النّبيّ أيوب(ع) النَّموذج الأعلى للصَّبر الجميل

النّبيّ أيوب(ع) النَّموذج الأعلى للصَّبر الجميل

يحدّثنا الله سبحانه في كتابه الكريم، عن نبيٍّ من أنبياء الله ابتلاه بأشدِّ أنواع البلاء، فذهب ماله، ومات أولاده، وابتلي بمرضٍ شديدٍ مدّةً طويلةً، من دون أن يتأفَّف أو يعترض على الله في حكمه، أو يتعقَّد من كلِّ ذلك في حركة إيمانه، بحيث أصبح النّموذج الأعلى لقيمة الصَّبر الإنسانيّ الَّذي يتَّصف به أهل البلاء، الَّذين لا يسقطون أمام المصائب الَّتي تحدث لهم في أجسادهم وأموالهم وأهلهم وأوضاعهم الخاصَّة والعامَّة. وبذلك، تحوَّل في وجدان النّاس وفي أحاديثهم إلى مثلٍ يُضرَب به المثل بالصّبر الجميل، فصاروا يقولون: "صبر أيّوب".

وهكذا، عاش هذه المحنة الشَّديدة في حياته، فعانى أشدَّ الآلام قساوةً، ولم يبتعد عن ذكر الله والابتهال إليه والاستغاثة به، لأنّه ـ وهو النّبيّ المرسل ـ بلغ من المعرفة بالله والإخلاص له والإنابة إليه ما لم يبلغه أحدٌ في زمانه، وهذا ما أعدَّ الله له عباده الصَّالحين، ومنح معرفته رسله المكرَّمين الَّذين يبلِّغون رسالاته، والّذين يستشعرون الإحساس القويّ بالحاجة إليه وطلب رحمته، ولا سيّما في حالات البلاء.

تجربة أيّوب ومعانيها الإنسانيَّة

وهكذا رفع أيّوب صوته بالدّعاء إلى الله، بعد أن تمرّد على كلّ نوازع الجزع في نفسه، من خلال قوّة إرادته على تحمّل الآلام، وسما على كلِّ عوامل الإشفاق من حوله، من خلال قوّة الإيمان في وعيه الروحيّ، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}، فقد أكلَ المرضُ كلّ عناصر العافية ومظاهرها في جسدي، حتى لم تعد لي أيّة قوّة في الحركة الطبيعيَّة ممّا يتحرّك به الأصحّاء، وأحاطت بي الآلام من كلِّ جانب، {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[1]، فأنت إله الرَّحمة لعبادك، وها أنا ألجأ إليك لإزالة هذا الضرِّ عنّي، ولا ألجأ إلى غيرك، وليس لي من يرحمني غيرك، وأنت الَّذي خلقت عبادك، وأنعمت عليهم، وسخَّرت لهم الوجود كلَّه برحمتك ولطفك، ووصفت نفسك بالرَّحمن الرَّحيم. فتقبّله الله بقبولٍ حسنٍ، ومنحه من لطفه المزيد، واستجاب له دعاءه،كما قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}؛ هذا الدّعاء الَّذي يتضمّن الإخلاص، والخشوع، والخضوع، والانقطاع إلى الله، والانفتاح الإيمانيّ على الاستعانة به دون غيره.

{فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ}، فرجع إنساناً طبيعيّاً في حياته، في صحَّته وعافيته، وفي قوّة حركته بين النَّاس، {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ}، وعاد إلى حياته العائليَّة المليئة بالمودَّة والرَّحمة والعاطفة الغنيَّة بالحنان، حيث رزقه الله العائلة من جديد، فجمعهم عنده بعد أن كانوا غائبين عنه، متفرّقين عن حياته، بفعل أوضاعه المرضيّة الَّتي لم يطيقوا العيش معه في ظلّها. {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا}، بما يتمثّل فيها من مظاهر الرّحمة التي تحرّكت بإرادة الله بطريقةٍ غير عاديّةٍ في شبه معجزة، ورزقه أهلاً غير أهله، فأصبح يعيش في حالة اجتماعيَّة تضاعف فيها عدد أولاده الّذين يأنس بهم ويأنسون به، ليظهر رعايته لعبده الَّذي أخلص له في صبره الإيماني، كما أخلص له في عبادته له، وإطاعته لأوامره ونواهيه، وتبليغه رسالته.

{وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}[2]، الَّذين أخلصوا لله العبادة، وآمنوا بوحدانيَّته الخالصة، وعرفوه بأسرار عظمته وقداسة ذاته، لينفتحوا على الحقيقة الإلهيَّة الَّتي تتحرَّك في حياة النّاس، فترعى وجودهم، وتعرّفهم طبيعة حركة النِّظام الكوني في قانون السَّببيَّة الّذي يجعل لكلِّ مرضٍ سبباً، ولكلِّ داءٍ دواءً، ولكلِّ بلاء ظروفاً، وتوحي إليهم بأنَّ البلاء الَّذي ينزل عليهم بتنوّعاته، ليس عقوبةً لهم دائماً، بل قد يكون امتحاناً لإيمانهم، واختباراً لصبرهم، وإظهاراً للآخرين بأنَّ المؤمن لا يسقط أمام البلاء، ولا يتراجع عن موقفه بالثّقة بالله والعبادة لله والرّضا بقضائه وقدَرَه، فيرجع إلى ربّه داعياً مبتهلاً متضرّعاً، فيسأله اللّطف به والرّحمة له، وتهيئة الأسباب الَّتي ترفع البلاء عنه، فإذا عرف الله منه صدق النيَّة وعمق الإخلاص، فإنَّه يلطف به ويرحمه، ويكشف ما به من ضرٍّ، ويُحسن إليه، لأنَّه لا يضيع لديه أجر من أحسن إليه عملاً.

لقد أراد الله من خلال هذه الحقيقة المزدوجة في البلاء الَّذي يرتكز على الصَّبر، وفي كشف الضرِّ الَّذي ينطلق من الرَّحمة، في هذا النَّموذج الإيمانيّ الرّائع الَّذي يريد للمؤمنين أن يتمثّلوه في كلّ زمان ومكان، أن يعرفوا أنَّ المؤمن لا يجزع من البلاء، مهما كان شديداً وقاسياً، وأنَّ الله لا يخذل عبده، بل يرحمه ويلطف به، ويحوِّل عمره إلى يسرٍ في نهاية المطاف.

