النّبيّ لوط(ع) من الأنبياء الحركيّين، وقد حدّثنا القرآن الكريم عن مهمَّته الرساليّة الَّتي كلّفه الله تعالى بها لمواجهة حركة الشّذوذ الجنسيّ المذكّر الّذي ابتدعه قومه، والّذي لم يكن مسبوقاً عند أحدٍ من الشّعوب قبلهم، وقد أشار الله تعالى إليه في حديثه عن النّبيّ إبراهيم(ع) في قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}[1]، وقد قيل إنه كانت له علاقة قربى معه، ويقال إنه ابن أخت إبراهيم.
دعوة لوط(ع)
والسّؤال الّذي قد يثور في هذا الموضوع: هل كان لوط(ع) غير مؤمن في نشأته، وكان إيمانه بسبب دعوة إبراهيم(ع) له؟ وكيف أرسله الله تعالى نبيّاً إلى قومه ليدعوهم إلى توحيد الله والتزام التقوى في طاعته؟
قد يُستفاد من ظاهر الآية، أنَّ المقصود هو اتّباعه الإيمانيّ الحركيّ في خطِّ الدّعوة، من خلال استعمال لفظ "فآمن له" بدلاً من "فآمن به"، للإيحاء بأنَّ إبراهيم(ع) قد صحبه في رحلته الرساليَّة وعاش معه، وربما شاركه في دعوته، حتّى بعثه الله رسولاً إلى قومه لإبلاغهم نهي الله تعالى لهم عمَّا كانوا يمارسونه من اللّواط، وأمرهم بالسَّير في خطِّ التّقوى، ولكنَّهم لم يستجيبوا له، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}[2]، فلم يؤمنوا بالرِّسالات الّتي أُنزلت عليهم من قِبَل الأنبياء السَّابقين، ولا سيَّما رسالة النّبيّ إبراهيم(ع).
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}[3]، فقد حمّلني الله مسؤوليَّة الرّسالة وائتمنني عليها، لأنّه اطَّلع على التزامي بأداء الأمانة في خطِّ التّبليغ، من أجل توعية الناس بالخطِّ التوحيديّ وبتقوى الله الَّذي خلق الكون كلَّه وأوجدهم بقدرته من العدم، ليوحّدوه في إيمانهم بألوهيَّته، وليطيعوه في أوامره ونواهيه، لأنَّ الإيمان بالله الواحد يفرض عليهم ذلك.
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[4]، فلم تكن دعوتي دعوة مسؤولٍ يطلب المال في حركته، فأنا رسول الله إليكم، ولا غاية لديَّ إلا الحصول على رضا الله، فلا أطلب الأجر إلا منه في مواقع الرّضوان الَّتي تمثّل أعلى ما يتطلِّبه الإنسان من الرّبح المعنويّ والكسب الرّوحيّ الّذي لا قيمة للرّبح المادّيّ أمامه، لأنَّ الجانب الماديّ في الحياة يكفله الله لعباده من خلال رزقه الَّذي يفيضه عليهم، سواء كانوا من المؤمنين به أو من غير المؤمنين.
استنكار الفاحشة
ثم يبدأ بعد ذلك إنكاره عليهم لما يمارسونه من فاحشة، ويطلب منهم الابتعاد عنها، ويوجِّههم إلى أنَّ الله أبدلهم خيراً منها، وبما يحصلون من خلاله على لذَّاتهم وشهواتهم، إضافةً إلى الذّريّة الّتي تمثِّل الامتداد لوجودهم في حركة الزَّمن: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}[5]، في تجاوزكم العمليّ للأوضاع الطبيعيَّة الّتي خلقها الله لكم بما يتناسب مع أوضاع الجسد في إشباع الغريزة وإنتاج النّسل. وجاء في آيةٍ أخرى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}[6]، فإنَّ هذا العمل الَّذي تقومون به يتجاوز الحدود المعقولة الّتي تمثِّل السلوك المتوازن في إدارة الإنسان لحالاته الغريزيَّة، {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[7]، لأنَّ الله لم يعدّ أدبار الرّجال لقضاء الشّهوة، سواء في تركيبتها العضويَّة، أو في تجاذب الشَّهوة في إشراك الرجال والنّساء، بل أعدّ الأعضاء الجنسيَّة للنّساء لتحقيق ذلك، والشّذوذ في طلب ذلك ينطلق من حالة جهلٍ بأسرار الخلق.
