النّبيّ موسى(ع) هو أوَّل الأنبياء من بني إسرائيل، ويتميَّز بأنَّ حياته كانت متحرّكةً في جميع مراحلها بالصّعوبة والجهد والتّعقيدات والإشكالات المنفتحة على الخطر المحيط به وبرسالته، والتحدّيات الكبرى الَّتي واجهت خطواته وكلَّ أوضاعه، ولم نجد لأيِّ نبيٍّ من الأنبياء من قبله أو من بعده مثل هذه التنوّعات الحركيَّة والأوضاع الامتداديَّة الرساليَّة في المجتمعات التي انفتح عليها وانفتحت عليه. وفي حديثنا عن النّبيِّ موسى(ع)، نتتبَّع المحطَّات في الأدوار الَّتي مرّت بها حياته، وانطلقت بها تجربته، وانفتحت عليها مواقفه، واتَّسعت أو ضاقت لها مواقعه، وهي:
محطّات بارزة في حياة موسى(ع)
المحطَّة الأولى: وهي تشمل مرحلة الولادة والتّربية والنَّشأة الأولى الّتي أحاطها الله بلطفه ورحمته.
المحطَّة الثّانية: وتبدأ من الحركة الصِّداميَّة مع بعض أعداء قومه، ومدى السَّلبيَّة الّتي شعر بثقلها في ذلك، وإحساسه بالخطأ الَّذي وقع فيه، وتعريض نفسه للخطر، ورجوعه إلى الله للاعتذار منه في هذا الواقع.
المحطَّة الثّالثة: هروبه من فرعون، ورحلته إلى خارج مصر، خوفاً من اقتصاص قوم فرعون منه، لقتله فرعونيّاً منهم.
المحطَّة الرابعة: وصوله إلى مدين والتقاؤه بابنتي شعيب، وبأبيهما النّبيّ شعيب ـ على الظّاهر ـ وزواجه بإحدى ابنتيه.
المحطّة الخامسة: خروجه من مدين مع عياله، ومفاجأته بالنَّداء الإلهيّ وتكليفه بالرّسالة، في تجربة عجائبيَّة تنفتح على الإعجاز في تحويل العصا إلى ثعبان حيٍّ متحرّك، وفي تغيير لون اليد من الأسمر إلى أبيض...
المحطّة السَّادسة: حواره مع الله في شؤون الرّسالة الموجَّهة في مضمونها إلى فرعون، وخوفه من القيام بذلك، لما لفرعون من سلطةٍ غاشمة، ولذنبه عنده وعند قومه، وطلبه من الله أن لا يتولّى الرّسالة وحده، لأنَّ لديه بعض حالات الضّعف التي تحيط ببعض جوانب شخصيَّته، ما يتطلّب منه أن يستعين بأخيه هارون ليكون الوزير الّذي يشدّ أزره، واستجابة الله له في ذلك.
المحطة السَّابعة: دخوله إلى مجلس فرعون، ودعوته إلى عبادة الله ربِّ العالمين، واستخفاف فرعون به وبمنطقه، حتّى إذا أراه المعجزة، أخذه الخوف والقلق، واعتبره ساحراً في الدَّرجات العليا من السِّحر، وأراد إسقاطه بدعوة السَّحرة في عمليَّة التحدّي الكبيرة الّتي أراد أن يجمع لها النّاس.
المحطّة الثّامنة: المواجهة بينه وبين السَّحرة، وهزيمتهم أمامه في ألاعيبهم السّحريّة، وإيمانهم به، ما جعل فرعون وقومه يفقدون توازنهم، لشعورهم بالهزيمة أمام هذا السَّاحر العظيم، ومحاولة فرعون تغطية ما حدث بأنَّ موسى هو الّذي علَّم السَّحرة وتآمر معهم عليه.
المحطّة التّاسعة: الحريَّة الحركيَّة الّتي اكتسبها موسى(ع) من هذا الانتصار الَّذي أدَّى إلى تعاظم العقدة بالضَّعف لدى فرعون وقومه، ما جعلهم يخطِّطون لقتل موسى(ع)، فأيّده الله بإنزال البلاء في تسع آياتٍ بيّناتٍ أصابتهم بإرباك كلِّ الواقع الّذي كانوا يتحركون فيه حتى استغاثوا بموسى.
