بدأ يوسف رسالته في الدَّعوة إلى الله في ساحة السّجن، وذلك بتوعية هذين الشَّخصين اللّذين دخلا السِّجن معه، وكانا ممّن لا يلتزمون بتوحيد الله وطاعته وعبادته، فكانت البداية في حديثه، أنَّه أراد أن يبعث فيهما الثِّقة في قدرته على تفسير الأحلام، ولا سيَّما ما يتَّصل بحياتهما الخاصَّة، وأن يؤكِّد لهما أنَّه يملك المعرفة الواسعة في تفسيرها، ليزدادا ارتباطاً به، واحتراماً له، والتزاماً بما يسمعانه منه في تأويل الأحاديث، طمعاً في أن يؤثّر ذلك فيهما في الاهتداء بهداه، لأنَّ للثّقة بالدّاعية الدّور الكبير في اجتذاب الآخرين إليه، باعتبار أنَّ الثّقة به كشخصٍ، قد تمتدّ إلى الثّقة بحديثه ووعظه وإرشاده.
تأويل الأحلام
وهكذا، بدأ تأكيد ما يوحي إليهما بالثِّقة به، بعد أن قصّ كلٌّ منهما عليه حلمه، وطلبا منه أن يفسِّرهما لهما، اعتقاداً منهما بواقعيَّة الأسرار الكامنة في الحُلُمين الغريبين: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}[1].
ولم يكن ليوسف اهتمامٌ بتأكيد ذاته أمامهما للإجابة عمَّا سألاه عنه، ولا كان في صددِ الإيحاء بإمكاناته العلميَّة من خلال شخصيَّته المميَّزة، ولم يهدف إلى أن يقدِّم نفسه إليهما كمفسِّرٍ للأحلام، كما يفعل بعض النَّاس الّذين يجتذبون النَّاس إلى موقعهم الخاصّ، باعتبار أنّهم يشكِّلون حاجةً لهم في رفع الحيرة عنهم، وفي جلاء الغموض في أوضاعهم، ممّا تحمله الأحلام من أسرار غيبيَّة، إلى غير ذلك من الأساليب الّتي تقتحم حياتهم، بل كان يتوسَّل ـ بهذه الطّريقة ـ هدايتهما إلى الصّراط المستقيم، ككلّ داعيةٍ إلى الله يتحسَّس ضرورة استخدام كلّ طاقاته في سبيل الدَّعوة والهداية، وتحريك علاقته بالنَّاس في هذا الاتّجاه بالوسائل المعرفيَّة والتّأثيرات النّفسيّة.
وهذا ما أراد يوسف أن يثيره أمامهما ممّا وهبه الله من إمكاناتٍ علميّةٍ تمكِّنه من استيحاء الأحلام، ومعرفة ما تحمله من أسرار المستقبل وخفاياه، أو استلهام الإشراق الرّوحيّ الّذي أودعه الله في قلبه، واستكشاف آفاق المستقبل في حياة النَّاس.
وهكذا، استمع إليهما عندما سألاه عن تفسير ما رأياه من الحلم، فأخبرهما أوّلاً بما سيأتيهما من طعامٍ قبل إتيانهما به، لأنَّ الله ألهمه علم ذلك كلِّه، ولم تكن المسألة عنده امتيازاً ذاتيّاً في المعرفة، بل كانت تعليماً وإلهاماً ربّانياً ممّا يعلّم به عباده الّذين يعدّهم للقيام بإبلاغ رسالته للنَّاس، فيلهمهم علم ما لم يعلّمه للنّاس، أو ممّا يصلون إليه بجهودهم الخاصَّة في الأخذ بأسباب المعرفة، ليزيدهم سعةً في المعرفة، فيجعلهم ذلك في مواقع القيادة والتّوجيه، وذلك بعد أن يطَّلع على قلوبهم، فيجد فيهم صدق الإيمان به، والإخلاص له، وعمق المعرفة بأسرار الواقع، والبعد عن كلِّ ما يوحي بالوهم الّذي لا يصل بالإنسان إلى نتيجة.
