كانت الرّحلة الثّالثة لإخوة يوسف في سعيهم لطلب مساعدته في التّموين، نظراً إلى حاجتهم الشَّديدة إلى الطّعام، وربّما كان الثّمن الّذي قدَّموه في مقابل ما يطلبونه زهيداً، كما جاء في قوله تعالى: {
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ}، لأنّنا نواجه ضيقاً شديداً في أوضاعنا الغذائيَّة، بالنّظر إلى الظّروف الصّعبة الّتي تواجهها منطقتنا، {
وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ}، أي رديئة أو قليلة لا تتناسب مع ما نريده منك من حيث الكمّية أو النَّوعيّة، لأنَّ الأوضاع الماليّة المحيطة بنا مما نملكه لا تسمح بذلك، {
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ}، ولا تنقص منه شيئاً، ولا تقابل حجم ما نقدِّمه بما نطلب من الطّعام، لاختلال التّوازن بينهما، {
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا}، واعتبر ما تمنحه لنا بمثابة الصَّدقة على الفقراء، ولا تطلب منّا المساواة في البدل، من موقع إحسانك الَّذي يفيض على من حوله من ذوي الحاجات، {
إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}
[1]، الّذين يبذلون أموالهم في سبيل الخير بلا مقابل، حبّاً بالله وتقرّباً إليه.
وانتظروا أن يتجاوب مع طلباتهم بعض الشّيء، وأن يتحدَّث معهم في التّفاصيل، وربّما كان يدور في ذهنهم أنّه سيعترض على ذلك، كأيّ تاجرٍ مالكٍ للمال قاصدٍ للرّبح، أو أنّه سيفرض عليهم بعض الشّروط، كما حدث في الشّرط الَّذي فرضه في صحبة أخيهم غير الشّقيق. ولكنّه فاجأهم بما لم يفكّروا فيه، وبما كان بمثابة الصَّدمة لهم، إذ لم يتصوّروا أن يتحدَّث إليهم عن يوسف وأخيه، وأن يحاكمهم على ما فعلوه معهما في الماضي، في استعادةٍ للتَّاريخ المأساويّ الّذي يتحمَّلون مسؤوليَّته ويشعرون بعقدة الذّنب تجاهه. {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}؟ وهل حاسبتم أنفسكم على المشاكل الّتي أوقعتموهما فيها؟ وهل عرفتم النّتائج السلبيّة لما فعلتموه بهما ممّا قد يدخل في حساب الجريمة، ولا سيَّما ما صنعتموه بأخيكم يوسف، وما هي الآلام والأزمات النّفسيّة والواقعيّة الَّتي أحدثتموها في حياتهما؟ إنّكم لم تحاولوا استعادة ذلك، لأنّكم لا تشعرون بتأنيب الضَّمير، فإنّ عقدتكم المرضيّة تجاههما تبرّر لكم كلّ ما فعلتموه، ولا سيَّما في هذا الزّمن الطّويل الّذي تحرّكت فيه الأحداث المؤلمة الَّتي حفرت في حياة كلّ منهما الكثير من السلبيّات، {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}[2]، لا تعرفون نتائج أعمالكم، كما لا يعرف الجاهلون نتائج أعمالهم.
صدمة الإخوة بالعزيز
وكان حديثه بمثابة الصَّدمة العنيفة التي أعادتهم إلى الماضي، فتذكّروا ملامح يوسف، بتدقيقٍ عميقٍ في ملامح وجه العزيز، ومن خلال نبرات صوته، وشعروا بروح الإيمان الّتي حدّثهم عنها أبوهم يعقوب، وما تمثّله من انتظار الفرج والانفتاح على الأمل في روح الله، تواجههم الآن في هذه اللّحظات السّريعة، فعرفوا في هذا العزيز أخاهم يوسف، بما يشبه الوحي أو اللّمعة الفكريّة الرّوحيّة الَّتي تشرق في داخل الذّات، فتضيء جوانب الحاضر من خلال ذكريات الماضي، {قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ}، هل هذا وَهم أم خيال، أم هي الحقيقة الَّتي تتحدّانا وتواجهنا بوضوح؟ {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا} بلطفه وكرمه، وأكرمنا من حيث أردتم إهانتنا، وأعزّنا من حيث أردتم إذلالنا، وفتح لنا باب الحياة بأوسع مجالاتها، فأين نحن الآن وأين أنتم؟ أليس في ذلك عبرة لكم ودرس كبير؟!