المحطّة العاشرة: وتتمثَّل باستعداد فرعون لإنهاء ظاهرة موسى، ولا سيَّما بعد أن اتّبعه جمهور من قومه بفعل الحريّة التي حصل عليها في الدّعوة إلى الله، وحشده لكلِّ الّذين يؤيّدونه ويدعمونه أو يعبدونه، وهروب موسى بقومه بإيحاءٍ من الله، حيث كاد فرعون يسيطر عليهم ليقتلهم، وكانت المعجزة في أنّ الله فرق البحر لموسى وقومه، حتى انتقلوا إلى الجانب الآخر، وغرق فرعون وقومه، وانتهت سطوته وسقط جبروته.
المحطّة الحادية عشرة: المسيرة الحرّة الّتي انطلق فيها موسى بقومه، ومواجهته للكثير من المشاكل بسبب الذّهنيّة المتخلّفة المسيطرة عليهم، بحيث أصبحت مشكلته معهم في التّوعية الإيمانيّة والتّصحيح العقيدي.
المحطّة الثانية عشرة: الوعد الإلهيّ الّذي منحه الله إيّاه لينـزل عليه التوراة، واصطدامه بتجربة عنيفة في مسألة المعرفة، بحيث أصيب بالصَّعقة الإلهيَّة.
المحطّة الثّالثة عشرة: عودته إلى قومه، وتفاجؤه بالسّامريّ الذي أخرج لقومه عجلاً جسداً له خوار، وإقناعهم بأنّه إلههم وإله موسى، وموقفه العنيف في تلك المرحلة.
المحطّة الرّابعة عشرة: اختياره جماعةً من قومه للوقوف بين يدي الله في موعد محدَّدٍ، ومواجهته بالتَّجربة الصّعبة في سقوط هؤلاء أمامه بالهلاك من الله، الأمر الّذي أحرجه وجعله يتوسَّل إلى الله لإعادتهم إلى الحياة.
المحطّة الخامسة عشرة: دعوته قومه للذهاب إلى بيت المقدس والاستقرار فيها، باعتبار أنَّ الله أراد لهم في تلك المرحلة أن يؤكِّدوا السّلطة والحركة للحصول على مواقع القوَّة هناك، فرفضوا ذلك وتمرَّدوا عليه، حتى لم يبق معه إلا أخوه هارون، ولم ينقل لنا القرآن المدى الّذي عاشه موسى بعد ذلك، وهل اختار الدّخول إلى الأرض المقدَّسة؟ وكيف واجه الجبّارين المسيطرين عليها؟ وماذا كان حال بني إسرائيل الَّذين عاشوا في التيه أربعين سنة؟ وماذا كان مستقبلهم؟ ومضى موسى في تاريخه، وبقيت التّوراة الّتي فيها حكم الله يحكم بها النبيّون، وكانت التّوراة أوّل كتاب يتضمّن العقيدة والشّريعة والمفاهيم والحياة.
وهناك تجربة للنّبيّ موسى(ع) لم نتعرَّض لها في المحطّات الّتي عرضناها، وهي لقاؤه بالعبد الصّالح ـ الذي قيل إنّه الخضر ـ الذي أراد الله له أن يتعلَّم منه، كوسيلة من الوسائل الّتي يريد الله أن يعلِّم من خلالها رسله مما لم يوح إليهم به. وقد التقاه ودار بينهما جدال انتهى بفراق هذا العبد الصّالح لموسى بعد انتهاء مهمّته، مما سوف نتحدَّث عنه في الأحاديث القادمة.
ونريد أن ندخل إلى تفاصيل هذه الأدوار والمواقف.