الدّعوة إلى الله
ثم انتقل يوسف إلى ما أراد لهما أن يتمثَّلاه في عقليهما، وينفتحا عليه في وجدانهما المعرفيّ، وذلك بالحديث عن تجربته الإيمانيّة، والتزامه بمضمونها العقيديّ، ورفضه كلّ ما أخذ النّاس به من عبادة الأوثان، والاتّجاه بهم إلى خطِّ التّوحيد لله في العقيدة والعبادة والطّاعة، حتى استقام له الخطّ المستقيم الّذي يمتدّ في حركة الحقيقة المشرقة، وأصبح من الطّليعة الواعية الرّافضة لكلّ شركٍ بالله أو جحودٍ بألوهيّته.
وقد أراد أن يؤكِّد لهما الثّقة بمعرفته، من خلال العمق الّذي تتميّز به ثقافته في الإجابة عن الأسئلة الّتي تدور في وجدانهما، بما يجعلهما يستجيبان للهدى الَّذي يدعوهما إليه في الإيمان بالله وتوحيده، من خلال ما يعلّمه إيّاه الله، الَّذي يفيض على عباده المخلصين من أسرار الأشياء، ليكون ذلك إيحاءً بأنَّ الله هو الإله الّذي يملك العلم كلَّه، وهو الّذي يلهمه لخلقه بحسب الحكمة الّتي يراها في الأهداف الّتي يريد تحقيقها من خلال الأشخاص الّذين اصطفاهم لرسالته، ومنهم النّبيّ يوسف(ع)، الّذي أمدَّه الله بمعرفة بعض أسرار الغيب، الأمر الّذي يوحي إلى النَّاس بالثِّقة به لحلِّ أيّة مشكلةٍ نفسيّةٍ تحدث لهم في اليقظة أو في المنام، ما يدفعهم إلى الاهتداء بهديه، والانسجام مع دعوته الرّساليّة ومنهجه في الحياة، ولا سيَّما أنّه يتّصل ـ في ذلك كلّه ـ بالله من أقرب طريق، لأنَّ الله سبحانه قد يمنح الرّسل أسرار الرّسالة بطريقةٍ مختلفة، قد تتمثّل بالإلهام وبالوحي المباشر، أو بما يشاهدونه في أحلامهم في المنام.
وهذا هو ما خاطب به يوسف صاحبي السِّجن: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا}، مما يتمثَّل في أحلامكما، ويختزن بعض السّر في داخلها، {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}[2]، بما يعلّم به عباده الّذين يعدّهم لرسالته، فيلهمهم علم ما لم يعلّمه للنّاس، ويزيدهم معرفةً تجعلهم في مواقع القيادة والتّوجيه، وذلك عندما يطّلع على قلوبهم، فيجد فيها صدق الإيمان به، والإخلاص له، وعمق المعرفة به، وتأصيل توحيده، ورفض كلّ شريك له...
وهذا ما اطّلع الله عليه في عبادتي له، وطاعتي لأوامره ونواهيه، وانتمائي العقيديّ للالتزام بربوبيّته، وتحرّري من كلِّ الانتماءات الضالّة إلى النّاس الّذين تحجّرت عقولهم بعبادتهم للحجر، والّذين أنكروا الاعتقادَ بيوم القيامة. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ}، لأنَّهم جهلوا معنى الخلق والإبداع لله في إيجاده النّظام الكونيّ في قوانينه الحكيمة المبدعة، وغفلوا عن سرِّ وجودهم بخلقه لهم وللنَّاس كافّةً، فانفصلْتُ انفصالاً كلّيّاً عن كلّ أفكارهم المتحجِّرة المتخلِّفة، الّتي ارتبطَتْ بالخرافات، وابتعدَتْ عن المفاهيم المتّصلة بالكون والحياة في معنى امتداد الوحدانيّة الّتي تشرف على كلّ شيء، واستغرقوا في عبادة الحجارة كآلهةٍ مقدَّسة، مع أنّهم يرونها لا تبصر، ولا تسمع، ولا تفكّر، ولا تضرّ، ولا تنفع، ولا تملك الدّفاع عن نفسها أو عن غيرها إذا دمَّرها الآخرون وكسروها.
