خاطب الله عيسى(ع) بأنّه متوفّيه ورافعه إليه، واختلف المفسِّرون في معنى هذا الرّفع إلى الله على قولين؛ كما جاء في تفسير مجمع البيان:
"أحدهما: إنّي رافعك إلى سمائي، وسُمّيَ رفعه إلى السَّماء رفعاً إليه، تفخيماً لأمر السَّماء، يعني رافعك لموضعٍ لا يكون عليك إلاّ أمري"، باعتبار أنَّ السَّماء لا يحكمها أحد من النّاس، مهما علا شأنه في القوّة والسّلطة والقهر الضَّاغط على الواقع.
"والآخر: أنَّ معناه: رافعك إلى كرامتي، كما قال حكايةً عن إبراهيم(ع): {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}1، أي إلى حيث أمرني ربي. سمّى ذهابه إلى الشَّام ذهاباً إليه"2، لأنَّه ساحة جديدة يدعو فيها النّاس إلى الله، فكأنّه يلتقي به في السَّير إليه.
وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني: "يحتمل رفعه إلى السَّماء ورفعه من حيث التَّشريف"3، إشارةً إلى إعلاء مكانه، وإلى ما خُصَّ به من الفضيلة وشرف المنزلة.
وجاء في تفسير الميزان: "إنَّ المراد بالرّفع الرفع المعنويّ دون الرفع الصّوريّ، إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانيّة الّتي تتعاورها الأجسام والجسمانيّات بالحلول فيها والقرب والبعد منها، فهو من قبيل قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ}4، وخاصّةً لو كان المراد بالتوفّي هو القبض، لظهور أنَّ المراد حينئذٍ هو رفع الدّرجة والقرب من الله سبحانه، نظير ما ذكره تعالى في حقّ المقتولين في سبيله أحياء عند ربّهم: {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}5، وما ذكره في حقّ إدريس(ع): {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}6. وربما يقال: إنَّ المراد برفعه إليه، رفعه بروحه وجسده حيّاً إلى السّماء، على ما يُشعِر به ظاهر القرآن الشَّريف، أنَّ السَّماء، أي الجسمانيّة، هي مقام القرب من الله سبحانه، ومحلّ نزول البركات، ومسكن الملائكة المكرَّمين"7.
الارتفاع روحاً وجسداً
وقد كنّا علّقنا على هذه المداخلة، بأنّنا نرجّح الوجه الثّاني من خلال ظاهر الآية، لأنَّ التعبير برفعه إليه، يوحي ـ من النّاحية التعبيريَّة ـ بالجانب المكانيّ الّذي يختصّ به ويمثّل موقع العلوّ لديه، ممّا يتناسب مع علوّ مقامه وسموّ شأنه، حتّى إنَّ كلمة: {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ}، توحي بذلك، من خلال الذهنيّة الإيمانيّة الّتي تختزن في داخلها معنى اعتبار السَّماء بمعناها المادّي الّذي يجعلهم يتطلَّعون إليها، هي المنطقة الّتي تمثّل أفق العلوّ الّذي ينتسب إلى الله، في مقابل الأرض الّتي هي دونها في درجة القرب المكاني. ولو أراد الرفع المعنويّ، لكان الأقرب التّعبير بالرفع بشكل مطلق، كما في قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}8، أو قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}9.
ولكنَّنا قد نلاحظ على ما استقربناه، أنَّ ورود كلمة: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، الَّتي وردت بعد قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}، قد تقرّب إرادة الرّفع الروحيّ الّذي يوحي به الله سبحانه عند حصول الموت للنّاس، حيث تعيش الرّوح بعد خروجها من الجسد في آفاق الغيب الّتي يضعها الله فيها، وهذا هو المراد من قوله تعالى: {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ}10، فإنَّ موردها هو الّذين قُتِلوا في سبيل الله ورفعهم الله إليه وجعلهم في حياة خاصّة، من خلال حياة الروح التي ارتفعت إلى مواقع رحمته في عالم الغيب عنده.