وجاء في آية أخرى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ}[8]، فلم يمارس أيّ شعب آخر مثل هذا الفعل السيِّئ، بل كنتم أوَّل النّاس الَّذين ابتدعوها، انطلاقاً من التَّفكير غير المتوازن والذّهنيَّة الشّاذّة التي لا ترتكز على أساس إنسانيّ معقول، {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ}، على النّاس الَّذين يسلكون الطَّريق إلى مواقعهم، ممن يثيرون فيكم الشَّهوة، فتستضعفونهم وتكرهونهم على الخضوع لكم في ذلك، في عمليَّة اغتصابٍ جنسيّ مذكَّر، {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ}[9]، في المكان الّذي يجتمعون فيه لممارسة هذا العمل الشّنيع، أو للتّداول في الوسائل التي يحصلون بواسطتها على إشباع غرائزهم الشاذّة، من خلال الضَّغط على الضعفاء الَّذين يُكرهونهم على الخضوع لهم، أو تربية المراهقين والشّباب من أبنائهم على الاقتناع بذلك، لأنَّ تفرّد مجتمعهم بهذه الحالة الشّاذّة قد يجعلهم في موقع بذل الجهد لتحقيق ذلك.
تمرّد القوم
فماذا كان جواب قومه؟ {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[10]، فلم تكن لديهم أيّ حجّةٍ لمواجهة منطق لوط في إبراز هذه العادة الشاذّة الخبيثة، إلا تهديده وأهله بالطَّرد وإخراجهم من القرية، لأنهم كانوا يخافون من تأثيره في الناس في إظهار النّتائج السلبيَّة لعملهم، بحيث تتحوَّل الذهنيَّة العامَّة في مجتمعهم إلى حال نفورٍ نفسيٍّ ممّا يقومون به، وخصوصاً أنَّ انجذاب النَّاس إلى هذا العمل كان خاضعاً للجوّ الاجتماعيّ المسيطر على الذّهنيّة العامّة التي كانت لا تجد أيَّ شخصٍ مصلح يردع عنها، الأمر الَّذي جعل الالتزام بها حالة شموليَّة.
ولعلَّ من الطَّريف أنَّ قوم لوط برَّروا تهديدهم بإخراج لوطٍ وأهله من قريتهم بأنّهم {أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، تماماً كما لو أنّ التطهّر من القذارات الأخلاقيَّة العمليَّة جريمة يُعاقب عليها الَّذين يلتزمون بها!
وربّما كان هذا الأسلوب في الردّ السّلبيّ على الدَّعوة إلى التطهّر، هو أسلوب المجتمعات المنحرفة، الَّتي تعتبر وجود الفئات الخيّرة الطّاهرة مشكلةً اجتماعيّةً، ما يدفعها إلى ممارسة الضّغوط القاسية عليهم، بحيث لا يطيقون وجودهم في مجتمعاتهم، حذراً من تأثيرهم في الأجيال الشابّة التي قد تستيقظ فيها نوازع الخير في بعض حالاتها الطيِّبة الطّاهرة، فتنجذب لا شعوريّاً إلى دعوة الخير والإصلاح، ولا سيَّما عندما تتكرَّر الدَّعوة وتتنوّع الأساليب من الجهات الإصلاحيَّة، وهذا ما جعل قوم لوطٍ يقولون له: {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}[11].
