تتمّةً للحديث السَّابق عن حياة النَّبيّ موسى(ع)، نُسلِّط الضَّوء على ما ورد في القرآن الكريم، وهو يسرد تفاصيل قصّته بعدما وضعته أمّه في اليمّ، إذ يقول الله تعالى: {
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً}، في حالٍ من الذّهول الّذي يفقد الإنسان معه إحساسه بالسَّكينة، لما يثيره الواقع الذي يحيط به من القلق؛ فربما أصبح ولدها بين يدي فرعون الَّذي قد يتعامل معه كما يتعامل مع أطفال بني إسرائيل عند اكتشافه بأنَّه من هذه العائلة، وقد أوقعها ذلك في الصَّدمة العنيفة الّتي لا تملك معها أن تتوازن؛ فإنَّ القلب إذا فرغ من التَّفكير الواقعيّ، أوقع صاحبه في حالٍ من الضَّياع، حتّى إنها كادت تصرِّح بأمومتها له وما أوحي إليها من إلقائه في النَّهر، مع ما يعنيه ذلك من إفسادٍ للخطَّة الّتي رسمها لها الله، والّتي وضعت بحيث لا تثير أيَّ شكٍّ في نفس فرعون، الّذي ربّما لو اطّلع على القصَّة، لشعر بأنّها مؤامرة مدبَّرة ضدّه أو ضدّ قراراته.
موسى(ع) في قصر فرعون
وهذا ما عبَّر عنه في قوله تعالى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}، بفعل القلق المدمِّر الّذي يهزُّ الأعماق ويترك تأثيره على التَّوازن في الشّعور، {لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَ}، لولا أن ثبَّتها الله على الالتزام بالوحي الإلهيِّ الخفيِّ الّذي يفتح لها أبواب الأمل بنجاته وبعودته إليها؛ لأنَّه ليس من الطبيعيِّ أن ينال منه فرعون بعد الظّروف الّتي رافقت رحلته في النَّهر إلى ساحل قصر فرعون، وعليها أن تؤمن بأنَّ الله يصدق في وعده، ويمنحه النَّتائج الطيِّبة من خلال رعايته له فيما يدبّره له من الأمر، {لتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[1] المصدِّقين بوعد الله سبحانه، المستسلمين لقضائه وقدره.
وربما نستوحي من الآية، أنّها كانت لا تزال تجهل ما حدث لولدها من الرِّعاية الفرعونيَّة، ولذلك طلبت من أخته أن تتقصَّى خبره وتقتفي أثره، وأين استقرَّ مكانه، ومَن الَّذي احتضنه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}، فحاولت أن تسأل النَّاس في المنطقة، لأنَّ هذا الأمر من الأمور الّتي تنتشر بين النَّاس، باعتبار أنَّه يتَّصل بأسرة فرعون الَّذي كان يملك البلاد والعباد، وخصوصاً أنَّه لم يذبحه كما يذبح الأطفال الآخرين، فتحركت في اتجاه الحصول على الحقيقة في أمره، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ}، أي عن بعد، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[2]، فلم تظهر اهتمامها بالتعرّف إليه، بحيث يلوح ذلك في حركاتها وإشاراتها وأسئلتها، وربما نظرت إليه في أيدي الخدم نظرةً عابرة، كأيِّ شخص ينظر إلى الأشياء الّتي حوله بشكلٍ طبيعيّ.
