لقد بدأت النِّهاية السَّعيدة لرحلة الحزن الطّويلة التي عاشها يعقوب على فراق ولده يوسف. ورغم طول الغياب، كان يمتلك إحساساً عميقاً يتحرَّك من موقع الإيمان بالله والثّقة برحمته، وإلهاماً روحيّاً يتحسَّس فيه الأمل الكبير بعودة يوسف إليه. أمَّا الآن، فإنَّ انطلاقة الضّوء قد عادت إلى عينيه، والتماعة البشرى قد أشرقت في روحه؛ فها هو البشير يحدِّثه عن يوسف العزيز الّذي رفع الله مكانته، فجعله حاكماً عامّاً يدير شؤون الدَّولة الاقتصاديّة، في بلدٍ واسع كبير، وهو مصر، يقصده النَّاس ليحصلوا على حاجاتهم الغذائيَّة، وها هو يدعوه إليه ليحدِّثه عن رحلة العذاب الطَّويلة، وعمَّا أنعم الله عليه من الإرادة القويّة المنفتحة على الرّسالة، وعن الموقف الصَّلب الرّافض أمام حالات الإغراء، وعن حركة الدَّعوة الرّساليّة في أجواء السِّجن وظلماته، وسعة المعرفة الّتي أفاضها الله عليه في تأويل الأحلام وتحليل الأمور التي دفعت به إلى الموقع الكبير، من خلال الوعي لخفايا الواقع وغوامضه الّتي تجعل النَّاس في حيرةٍ وقلقٍ، وتدفعهم إلى طلب التَّفسير الّذي يوضح ذلك كلّه.
تحقّق الرّؤيا
وهكذا سارت قافلة يعقوب وأولاده قاصدين مصر، ليلتقوا بالحلم الَّذي تحوّل إلى حقيقة كان يخيّل إلى أولاد يعقوب أنّها أصبحت في غيابة الغيب، بعد أن كانت بداياتها بالنّسبة إلى يوسف في غيابة الجبّ وظلمته.
والتقى يوسف أبويه، وكانت القبلات، وكان العناق، كما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}، وضمّهما إليه، وضمّاه إليهما، ليمسح دموعهما، ويخفّف حزنهما، ويبدّل الحزن إلى فرح، وليفتح أمامهما أفقاً جديداً ومستقبلاً سعيداً، {وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ}[1]، فهذا البلد الغنيّ بالثَّروة الكبرى الَّتي منحه الله إيّاها، سوف يكون بلد الأمن والطّمأنينة والغنى والانفتاح على الخير كلّه، ولا سيَّما أنَّ زعيمه الّذي يسيطر عليه وينظّم أوضاعه ويدير اقتصاده، هو ولدهما العزيز يوسف الّذي دعاهما مع كلِّ أسرته إلى الإقامة فيه والمكث فيه طويلاً، دون أن يعكِّر صفوهما أحد؛ فلهما ـ مع كلِّ إخوته ـ مطلق الحرّية في أن يتحرّكوا ـ كما يشاؤون ـ دون خوفٍ أو وجل. وقد جاء في مجمع البيان أنّهم كانوا يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلا بجوازهم[2].
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}، وهو السَّرير الّذي يمثّل موقع المسؤوليّة الَّتي كان يشغلها في البلاد، إيحاءً بأنّهما هما اللّذان يملكان الأمر والنَّهي فيها بدلاً منه، {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً}، وكان السّجود أمراً متعارفاً لديهم، تماماً كما يمثِّل الانحناء لوناً من ألوان التحيَّة لدى بعض الشّعوب، كما كان سجود الملائكة لآدم تحيّةً لخلق الله له، باعتباره تجسيداً لعظمة الله في سرّ العبوديّة الخالقيّة له، بأن يقصد ـ من خلاله ـ التَّعبير عن الخضوع المطلق. ولا يُمكن اعتبار سجود أبويه له سجود عبادة ليكون ذلك منافياً لتوحيد الله، باعتبار أنَّ السّجود لا يكون إلا لله وحده؛ لأنَّ السّجود العباديّ هو ما يعيش فيه الإنسان معنى الخضوع المطلق، وهو المعنى العباديّ الّذي لا يكون لغير الله.
وهذا ما لا بدَّ للنَّاس من أن يؤكِّدوه، في إخلاصهم لله وعبادتهم له وتوحيدهم لربوبيَّته، فلا يخطئوا بالسّجود لبشرٍ مثلهم تعظيماً له كما هو التَّعظيم لله.
{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً}، في الحلم الّذي حلمته بسجود الشّمس والقمر لي، ممّا قد قصصته عليك من قبل؛ فأنت الشَّمس وأمّي القمر، وقد تجسَّد ذلك في الواقع الّذي نعيشه الآن، {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ} إلى هذه الأرض الخصبة الغنيَّة بثمارها، وجعلكم في الموقع الأعلى الّذي يهيِّئ لكم أفضل العيش وأكرم المواقع، وفتح قلوبنا على الصّفاء والمحبّة والإخلاص بعد المحنة السّوداء التي مرّت بنا في جوّ الحسد الباغي والعداء الّذي يتعارض مع روح الأخوَّة الصّافية، {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}، وهذه غاية اللّياقة والسموّ والتَّهذيب في تبرئة إخوته من الإساءة، وذلك بنسبة الفتنة إلى الشَّيطان، ليفسح لهم في المجال للاعتذار، {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}، فمن لطفه هذا اللّقاء الطيِّب، وهذا الصّفاء الروحيّ الفيّاض،{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[3]، الَّذي يعلم ما يحتاجه عباده ويُصلح أمورهم، فيدبّرها بمقتضى حكمته.