إنّ القوّة لا تصنع ـ وحدها ـ المستقبل، وإنّ العدوان لا يحقّق نجاحاً، بل الله الَّذي يتّقيه المؤمن ويصبر امتثالاً لأمره، هو الّذي يصنع للإنسان مستقبله كما صنع له ماضيه وحاضره، وهو الّذي يحقِّق له النَّجاح في حياته، {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ}، بما توحيه التّقوى من إحسان العمل لله، ويؤكّده الصَّبر من إحسانٍ للذَّات وللحياة، {فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[3]، الّذين أحسنوا النيّة والعمل في كلّ خطوات الفكر والحياة، وخضعوا للمنطق الإيمانيّ في حديث يوسف الّذي كان يتحدّث، ليس فقط من موقع الإيمان، بل من موقع القوّة الَّتي يلمسها إخوته في سيطرته الواسعة على موارد الثّروة الواسعة في هذا البلد، ولهذا كان تأثيره فيهم كبيراً، وكانت فرحتهم به كندمهم على ما بدر منهم تجاهه، {قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}[4]، فاختارك وفضّلك في العلم والحلم، والكمال في العقل، والجمال في الجسد، وها أنت في الموقع الرفيع ونحن في الموقع الوضيع، فاغفر لنا ما بدر منّا تجاهك وتجاه أخيك، فأنت الكريم ابن الكريم، {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ}، ولا عقوبة ولا تعنيف، بل المسامحة والعفو والاستغفار والابتهال إلى الله أن يعفو عنكم، وسيستجيب الله منّي ذلك، {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ} ذنوبكم ممّا ارتكبتموه من إساءة وعدوان، {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[5]، فلا أريد منه أن يعاقبكم لحسابي، بعد أن عفوت عنكم وطلبت منه العفو والغفران جميعاً.
وهكذا عادت الحياة إلى مجاريها، وانتهت كلّ المشاكل الّتي حكمت تاريخ العلاقات بينهم، وبقيت مشكلة يعقوب الأب، الّذي عانى الكثير من غياب ولديه عنه.
تخطيط يوسف(ع) لاستقدام أبيه
وبدأ يوسف الخطّة الغيبيّة الجديدة، في استقدام أبويه وجمع شمل الأسرة. وهذا ما حدّثنا الله عنه في ما وجّهه إليهم من مطالب، {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} بعد أن يشمّه، وذلك بقدرة الله الَّتي بها يحيي العظام وهي رميم، فلا يعجزها أن تعيد البصر إلى النبيّ الّذي أطاع الله في نفسه وفي النّاس. إنّها المعجزة الخارقة الَّتي قد تكون كبيرةً بالنّسبة إلى النّاس، ولكنَّها لا تمثّل شيئاً أمام قدرة الله المطلقة الَّتي لا يقف عندها أيّ حدّ، {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}[6]، ليجتمع الشّمل، وتنتهي كلّ الآلام وكلّ التّعقيدات الأسريّة بين الإخوة، ويعود الفرح الرّوحي إلى القلوب الَّتي عاشت في أجواء الحزن والأسى زمناً طويلاً.
وتحرّكت القافلة من المكان الَّذي سارت فيه، وسارت في اتّجاه أرض كنعان حيث يسكن يعقوب، وجاء في قوله تعالى: {قَالَ أَبُوهُمْ} لمن حوله من أولاده الَّذين أحاطوا به وبقوا عنده، أو للنّاس الَّذين اجتمعوا في بيته: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}، وأحسّ بها كما لو كان إلى جانبي، أشمّه ويشمّني، وأضمّه ويضمّني، {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}[7]، أي لولا أن تسفّهوا رأيي وتنسبوني إلى الخرف وضعف الرّأي. وربّما كان المراد من إحساسه بريح يوسف ظاهرها، وهي الرّائحة الَّتي تنبعث من الثّوب بشكل خاصّ، فتكون القضيّة ورادةً على وجه الإعجاز، لأنّ المسافة بين المكانين هي مسيرة ثمانية أيّام أو عشرة.