ولادة موسى(ع) ونشأته
من المفيد أن نشير إلى أنَّ القرآن الكريم لم يعتن بتسجيل ولادة الأنبياء(ع)، باستثناء ولادة عيسى(ع) وولادة موسى(ع)، وذلك لاعتباراتٍ تتَّصل بالعقيدة لجهة الإعجاز والتدخّل الإلهيّ، أو لاعتباراتٍ رساليّة تتّصل بطبيعة الدّور المستقبليّ للنبيّ وما ينتظره من مهام.
كانت سلطة فرعون قد أصدرت قراراً بذبح الأطفال من بني إسرائيل، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[1]. حتى إنَّ القوابل ـ من آل فرعون ـ كنَّ يراقبن النِّساء الحوامل من بني إسرائيل. وعندما حملت أمّ موسى به، لم تظهر علامات الحمل عليها، بل كان خفيّاً ـ كما قيل ـ وعندما أحسَّت بألم الولادة، أرسلت خلف قابلة كانت لها علاقة مودَّة معها وأخبرتها بالواقع، وأنها تحمل جنيناً في رحمها، وتوشك أن تضعه، ويقال إنّه حين ولد موسى، سطع نور بهيّ من عينيه، فاهتزَّت القابلة لهذا النّور، وسيطر حبّه في قلبها، وأنار جميع كيانها.
ولذلك، لم تخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد المحبوب، حذراً من قتله على أيديهم، على الرّغم من أنَّ الجائزة كانت تنتظرها لو قامت بذلك. وحارت أمّ موسى كيف تحفظ ابنها، وبالأخصّ أنَّ الفرعونيّين ارتابوا في دخول القابلة عليها، ولكنَّ الله حفظه من كيدهم ولم يعثروا عليه، لأنَّ صوت بكائه كان يحتبس في داخل فمه عندما كانوا يدخلون البيت، فلم يحسّوا بوجوده.
وأراد الله له أن يحصل على النَّجاة، وكانت أمّه تشعر بالمشكلة تحاصر وجدانها وتهزّ كيانها، لأنها لم تعرف أين تخبِّئ ولدها من العيون الّتي كانت تحيط بها من كلّ جانب في ذلك المجتمع الحاقد على الطّفولة، المجرم في قراراته الوحشيَّة، فكانت في حال ذهولٍ نفسيٍّ وحيرةٍ روحيّة، ولكنَّ الله ألهمها بما يشبه الوحي في اللّطف الخفيّ، تماماً كما هي حال الوحي الّتي يفيض بها على الأنبياء بوسائل مختلفة، قد يكون الإلهام الصَّافي من بينها من دون حاجةٍ إلى رسولٍ من الملائكة، ألهمها بأن ترضع وليدها حتى يمتلئ بطنه، بحيث لا يحتاج إلى الحليب في مدّةٍ محدودة، ثم تضعه في قاربٍ في النَّهر بطريقةٍ لا يكتشفها أحد بشكلٍ عاديّ. وهكذا فعلت، وسار القارب حتى وقف على ساحل قصر فرعون... وكان الله قد وهبها الطّمأنينة والسَّكينة الّتي جعلتها تعيش عمق الإحساس بالأمن عليه، بالرّغم من الخطر الّذي كان يحدق به.
وهنا، اكتشفه آل فرعون، وأصعده قومه إليه، ورأوا فيه ملامح بني إسرائيل، ولكن كان لفرعون امرأة مؤمنة تحدَّث القرآن عنها، وضربها مثلاً للّذين آمنوا، وذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[2].