لقد رفضت ذلك بعقلي وإحساسي وشعوري، بحيث لم يستطع معناه أن ينفذ إلى ذاتي الّتي بقيت منفتحةً على الوعي الفكريّ الذي يرتبط بالحقيقة في مسألة الإيمان، لأنَّ قضيَّة الإيمان بالله وباليوم الآخر، ليست حالةً شعوريّةً طارئةً تطفو على سطح النَّفس في تأثّرها وانفعالها باتّباع الآخرين من الآباء والأجداد، وتقليدها لهم من دون تفكيرٍ دقيق، بل هي قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، لأنّها ترتكز على الأسس العقيديّة للتَّفكير العلميّ الدّقيق، كما أنّها تمتدُّ في تأسيس نظام الشَّريعة والأخلاق وحركة القيم الرّوحيَّة في الوجدان الإنسانيّ.
فهناك خطّان لحركة الإنسان في الحياة لا يلتقيان في أيِّ موقع، ولا يندمج أحدهما بالآخر؛ خطّ الإيمان بالله واليوم الآخر، وخطّ الإلحاد أو الشّرك به، فلكلِّ واحدٍ منهما منهجٌ للوعي والسّلوك والعاطفة. وهذا ما جعلني ـ أنا يوسف ـ أعيشُ الانفصال عن هذا المجتمع الّذي اختار الابتعاد عن خطِّ الإيمان، بما تفرضه المسؤوليَّة عليَّ من الالتزام بطاعة الله وحده، والانفتاح على موقف الحساب على الأعمال أمام الله في اليوم الآخر، لأنَّ هؤلاء القوم منحرفون عن الخطِّ المستقيم.
{وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[3]، بل إنّهم يتحرّكون من دون قاعدةٍ للمسؤوليَّة، ويعتبرون الدّنيا في المرحلة الّتي تحكم وجودهم، فرصةً للّهو والعبث، ووسيلةً لتحقيق الأطماع المادّيّة، ويقولون إنّهم يحيون ويموتون وما يهلكنا إلا الدَّهر، وهذا ما لا يمكن للمؤمن أن يلتقي به، لأنّه ينطلق من حال الكفر في تخلّف الفكر وسقوطه.
التزام عقيدة التّوحيد
وإنّي أنتمي إلى النّسب الممتدّ في خطِّ الرّسالة التي آمنْتُ بها ورُبّيْتُ عليها، والّتي اتّبعتها اتّباع الإنسان للحقيقة التّوحيديّة، فلست مجرَّد إنسانٍ عاديّ استُعْبد من قبل هؤلاء النّاس الّذين أدخلوني السِّجن لأنّي لم أستجب لرغباتهم المنحرفة وشهواتهم المحرَّمة، وذلك من خلال الظّروف القاسية الّتي أحاطت بي نتيجة المؤامرة الّتي خطَّط لها أخواني بسبب البغي والحسد، ولم أسقط أمامها، بل كنت حرّ الفكر، صلب الإرادة، قويَّ الموقف، من خلال الفطرة الصّافية التي أودعها الله في عمق ذاتي، والّتي أفاض عليّ منها الضّوء الّذي أضاء عقلي وشعوري وكلّ آفاقي الرّوحيّة.
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}، وهؤلاء هم الّذين حملوا رسالة التَّوحيد لله إيماناً ودعوةً ومنهج حياة، فيما يحمله فريق الإيمان في عقله وقلبه من رسالةٍ وإيمانٍ ودعوةٍ ورفضٍ للشِّرك. وهذا هو الخطُّ الّذي التزمنا السَّير عليه، تأكيداً للانفتاح على الخطِّ المستقيم، ولم نفكّر في السَّير في الخطِّ المنحرف وهو خطّ الشِّرك، لأنَّ الّذين يملكون العقل لا يمكن أن يختاروه، لأنّه لا عقل فيه، ولا معنى له، فلا يمكن أن يأخذ به أصحاب العقول الواسعة.
{مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ}، لأنَّ الّذي يكتشف روح التَّوحيد، لا يمكن أن يلتقي بالخرافة ويسقط في دائرة التخلّف، ولا سيَّما في مسألة العقيدة والطّاعة والعبادة. {ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ}، بما أعدَّه لهم من سُبُل الهداية والصّلاح، من خلال الوحي الّذي خصَّ به رسله ليبلّغوه للنّاس ليهتدوا به، ما يلزمهم بالشّكر له والشّعور بالجميل الّذي يطوّقهم به، باعتبار أنَّ ذلك من أفضل النّعم، لأنّه يتَّصل بقضيّة سعادة المصير ورضوان الله الّذي هو غاية الغايات لدى المؤمنين.
{وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}[4]، لأنّهم لا يلتفتون إلى النَّتائج الإيجابيّة الّتي يحصلون عليها، وقد تأخذهم الغفلة إلى الاستغراق في النِّعمة، فينسون انطلاقها من فضل الله، وقد يبتعدون عن وعي الحقيقة، فيسقطون في الباطل من دون حجّةٍ لهم في الأخذ به، ولا دليلٍ لهم عليه، وهذا ما ينبغي للمؤمن أن يجتنبه ويبتعد عنه، ليعرف أنَّ وجوده بكلِّ تفاصيله وكلّ نعمه الماديّة والمعنويّة، هو من فضل الله عليه، بما يستوجب الشّكر له على ذلك كلّه.
التّوعية الإيمانيّة
ويتابع يوسف أسلوبه في التّوعية الإيمانيّة في قضيّة الشّرك الّذي يأخذ به المجتمع الّذي ينتمي إليه صاحباه مقارناً بقضيَّة التَّوحيد: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ}، اللّذيْن أشعر بأنَّ لهما عليّ حقّ النّصح والهداية من خلال علاقة الصّحبة في رحلة السِّجن، ما يلزمني بالنّصيحة في الفكر، والموعظة في السّلوك، لأنَّ الإنسان المؤمن هو الّذي يحسُّ بمسؤوليَّة إرشاد النّاس إلى خطّ التّوحيد، بما يمثّله من استقامةٍ في العقيدة والعبادة، فيعمل على إثارة تفكيرهم ليقنعوا من موقع الفكرة، ويعملوا من موقع القناعة، لأنَّ الإيمان لا يرتكز في حياة النَّاس على المشاعر العاطفيّة، بل على أساس التّأمّلات الفكريَّة.
وهذا ما أراد أن يثير تفكيرهما فيه حين طرح عليها هذا السّؤال: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[5]. ما الّذي يملكه هؤلاء الأرباب المزعومون الّذين تعبدونهم من دون الله من الصِّفات التي لا بدَّ من أن يتميَّز بها الإله ليستحقّ العبادة من خلقه؛ من قدرةٍ على الخلق، ومنحهم نعمة الحياة، وممّا ييسِّره لهم من سُبُل النَّجاح، ويمهّده لهم من سبل الرّاحة، {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}[6]، فقد تخيَّلتم صوراً ساذجةً في أشياء أو أشخاص، وتوهَّمتم وجود قوى خفيَّة وأسرار موهومة، وصنعتم لها من فكركم أسراراً وأوضاعاً وصفاتٍ لا واقع لها، بل هي خيالٌ، ولا تملك من الحقيقة إلا وجودها المادّيّ الجامد الممدود الّذي يتساوى فيه مع كلّ الموجودات الأخرى المماثلة.
أمّا الرّبوبيّة أو الألوهيّة وغيرها من صفات الخالق المعبود، فلا وجود لها في عمق هذه الأشياء، فهي مجرّد أسماءٍ أطلقتموها عليها دون أساسٍ لذلك في عناصرها الحقيقيَّة، ولكنّ الله هو الحقيقة المطلقة الّتي تحيط بالوجود كلّه، وتسيطر عليه، وتقهر كلَّ القوى فيه، لأنّه مخلوقٌ له، وخاضعٌ في حركته كلّها لإرادته، وهو الّذي يحكم كلَّ مسيرته، فلا حكم لغيره، ولا سيطرة لسواه.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [يوسف: 37].
[2] [يوسف: 37].
[3] [يوسف: 37].
[4] [يوسف: 38].
[5] [يوسف: 39].
[6] [يوسف: 40].