وهكذا توحي كلمة: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ}، بالحديث عن رجوعهم بأرواحهم إلى الله إذا ماتوا في الدنيا، أو إلى الدار الآخرة في يوم القيامة. ولم ينصّ القرآن على رفعه بجسده وروحه، بل ربّما كانت الإشارة إلى رفعه إليه بعد وفاته الّتي لم تنفصل عن زمن الرّفع، فقد تكون الحكمة الإلهيَّة أنّ الله أراد إنقاذه من أيدي الكافرين بعد أن خطَّطوا لقتله وصلبه من دون أن يحقِّقوا ذلك، لأنّه "شبِّه لهم"، وأبعده عن أيديهم، {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}11، بإبعادك عنهم، حتى لا يقتربوا منك بقذاراتهم الفكريّة والنفسيّة والروحيّة والأخلاقيّة الّتي يمثّلها المجتمع الكافر في ضغوطه على الطّاهرين من أولياء الله ورسله، بعد أن استكمل تبليغ الرِّسالة، وحمّل الحواريّين من تلاميذه مسؤوليَّتها في الامتداد بها إلى النّاس.
وهكذا، اختفى عيسى(ع) عن الأنظار بتقدير الله وقدرته، ولم تختفِ دعوته، وغاب عن السّاحة ولم يغب أتباعه، بل اندفعوا بكلّ صبرٍ وإيمان، يركِّزون الأساس، ويرفعون البناء، ويصنعون للمستقبل فكره وروحيَّته ونظامه، وكانت رعاية الله لهم في كلِّ خطواتهم العمليّة، فبدأ الإيمان يتقدَّم ليتَّخذ مواقعه الثَّابتة في حياة النّاس، وبدأ الكفر يخسر تدريجيّاً. وكان وعد الله لعيسى حقّاً: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}12، فها هم اليهود الّذين اضطهدوه، وأنكروا رسوليّته، وتمرّدوا على رسالته، يقفون في الدَّرجة السّفلى أمام أتباعه من المؤمنين به.
من هم أتباع عيسى(ع)؟
ولكنَّ السّؤال الّذي يفرض نفسه على الواقع: كيف كان ذلك؟ ومن هم أتباعه؟ وهذا ما خاض فيه المفسِّرون كثيراً، وهذا ما يجب أن نتوقَّف أمامه قليلاً، لنفهم معنى هذه الفقرة من الآية، فقد ذهب بعض المفسِّرين إلى أنَّ المراد بالّذين اتّبعوه هم أهل الحقّ من النّصارى الّذين استجابوا لرسالته، وآمنوا بنبوَّته، وساروا على طريق دعوته الحقيقيّة الخالصة، ومن المسلمين الذين اتّبعوه باتّباعهم النبيّ محمّداً(ص) الّذي بشّر به وبرسالته.
وإنَّ معنى الفوقيَّة هنا هو الفوقيَّة في الحجَّة والبرهان، لأنَّ حجّة عيسى(ع) وحجّة أتباعه في نبوّته وصحّة دعوته، ظاهرةٌ بيّنة كلّما تقدّم الزّمن وخفّت الضغوط، بينما كانت حجّة الكافرين الذين خالفوه وعاندوه غير مستندة إلى أساس، فهي لا تزداد على مرور الأيّام إلا انحساراً وضعفاً...
ولكنَّ هذا الوجه مما لا تساعد عليه الآية، لا بلفظها ولا بمعناها ـ كما يقول العلامة الطباطبائي في الميزان ـ: "فإنَّ ظاهر قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، أنَّه إخبارٌ عن المستقبل، وأنّه سيتحقَّق، فيما يستقبل حال التكلّم: توفٍّ ورفعٌ وتطهيرٌ وجعلٌ، على أنَّ قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، وعدٌ حسنٌ وبشرى، وما هذا شأنه لا يكون إلا فيما سيأتي. ومن المعلوم أنَّ حجَّة متَّبعي عيسى(ع) ليست هي إلا حجَّة عيسى نفسه، وهي الَّتي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة، أعني بشارة مريم به، وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرّفع وبعد الرّفع، بل كانت قبل رفعه(ع) أقطع لعذر الكفَّار ومنبت خصومتهم، وأوضح في رفع شبهتهم، فما معنى وعده(ع) أنّه ستفوق حجّة متّبعيه على حجّة مخالفيه، ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوّق بقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، مع أنَّ الحجَّة في غلبتها لا تقبل التّقييد بوقتٍ ولا يوم؟!"13.
