيقاع الهزيمة بالسَّحرة كمنافسين لحساب الزّهو الذاتيّ، بعيداً عن مسألة الرّسالة الهادية الّتي تستند إلى التّوعية على الإيمان لا على القهر والغلبة. ولذلك، وقف وقفة الرّسول الهادي المنذر لكلّ هؤلاء الّذين جعلوا من أنفسهم أدوات لإضلال النّاس، خدمةً للطّاغية الجبّار، من دون أن يحسبوا حساب النّتائج السّلبيَّة الّتي توجب عذاب الله في الدّنيا والآخرة.

وكانت خطّة موسى(ع) أن يثير فيهم الخوف من عذاب الله في أفكارهم ومشاعرهم، {قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِب}، فيما تعتقدونه من عقائد باطلة، وفيما تنسبونه إلى مخلوقاته من قوى خفيَّة غامضة، وفيما تتوسَّلون به من وسائل مزيَّفة خادعة، وتتمسّكون به من شرائع باطلة كاذبة، {فَيُسْحِتَكُمْ}، أي يستأصلكم ويهلككم، {بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}[14]، لأنَّ المفتري على الله لن ينال الفلاح في الدّنيا والآخرة.

وقد أراد موسى(ع) أمام هذا الجمع الغفير الَّذي يجمع النَّاس كلّهم، وفي انتظار تعرّف مواقع القوّة لدى فرعون، أن يبلّغ الرِّسالة الإلهيَّة في الإنذار بالعذاب الَّذي قد يدفعهم إلى التّفكير في الأمر بجديّة على مستوى المصير، قبل أن يدخل معهم معركة التّحدّي، لأنّه أراد أن يستفيد من هذا الاجتماع الواسع من أجل القيام بمسؤوليَّته أمام الله.

فماذا كان موقف هؤلاء من إنذاره؟ وكيف واجهوا الموقف؟ وكيف بدأت المعركة؟

هذا ما سنتحدَّث عنه في العدد القادم، إن شاء الله.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [طه: 49].

[2]  [طه: 50].

[3]  [طه: 51].

[4]  [السجدة: 10].

[5]  [طه: 52].

[6]  [طه: 53].

[7]  [طه: 54].

[8]  [طه: 55].

[9]  [طه: 56].

[10]  [طه: 57].

[11]  [طه: 58].

[12]  [طه: 59].

[13]  [طه: 60].

[14]  [طه: 61].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية