التقى إخوة يوسف بيوسف بعد الصَّدمة العنيفة المفاجئة الّتي تمثَّلت باتّهام أخيهم بالسَّرقة، وذلك بهدف إقناعه بأن يأخذ أحدهم مكان أخيهم، لئلا يسيئوا إلى التزامهم بالميثاق الّذي قطعوه لأبيهم مرّة ثانيةً، بعد أن أخذ عليهم يعقوب في ذلك موثقاً.
أخوة يوسف يتوسّطون
واجتمعوا لدى يوسف يتوسّلون إليه ليقبل منهم هذا الطّلب: {قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ}[1]، ولا بأس بأن تتجاوز حرفيّة القانون، لأنَّ الأمر بيدك، باعتبار أنَّك الّذي تملك القرار كلّه، فلن يحاسبك أحد إذا تجاوزته، ونحن نطلب منك الاستجابة لنا في هذا الالتماس العاطفيّ، نظراً إلى الظّروف الصَّعبة التي تحيط بنا وبأبينا وبهذا الأخ، بالرّغم من جنايته الّتي لا نوافقه عليها، لأنّها تمثِّل إنكار الجميل الّذي قدَّمته إلينا جميعاً، فربّما كان لذلك تأثير سلبيّ في أبيه الشيخ الكبير الّذي يرتبط به ارتباطاً عاطفيّاً قويّاً، فوق مستوى العادة، بحيث قد يسبّب احتجازه عندك بالنِّسبة إليه صدمةً عنيفةً قد تودي بحياته.
فإذا كانت المسألة تمثِّل عندك حالة ثأرٍ واقتصاص، فمن الممكن أن يتحمَّل أحدنا المسؤوليَّة عنه، لأنّنا نمثِّل مجموعةً واحدةً متضامنةً، فإذا أساء أحدنا فكأنَّ الآخرين أساؤوا أيضاً، لأنَّ الجريمة قد اتَّصلت بصواع الملك، الّذي لا بدَّ من إنزال العقوبة بالسَّارق له.. فلك ـ على هذا الأساس ـ أن تأخذ أيّ واحدٍ منّا مكانه، فلا تتحمَّل أيّة مسؤوليّة شرعيّة قانونيّة سلبيّة كنتيجةٍ لذلك، {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[2]، الّذين يتغلَّب لديهم جانب الرّحمة على جانب القسوة والانفعال، فيتحرّكون من مواقع الإحسان إلى من حولهم، بما يتمثّل في سلوكهم من الرّأفة واللّطف ومراعاة الظّروف المحيطة بكلِّ قضيّة بواقعيّة ومرونة وإخلاص.
تمسّك يوسف(ع) بالحكم
ولكنَّ يوسف(ع) كان يتمسَّك بحكم الشّريعة، فلم يرد أن يتجاوز نصَّ القانون، لأنّه لا يوافق على ذلك ولا يجد مبرّراً له. أمَّا العاطفة، فإنّها لا تمثِّل شيئاً أمام تطبيق الشّريعة والخضوع لها، لأنّها قد تعطِّل حال التّوازن في حركة تطبيق العدالة الّتي يريدها الله لعباده، لأنَّ ذلك قد يحوّل القضيَّة إلى فوضى قانونيّة تسيء إلى مصالح النّاس الّذين هم أمناء عليهم في الأمور الصَّغيرة والكبيرة. {قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ}[3]، لأنَّ هذا من الظّلم الذي لا يتَّفق مع أصول العدالة، فلا يمكن لنا اقترافه، باعتبارنا دولة القانون الّتي يخضع لها النَّاس الّذين يشعرون بأنّهم يعيشون في دولة يحكمها القانون العادل، {إِنَّـا إِذاً لَّظَالِمُونَ}، وهذا ما لا يمكن أن نتحمَّل مسؤوليَّته أمام الله.