الحضانة الربّانيّة
وقد تدخَّل لطف الله بشكلٍ يشبه الإعجاز، فقد امتنع موسى الوليد ـ مع كلّ جوعه وحاجته إلى الغذاء ـ عن تقبُّل الرّضاعة من أيّة مرضعةٍ كانوا يأتون بها إليه لترضعه؛ {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ}، ما جعلهم يواجهون مشكلةً صعبةً في تغذيته للإبقاء على حياته، وكانت أخته قد اقتربت من الجوِّ أكثر، عندما سمعت القوم يعيشون القلق من خلال ذلك، ما جعل أكثر من امرأة تتقدَّم لتعطي رأيها في هذا الأمر، ووجدت أخته في ذلك فرصةً لأن تعطي رأياً في حلِّ المشكلة كأيّ امرأة أخرى، وقرَّرت أن تتدخَّل ليرجع الولد إلى أمّه بشكلٍ طبيعيّ، من خلال إحساسها بأنَّ هناك وضعاً غيبيّاً خفيّاً يتدخّل لتحقيق الوعد الإلهيّ لأمِّها، بعد أن ألهمها بوضعه في القارب في النّهر، {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}[3]، ورحَّب القوم بكلامها، واستجابوا لها ووثقوا بها، ولا سيَّما بعد أن أحضرت أمّها وشاهدوه قد التقم ثديها وبدأ يرضع منه..
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}، وذلك عندما رجع ولدها الحبيب حيّاً إلى أحضانها، وشعرت بالأمن عليه، بل إنها أصبحت مسؤولةً عن المحافظة على حياته، باعتبار موقعه المميَّز في بيت فرعون، فلا مجال ـ بعد ذلك ـ للقلق ولا للحزن، بعدما امتلأ قلبها بالسرور والسكينة {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} فيما يعد به عباده في قضاياهم الّتي تتحرّك في مواقع رحمته.
وهذه هي الحقيقة الّتي لا شكّ فيها، لأنّ الّذي يخلف الوعد، إمَّا العاجز، وإمَّا الكاذب، أو الجاهل الّذي يظهر له الشّيء بطريقة معيّنة ثمّ يبدو له غيره، فيبدّل رأيه وموقفه، وقد تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، لأنّه القادر على كلّ شيء، والصّادق في وعده، والعالم بالأشياء كلّها بشكلٍ مطلق، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[4]، لأنهم لا ينفتحون على الأفق الواسع الّذي يطلّ بهم على مفردات القضايا من خلال القواعد العامّة للإيمان، ولذلك فإنهم يستغرقون في أوضاعهم الشخصيّة المزاجيّة، وأفكارهم الارتجاليّة السّريعة، بعيداً عن أيّة معرفة عميقة في حقائق العقيدة والحياة.
وهذه هي مشكلة النّاس في كلّ زمان ومكان أمام الإيمان؛ إنها مشكلة الجهل الّتي تغلق عليهم أبواب الحقّ، وتدفعهم إلى الاندفاع نحو الباطل.
وهكذا تعهَّد الله موسى بالرّعاية في طفولته ونشأته، حتى تكامل جسده واستقرّ عقله، وربما مكث في رعاية أسرة فرعون الّتي قامت بتربيته بعد انتهاء مدّة الرّضاعة، وهذا ما نستوحيه من قول فرعون له ـ مما قصّه الله ـ في تذكيره إيّاه بأنّه هو الّذي ربّاه في بيته، ولبث عندهم من عمره عدد سنين، وهذا هو قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}[5].
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}، وبلغ مبلغ الرّجال، واشتدَّت قواه {وَاسْتَوَى}، بحيث استقرّ في حياته واعتدل في توازنه، {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْم}، وذلك عندما ألهمه الله معرفة موازين الأمور الّتي يستطيع من خلالها أن يعرف مصادر الأحكام ومواردها، فيبلغ بها مواقع العدل، وأعطاه الله من أبواب العلم ما يفتح له آفاق الحياة، بحيث يتمكَّن من حلِّ مشكلاتها، ومن السَّيطرة على تحريك قضاياها في الاتجاه السّليم، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[6] الّذين يأخذون بأسباب الإحسان في الفكر والعمل، فنتعهَّدهم بالحفظ والرّعاية، ونرفع مواقعهم الفكريّة والروحيّة في المستويات العليا من حركة العقل والتّفكير، ليكونوا أكثر قدرةً على الإحسان إلى الحياة من حولهم، وإلى الإنسان في كلّ مواقعه، ولا سيَّما إذا بلغوا مراكز القيادة العامّة.
