متابعةً لما تقدَّم من حديثٍ عن النّبيّ موسى(ع)، نتحدَّث عن المحطّة الثّالثة من حياته.
خروج موسى(ع) من مصر
عندما أدرك موسى(ع) أنَّ بقاءه في مصر قد يعرّض حياته للخطر المحقَّق، انطلاقاً من الخطّة الّتي وضعتها سلطة فرعون لقتله، اقتصاصاً منه لقتل القبطيّ، خرج في حالٍ من الخوف الشَّديد والحذر والترقّب، قاصداً الابتعاد عن مواقع سلطة الفراعنة، داعياً ربّه أن ينجيه منهم، وقد اختار التوجّه إلى مدينة (مدين)، الّتي كانت منطقة سكنى قوم النبيّ شعيب، الّتي يُقال إنها تتفق في مواصفاتها مع بلدة (معان) في الأردن، وكانت تقع شرق خليج العقبة، وكانت لأهلها تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان ـ كما قيل ـ وكانت رحلته متعبةً مضنيةً، وهو الَّذي لم يسافر من بلده من قبل، بل كان يعيش حال الرّفاه والراحة والنّعمة في بيت فرعون.
ولم يجد راحلةً يركب عليها، بل كان يسير ماشياً على قدميه، وقيل إنّه قطع الطريق في ثمانية أيّام، ولقي ما لقي من الجهد والتّعب، وربما ورمت قدماه من كثرة المشي، وكان ـ كما يقال ـ يقتات من نبات الأرض ومن أوراق الأشجار وثمارها دفعاً للجوع، حتى بدت له معالم مدينة مدين، فاطمأنَّ قلبه، وذهب عنه الخوف، لأنّه ابتعد عن سلطة الظّالمين.
ووصل المدينة التي توجّه إليها، مما تحدَّث الله عنه في قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ}[1]، وقد رأى من ألطاف الله به، في وصوله إلى منطقة الأمن والنّجاة، أنَّ الله لم يسلِّمه للضّياع، ولم يخذله في مسيرته، فها هو في بلدٍ لم يعهد له أن رآه أو عرفه، فيه الأمن والنَّجاة له، حيث لا سلطة لفرعون عليه، ولكنَّه في الوقت نفسه، لا يزال يعيش التَّفكير في المستقبل الّذي ينتظره في هذا البلد الّذي لا قريب له فيه ولا صديق، ولا فرصة واضحة من فرص الاستقرار الواقعيّ للعيش فيه.
فلجأ إلى الله طالباً أن يمنحه اللّطف الرّوحيّ في خطِّ رحمته، بما عوَّده عليه في حلِّ مشكلته الصّعبة التي كانت تتحدّاه بالخطر الكبير، وطلب منه الهداية إلى السّبيل السويّ الذي يبلغ به الطّمأنينة في حياته، والسّكينة في مشاعره، انطلاقاً من رعاية الله تعالى له في ماضيه وعنايته به في حاضره.
الوصول إلى مدين
وهكذا وصل إلى ماء مدين الّذي كان الناس يستقون منه لأنفسهم ولأغنامهم، فوقف يتطلَّع إليهم وهم يملأون أوعيتهم بالماء ويسقون الأغنام، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}، وهم يتزاحمون ويتدافعون، بحيث يتقدَّم القويّ على الضَّعيف. وفوجئ بامرأتين بعيدتين عن القوم تحبسان أغنامهما من أن تندفع وتختلط بأغنام القوم، {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} أغنامهما وتحبسانها، وعرف أنهما ضعيفتان من منطلق موقعهما الأنثويّ، فلا تملكان الوصول إلى ما تريدان في هذا الزّحام الشّديد.