من هو الشَّيطان الَّذي مسَّ أيّوب؟

وقد تحدَّث الله عن أيّوب ـ في سورة ص ـ في توجيهٍ إيمانيٍّ لذكره في الوجدان العام، من أجل الاستفادة من تجربته الحيّة في معانيها الإنسانيَّة وعمقها الروحيّ وامتدادها في حياة الناس، بما يحقّق لهم الكثير من التّماسك الإراديّ أمام البلاء الّذي قد يتعرّضون له في أوضاعهم العامَّة والخاصَّة، والرّجوع إلى الله في ذلك كلِّه ليصرفه عنهم، هذا إضافةً إلى بعض الخصوصيّات التّعبيريّة في دعاء النّبيّ أيّوب في الحديث عن أساس الجهة الَّتي كان لها الدَّور في إصابته بالبلاء الَّذي سبَّب له الجهد والعذاب الجسديّ، الأمر الَّذي يفرض التأمّل الفكريّ في هذا الموضوع المثير للتَّساؤل.

قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ}، الّذي امتحنه الله بالبلاء الشَّديد، فصبر صبر المؤمنين، واستسلم إلى الله بإيمانٍ خاشع، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[3]، فقد بلغ صبره الشَّديد، ومقاومته لتأثير الآلام في جسده أقصى مداه، وتحوَّل العذاب في معاناته القاسية، إلى مشكلةٍ صعبةٍ عطَّلت حرّيته في حركة حياته، بحيث انفجر كلّ عضوٍ من أعضاء جسمه بألمه المكبوت صيحةً صارخةً.

ولكن من هو هذا الشَّيطان؟ هل هو هذا المخلوق الذي يتمثَّل في إبليس وجنوده من الجنّ، وفق ما جاء في التّعبير القرآني، وإذا كان المراد به ذلك، فكيف نفسِّر تدخّله في مرض أيّوب وإصابته بتعبٍ وعذاب؟

وقد طُرِح هذا التَّساؤل في كتب التّفسير، وعلّق عليه صاحب تفسير الكشَّاف بقوله إنّه لا يجوز أن يسلِّط الله الشّيطان على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك، لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرَّر في القرآن أنّه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب[4].

وقد حاول تأويل النِّسبة إلى الشّيطان بأنّه "لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سبباً فيما مسَّه الله به من النّصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك، حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنّه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو"[5].

وقد أجاب صاحب تفسير الميزان عن ذلك بقوله: "إنّ الَّذي يخصّ الأنبياء وأهل العصمة، أنّهم لمكان عصمتهم، في أمنٍ من تأثير الشّيطان في نفوسهم بالوسوسة، أمّا تأثيره في أبدانهم وسائر ما ينسب إليهم بإيذاءٍ أو إتعابٍ أو نحو ذلك من غير إضلال، فلا دليل يدلّ على امتناعه. وقد حكى الله سبحانه عن فتى موسى، وهو يوشع النبيّ(ع): {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}[6].

ولا يلزم من تسلّطه على نبيٍّ بالإيذاء والإتعاب لمصلحةٍ تقتضيه، كظهور صبره في الله سبحانه، وأوبته إليه، أن يقدر على ما يشاء فيمن يشاء من عباد الله تعالى، إلا أن يشاء الله ذلك وهو ظاهر"[7].

ويوضح صاحب الميزان الآية بقوله: "والظّاهر أنّ المراد من مسِّ الشيطان له بالنّصب والعذاب، استناد نصبه وعذابه إلى الشَّيطان بنحوٍ من السَّببيَّة والتّأثير، وهو الّذي يظهر من الرّوايات، ولا ينافي استناد المرض ونحوه إلى الشّيطان استناده أيضاً إلى الأسباب العاديّة الطبيعيّة، لأنّ السّببين ليسا عرضيّين متدافعين، بل أحدهما في طول الآخر... ولا دليل يدلُّ على امتناع وقوع هذا النَّوع من التّأثير الشَّيطانيّ في الإنسان، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}[8]، فنسبها إليه، وقال حاكياً عن موسى(ع): {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}[9]، يشير إلى الاقتتال"[10].

ملاحظات على بعض التَّفاسير

ولنا ملاحظات على ذلك:

 أوّلاً: إنَّ دراستنا لدور الشّيطان في الأرض، تبيّن أنّه لا يخرج عن أجواء حركة الإنسان في ساحة اختياراته العمليّة المتّصلة بأوامر الله ونواهيه، لإضلاله من طريق الوسوسة الّتي تدعو الإنسان إلى الاستجابة له في حركة الانحراف عن الخطِّ المستقيم، وهذا ما عبَّر الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[11]. وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}[12].

وفي ضوء ذلك، لا نجد في الصّورة الَّتي يقدِّمها القرآن عن الشّيطان، أنّه يمثِّل أحد المؤثّرات الطّبيعيَّة في مرض الإنسان أو في تعبه ـ حتى على نحو السببيّة العرضيّة ـ لأنّه لا دور له في ذلك من قريبٍ أو من بعيد، لأنَّ المسألة المطروحة لا علاقة لها بمفهومي الإمكان والاستحالة ليكون الحديث عن الإمكان مطروحاً من ناحيةٍ فلسفيّةٍ، بل إنَّ المسألة تنسب إلى الفكرة القرآنيّة المستندة إلى قصَّة إبليس وآدم في بداية الخليقة للإنسان، لتثير موضوع الهدى الَّذي يريده الله للإنسان من مواقع اختياره، ومسألة خطّ الضَّلال الَّذي يحرّكه الشّيطان من خلال الوسوسة في إثارة عناصره في نفس الإنسان، بعيداً عن أيّ شيءٍ آخر. والظّاهر أنّ هذه القصّة التي كرّرها القرآن في سوره وآياته، تمثّل العنوان العامّ للفكرة، بحيث تكون التّفاصيل متفرّعةً عنه.