التَّجربة المريرة
أمَّا المرحلة الثّانية، فبدأت حين دخل المدينة، وكانت قد فرغت من النَّاس الَّذين أخلدوا إلى بيوتهم بعد أن قضوا أشغالهم وانتهوا من أعمالهم، قاصداً الحصول على الهدوء النّفسيّ من خلال هذا الهدوء العامّ، وهذا ما يوحي به قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا...}[7]، ولكن ما رآه أمامه صدمه وشكَّل مفاجأةً عنيفةً له {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ} أي من بني إسرائيل {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّه} من الأقباط الفراعنة، وكانا يتقاتلان، وربما كان الفرعوني أقوى من الإسرائيليّ الّذي كان يعاني من الضَّعف بسبب بنيته الجسديّة أو انتمائه العائليّ الضَّعيف من النّاحية الاجتماعيَّة.
{فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، لينتصر به عليه، لأنَّ موسى كان، على الظَّاهر، قويّ البنية، شديد القدرة، وربما رأى أنَّ الفرعوني كان يمارس حالةً عدوانيَّة على الإسرائيلي، لأنَّ المجتمع الفرعونيّ كان يفرض على بني إسرائيل كلَّ أنواع الهيمنة، ويمارس معهم حالة العنف، ويحتقر معنى الإنسان فيهم، ولذلك فقد اقتنع موسى بأنّ صاحبه كان مظلوماً أمام الفرعوني الظّالم، فتدخَّل منتصراً له، وضرب الفرعوني، ولعلَّها كانت ضربةً قويّة، فقتله من دون قصد القتل، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}، من دون أن يكون الهدف أن يصل الأمر إلى هذا المستوى من العنف القاتل، لأنَّ همّ موسى كان أن يدفعه عن الّذي استغاثه ويخلّصه من بين يديه ـ كما هو الظّاهر ـ وخصوصاً أنَّ الاستغاثة توحي بوجود حالٍ من الخطر أو الألم الشّديد.
وفوجئ موسى بالنّهاية القاسية الصّعبة الّتي يعتبرها المجتمع ـ بفعل القانون ـ في حجم الجريمة، وأدرك نتائجها السلبيّة على موقعه في البلد، وحرّيته في الحركة. {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الذي يغري النّاس بالعداوة والبغضاء، ويدفعهم إلى التّقاتل الّذي يؤدِّي إلى إزهاق الأرواح، بفعل العنف الّذي يدفعه التوتّر النّفسيّ إلى أعلى الدّرجات، وقد لا تكون الإشارة إلى قتل القبطي، بل إلى طبيعة العمل الّذي دخل فيه ناصراً لا معتدياً، باعتبار أنّ الإسرائيلي كان في موقع المظلوم المعتدى عليه، على أساس الواقع الاجتماعي الّذي يجعل بني إسرائيل في الطبقة السفلى، بينما يضع الأقباط في الدّرجة العليا من السلَّم الطبقي، بما يجعلهم يضطهدون كلَّ من هو دونهم، وينظرون إليه نظرة استعلاء، ويتعاملون معه بأساليب التعسّف والاحتقار والإذلال.
وهكذا كانت نظرة موسى إلى طبيعة العمل القتاليّ في الحالات الفرديّة على صعيد المقدّمات والنّتائج، بأنّه من عمل الشّيطان الّذي يتدخّل في عمليّة الإثارة التي تؤدّي إلى الانفعال العنيف، بعيداً عمّا إذا كان الحقّ مع هذا الفريق أو ذاك، لأنّه على كلّ حال، العمل المؤدّي إلى المشاكل الخاصّة أو العامّة الّتي تربك السّلامة العامّة للمجتمع كلّه في تأثيرها في علاقات النّاس بعضهم ببعض. {إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}[8]، لأنَّ دوره في وسوسته الخفيَّة في حركة الغرائز الانفعاليَّة، هو إثارة المشاكل الّتي تؤدّي بالنَّاس إلى الدّخول في المشاحنات، وإبعادهم عن الله الَّذي يريد للحياة أن تقوم على أساس المحبَّة والتَّصالح والعدالة والسَّلام، وبذلك كان موقع الشَّيطان منهم، هو موقع العداوة والإضلال، ما يفرض عليهم أن يواجهوه من هذا الموقع الّذي يحتوي حياتهم ويصادرها بمشاكله وأضاليله، ليتمرّدوا عليه.