فكيف واجه فرعون هذه الظّاهرة الغريبة وهذا الولد العجيب؟ وما هو دور امرأته في المنع من قتله عندما رأت أنهم عازمون على ذلك، تنفيذاً للقرار الفرعونيّ في قتل أطفال بني إسرائيل؟ وكيف خضع فرعون وقومه لإرادتها، لأنها كانت ـ بحسب الظّاهر ـ موضع تقديرٍ ومحبّةٍ من قِبلَ فرعون، بحيث كان لا يعصي لها أمراً، ولا يمنع عنها رغبةً؟
وقد تحدَّث الله تعالى في آياتٍ أخرى عن إيحائه إلى أمِّ موسى بأن تلقيه في اليمّ، وذلك في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[3]. والظاهر من الوحي إليها، هو الإلهام الّذي قذفه الله في قلبها، لأنَّ الموقف كان يعالج حالةً خاصّةً في حفظ موسى، وكان يكفي في ذلك الوحي النَّفسي الّذي يوحي به الله بطريقة إلهاميّة خفيّة إلى بعض عباده. وقيل إنّه أتاها جبرائيل بذلك، كما عن مقاتل، وقيل: كان هذا الوحي رؤيا في المنام، عبَّر عنها من يثق به من علماء بني إسرائيل، كما عن الجبائي، ولا دليل على ذلك ولا ضرورة له. أمّا فقرة: {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، فقد تكون مما ألهم الله به أمّ موسى، ليعرّفها خطورة موقعها الكبير في ساحة الرّسالات، وقد تكون مما اقتضاه حديث النّهايات العظيمة الّتي اقتضاها لطف الله في شأن موسى، ولعلَّ هذا هو الأقرب، لأنَّ ذلك لم يكن معلوماً في حياة موسى ـ حتى من قِبَل موسى ـ الّذي فوجئ بتكليفه بالرّسالة في حينها، مما حدَّثنا الله عنه من قصّته في القرآن بأساليبها المتعدّدة المتنوّعة الخصائص.
نجاته من القتل
قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ـ وذلك عند وصول الزّورق الذي يحمل الوليد إلى ساحل قصر فرعون، لتكتمل إرادة الله بذلك ـ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً ـ فيما بعد عندما يبعثه الله بالرّسالة التي يتحدَّى بها فرعون وقومه ـ وَحَزَناً ـ من خلال النَّتائج السَّلبيَّة على حياتهم ومُلكهم ـ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}[4]، من خلال كفرهم وشركهم وطغيانهم وظلمهم للنَّاس، واستكبارهم على المستضعفين، إلى درجة قتلهم الأطفال عند ولادتهم في وحشيّةٍ خبيثة بعيدة عن المعنى الإنسانيّ.
وهكذا ربما كان يدور في خاطر فرعون بعض القلق والخوف من بقاء هذا الوليد، وربما كان قومه يشجِّعونه على قتله، لأنهم يخافون من نشوء أيِّ ولدٍ ذكرٍ في بني إسرائيل قد يخلق لهم المشاكل، ويهزّ سلطانهم، وقد يفسّر ذلك بأنَّ فرعون رأى مناماً يوحي بذلك.
ولكنَّ امرأته وقفت في وجه هذا المخطَّط وقفةً إنسانيّةً روحيّةً من موقع إحساسها بالأمومة الّتي لم تحصل عليها، لأنّها لم ترزق بولد، أو من خلال إنسانيَّتها الّتي تفكِّر في رعاية هذا الإنسان الصَّغير وتنشئته، ليكون بمثابة الولد الّذي ينفع الأسرة، {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ـ فقد نحصل في مستقبله على نتائج طيّبة ـلَا تَقْتُلُوهُ ـ كما تقتلون أولاد بني إسرائيل ـ عَسَى أَن يَنفَعَنَا ـ عندما يكبر، فيدبِّر شؤون الأسرة بجهده وجدّه ـ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ـ نتبنَّاه، لأنّنا لم نرزق بولدٍ يزيل الوحشة الدَّاخليَّة عنّا.
وهكذا، أقنعت زوجها فرعون وآله الّذين كانوا بحضرته في المجتمع المحيط به ـوَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[5]، فيما وافقوا عليه، لأنهم لم يعرفوا ما ينتظرهم من خلال هذا المولود الإسرائيليّ من نتائج مستقبليَّة صعبة.
وهكذا، أصبح موسى أشبه بالولد بالتبنّي لفرعون وامرأته. فماذا كان من أمر أمّه الّتي وعدها الله بإرجاعه إليها؟ والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [القصص: 4].
[2] [التحريم: 11].
[3] [القصص: 7].
[4] [القصص: 8].
[5] [القصص: 9].