أمّا حديث التّأثير الشّيطاني في الأشياء من خلال آية المائدة، فلا يدلُّ على المقصود، لأنَّ الظّاهر إرادة الارتباط بهذه الأشياء في الجانب العمليّ، من خلال وسوسته للإنسان في الأخذ بهذه الطّريقة المضادَّة لمصلحته، في الإيحاء إلى الإنسان بما يحصل عليه منها من مكاسب، كأيّ عمل سلبيّ يوحي به الشّيطان، ولا دخل له في تكوين هذه الأشياء من النّاحية الوجودية، وهذا ما نفهمه من آية موسى(ع)، لأنَّ إقدامه على قتل القبطيّ ـ بالرّغم من شرعيّته ـ قد يكون ناشئاً من الحالة النفسيَّة في الدّفاع عن مواطنه، في وسوسةٍ خفيَّةٍ على أساس الوضع الاجتماعيّ الذي ينطلق في نصرة القريب ضدَّ البعيد، وهو ما نجح في إحداث حالٍ من الإثارة، ما أوقع موسى في المشكلة مع السّلطة الّتي قرّرت قتله، فأدَّى ذلك إلى هربه وخروجه من مصر إلى مدين.

ثانياً: إنّنا نؤكّد ما ذكره صاحب تفسير الكشّاف، من أنّه "لا يجوز أن يسلّط الله الشّيطان على أنبيائه ليقضي من تعذيبهم وطره"، ويعقّد حركتهم الرّساليّة والتزاماتهم العمليّة، لأنّ تسليطه عليهم لا يمثِّل أيّة غايةٍ واضحةٍ في واقع الرّسالة والرّسول ومسؤوليّة النّبيّ في خطّ مواجهة الأعداء، لأنَّ تجربته في الصَّبر وقوّة الموقف وصلابة الحركة، تتمثَّل في حركة التّبليغ، والإصرار على إرادة الوصول إلى الهدف، في تحمّله التَّعب في خطِّ الرِّسالة، وعذابه في مواجهة تحدّيات الأعداء، من دون حاجةٍ إلى إنزال المرض بجسده الَّذي يمثِّل سلبيّةً معنويّةً في خضوع الرّسول الّذي أراد له الأخذ بأسباب القوّة، للتعسّف الشّيطاني في عبثه بجسده، بالطّريقة التي لا يستطيع فيها الدّفاع عن نفسه، بينما كان التّسليط في حال الوسوسة متحرّكاً في الأجواء الَّتي تتيح للإنسان أن يواجه فيها إبليس بالإرادة القويّة ليصدَّه عن التأثير فيه.

وإذا كان صاحب الميزان يثير مسألة المصلحة في ذلك، كظهور صبره في الله سبحانه وأوبته إليه، فإنَّ ذلك لا يصلح توجيهاً للمسألة، لأنَّ من الممكن أن يتمَّ ذلك بطريقة المؤثّرات الطّبيعيَّة والأسباب العاديَّة، مما يعانيه الرَّسول من تحدِّيات القوى المضادَّة والأذى الذي يصيبه منهم، فلا يسقط أمامهم بالرّغم من الآلام التي يتعرَّض لها. فإذا وعى إبليس ذلك، فإنَّه لا يقوم به، باعتبار أنّه يترك تأثيرات إيجابيَّة في ارتباط أيّوب بالله من دون أن ينجح في وسائله الخبيثة.

إنَّنا نفهم من الجوِّ القرآنيّ، أنَّ الله يريد أن يعزِّز الرّسل برعايته وألطافه، أمام إبليس الّذي أعدّهم لإسقاط أوضاعه التّضليليَّة، بحيث كانت هناك حربٌ مفتوحة بينه وبين رسل الله، فلا يتركهم تحت تأثيراته المعقّدة الشّيطانية.

ثالثاً: إنَّ كلمة الشّيطان قد استخدمت في بعض الأحاديث المأثورة كنايةً عن الشّيء الخفيّ الّذي يترك تأثيره السّلبيّ في حياة الإنسان، كبعضِ الميكروبات المؤثّرة في المرض، باعتبار مشابهتها للشَّيطان الّذي يثير الأشياء السيِّئة في الإنسان بطريقةٍ خفيَّة تقتحمه فلا يشعر بها، مع كون المرض ونحوه شرّاً في نتائجه، كما هي نتائج وسوسة الشَّيطان، فيمكن للآية أن تكون واردةً في هذا السِّياق. وقد أشار الرّاغب الأصفهاني في مفرداته إلى ما يوحي بذلك، قال: وسمّي كلُّ خُلُقٍ دميمٍ للإنسان شيطاناً، فقال(ع): "الحسد شيطانٌ، والغضب شيطان"[13]. ونستوحي من ذلك، أنَّ إطلاق هذا الاسم "الشَّيطان" على الخلق الذّميم، باعتبار تأثيره السيِّئ في حياة الإنسان، فلا خصوصيَّة له في ذلك المورد، بل ينطبق على العناصر السلبيَّة في تأثيرها في جسد الإنسان كالمرض. ولعلَّ هذا هو الّذي قصده أيّوب في دعائه لله، والله العالم.

أمَّا ما ذكره الرّواة من القصص، فقد علّق عليه صاحب تفسير الكاشف، قال: "مضت مئات القرون والنَّاس تضرب الأمثال بمصائب أيّوب، وينسجون حولها الأساطير... وتدلُّ هذه الآية (من سورة ص)، والآية (83) من سورة الأنبياء، أنَّ أيّوب قد أصيب في نفسه وماله، وأنّه نسب ما حلَّ به إلى الشيطان، وهذا ما دعا جماعة من المفسّرين أن يؤلّفوا رواية "أيّوب والشيطان"... ومن قارن بين روايتهم وما جاء في سفر أيّوب من التّوراة، يجد أنّهم يفسّرون القرآن الكريم بالإسرائيليّات...

وتتلخَّص رواية العهد القديم والمفسّرين أيضاً، بأنَّ الله سلّط الشّيطان على أيّوب ليختبر إيمانه، فأتلف أمواله، وأهلك أسرته، ولمّا فشل، أصابه في جسده، ففشل أيضاً"[14].