يرى صاحب الميزان: أنَّ المراد بالَّذين اتّبعوه هم النّصارى، وبالّذين كفروا اليهود، فإنّه يكفي في إطلاق هذه الصِّفة على المتأخِّرين منهم، وإن خالفوه في بعض تفاصيل رسالته، أنّهم يُعتبرون امتداداً للّذين اتّبعوه حقيقةً في عصره وبعد عصره، في مقابل اليهود الّذين كفروا به في حياته قبل رفعه وبعد رفعه على امتداد الزَّمن. وبذلك تكون الآية في مقام "بيان نزول السَّخط الإلهيِّ على اليهود، وحلول المكر بهم، وتشديد العذاب على أمَّتهم"14.
وهناك وجه آخر، "وهو أن يكون المراد بالّذين اتّبعوه، هم النّصارى والمسلمون قاطبةً، وتكون الآية مخبرةً عن كون اليهود سيبقون تحت كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتّباع عيسى إلى يوم القيامة، والتّقريب عين التقريب، وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبّر"15، كما يقول صاحب الميزان.
وربّما كان جوّ الآية يوحي بالوجهين الأخيرين، انطلاقاً من أنَّ الآية واردة في مقام إعطاء الفكرة، أنَّ الّذين يضطهدون الأنبياء وأتباعهم، لا يحصلون على الامتداد في الزَّمن في عمليَّة ممارسة القوَّة والغلبة، لأنَّ رسالات الله سوف تتقدَّم وتفرض نفسها على السّاحة، إن عاجلاً أو آجلاً، على أساس سنَّة الله في خلقه، من أنَّ الحقّ لا بدَّ من أن يفرض نفسه في نهاية المطاف.
ولكن يبقى التّدبّر في قوله: {الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ}، فهل توحي هذه الكلمة بالتّابعين له من حيث الانتساب إليه والانتماء إليه في الإيمان به، كشخصيّة مقدَّسة في قداسة الألوهيَّة المجسّدة، كما عليه النصارى في نظرتهم إلى عيسى في طبيعته الإلهيّة الوجوديّة، لتتمثّل الفوقية في سيطرة المنتمين إلى النصرانية على اليهود من حيث الكثرة العددية أو القوة المسيطرة، أو أنّها تتمثّل في اتباعه في النبوّة والرسوليّة والخطوط الرسالية التي بشّر بها؟ ثم هل المراد بالّذين كفروا اليهود الّذين كفروا به، أو الّذين أنكروا وجود الله، أو الّذين أشركوا به؟ إنّها علامات استفهام قد نجد جوابها الأقرب فيما ذكرناه؛ والله العالم.
وخلاصة الكلام في العنوان الّذي بدأنا به الحديث في مسألة: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}16، {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ}17، أنَّ الاحتمال الأقرب هو أنَّ النبيَّ عيسى(ع) قد أخفاه الله عن أعين النّاس، وأماته ميتةً طبيعيّةً بطريقة خفيَّة لم يطّلع عليها أحد، ثم رفعه إليه في مواقع قدسه، كما رفع الأنبياء من قبله ومن بعده إليه في عالم الغيب الّذي لا نعرف كنهه، وكما أحيا الشّهداء في سبيل الله في مواقع النَّعيم عنده، ولا سيَّما أنّه لم يعهد أنَّ الله قد رفع أيَّ شخص من عباده بجسده إلى السَّماء، حتى الأقرب إليه من رسله، تدليلاً على الكرامة عنده، أو لإنقاذه من أيدي الظّالمين، بل إنَّ الله تحدَّث عن الأنبياء الّذين قُتلوا على أيدي بني إسرائيل، ولم ينقذهم بالرّفع إليه قبل ذلك. إنّه أمرٌ نستبعده ولا نراه محالاً. والله العالم. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
1 [الصّافات: 99].
2 تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 2، ص 306.
3 مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 200.
4 [آل عمران: 55].
5 [آل عمران: 169].
6 [مريم: 57].
7 تفسير الميزان، السيّد الطباطبائي، ج 3، ص 207.
8 [المجادلة: 11].
9 [مريم: 57].
10 [آل عمران: 169].
11 [آل عمران: 55].
12 [آل عمران: 55].
13 تفسير الميزان، ج 3، ص 209.
14 المصدر نفسه، ج 3، ص 210.
15 المصدر نفسه، ج 3، ص 210.
16 [آل عمران: 55].
17 [النّساء: 158].