وربّما يكون الأمر على سبيل الكناية بما كان يفكّر فيه من قرب لقائه به، في حالة من حالات الصّفاء الفكريّ والرّوحيّ، تؤهّله لأن يحسّ بالشّيء كما لو كان معه ينظر إليه ويشمّ رائحته. وقد يكون هذا الاحتمال أقرب إلى جوِّ الآية الثّانية، لأنَّ الأمر لو كان على حسب الظّاهر، لكان مثار استغرابٍ بطبيعته أكثر ممّا يكون مستغرباً بمدلوله؛ والله العالم.
{قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ}[8]، الّذي لا زلت مصرّاً عليه في اعتقادك بحياة يوسف وقرب لقائك به، من دون أن تلتفت إلى خطأ هذا التّصوّر، لأنّه لو كان حيّاً، لجاء منه في خلال هذه المدّة الطّويلة أيّ خبر، فمن غير الطّبيعي أن تنقطع أخباره وهو على قيد الحياة. وسكت على مضض، وسكتوا على انفعال.
رجوع البصر إلى يعقوب(ع)
وجاءت القافلة بالمفاجأة الصّارخة، ووصل البشير يحمل قميص يوسف، {فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً}، وعادت إليه نعمة البصر وفرح الحياة، ممّا أراد الله أن ينعم به على يعقوب من فرحة الشّعور بحياة يوسف من جهة، ورؤيته إيّاه بردّ بصره على وجه الإعجاز، من جهةٍ أخرى.
{قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[9]، فيما آمله من رحمة الله، وما أستشعره من لطفه ورضوانه، بما يجعلني لا أفقد الأمل بأيّ شيءٍ من أمور الحياة، في ما يختزنه عالم غيبه، فلا أجد مجالاً لليأس حتّى لو أحاطت بي المشاكل من كلّ جهة، وفي أكثر من صعيد. {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}[10]، فقد عشنا حياة الحسد والحقد والضّغينة ضدّ أخوينا، حتّى آذيناهما غاية الإيذاء، وعرّضنا حياة أخينا يوسف للخطر، وبعناه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة، وحمّلناك من الهموم ما أثقل حياتك وأفقدك بصرك، فلم تستمتع بحنانك وعطفك عليه، ونحن لم نفسح لك في المجال للراحة. ولكنّ الله أراد غير ما أردنا، ودبّر غير ما دبّرنا، فرفع أخانا ووضعنا، فكنّا في موضع الخطيئة التي ترهق أرواحنا وضمائرنا، وتشوّه شعورنا بصفاء الحياة وطهارتها من حولنا، فاستغفر لنا ذنوبنا، لأنّنا لا نملك الكلمة الطّاهرة الصّافية التي نتوجَّه بها إلى الله، ولا نملك الرّوح الصَّافية التي ينفتح فيها الإيمان من موقع النبوَّة، وروح الطّهر من موقع الأبوّة الطّاهرة.
وكان أبوهم عند حسن ظنّهم، فاستجاب لهم، ووعدهم بالاستغفار، في الوقت الّذي يستجيب الله دعاء الدّاعين، واستغفار المستغفرين، {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[11]، الّذي يغفر خطايا المسيئين المنيبين، ويرحم المستغفرين من ذنوبهم. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [يوسف: 88].
[2] [يوسف: 89].
[3] [يوسف: 90].
[4] [يوسف: 91].
[5] [يوسف: 92].
[6] [يوسف: 93].
[7] [يوسف: 94].
[8] [يوسف: 95].
[9] [يوسف: 96].
[10] [يوسف: 97].
[11] [يوسف: 98].