سبب استغفار موسى(ع)
وهنا توجّه موسى، الّذي عاش الإيمان بالله والإخلاص له كأقوى ما يكون، إلى الله، في موقفٍ ابتهاليٍّ خاضع، ليقدّم حسابه بين يديه في الممارسة الّتي ابتلي بها: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}، فقد شعر بخطورة ما قام به.
ولكنّ هنا سؤالاً يفرض نفسه في هذا الاستغفار أمام الله، وهو: هل كان موسى يشعر بالذّنب لقتله القبطيّ، باعتبار أنّ ذلك يمثّل جريمة دينيّة في مستوى الخطيئة الّتي يطلب فيها المغفرة من الله، أو أنّ المسألة هي شعوره بالخطأ غير المتعمّد وغير المقصود، ممّا كان يتمنّى أن لا يصل به إلى ما وصل إليه، وهو ما جعله يعيش الألم الذاتيّ تجاه عمليّة القتل، لأنّه لا يريد أن يبادر إلى قتل أيّ إنسان حتى لو كان المقتول عدوّاً له، لأنه يحبّ السّلام إذا كان يستطيع تفادي ذلك؟
إنّنا نرجِّح الاحتمال الثّاني، لأنَّ موسى لم يدخل المعركة القائمة بين الشَّخصين من موقع عدوانٍ ذاتيّ تفرضه العصبيَّة العائليَّة، لأنّه لم يكن يجد ضرورةً أو مبرّراً للدّخول في معركة مع الأقباط، من خلال وعيه العقلانيّ لطبيعة التّوازن في القوى الّذي كان لا يسمح له ولا لغيره بأن يحلّ المشكلة القائمة في مجتمع بني إسرائيل، ولم تكن هناك أيّة ظروف تفرض عليه أن يثير الأوضاع القلقة، ولذلك لم تكن هناك جريمة، لا على مستوى التّفكير، ولا على صعيد الحركة المقصودة في الواقع، بل كان الدّخول شرعيّاً، ولم تكن النتيجة السلبيّة العنيفة مقصودةً، ولكنّه كان يفضِّل أن لا يحدث ما حدث، وأن لا تنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه، وبذلك كان لديه بعض الإحساس النفسي بالذّنب الأخلاقي أو الاجتماعي، باعتباره رجل سلام وداعية إصلاح.
وعلى ضوء هذا، كان التّعبير بأنّه ظلم نفسه، تعبيراً عن الحالة الشعوريّة وليس تعبيراً عن ثقل المسؤوليّة الشّرعيّة، وربما كان تعبيراً عن القلق من النّتائج الواقعيّة السلبيّة التي يمكن أن تترتَّب على ذلك في علاقاته الاجتماعيّة بمحيطه، مما يحمله من أخطارٍ مستقبليّة على شخصه بالذّات، أو على دوره الإصلاحيّ.
أمّا طلبه المغفرة من الله، فقد يكون ناشئاً من الرّغبة الروحيّة العميقة للإنسان المؤمن، بأن يضع أعماله بين يدي الله، حتى التي لا تمثّل انحرافاً عن أوامره ونواهيه، بل تمثّل نوعاً من الخطأ الأخلاقيّ المبرّر بطريقةٍ ما، ليحصل على لمسة الرّحمة الإلهيّة العابقة بالحنان والعطف، فيبلغ من خلال عصمته الكمال الإنسانيّ في سلوكه، والتّوازن في أخلاقه، ما يجعل من المغفرة لطفاً في توازن الشخصيّة، وإظهاراً للعبوديّة لله، لا عفواً عن ذنب في مستوى الخطيئة.