 ونحن نوافقه على ذلك. ومن الطّريف ما ذكره القرطبي في تفسيره: "قال المفسّرون: إنّ أيّوب كان رومياً من البثنيّة ـ قرية بين دمشق وأذرعات، وصحّح المحقّقون أنه من بني إسرائيل ـ اصطفاه الله بالنبوّة، وآتاه جملةً عظيمةً من الثَّروة في أنواع الأموال والأولاد، وكان شاكراً لأنعم الله، مواسياً لعباد الله، برّاً رحيماً، ولم يؤمن به إلا ثلاثة نفر. وكان لإبليس موقف من السّماء السّابعة في يوم من الأيّام، فوقف به إبليس على عادته، فقال الله له أو قيل له عنه: أقدرت من عبدي أيّوب على شيء؟ فأجاب بأنّه قادر عليه إذا ابتلاه بالبلاء والفقر... وتستمرّ الرّواية في عبث إبليس بماله وأهله وجسده، ولكنَّه لم ينجح فيما أراد"[15]. وهذا ما أشار إليه تفسير الكاشف أيضاً.

ونلاحظ على الرّواية ما لاحظه المحقّق لتفسير القرطبي في الهامش حول موقف إبليس من السّماء السّابعة، وحديثه مع الله بشكلٍ طبيعيّ، قال: هذا باطل، فإنَّ الشيطان أهبط من السَّماء بسخطٍ من الله ولعنةٍ إلى الأرض، فأنّى يعود إليها؟! وهذا ما ذكره ابن العربي مؤكِّداً بطلانه، ومبيِّناً أنَّ هذا لخطبٌ في الجهالة عظيم. أمَّا قولهم: إنَّ الله تعالى قال له: هل قدرت من عبدي أيّوب على شيء، فباطل قطعاً، لأنّ الله عزَّ وجلَّ لا يكلّم الكفّار الّذين هم من جند إبليس الملعون، فكيف يكلِّم من تولّى إضلالهم. وأمَّا قولهم: إنَّ الله قال: قد سلّطتك على ماله وولده، فذلك ممكن في القدرة، ولكنَّه بعيد في هذه القصَّة.

التَّفريج عن أيّوب

هكذا فرَّج الله عن أيّوب، وصرف عنه البلاء، وأوحى إليه بالوسيلة الإعجازيّة في ذلك، فقال سبحانه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}، فقد انتهى عهد البلاء الّذي كنت فيه مصلوباً على فراشك، مشدوداً إلى البلاء، واقفاً تحت تأثير الآلام والأوجاع التي تمنعك من التنظيف والاغتسال، وستتحقّق عافيتك عندما تضرب الأرض بقدمك، ما سيفجِّر عيناً باردةً صافيةً: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[16]، تغتسل منه وتشرب، لتشعر بكرامة الله ورعايته ورزقه الذي يغدقه عليك من حيث لا تحتسب، كدلالةٍ على محبّته ولطفه ورحمته وعنايته بك.

{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ}، فعادوا إليه بعد أن ماتوا ـ بحسب بعض الروايات ـ عندما أحياهم الله له، أو ردّهم إليه بعد أن كانوا قد تركوه وابتعدوا عنه لظروف مرضه ورائحته النّتنة التي لم يطيقوها في الحياة معه والجلوس عنده، {وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ}، فيما رزقه الله من أبناء، {رَحْمَةً مِّنَّا}، بما أفاض الله عليه من فيوضات نعمه، كمظهرٍ حيٍّ من مظاهر رحمته، {وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ}[17]،  ليتأمَّلوا في ذلك كلّه بعقولهم، ليعرفوا مواقع بلاء الله في حياة عباده المؤمنين ومواضع رحمته يفرّج بها عنهم، وليدركوا حكمة الله في ذلك، فلا ينظروا إلى الأمور من جانب السَّطح الظاهر منها، بل يدرسوها من خلال عمق الأسرار فيها.

وكان أيّوب قد حلف أن يضرب امرأته لأمرٍ أنكره منها، مما يضيق به الصَّدر أو تثور به الأعصاب، ممّا لا ينافي أخلاقه الّتي تتميَّز بالقيمة الروحيَّة، وكان الحلف أن يضربها مائة جلدة، وكان هذا الأمر شديداً عليه كما يبدو، لأنها خدمته خدمةً عظيمةً، وصبرت على مرضه ورعته رعايةً جيّدةً، فخفَّف الله عنه وقع ذلك، وقدَّم إليه حلاً لا يتراجع فيه عن يمينه، ولا يضغط عليها، فقال سبحانه له: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً}، وهو الحزمة الصَّغيرة من الحشيش أو الرّيحان أو غير ذلك، وعن ابن عباس: قبضةً من الشَّجر أي من عيدانها، وذلك بأن يأخذ مجموعةً من العيدان بعدد المائة، {فَاضْرِب بِّهِ} دفعةً واحدةً، {وَلَا تَحْنَثْ}، لتجزي عن يمينك من دون إيذاء لها، تيسيراً لك وإنعاماً عليك.

عبرة للمؤمنين

ثم يلتفت الأسلوب القرآنيّ إلى المؤمنين وإلى النبيّ(ص)، الّذي أراد الله له أن يذكّر بحياة هذا النبيّ العبد الصَّابر الصّالح، ليكون في ذلك عبرةً للعاملين الدّعاة المجاهدين في سبيله، وهذا ما يبتلي به الله عباده المؤمنين في خطِّ حكمته ورحمته، بما يتمثَّل به صبرهم من قوَّة الإيمان وصلابة الموقف: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} على البلاء، {نِعْمَ الْعَبْدُ} في إحساسه العميق بعبوديته لله، وإسلامه له، وانفتاحه على آفاق عظمته ورحمته، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}[18]، فقد رجع إلى ربّه في ابتهالٍ خاشعٍ ودعاءٍ خاضع، فلم يشكُ أمره إلى غيره، بل كانت شكواه إلى الله ورغبته في أن يصرف عنه ذلك البلاء، فاستجاب الله له ذلك. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنبياء: 83].

[2]  [الأنبياء: 84].

[3]  [ص: 41].

[4]  الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، الزمخشري، ج 3، شرح ص 377.

[5]  المصدر نفسه، ج 3، ص 377.

[6]  [الكهف: 63].

[7]  تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 17، ص 210.

[8]  [المائدة: 90].

[9]  [القصص: 15].

[10]  تفسير الميزان، ج 17، ص 209.

[11]  [الأعراف: 206].

[12]   [إبراهيم: 22].

[13]  مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 261.

[14]  [تفسير الكاشف، ج6، ص: 387].

[15]  تفسير القرطبي، القرطبي، ج 15، ص 2018.