وكان من أخلاقه أن ينتصر للإنسان الضّعيف ويعينه ويأخذ له بحقّه، فعزم على مساعدتهما في أمرهما، فالتفت إليهما متسائلاً: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَ}، أي ما شأنكما؟ ولماذا لم تسقيا غنمكما؟ {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء}، حتى يخرجوا أغنامهم، فيخلو الموقع لنا، لأنَّ العادة هي أن يتقدَّم الرّجال النّساء، وليس لنا رجال في الأسرة يقومون بمهمّاتها وحاجاتها كالرّجال الآخرين، وليس لدينا إلا أب عاجز لا يملك القيام بمثل هذا العمل الّذي يقوم به الشّباب الأقوياء... {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}[2]، فلا يستطيع الإتيان بالماء ليسقي الأغنام بجهده الذّاتيّ، فانفعل موسى بهذه الحالة المأساويّة الّتي يعانيانها، وقرّر مساعدتهما، فتقدَّم إلى الماء، وأخذ الدّلو، وسيطر على الموقف بقوَّته وهمّته وعزيمته، {فَسَقَى لَهُمَ}.
وهكذا أكمل موسى(ع) المهمَّة الإنسانيّة الخيّرة في إعانة هاتين المرأتين الضّعيفتين طلباً لما عند الله، {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ}، ليستريح من التّعب، وليتخفِّف من حرارة الجوّ، ولم يكن هناك من يتحدَّث إليه من قريبٍ أو صديق، فانطلق يحدِّث ربَّه ويناجيه في مناجاةٍ خاشعة، شاكراً له نعمه الّتي أنعم بها عليه، والخير الّذي منحه إيّاه: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[3]، من خلال ما وهبتني إيّاه من القوّة، وأعطيتني من الأمن، ومكَّنتني من الحصول على الغذاء، وأنا الفقير إلى ذلك، لأني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً إلا بك وحدك لا شريك لك، فلك الشّكر ولك الحمد...
التّعرّف إلى شعيب
وكانت المفاجأة بعد انتهائه من مناجاته الله، {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء}، في خفر العذارى وحياء العفيفات اللاتي لم يعتدن أن يتحدَّثن مع شابٍّ غريبٍ لا يعرفن عنه شيئاً، سوى ما قام به من خدمةٍ في مساعدتهما في سقي أغنامهما، من دون أن يطلب أجراً على تلك الخدمة، {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَ}، فقد أحسنت إلينا، وقمت بجهدٍ كبيرٍ في رعايتك لنا، في حاجتنا إلى سقي أغنامنا، وتوفير الماء لنا، وإبعادنا عن مزاحمة الرّجال، وقد أخبرنا أبانا بذلك، وأراد أن يتعرَّف إليك ليشكرك، ويجزيك الجزاء الجميل، وليعطيك أجرك على ذلك، وليكرمك كرامة المحسنين، فتعال إلينا ورافقني إليه بكلِّ تقديرٍ وإعزاز.
ولم يكن موسى(ع) يرغب في طلب الأجر على خدمته لهما، ولكنّه وجدها فرصةً للتعرف إلى هذا الشّيخ الكبير، كمدخلٍ للدّخول إلى مجتمع هذه المدينة، لعلّ الله يجعل له في ذلك فرجاً ومخرجاً، وخصوصاً أنّه ليس من الطّبيعيّ أن يبقى وحيداً من دون بيتٍ أو معارف، وربما لم يكن لديه المال الّذي يستطيع من خلاله أن يدبِّر شؤونه... ثم إنَّ العلاقة الخاصَّة بأهل هذا البلد، تجعله يشعر بالاستقرار في أمنه، بعيداً عن المخاوف الّتي تعيش في مشاعره من امتداد جماعة الفراعنة إلى هذا البلد.
وهكذا رأى أنَّ من المصلحة الاستجابة لهذه الدَّعوة التي ربما رأى فيها لطفاً من الله به، في تهيئة الظّرف المناسب لأوضاعه الخاصّة، {فَلَمَّا جَاءهُ}، أي أتى إلى والد الفتاتين، وهو شعيب، ارتاح إليه، ورأى في روحانيّته صفاء الإيمان، وحنان الأبوَّة، وروحيَّة الرّسالة، وانفتاح القلب الكبير، واطمأنَّ إليه، وشعر بأنّه يقف على شاطئ الأمان عنده، فبدأ يحدِّثه عن حياته، وعن عمق المعاناة الّتي يعيشها، {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ}، وعرف شعيب أنَّ هذا الشابَّ لا يزال خائفاً من سطوة فرعون وقومه، وأنّه يطلب المكان الّذي يرتاح إليه ويأمن فيه.
{قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[4]، فإنهم لن يصلوا إليك في هذا المكان، لأنَّهم لا يملكون أيّة سلطة هنا، ولا علاقة بين أهلنا في هذا البلد وبينهم، ليستغلّوا ذلك للإيقاع بك تبعاً لهذه العلاقة، فأنت في مكانٍ آمن، ولا تفكّر في وحشة الغربة، فسوف نكون الأهل لك، والأسرة الّتي تحضنك وتضمّك إليها بكلِّ محبَّة وحنان، فأيقن موسى أنّه وجد في هذا الرَّجل أستاذاً عظيماً، تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتّقوى، وتغمر وجوده الرّوحانيّة، ما يمكِّنه من أن يروي ظمأه الرّوحيَّ منه، كما أحسَّ شعيب بأنّه عثر على تلميذٍ جديرٍ ولائقٍ يملك الحديث معه والحوار في أكثر من قضيّة لديه، ويتلقَّى منه العلم.
وانفتح الشّيخ الكبير على هذا الشابّ الّذي امتلأ قلبه بالإيمان، وتحرَّك فكره بالقيم الروحيّة، وتمثّل فيه الخُلُق الكريم، وانفتح الشابّ عليه، ليجد فيه الأب الّذي افتقده، وليجد في بيته الأسرة الَّتي غاب عنها نتيجة خوفه. وبعد ما رآه موسى(ع)، عرف أنّه كان في رعاية الله ورحمته ولطفه منذ طفولته الأولى، وأنَّ هذا اللّطف الإلهيَّ امتدَّ في حياته، حيث أنقذه الله من سيطرة الفراعنة، وهيَّأ له الخروج من مصر فراراً منهم، ومنحه الظروف الملائمة للاستقرار في مدين، من دون أن يعاني أيَّ جهدٍ في ذلك، سوى ما قدَّمه لهاتين المرأتين من الخدمة الّتي فتحت له أبواب الخير. وهذا ما ينبغي للمؤمن أن يعتبر به، بأن ينفتح على الله ويلجأ إليه في كلِّ مشاكله، ليجد الله قريباً إليه، مجيباً لدعائه إذا عرف منه صدق النيَّة وإخلاص القلب.
الزّواج من ابنة شعيب
وكانت المفاجأة الجديدة لموسى(ع)، وهو ما نستوحيه من أنَّ إحدى الفتاتين شعرت بالحبِّ يغزو قلبها تجاه هذا الشابّ القويّ، الّذي أحسَّت بقوته في مزاحمته للرّجال الّذين تجمّعوا حول البئر، وفي تفريقهم عنها بالرّغم من تكاثرهم حولها، حتى سقى لهنَّ الأغنام، وكان الشّابّ الأمين الّذي لم يرفع نظره إليها إلا بالاحترام، حتى قيل إنّها عندما سارت أمامه إلى بيت أبيها، طلب منها أن تتأخَّر ويتقدَّمها لئلا تضرب الرّيح ثيابها، هذا إضافةً إلى أنّه لم يطلب منهما أجراً مقابل خدمته لهما، ولم يبتعد عن خطّ الأمانة العفيفة في علاقته بهما، فلم يستغلّ قوّته من أجل الإساءة إليهما.