وهكذا، حسم يوسف المسألة في تنفيذ خطَّته في ضمِّ أخيه إليه، من دون أن يتنازل عن أيّ موقعٍ من مواقعه، {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً}، في عمليَّة مناجاةٍ يتشاورون فيها؛ ماذا يفعلون أمام هذا المأزق؟ واجتمعوا مع بعضهم البعض يتداولون الرّأي حول ما يمكنهم القيام به لمواجهة حرج موقفهم من أبيهم وعهدهم إليه. {قَالَ كَبِيرُهُمْ} الّذي يملك الرّأي، وهو الّذي أنقذ حياة يوسف في منع أخوته من قتله، والاستعاضة عن ذلك بإلقائه في غيابة الجبّ: {أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللهِ}، فإذا كنتم لا ترون في هذا الميثاق الّذي أخذتموه على أنفسكم أمام الله ما يلزمكم بالبقاء لملاحقة قضيَّة أخينا والحفاظ عليه، فإنّي أرى نفسي ملزماً بمتابعتها ما أمكنني ذلك، ولن أعيد التَّجربة السَّابقة في التّفريط بأخي هذا، {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ}، إذ ألقيتموه في الجبّ، وتركتم مصيره للضّياع، فلا نعلم الآن عنه شيئاً، وربّما يتكرَّر الأمر مع أخيه، فيضيع في أجواء الاسترقاق، {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الذّهاب إليه، لأكون في حلٍّ من عهدي بعد أن أكون قد بذلت الجهد في سبيل تخليص أخي، {أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي}، بأن يفتح لي أبواب النَّجاح أو أبواب العذر، أو يخرجني من هذا المأزق الصَّعب، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[4]، بما يدبّره من أمر عباده.
رجوع الإخوة إلى أبيهم
وبقي كبيرهم هناك، التزاماً بعهده، وتخلّصاً من الموقف المحرج أمام أبيه، وطلب منهم أن يرجعوا إلى أبيهم ليخبروه بتفاصيل ما حدث بالطّريقة الحكيمة الحاسمة: {ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}، فقد شاهدنا القوم يخرجون صواع الملك من متاعه، {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}[5]، عندما أعطيناك الميثاق بشكلٍ مطلق، فلم نكن نعرف ـ في ظلّ الأجواء العاطفيّة التي قد تحجب الرّؤية الواضحة ـ أنَّ من الممكن لأخينا أن يسرق، لأنّنا لم نعهد منه ذلك، ولكنَّ الواقع فاجأنا بغير ما نتوقّع؛ وهذا ما جعلنا نواجه هذه الحقيقة معك، لنتحمَّل مسؤوليَّتنا أمام هذه الحادثة الفاجعة الّتي هي في مستوى الكارثة التي هزّتنا وحطّمتنا على المستوى النّفسيّ والاجتماعيّ جميعاً.
وربّما لا نجد لديك أيّ أساس للثّقة بنا، ونحن لسنا في صدد الدّخول معك في نقاشٍ حول ذلك، فهو أمرٌ لا يصل بنا إلى أيّة نتيجة، ولكنَّ المسألة لم تحدث في زاويةٍ من زوايا مصر، بل حدثت في السَّاحة العامَّة، حيث تجتمع القوافل للتَّموين والشّراء للانطلاق راجعةً إلى بلادها، وحيث يلتقي أهل البلد والقادمون إليها، ونحن ندعوك إلى سؤال النَّاس كلِّهم هناك، والقافلة الّتي كنَّا فيها من منطقتنا، فإذا كنت لا تثق بنا، فهل تفقد الثّقة بكلّ هؤلاء؟ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}، بجميع من يعيش فيها من الأفراد، {وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}، أي القافلة الّتي تضمّ الإبل، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[6]، في كلامنا عن أخينا وما حدث لنا بسببه من الخزي والعار. لقد علّمهم كبيرهم أن يقولوا ذلك لأبيهم، كي يحاصروا بذلك جوانب الرّفض عنده، فدخلوا على أبيهم وتحدَّثوا إليه بذلك كلّه.