ووصلوا في مواجهته إلى درجة تحدّيهم له بتحقيق ما أنذرهم به من عذاب الله إذا لم يتركوا هذه العادة السيِّئة: {قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[12]، ظنّاً منهم بأنَّ هذا الإنذار صادر عنه على أساس التَّخويف والتَّهويل، لا على أساس الحقيقة، لأنّهم يتصوّرون أنّه لا يملك مثل هذه العلاقة بالله ليطلب منه إنزال العذاب عليهم.
تهديد ضيوف لوط
فدعا لوط ربّه، كما يدعو الأنبياء عندما ييأسون من استجابة قومهم لهم: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}[13]. فاستجاب الله دعاءه، وأنزل عليهم الملائكة بالعذاب، {فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}[14]، أنا لا أعرفكم، فمن أنتم؟ وما هي قصَّتكم؟ وماذا تريدون؟ {قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[15]، فقد أرسلنا الله إليك لتنفيذ الوعيد الّذي أنذرتهم به، وسوف ترى ذلك عندما تحين السَّاعة الحاسمة، وتتمّ كلمة الله عليهم، وينـزل العذاب.
ويحدِّثنا الله عن المشكلة الّتي واجهت لوطاً عندما جاءت الرّسل إليه، وذلك هو قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}[16]، لأنَّ قومه وجدوا في هذه الجماعة الملائكيّة المتمثّلة في صورتها بالبشر، فرصةً ذهبيّةً لاستغلال وجودهم بينهم لإشباع شهواتهم بالطَّريقة الشاذَّة من دون أن يمنعهم مانع، لأنَّ لوطاً كان لا يملك القوَّة المادّية لمواجهتهم.
{وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}[17]، وواجه لوطٌ هذه المسألة بحالٍ من العجز عن إيجاد مهربٍ أو منفذٍ، فكيف يتخلَّص من ضغط قومه الَّذين يريدون الإساءة إلى ضيوفه الآتين إليه في صورة غلمانٍ مُرد يتميَّزون بالجمال البشريّ المثير؟!
وقد انتهى به الأمر إلى العرض الأخير، وهو تقديمه بناته لهم للزّواج بهنّ، {قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ـ في الحصول على ما يشتهونه من إشباع غرائزهم ـ فَاتَّقُواْ اللهَ ـ فيما تقدمون عليه من عصيان أمره بارتكاب الفاحشة والاعتداء على النّاس ـ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}، لأنَّ هذا الاعتداء على ضيوفي، يجلب لي الخزي والعار بين النّاس الَّذي يرون للضّيف حرمةً وكرامةً، ما يفرض عليكم أن تقدِّروا ظروفي الخاصَّة والمحافظة على كرامتي وموقعي، فإذا لم تعترفوا بموقعي النبويّ، فلا بدَّ من أن تعترفوا ـ على الأقلّ ـ بأنّي رجل منكم تتَّصل كرامتي بكرامتكم، وما يصيبني من العار سيصيبكم، {أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ}[18]، عاقل يفكّر بطريقة متّزنة، ويدير الأمر على أساس الحكمة؟!
ولكنَّهم سارعوا إلى رفض عرضه، {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}، لأنّنا لا نرغب في النّساء كما يرغب غيرنا من النّاس الذي يجدون فيهنّ موضوعاً لإشباع شهواتهم، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}[19]، من قضاء شهواتنا في الذّكور من أمثال ضيوفك ممّن قد لا يتيسّر لنا الحصول عليهم في أيِّ وقت.
التَّسديد الإلهيّ
وأُسقِط في يديه، ووقف موقف العجز والضَّعف، فبدأ يتحدَّث بلغة التمنّي واليأس: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[20]، كأن يكون عندي جماعة قويَّة أو عشيرة مانعة.