وبسبب كلِّ ذلك، رغبت الفتاة في أن يزوّجها أبوها إيّاه، وربما شعر أبوها بذلك، وبأنَّ هذا الشابَّ قد يرغب في الزّواج كأيِّ شابٍ في مثل عمره، وقد يحقِّق له ذلك طمأنينةً وسكينةً وراحةً روحيّةً وجسديّةً، فابتدرت أباها بهذا العرض الَّذي يخفِّف إحراج الجميع، ويحلّ مشكلة الموقف، مما يحتمل أن يكون قد ورد في فكر موسى(ع)، وفي أنّه لا يمكن أن يبقى ضيفاً إلى ما لا نهاية، وأنَّ الخروج من هذا البيت قد يوقعه في الضّياع من جديد، {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ}، فنحن في حاجةٍ إلى من يلي أمورنا ويدبِّر أوضاعنا، وليس للمرأة أن تلي ذلك في مجتمعنا، مهما كانت قوّتها، لأنَّ ذلك قد يخلق لها مشاكل كثيرة في علاقاتها الخاصّة والعامّة، وقد عرفنا في هذا الشابّ القوّة والأمانة اللّتين تؤهّلانه لأن يكون في مستوى المسؤوليَّة، فيما نحتاج إليه في ظروفنا هذه الّتي لا تخلو من الصّعوبة، فهو شابّ قويّ يقوم بالمهمّة الصّعبة في إدارة شؤوننا، وأمين يحفظ أمانة المال والكلمة والسرّ والعرض، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[5]، الّذي يتمنَّاه كلّ أصحاب المهمَّات والأعمال.
وتقبَّل شعيب هذه الرّغبة من ابنته، وربما أحسَّ بانجذابها الرّوحيّ إلى هذا الشاب، وعرف أن من الطبيعيّ أن لا يكون استئجاره له كأيّ أجيرٍ آخر لقاء مبلغٍ من المال، لأنه سوف يسكن معهم في البيت، ويكون جزءاً من الأسرة في العلاقة الحميمة المرتكزة على الرّابطة الوثيقة، وهي رابطة الزّواج، فيكون صهر العائلة الذي يحفظ زوجته ويصون أهلها من خلال أمانته الأخلاقيّة العالية. ولذلك عرض عليه الزّواج بإحدى ابنتيه لقاء مهرٍ يتمثَّل بخدمته للأسرة.
{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ـ ممن تختارها منهما ـ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ـ أي ثماني سنين، فهذا هو المهر الَّذي تقدّمه إليَّ للزّواج بإحداهما، فتقيم بيننا، وتصلح أمورنا بقوّتك وأمانتك، ويبقى لك أن تزيد المدّة سنتين تطوّعاً وتبرّعاً وإحساناً ـ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ}، كزيادةٍ تمنُّ بها علينا، من دون أن تكون شرطاً ملزماً منَّا عليك، بل تكون على سبيل الخير الّذي تقدّمه إلينا، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}، بما أعرضه عليك من ذلك، فلك حريّة الاختيار في القبول وعدمه، وسأحقِّق لك كلّ ما ترغب فيه من الوفاء والحفظ والرعاية، وذلك انطلاقاً من روحيّة الإيمان في ذاتي، وأخلاقيَّة الصّلاح في عملي و{سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[6]، الّذين يوفون بالعهد ويرعون الذِّمام.
ونستوحي من عرض شعيبٍ هذا، أنّه لا عيب في أن يعرض الأب ابنته للزّواج من شخصٍ يرتضيه ويجد سعادة ابنته عنده، فله أن يقترح عليه ذلك، كما أنّه لا مشكلة في أن يكون المهر خدمةً وعملاً في حساب المستقبل. وإذا كان الأب هو الَّذي اقترح هذا المهر، فإنَّ البنت كانت موافقةً عليه، تماماً كما لو كان الزّوج هو الذي قدّمه إليها، لأنَّ شؤون أسرتها من شؤونها من خلال المسؤوليَّة الخاصّة عنها، وليس من الضّروريّ أن يكون المهر مالاً نقديّاً، بل يكفي في شرعيّته كلّ ما يتراضى به الزّوجان، ولا سيَّما أنَّ القرآن يعبّر عن المهر بأنّه نحلة، وذلك قوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}[7]، والنِّحلة هي الهديّة بلا مقابل، بل هي رمز محبّة.