وكان الخبر الّذي نقلوه بمثابة الصَّدمة الكبيرة له، ولكنَّه كان يعرف أخلاقيّة ولده، فقد ربّاه أحسن تربية، ورعاه أفضل رعاية، وخبر كلَّ ما يحمله من خلفيّات طيّبة، ولذلك فقد كانت حكاية سرقته لصواع الملك أمراً لا يُمكن أن يصدَّق في وجدانه، لأنّ السّرقة ليست خلقاً لديه، ولا تمثّل حاجةً عنده، فلماذا يسرق؟ وكيف ذلك؟
ردّ يعقوب(ع) على أولاده
لهذا كان ردّ فعله مختلفاً عمَّا كان أولاده يأملونه بعد تقديم كلّ البراهين له، {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً}، إنَّ هناك شيئاً خفيّاً مثيراً للتَّساؤل، ولا بدَّ من وجود خللٍ ما في بعض التَّفاصيل، فهو لا يثق بأولاده بعد ما صدر عنهم في قصَّة ولده يوسف، فهناك غموض في الجوّ، وعليه أن يتماسك أمام الفاجعة، فلا يواجهها بالانفعال السَّريع في حزن الأب على ولده، كما كانت حاله في قصَّة يوسف. لذلك، أعلن عن مشاعره وموقفه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، فللصَّبر نتائجه الطيِّبة على مستوى عواقب الأمور. وهكذا استطاع الصَّبر أن يفتح قلبه على آفاق الفرج الكبير في ساحات رحمة الله.
وها هي صورة يوسف تلمع في ذهنه، فلا يلمح فيها أيَّ شحوبٍ يقرّبها من أجواء الموت، بل يرى فيها إشراق ملامح الإنسان الّذي يتفجَّر الجمال في وجهه، والكمال في سلوكه، وها هي صورة أخيه تلتقي بصورته؛ فهل هي صدفة، أو أنَّ هناك وحياً ربّانيّاً يهمس في قلبه، أنَّ المشكلة تقترب من الحلّ، وأنَّ اللّقاء بها قريب، وأنّ شمل العائلة سيجتمع في الأجواء الحميمة التي تجفّف الآلام، وتصفّي القلوب. وهذا ما عاشه يعقوب في استشرافه للغيب في مثل لمعة الضَّوء الخاطفة، {عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً}، إنّه الإحساس العميق بالفرج القريب الّذي يستمدّه من وحي الله، {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[7]، الَّذي يعلم خفايا الأمور، ويدبّر خلقه برحمته، ويحتوي حياتهم بحكمته.
تذكّر يعقوب ليوسف(ع)
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ}، وأعرض بوجهه عنهم، وغرق في أمواج الذّكريات، وتحرّكت عاطفته، وربّما انسابت الدّموع من عينيه، وتذكّر يوسف، {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}، فقد كان قرّة العين وثمرة الفؤاد، بما كان يحمله من ألمعيّة الفكر وروحانيّة الروح وجمال النّفس والجسد، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ}، لما كان يذرفه من دموعٍ حارّةٍ حزينةٍ، حتى فقد بصره بفعل الحرقة التي ألهبت عينيه، فقد كان دمعه ينساب ليلاً ونهاراً في ذكريات حبّه لولده، كتعبيرٍ صادقٍ عن عمق الحزن، ولم يكن حزنه جزعاً، بل كان مسلّماً أمره لله، مفوّضاً حياته إليه، تماماً كما هي الحالات الجسديّة التي تترك تأثيرها في الجسد.
ولذلك كان هادئ النَّفس، منفتحاً على الأمر الكبير بالله الّذي يتعمَّق في عمق إحساسه الإنساني، كما هي علاقة الحبيب بمن يحبّه عندما يفارقه زمناً طويلاً. ولذلك، لم يسمع منه أحدٌ ممن حوله أيّة حالة من حالات الإثارة الصّوتية، كمثل الصّراخ الذي يمارسه الجازعون، بل كان يحبس حزنه في صدره، {فَهُوَ كَظِيمٌ}[8]، يكظم حزنه ويحبسه، ويعيشه وحده في حالات خلواته وهو بين يدي الله في أجواء الابتهال.