وهنا تدخَّلت الملائكة لتقوية موقفه، والإيحاء إليه بأنّه يملك القوَّة التي لا قوَّة مثلها، وبأنَّه يرتكز على الركن الشَّديد الّذي لا ركن يوازيه، وأنّه يملك الانتصار على قومه في حماية ضيوفه، {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ}، فلسنا من البشر العاديّين الضّعفاء الّذين يملك قومك الاعتداء عليهم والضَّغط على أوضاعهم، {لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ}، ولن يقدروا أن يصيبوك بسوء، فلا تحمل همَّ إحساسك بالضَّعف تجاههم، لأنّك القويّ بالله الّذي يبسط عليك حمايته، ولن تحتاج معه إلى قوّةٍ من نفسك أو من قومك أو من عشيرةٍ مانعة تحميك، وعليك إعداد نفسك للخروج من بلدك، لا من خلال ضغط قومك عليك وطردك من بينهم، بل لتنفيذ التّعليمات الإلهيّة الموجّهة إليك.
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ}، وهو كناية عن الانطلاق بعزمٍ في حالة تقدّمٍ حاسم، {إِلاَّ امْرَأَتَكَ}، الَّتي كانت على نهج قومك في كفرهم وضلالهم، حيث كانت تتعاون معهم ضدّك، فتخبرهم بمن يأتي إليك، وتسهِّل لهم الاطّلاع على أسرارك، {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} من العذاب، لأنّها منهم، فلا يميِّزها عنهم شيء، ولا قيمة لعلاقتها الزوجيَّة بك، لأنَّ الله يجزي كلَّ إنسانٍ بعمله، فلا يغني أحد عن أحد شيئاً. {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}، فهو موعد العذاب، ولا بدَّ من العجلة في الخروج، لأنّه لم يبقَ هناك وقت كثير لنزول العذاب، {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}[21]، فلم يبق لبزوغه إلا بعض سواد هذا اللّيل.
وخرج لوط بأهله، وجاء العذاب بكلِّ ثقله وقوّته وشدّته، {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}، فقد خسف الله بهم الأرض، فانقلبت عليهم، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ}[22]، وهي الطّين المتحجّر المتراكم بعضه فوق بعض، {مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ}، أي معلّمة بعلامة خاصَّة من الله، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[23]، لأنَّ هؤلاء الَّذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتمرّد على الله، يستحقّون عذابه بكلِّ أشكاله وألوانه.
وهكذا نجا لوط بأهله، ما عدا امرأته، {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}[24].
إخبار إبراهيم بعذاب القوم
وقد كان الملائكة الَّذين أرسلوا لإنزال العذاب بقوم لوط قد مرّوا بإبراهيم(ع) لإخباره بذلك، وهو ما قصَّه الله في كتابه: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}[25]، من تقديم الأطعمة الَّتي تفرضها طبيعة الضّيافة في تكريم الضَّيف، وخصوصاً إذا كان الضَّيف مسافراً، لاحتمال أن يكون متعباً وجائعاً وبحاجة إلى الغذاء.
وفوجئ إبراهيم(ع) بأنَّ هؤلاء الضّيوف امتنعوا عن المشاركة في الطَّعام، فلم يمدّوا أيديهم إليه، فاستوحش من ذلك، وخاف منهم، لأنَّ العادة المتّبعة أنَّ الضَّيف إذا امتنع من أكل الطّعام، فإمَّا أن يكون له قصد سوء، أو أنّه غير منسجم مع مضيفه، ولكنَّهم بادروا إلى أن يرفعوا عنه هذا الخوف من نفسه، {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}[26]، فلم تكن مهمَّتنا أن نكون ضيوفاً عليك، بل مهمَّتنا مرتبطة بلوط وقومه، لأنّك ترتبط بلوط ارتباطاً وثيقاً، فأردنا أن لا نقوم بأيِّ عمل يتعلّق بأوضاعه مع قومه في بلده، إلا بعد أن نخبرك به قبله.