[16]  [ص: 42].

[17]  [ص: 43].

[18]  [ص: 44].


يحدّثنا الله سبحانه في كتابه الكريم، عن نبيٍّ من أنبياء الله ابتلاه بأشدِّ أنواع البلاء، فذهب ماله، ومات أولاده، وابتلي بمرضٍ شديدٍ مدّةً طويلةً، من دون أن يتأفَّف أو يعترض على الله في حكمه، أو يتعقَّد من كلِّ ذلك في حركة إيمانه، بحيث أصبح النّموذج الأعلى لقيمة الصَّبر الإنسانيّ الَّذي يتَّصف به أهل البلاء، الَّذين لا يسقطون أمام المصائب الَّتي تحدث لهم في أجسادهم وأموالهم وأهلهم وأوضاعهم الخاصَّة والعامَّة. وبذلك، تحوَّل في وجدان النّاس وفي أحاديثهم إلى مثلٍ يُضرَب به المثل بالصّبر الجميل، فصاروا يقولون: "صبر أيّوب".

وهكذا، عاش هذه المحنة الشَّديدة في حياته، فعانى أشدَّ الآلام قساوةً، ولم يبتعد عن ذكر الله والابتهال إليه والاستغاثة به، لأنّه ـ وهو النّبيّ المرسل ـ بلغ من المعرفة بالله والإخلاص له والإنابة إليه ما لم يبلغه أحدٌ في زمانه، وهذا ما أعدَّ الله له عباده الصَّالحين، ومنح معرفته رسله المكرَّمين الَّذين يبلِّغون رسالاته، والّذين يستشعرون الإحساس القويّ بالحاجة إليه وطلب رحمته، ولا سيّما في حالات البلاء.

تجربة أيّوب ومعانيها الإنسانيَّة

وهكذا رفع أيّوب صوته بالدّعاء إلى الله، بعد أن تمرّد على كلّ نوازع الجزع في نفسه، من خلال قوّة إرادته على تحمّل الآلام، وسما على كلِّ عوامل الإشفاق من حوله، من خلال قوّة الإيمان في وعيه الروحيّ، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}، فقد أكلَ المرضُ كلّ عناصر العافية ومظاهرها في جسدي، حتى لم تعد لي أيّة قوّة في الحركة الطبيعيَّة ممّا يتحرّك به الأصحّاء، وأحاطت بي الآلام من كلِّ جانب، {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[1]، فأنت إله الرَّحمة لعبادك، وها أنا ألجأ إليك لإزالة هذا الضرِّ عنّي، ولا ألجأ إلى غيرك، وليس لي من يرحمني غيرك، وأنت الَّذي خلقت عبادك، وأنعمت عليهم، وسخَّرت لهم الوجود كلَّه برحمتك ولطفك، ووصفت نفسك بالرَّحمن الرَّحيم. فتقبّله الله بقبولٍ حسنٍ، ومنحه من لطفه المزيد، واستجاب له دعاءه،كما قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}؛ هذا الدّعاء الَّذي يتضمّن الإخلاص، والخشوع، والخضوع، والانقطاع إلى الله، والانفتاح الإيمانيّ على الاستعانة به دون غيره.

{فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ}، فرجع إنساناً طبيعيّاً في حياته، في صحَّته وعافيته، وفي قوّة حركته بين النَّاس، {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ}، وعاد إلى حياته العائليَّة المليئة بالمودَّة والرَّحمة والعاطفة الغنيَّة بالحنان، حيث رزقه الله العائلة من جديد، فجمعهم عنده بعد أن كانوا غائبين عنه، متفرّقين عن حياته، بفعل أوضاعه المرضيّة الَّتي لم يطيقوا العيش معه في ظلّها. {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا}، بما يتمثّل فيها من مظاهر الرّحمة التي تحرّكت بإرادة الله بطريقةٍ غير عاديّةٍ في شبه معجزة، ورزقه أهلاً غير أهله، فأصبح يعيش في حالة اجتماعيَّة تضاعف فيها عدد أولاده الّذين يأنس بهم ويأنسون به، ليظهر رعايته لعبده الَّذي أخلص له في صبره الإيماني، كما أخلص له في عبادته له، وإطاعته لأوامره ونواهيه، وتبليغه رسالته.

{وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}[2]، الَّذين أخلصوا لله العبادة، وآمنوا بوحدانيَّته الخالصة، وعرفوه بأسرار عظمته وقداسة ذاته، لينفتحوا على الحقيقة الإلهيَّة الَّتي تتحرَّك في حياة النّاس، فترعى وجودهم، وتعرّفهم طبيعة حركة النِّظام الكوني في قانون السَّببيَّة الّذي يجعل لكلِّ مرضٍ سبباً، ولكلِّ داءٍ دواءً، ولكلِّ بلاء ظروفاً، وتوحي إليهم بأنَّ البلاء الَّذي ينزل عليهم بتنوّعاته، ليس عقوبةً لهم دائماً، بل قد يكون امتحاناً لإيمانهم، واختباراً لصبرهم، وإظهاراً للآخرين بأنَّ المؤمن لا يسقط أمام البلاء، ولا يتراجع عن موقفه بالثّقة بالله والعبادة لله والرّضا بقضائه وقدَرَه، فيرجع إلى ربّه داعياً مبتهلاً متضرّعاً، فيسأله اللّطف به والرّحمة له، وتهيئة الأسباب الَّتي ترفع البلاء عنه، فإذا عرف الله منه صدق النيَّة وعمق الإخلاص، فإنَّه يلطف به ويرحمه، ويكشف ما به من ضرٍّ، ويُحسن إليه، لأنَّه لا يضيع لديه أجر من أحسن إليه عملاً.

لقد أراد الله من خلال هذه الحقيقة المزدوجة في البلاء الَّذي يرتكز على الصَّبر، وفي كشف الضرِّ الَّذي ينطلق من الرَّحمة، في هذا النَّموذج الإيمانيّ الرّائع الَّذي يريد للمؤمنين أن يتمثّلوه في كلّ زمان ومكان، أن يعرفوا أنَّ المؤمن لا يجزع من البلاء، مهما كان شديداً وقاسياً، وأنَّ الله لا يخذل عبده، بل يرحمه ويلطف به، ويحوِّل عمره إلى يسرٍ في نهاية المطاف.