وكان اللّطف الإلهيّ بموسى فيما كان يعلمه من ظرفه الواقعيّ {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[9] غفران المحبّة لعبده، الخاضع له، الّذي يتحرّك من خلال القاعدة الإنسانيّة في نصرة المظلوم.
الشّكر العمليّ
وهكذا اهتزّت مشاعر موسى(ع) في إخلاصه لله، وفرحته برحمته، فأعطاه العهد بأنّه لن ينصر مجرماً قريباً كان أو بعيداً {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً للْمُجْرِمِينَ}[10]، وهذا هو الشّكر العمليّ الواقعيّ الّذي أراد موسى أن يُعبِّر عنه في امتنانه للنّعمة الإلهيّة، وذلك برفض استخدام قوّته في دعم المجرمين الّذين يبغون على النّاس بغير حقّ، لأنّ الله أراد من الأقوياء أن تتحرّك نعمة القوّة لديهم في نصرة المظلومين ضدّ الظالمين والمجرمين، وهذا ما ينبغي للمؤمنين أن ينفتحوا عليه في سلوكهم العمليّ في مواجهة الخطوط الإجراميّة، في عمليّة رفضٍ مطلقٍ لها.
وهذه الآية، هي من أدعية القرآن الّتي نطق بها موسى(ع) في ابتهاله الرّوحيّ، وقد يكون من الخير أن يذكرها المؤمنون في صلواتهم ودعواتهم وابتهالاتهم في ذكر الله.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ}، لأنَّ السّلطة كانت تعمل على الاقتصاص منه، {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ} من قومه {يَسْتَصْرِخُهُ} لينتصر له في معركةٍ جديدةٍ مع شخصٍ آخر من الأقباط، {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}[11]، أنت لست رجل خير وسلام، لأنَّك تتنقّل من مشكلةٍ إلى مشكلة. واندفع موسى لنصرته بعد أن اقتنع بظلامته {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}[12] الّذين يبادرون إلى حلّ المشكلة بالصّلح لا بالعنف، والتقريب بيني وبين هذا الرّجل الّذي فيما اختلفنا عليه. والظّاهر أن موسى تركه ولم يتدخّل في هذه المعركة بالانتصار للإسرائيلي، وربما تحرّك لإيجاد حالة سلام بينهما بعد أن رفع ظلامة صاحبه بالّتي هي أحسن.
ولكنّ خبر قتل القبطي من قِبل موسى(ع) شاع في المدينة، وتحمَّس قوم فرعون الّذين يملكون السّلطة المطلقة للاقتصاص منه، ولم يبلغ موسى(ع) الخبر بتفاصيله إلا من خلال المخبر النّاصح له، وهكذا رجع موسى(ع) إلى الله مستعيناً به في تهيئة الوسائل التي تنجيه من هؤلاء الظّالمين.
ونلاحظ أنّ فرعون قد ذكَّر موسى(ع) بهذه الحادثة عند حواره معه حول الدّعوة بعد أن بُعث بالرّسالة، وذلك قوله تعالى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[13] بالنّعمة على الظّاهر {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[14]، لأنّني لم أدرك النّتائج السلبيّة الّتي تترتّب على ذلك {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[15].
{وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[16]. وانتهت المرحلة الثّانية بخروجه لتبدأ المرحلة الثّالثة. والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] [القصص: 10].
[2] [القصص: 11].
[3] [القصص: 12].
[4] [القصص: 13].
[5] [الشّعراء: 18].
[6] [القصص: 14].
[7] [القصص: 15].
[8] [القصص: 15].
[9] [القصص: 16].
[10] [القصص: 17].
[11] [القصص: 18].
[12] [القصص: 19].
[13] [الشعراء: 19].
[14] [الشّعراء: 20].
[15] [الشّعراء: 21].
[16] [القصص: 20-21].