شكر الله
وهكذا، انفصل يوسف عن الجوّ الّذي يحيط به، واستغرقت روحه في مناجاة الله، لتنسى كلّ النّاس، وتغيب عن أجوائهم، لتعيش الحضور مع الله في كلِّ شيء، ففيما هو يخاطب أباه، إذا به ينسى ذلك ليخاطب الله سبحانه، لأنَّ الله لم يغب عنه في كلّ الحالات وأوضاع البلاء المتنوّع الّذي أصابه، باعتبار أنَّ إيمانه في توحيده لله، وذوبانه في محبَّته، وانفتاحه على عظمته، وتوكّله عليه، وحضوره في عقله وقلبه وشعوره، هو الّذي جعله ربّانيّاً في الانفتاح على الحياة، حتّى كأنّه لا يشعر بوجود أيِّ وجودٍ غير وجود الله، ليستعرض نعم الله عليه في كلِّ نعمةٍ تتَّصل بكلِّ موقعٍ من مواقع حركة اللّطف، في ما أفاض به عليه، بحيث يرى أنَّ كلَّ وجوده في طفولته وشبابه، وفي كلِّ ما مرّ عليه، هو نعمةٌ من الله، فلا خير إلا منه، ولا رعاية إلا رعايته، ما يجعل الله يدخل في كلّ مفاصل ذاته.
وهكذا يبدأ التذكّر الواعي الشَّاكر لكلّ تاريخ حياته، كما جاء في قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}، بما مكّنتني ومنحتني من الوسائل الكثيرة التي قفزت بي إلى مواقع الحكم والسّيطرة على مقاليد حياة النّاس، وكنت مجرّد شخصٍ عاديّ مهمَل، لا أملك أيّ موقع في المجتمع الّذي نشأت فيه، وفقيراً لا أملك من الإمكانات شيئاً، {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}، ممّا استطعت به أن أفتح مواقع الخير في الإنسان، وأدفع به إلى البحث عن الحقيقة في كلّ جوانب ذاته وحركة كيانه، {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، وخالقهما على أساس القدرة والحكمة، فكلّ شيءٍ فيهما مخلوقٌ لك، وكلّ مخلوقٍ فيهما عبدٌ لك، وكلّ حركةٍ في داخلهما وخارجهما خاضعةٌ لقدرتك، فمن هو الّذي يملك معك شيئاً؟! فأنت الملاك لكلِّ شيء، ومنك تستمدّ الأشياء وجودها وتفاصيل أوضاعها، لا من غيرك، {أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ}، بما تملكه من ولاية الخلق والقدرة والنّعمة واللّطف والرَّحمة، فمنك أستمدّ سعادتي وهنائي، بما تتفضَّل به عليَّ من إدخالي الجنّة الّتي وعدت بها عبادك المتَّقين، ولم تبخل بها وبغفرانك على عبادك الخاطئين التّائبين الّذين يتضرّعون إليك بقلوبٍ نادمةٍ على ما فرّط منهم في جنبك.
وهذا ما أطلبه منك في إنسانيَّتي، وأعيشه بين يديك بما أستقبل به حياتي ومماتي، {تَوَفَّنِي مُسْلِماً}[4]، على الطّريقة التي أوصى بها جدّي إبراهيم(ع)، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[5]. فاجعل ختام حياتي إسلاماً لك بالرّوح والقلب والحركة واللّسان، كما كانت بداية حياتي كذلك، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[6]،الّذين آمنوا بك من موقع الصّدق في الإيمان، وأصلحوا أعمالهم من موقع الإخلاص في العمل، وساروا على نهجك في الحياة في ما يعملون به وما يطرحونه من قضايا وأوضاع ومشاريع.
الأنبياء وعلم الغيب
{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}، فلم يكن ـ يا محمّد ـ لك علمٌ به من خلال قراءةٍ أو سماعٍ أو مشاهدةٍ قبل ذلك، بل هو ممّا أوحينا به إليك من الغيب الذي تكفّل الله بعلمه وأنزله بوحيه، وذلك دليل صدقك في نبوّتك، {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} على إلقاء يوسف في الجبّ، وتلبيسهم الأمر على أبيهم، وزعمهم أنَّ الذِّئب قد أكله، ثمّ بيع القافلة التي اكتشفت وجوده في البئر له، وغير ذلك من الأمور الّتي لم يكن النبيّ حاضراً فيها، ولا سمعه من أحدٍ في ما خطّطوا له، {وَهُمْ يَمْكُرُونَ}[7]، وهذا ما أراد الله أن يثيره أمام القوم هناك، كسبيلٍ من سُبُل التحدّي لما يعرفونه ولما لا يعرفونه، ما يؤكِّد لهم أنَّ ذلك كلّه من وحي الله.
وهذه الآية تدلّ على أنَّ الله لم يمنح نبيّه علم الغيب، بل كان يوحي به إليه بين وقتٍ وآخر، وأنَّ دور النبيّ أن يتلقّى الوحي من ربّه وأن يتعلّمه منه، من دون أن يعطيه ملكة العلم بالغيب، فيما يعتقده البعض من أنَّ علم الغيب كامنٌ في كيانه، ومفتوحٌ على مفاتح الغيب عنده، لأنَّ دوره هو دور الإنذار والتّبشير والإبلاغ للنّاس بما يوحي به الله إليه، وما يقصّه عليه. ولذلك، لم يكن حديثه حديثاً ذاتيّاً من عمق السرّ الّذي أودعه الله في شخصيّته. وفي ضوء ذلك، تبطل الفكرة الّتي تتحدَّث عن علم الغيب الّذي يمثّل اختياراً له، بحيث إذا أراد أن يعلم علم، لأنّه لا يملك أيّ سرٍّ من أسرار الغيب. والحمد لله ربّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[2] تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 5، ص 457.