من هو الشَّيطان الَّذي مسَّ أيّوب؟

وقد تحدَّث الله عن أيّوب ـ في سورة ص ـ في توجيهٍ إيمانيٍّ لذكره في الوجدان العام، من أجل الاستفادة من تجربته الحيّة في معانيها الإنسانيَّة وعمقها الروحيّ وامتدادها في حياة الناس، بما يحقّق لهم الكثير من التّماسك الإراديّ أمام البلاء الّذي قد يتعرّضون له في أوضاعهم العامَّة والخاصَّة، والرّجوع إلى الله في ذلك كلِّه ليصرفه عنهم، هذا إضافةً إلى بعض الخصوصيّات التّعبيريّة في دعاء النّبيّ أيّوب في الحديث عن أساس الجهة الَّتي كان لها الدَّور في إصابته بالبلاء الَّذي سبَّب له الجهد والعذاب الجسديّ، الأمر الَّذي يفرض التأمّل الفكريّ في هذا الموضوع المثير للتَّساؤل.

قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ}، الّذي امتحنه الله بالبلاء الشَّديد، فصبر صبر المؤمنين، واستسلم إلى الله بإيمانٍ خاشع، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[3]، فقد بلغ صبره الشَّديد، ومقاومته لتأثير الآلام في جسده أقصى مداه، وتحوَّل العذاب في معاناته القاسية، إلى مشكلةٍ صعبةٍ عطَّلت حرّيته في حركة حياته، بحيث انفجر كلّ عضوٍ من أعضاء جسمه بألمه المكبوت صيحةً صارخةً.

ولكن من هو هذا الشَّيطان؟ هل هو هذا المخلوق الذي يتمثَّل في إبليس وجنوده من الجنّ، وفق ما جاء في التّعبير القرآني، وإذا كان المراد به ذلك، فكيف نفسِّر تدخّله في مرض أيّوب وإصابته بتعبٍ وعذاب؟

وقد طُرِح هذا التَّساؤل في كتب التّفسير، وعلّق عليه صاحب تفسير الكشَّاف بقوله إنّه لا يجوز أن يسلِّط الله الشّيطان على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك، لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرَّر في القرآن أنّه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب[4].

وقد حاول تأويل النِّسبة إلى الشّيطان بأنّه "لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سبباً فيما مسَّه الله به من النّصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك، حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنّه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو"[5].

وقد أجاب صاحب تفسير الميزان عن ذلك بقوله: "إنّ الَّذي يخصّ الأنبياء وأهل العصمة، أنّهم لمكان عصمتهم، في أمنٍ من تأثير الشّيطان في نفوسهم بالوسوسة، أمّا تأثيره في أبدانهم وسائر ما ينسب إليهم بإيذاءٍ أو إتعابٍ أو نحو ذلك من غير إضلال، فلا دليل يدلّ على امتناعه. وقد حكى الله سبحانه عن فتى موسى، وهو يوشع النبيّ(ع): {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}[6].

ولا يلزم من تسلّطه على نبيٍّ بالإيذاء والإتعاب لمصلحةٍ تقتضيه، كظهور صبره في الله سبحانه، وأوبته إليه، أن يقدر على ما يشاء فيمن يشاء من عباد الله تعالى، إلا أن يشاء الله ذلك وهو ظاهر"[7].

ويوضح صاحب الميزان الآية بقوله: "والظّاهر أنّ المراد من مسِّ الشيطان له بالنّصب والعذاب، استناد نصبه وعذابه إلى الشَّيطان بنحوٍ من السَّببيَّة والتّأثير، وهو الّذي يظهر من الرّوايات، ولا ينافي استناد المرض ونحوه إلى الشّيطان استناده أيضاً إلى الأسباب العاديّة الطبيعيّة، لأنّ السّببين ليسا عرضيّين متدافعين، بل أحدهما في طول الآخر... ولا دليل يدلُّ على امتناع وقوع هذا النَّوع من التّأثير الشَّيطانيّ في الإنسان، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}[8]، فنسبها إليه، وقال حاكياً عن موسى(ع): {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}[9]، يشير إلى الاقتتال"[10].

ملاحظات على بعض التَّفاسير

ولنا ملاحظات على ذلك:

 أوّلاً: إنَّ دراستنا لدور الشّيطان في الأرض، تبيّن أنّه لا يخرج عن أجواء حركة الإنسان في ساحة اختياراته العمليّة المتّصلة بأوامر الله ونواهيه، لإضلاله من طريق الوسوسة الّتي تدعو الإنسان إلى الاستجابة له في حركة الانحراف عن الخطِّ المستقيم، وهذا ما عبَّر الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[11]. وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}[12].

وفي ضوء ذلك، لا نجد في الصّورة الَّتي يقدِّمها القرآن عن الشّيطان، أنّه يمثِّل أحد المؤثّرات الطّبيعيَّة في مرض الإنسان أو في تعبه ـ حتى على نحو السببيّة العرضيّة ـ لأنّه لا دور له في ذلك من قريبٍ أو من بعيد، لأنَّ المسألة المطروحة لا علاقة لها بمفهومي الإمكان والاستحالة ليكون الحديث عن الإمكان مطروحاً من ناحيةٍ فلسفيّةٍ، بل إنَّ المسألة تنسب إلى الفكرة القرآنيّة المستندة إلى قصَّة إبليس وآدم في بداية الخليقة للإنسان، لتثير موضوع الهدى الَّذي يريده الله للإنسان من مواقع اختياره، ومسألة خطّ الضَّلال الَّذي يحرّكه الشّيطان من خلال الوسوسة في إثارة عناصره في نفس الإنسان، بعيداً عن أيّ شيءٍ آخر. والظّاهر أنّ هذه القصّة التي كرّرها القرآن في سوره وآياته، تمثّل العنوان العامّ للفكرة، بحيث تكون التّفاصيل متفرّعةً عنه.