وفوجئ أولاده بحديثه عن يوسف، فقد أصبح شيئاً قديماً جدّاً استهلكه الزّمن وانتهى في أجواء الأسرة كحقيقةٍ واقعيّة، لقد أصبح ذكرى ميتة، فما بال أبيهم يعيده إلى الحياة من جديد ليُربك حياتهم، وليبعث فيهم عقدة الإحساس بالذَّنب؟! ولهذا واجهوه بعنفٍ في حال توسّل بأن يرحم نفسه أو يرحمهم، لما اختزنوه من تجديد الشّعور بالألم، {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}، أي لا تنفكّ تذكر يوسف الّذي ذهب في ذمَّة التّاريخ وانقطعت أخباره عنّا حتّى يئسنا جميعاً من عودته، ما يجعل الحديث عنه أمراً لا فائدة منه، كما أنّه لا جدوى من السَّعي في البحث عنه.
تحذير يعقوب من الهلاك
وهكذا أرادوا أن يقولوا له إنَّ الإلحاح في استثارة الحزن من خلال استثارة الذّكرى لن ينتهي، {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً}، أي مشرفاً على الهلاك، {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}[9]، الّذين تُسقطهم الصَّدمة النفسيّة في قبضة الموت.
ولكنّه جابههم بأنَّ الأمر لا يعنيهم، وهو لا يشكو إليهم أمره، لأنّهم لا يفهمون مشاعره وآلامه أوّلاً، ولا يستطيعون أن يقدِّموا إليه شيئاً ثانياً، بل إنّه يشكو أمره إلى من يسمع شكواه ويحلّ مشكلته، {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي}، وهو الهمّ الّذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه، {وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[10]، لأنَّ معرفتي بالله وما يفيضه على عباده من رحمته، وما يتَّسع له لطفه، يجعلني كثير الثّقة بمصير يوسف، لأنَّه إذا ابتعد عن رعايتي له، فإنَّ رعاية الله ولطفه يفوقان كلَّ ما أختزنه له في قلبي من حبٍّ ورحمة، وإذا كنت أحزن أو أعيش الهمَّ، فلأنَّ جانب الضَّعف في الإنسان يخلق لديه من خلال التّفكير في التّفاصيل مشاعر سلبيَّة تثير شجونه وتدمّر استقراره النّفسيّ.
وهكذا، بدأ الأمل يخضرّ في نفسه، وينمو مع روحانيَّة الحديث الّذي كان يعيشه في مناجاته لله، حتّى كاد يلامس مصير يوسف المشرق كما لو كان يراه، ولهذا طلب من أولاده أن يعودوا إلى مصر من جديد ليبحثوا عنه حيث تركوا أخاهم، لأنَّ في داخله إحساساً لا يعرف حقيقته، بأنَّ يوسف قد التقى بأخيه، وأنَّ من الممكن أن يجدوه حيث يوجد أخوه، {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ}، واطلبوه بكلِّ ما تستطيعون توسّله من أساليب تتحرّك فيها حواسّكم السّمعيّة والبصريّة، فلعلّكم تواجهون المفاجأة الّتي لا تخطر لكم على بال، {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ} وفرجه، لأنَّ المؤمن يبقى واثقاً بالله في كلّ أموره، مهما ضاقت عليه الأحوال، ومهما تعقَّدت من حوله الظّروف، {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[11]، لأنَّ اليأس من الفرج لا يخلو من أحد أمرين؛ إمَّا الشّكّ في قدرة الله، وإمَّا الشكّ في علمه الَّذي يمنع من حلِّ المشكلة، وكلاهما كفرٌ بالله. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [يوسف: 78].
[2] [يوسف: 78].
[3] [يوسف: 79].
[4] [يوسف: 80].
[5] [يوسف: 81].
[6] [يوسف: 82].
[7] [يوسف: 83].
[8] [يوسف: 84].
[9] [يوسف: 85].
[10] [يوسف: 86].
[11] [يوسف: 87].