وهكذا اطمأنَّ إبراهيم(ع)، وأحسَّ بالأمن منهم، ولا سيَّما بعد أن بشّروه بإسحاق ومن ورائه يعقوب، وكانت هذه البشرى مستغربةً لدى إبراهيم وزوجته سارة الَّتي {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ـ القادر على كلِّ شيء حتّى لو لم يكن مألوفاً بحسب طبيعته ـ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ}[27]، فقد أراد الله أن يفيض عليكم من رحمته بما تمثِّله هذه البشارة.
وحاول إبراهيم(ع) أن يثير الجدال معهم في قوم لوط: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}[28]؛ فكأنّه يريد أن يطلب منهم أن لا ينـزلوا العذاب عليهم إذا لم تكن المسألة إرادة من الله، ولكنَّهم أجابوه أنّ القضيَّة وصلت إلى مستوى القرار الإلهيّ الحاسم الَّذي لا رجوع عنه، {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}[29]، وكأنَّ الطلب الإبراهيميّ في رفع العذاب ناشئ من شفقته الَّتي تدفعه إلى الرّجوع إلى الله في ذلك كلِّه، وليس جدالاً يختزن الاعتراض.
بشريَّة الرّسل
وربّما يتساءل البعض: كيف يدخل الخوف نفس إبراهيم(ع) من هؤلاء الرّسل الّذي يجهل طبيعتهم ويستغرب تصرّفهم معه؟ وقد يجاب عن ذلك، بأنَّ النبيّ ـ أيّ نبيّ ـ هو بشر كبقيَّة البشر في مشاعره وأحاسيسه، في الخوف ممّا يخاف منه، والأمن ممّا يؤمن به، من دون أن يترك ذلك أيَّ تأثيرٍ سلبيٍّ في موقعه الرّساليّ وثقته بالله وإيمانه به.
وقد يطرح البعض سؤالاً حول ما قصَّه القرآن عن حال لوط الّذي ضعف أمام قومه، وتمنّى أن تكون له قوّة ذاتيّة يواجه بها قومه، كأيِّ شخصٍ يملك الشجاعة في المواجهة، أو تكون له عشيرة تحميه وتحمي ضيوفه وأوضاعه الخاصَّة.
والجواب، أنَّ هذا الموقف كان موقفاً منسجماً مع القدرات الماديّة الَّتي يملكها في صراعه مع قومه، ولكنَّه في الوقت نفسه، انفتح على الله الّذي ينجي رسله، {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}[30]، فقد رجع إلى الله بعد أن استنفد دراسة كلِّ قدراته الخاصَّة، وهذا هو شأن المؤمن في مواجهته لقوى الأعداء، فإنّه يحاول تعرّف مراكز القوَّة عنده، فإذا رأى ضعفاً في موازينها، لجأ إلى الله ليمنحه العون ضدّ هؤلاء. وقد استجاب الله دعاء لوط، وذلك ما أكَّده قوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}[31]. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [العنكبوت: 26].
[2] [الشعراء: 160].
[3] [الشعراء: 161، 162].
[4] [الشعراء: 164].
[5] [الشعراء: 165].
[6] [النمل: 54].
[7] [النمل: 55].
[8] [العنكبوت: 28].
[9] [العنكبوت: 29].
[10] [الأعراف: 82].
[11] [الشعراء: 167].
[12] [العنكبوت: 29].
[13] [العنكبوت: 30].
[14] [الحجر: 61، 62].
[15] [الحجر: 63، 64].
[16] [هود: 77].
[17] [هود: 78].
[18] [هود: 78].
[19] [هود: 79].
[20] [هود: 80].
[21] [هود: 81].
[22] [هود: 82].
[23] [هود: 83].
[24] [النمل: 57، 58].
[25] [هود: 69].
[26] [هود: 70].
[27] [هود: 73].
[28] [هود: 74، 75].
[29] [هود: 76].
[30] [الشعراء: 169].
[31] [الشعراء: 170].