أمّا حديث التّأثير الشّيطاني في الأشياء من خلال آية المائدة، فلا يدلُّ على المقصود، لأنَّ الظّاهر إرادة الارتباط بهذه الأشياء في الجانب العمليّ، من خلال وسوسته للإنسان في الأخذ بهذه الطّريقة المضادَّة لمصلحته، في الإيحاء إلى الإنسان بما يحصل عليه منها من مكاسب، كأيّ عمل سلبيّ يوحي به الشّيطان، ولا دخل له في تكوين هذه الأشياء من النّاحية الوجودية، وهذا ما نفهمه من آية موسى(ع)، لأنَّ إقدامه على قتل القبطيّ ـ بالرّغم من شرعيّته ـ قد يكون ناشئاً من الحالة النفسيَّة في الدّفاع عن مواطنه، في وسوسةٍ خفيَّةٍ على أساس الوضع الاجتماعيّ الذي ينطلق في نصرة القريب ضدَّ البعيد، وهو ما نجح في إحداث حالٍ من الإثارة، ما أوقع موسى في المشكلة مع السّلطة الّتي قرّرت قتله، فأدَّى ذلك إلى هربه وخروجه من مصر إلى مدين.

ثانياً: إنّنا نؤكّد ما ذكره صاحب تفسير الكشّاف، من أنّه "لا يجوز أن يسلّط الله الشّيطان على أنبيائه ليقضي من تعذيبهم وطره"، ويعقّد حركتهم الرّساليّة والتزاماتهم العمليّة، لأنّ تسليطه عليهم لا يمثِّل أيّة غايةٍ واضحةٍ في واقع الرّسالة والرّسول ومسؤوليّة النّبيّ في خطّ مواجهة الأعداء، لأنَّ تجربته في الصَّبر وقوّة الموقف وصلابة الحركة، تتمثَّل في حركة التّبليغ، والإصرار على إرادة الوصول إلى الهدف، في تحمّله التَّعب في خطِّ الرِّسالة، وعذابه في مواجهة تحدّيات الأعداء، من دون حاجةٍ إلى إنزال المرض بجسده الَّذي يمثِّل سلبيّةً معنويّةً في خضوع الرّسول الّذي أراد له الأخذ بأسباب القوّة، للتعسّف الشّيطاني في عبثه بجسده، بالطّريقة التي لا يستطيع فيها الدّفاع عن نفسه، بينما كان التّسليط في حال الوسوسة متحرّكاً في الأجواء الَّتي تتيح للإنسان أن يواجه فيها إبليس بالإرادة القويّة ليصدَّه عن التأثير فيه.

وإذا كان صاحب الميزان يثير مسألة المصلحة في ذلك، كظهور صبره في الله سبحانه وأوبته إليه، فإنَّ ذلك لا يصلح توجيهاً للمسألة، لأنَّ من الممكن أن يتمَّ ذلك بطريقة المؤثّرات الطّبيعيَّة والأسباب العاديَّة، مما يعانيه الرَّسول من تحدِّيات القوى المضادَّة والأذى الذي يصيبه منهم، فلا يسقط أمامهم بالرّغم من الآلام التي يتعرَّض لها. فإذا وعى إبليس ذلك، فإنَّه لا يقوم به، باعتبار أنّه يترك تأثيرات إيجابيَّة في ارتباط أيّوب بالله من دون أن ينجح في وسائله الخبيثة.

إنَّنا نفهم من الجوِّ القرآنيّ، أنَّ الله يريد أن يعزِّز الرّسل برعايته وألطافه، أمام إبليس الّذي أعدّهم لإسقاط أوضاعه التّضليليَّة، بحيث كانت هناك حربٌ مفتوحة بينه وبين رسل الله، فلا يتركهم تحت تأثيراته المعقّدة الشّيطانية.

ثالثاً: إنَّ كلمة الشّيطان قد استخدمت في بعض الأحاديث المأثورة كنايةً عن الشّيء الخفيّ الّذي يترك تأثيره السّلبيّ في حياة الإنسان، كبعضِ الميكروبات المؤثّرة في المرض، باعتبار مشابهتها للشَّيطان الّذي يثير الأشياء السيِّئة في الإنسان بطريقةٍ خفيَّة تقتحمه فلا يشعر بها، مع كون المرض ونحوه شرّاً في نتائجه، كما هي نتائج وسوسة الشَّيطان، فيمكن للآية أن تكون واردةً في هذا السِّياق. وقد أشار الرّاغب الأصفهاني في مفرداته إلى ما يوحي بذلك، قال: وسمّي كلُّ خُلُقٍ دميمٍ للإنسان شيطاناً، فقال(ع): "الحسد شيطانٌ، والغضب شيطان"[13]. ونستوحي من ذلك، أنَّ إطلاق هذا الاسم "الشَّيطان" على الخلق الذّميم، باعتبار تأثيره السيِّئ في حياة الإنسان، فلا خصوصيَّة له في ذلك المورد، بل ينطبق على العناصر السلبيَّة في تأثيرها في جسد الإنسان كالمرض. ولعلَّ هذا هو الّذي قصده أيّوب في دعائه لله، والله العالم.

أمَّا ما ذكره الرّواة من القصص، فقد علّق عليه صاحب تفسير الكاشف، قال: "مضت مئات القرون والنَّاس تضرب الأمثال بمصائب أيّوب، وينسجون حولها الأساطير... وتدلُّ هذه الآية (من سورة ص)، والآية (83) من سورة الأنبياء، أنَّ أيّوب قد أصيب في نفسه وماله، وأنّه نسب ما حلَّ به إلى الشيطان، وهذا ما دعا جماعة من المفسّرين أن يؤلّفوا رواية "أيّوب والشيطان"... ومن قارن بين روايتهم وما جاء في سفر أيّوب من التّوراة، يجد أنّهم يفسّرون القرآن الكريم بالإسرائيليّات...

وتتلخَّص رواية العهد القديم والمفسّرين أيضاً، بأنَّ الله سلّط الشّيطان على أيّوب ليختبر إيمانه، فأتلف أمواله، وأهلك أسرته، ولمّا فشل، أصابه في جسده، ففشل أيضاً"[14].