وربما يلاحظ البعض، أنّه ليس من الطّبيعيّ أنْ يطلب شعيب من موسى أن يعقد الزّواج على إحدى ابنتيه بشكلٍ مبهم، لأنّه لا بدَّ من تعيين الزّوجة في العقد؟ ولكنَّ القضيَّة في صيغتها الموجودة في الآية، كانت عرضاً يقدِّمه إلى موسى، ليجري التّفاهم على الموضوع. ولا بدَّ من أن التّفاهم قد حصل قبل إجراء العقد، وحدّد الأمور بشكلٍ واضح، ما جعل العلاقة الزوجيَّة المعقودة تتحرّك بينهما في حالٍ من الوضوح بالنّسبة إلى الزّوجة والمهر.
واستجاب موسى إلى تمام هذا العرض الكريم، وصادف ذلك رغبةً عنده وفرح به، لأنّه يعتبر أنَّ ذلك سوف يمنحه الاستقرار في السَّكن، والأمن في الموقع، والرَّاحة في الزّواج، وذلك أقصى ما يتمنَّاه في الوقت الحاضر، {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} عهدٌ وشرطٌ ثابتٌ لازم ألتزم به فيما أعطيك من عهد الله عليّ، والتزام الأمانة لديّ، {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ}، ثماني سنين أو عشراً، {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ}، فليس لك أن تلزمني بالزّيادة إذا كانت ظروفي تفرض عليَّ الاقتصار على الأقلّ، وليس لك أن تمنعني من تقديمها إذا كنت أريد التبرّع بها، {وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[8]، فهو الشَّاهد علينا، وهو الحاكم بيننا إذا ما اختلفنا، لأنّه الشَّاهد على عباده الّذين يلتزمون خطَّ الإيمان، ويخشون رقابة الله عليهم في أمورهم الذاتيَّة وفي التزاماتهم العقديّة في علاقاتهم بالنّاس.
التحضّر للتّجربة الجديدة
وقد عاش موسى في هذا البيت الإيمانيّ الطّاهر إلى جانب النبيّ العظيم، وربما كان راعياً لغنمه، خادماً لأسرته في حاجاتها الحيويّة. وقد منحته تلك الفترة الذهبيّة من عمره الفرصة في التّفكير، والتأمّل في أسرار الخلق وعالم الوجود، وفي بناء شخصيَّته، ولا سيّما أنّ المهمّة المستقبليّة الّتي كانت تنتظره، كانت من أكثر المهمّات خطورةً في حركة مسؤوليَّته، في الرّسالة الّتي يوشك أن يكلّفه الله بها في مواجهة الجبابرة، وفي مقدّمهم فرعون وهامان وقومهما، وفي هداية النَّاس إلى التّوحيد وإبعادهم عن خطِّ الشِّرك، وتحرير الإنسان من الرقّ والعبوديّة المفروضة عليه من قِبَل القوى الطّاغية المستكبرة...
وانتهى هذا الفصل من حياة موسى، وأراد الانطلاق إلى موقعٍ جديدٍ يملك فيه حريّته في بلدٍ آخر، بعدما اشتدَّت قوّته، وانفتحت مواقفه على تطوّرات جديدة وتطلّعات كبيرة، في إحساسٍ غامضٍ في داخل ذاته، بأنَّ هناك شيئاً ذا أهميَّة كبرى ينتظره، من دون تحديدٍ لطبيعته.
وهكذا سار بأهله في ليلةٍ شديدة البرد، وكانوا في حاجةٍ إلى نارٍ للدّفء، وهذا هو قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}[9]، ومن هذا الموقع، بدأت المرحلة الرّابعة من حياة موسى، والَّتي تحمل المناجاة الكبرى.
وللحديث بقيَّة، إن شاء الله تعالى. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [القصص: 22].
[2] [القصص: 23].
[3] [القصص: 24].
[4] [القصص: 25].
[5] [القصص: 26].
[6] [القصص: 27].
[7] [النّساء: 4].
[8] [القصص: 28].
[9] [القصص: 29].