 ونحن نوافقه على ذلك. ومن الطّريف ما ذكره القرطبي في تفسيره: "قال المفسّرون: إنّ أيّوب كان رومياً من البثنيّة ـ قرية بين دمشق وأذرعات، وصحّح المحقّقون أنه من بني إسرائيل ـ اصطفاه الله بالنبوّة، وآتاه جملةً عظيمةً من الثَّروة في أنواع الأموال والأولاد، وكان شاكراً لأنعم الله، مواسياً لعباد الله، برّاً رحيماً، ولم يؤمن به إلا ثلاثة نفر. وكان لإبليس موقف من السّماء السّابعة في يوم من الأيّام، فوقف به إبليس على عادته، فقال الله له أو قيل له عنه: أقدرت من عبدي أيّوب على شيء؟ فأجاب بأنّه قادر عليه إذا ابتلاه بالبلاء والفقر... وتستمرّ الرّواية في عبث إبليس بماله وأهله وجسده، ولكنَّه لم ينجح فيما أراد"[15]. وهذا ما أشار إليه تفسير الكاشف أيضاً.

ونلاحظ على الرّواية ما لاحظه المحقّق لتفسير القرطبي في الهامش حول موقف إبليس من السّماء السّابعة، وحديثه مع الله بشكلٍ طبيعيّ، قال: هذا باطل، فإنَّ الشيطان أهبط من السَّماء بسخطٍ من الله ولعنةٍ إلى الأرض، فأنّى يعود إليها؟! وهذا ما ذكره ابن العربي مؤكِّداً بطلانه، ومبيِّناً أنَّ هذا لخطبٌ في الجهالة عظيم. أمَّا قولهم: إنَّ الله تعالى قال له: هل قدرت من عبدي أيّوب على شيء، فباطل قطعاً، لأنّ الله عزَّ وجلَّ لا يكلّم الكفّار الّذين هم من جند إبليس الملعون، فكيف يكلِّم من تولّى إضلالهم. وأمَّا قولهم: إنَّ الله قال: قد سلّطتك على ماله وولده، فذلك ممكن في القدرة، ولكنَّه بعيد في هذه القصَّة.

التَّفريج عن أيّوب

هكذا فرَّج الله عن أيّوب، وصرف عنه البلاء، وأوحى إليه بالوسيلة الإعجازيّة في ذلك، فقال سبحانه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}، فقد انتهى عهد البلاء الّذي كنت فيه مصلوباً على فراشك، مشدوداً إلى البلاء، واقفاً تحت تأثير الآلام والأوجاع التي تمنعك من التنظيف والاغتسال، وستتحقّق عافيتك عندما تضرب الأرض بقدمك، ما سيفجِّر عيناً باردةً صافيةً: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[16]، تغتسل منه وتشرب، لتشعر بكرامة الله ورعايته ورزقه الذي يغدقه عليك من حيث لا تحتسب، كدلالةٍ على محبّته ولطفه ورحمته وعنايته بك.

{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ}، فعادوا إليه بعد أن ماتوا ـ بحسب بعض الروايات ـ عندما أحياهم الله له، أو ردّهم إليه بعد أن كانوا قد تركوه وابتعدوا عنه لظروف مرضه ورائحته النّتنة التي لم يطيقوها في الحياة معه والجلوس عنده، {وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ}، فيما رزقه الله من أبناء، {رَحْمَةً مِّنَّا}، بما أفاض الله عليه من فيوضات نعمه، كمظهرٍ حيٍّ من مظاهر رحمته، {وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ}[17]،  ليتأمَّلوا في ذلك كلّه بعقولهم، ليعرفوا مواقع بلاء الله في حياة عباده المؤمنين ومواضع رحمته يفرّج بها عنهم، وليدركوا حكمة الله في ذلك، فلا ينظروا إلى الأمور من جانب السَّطح الظاهر منها، بل يدرسوها من خلال عمق الأسرار فيها.

وكان أيّوب قد حلف أن يضرب امرأته لأمرٍ أنكره منها، مما يضيق به الصَّدر أو تثور به الأعصاب، ممّا لا ينافي أخلاقه الّتي تتميَّز بالقيمة الروحيَّة، وكان الحلف أن يضربها مائة جلدة، وكان هذا الأمر شديداً عليه كما يبدو، لأنها خدمته خدمةً عظيمةً، وصبرت على مرضه ورعته رعايةً جيّدةً، فخفَّف الله عنه وقع ذلك، وقدَّم إليه حلاً لا يتراجع فيه عن يمينه، ولا يضغط عليها، فقال سبحانه له: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً}، وهو الحزمة الصَّغيرة من الحشيش أو الرّيحان أو غير ذلك، وعن ابن عباس: قبضةً من الشَّجر أي من عيدانها، وذلك بأن يأخذ مجموعةً من العيدان بعدد المائة، {فَاضْرِب بِّهِ} دفعةً واحدةً، {وَلَا تَحْنَثْ}، لتجزي عن يمينك من دون إيذاء لها، تيسيراً لك وإنعاماً عليك.

عبرة للمؤمنين

ثم يلتفت الأسلوب القرآنيّ إلى المؤمنين وإلى النبيّ(ص)، الّذي أراد الله له أن يذكّر بحياة هذا النبيّ العبد الصَّابر الصّالح، ليكون في ذلك عبرةً للعاملين الدّعاة المجاهدين في سبيله، وهذا ما يبتلي به الله عباده المؤمنين في خطِّ حكمته ورحمته، بما يتمثَّل به صبرهم من قوَّة الإيمان وصلابة الموقف: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} على البلاء، {نِعْمَ الْعَبْدُ} في إحساسه العميق بعبوديته لله، وإسلامه له، وانفتاحه على آفاق عظمته ورحمته، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}[18]، فقد رجع إلى ربّه في ابتهالٍ خاشعٍ ودعاءٍ خاضع، فلم يشكُ أمره إلى غيره، بل كانت شكواه إلى الله ورغبته في أن يصرف عنه ذلك البلاء، فاستجاب الله له ذلك. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنبياء: 83].

[2]  [الأنبياء: 84].

[3]  [ص: 41].

[4]  الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، الزمخشري، ج 3، شرح ص 377.

[5]  المصدر نفسه، ج 3، ص 377.

[6]  [الكهف: 63].

[7]  تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 17، ص 210.

[8]  [المائدة: 90].

[9]  [القصص: 15].

[10]  تفسير الميزان، ج 17، ص 209.

[11]  [الأعراف: 206].

[12]   [إبراهيم: 22].

[13]  مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 261.

[14]  [تفسير الكاشف، ج6، ص: 387].

[15]  تفسير القرطبي، القرطبي، ج 15، ص 2018.

[16]  [ص: 42].

[17]  [ص: 43].

[18]  [ص: 44].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية