مارس النبيّ يوسف حديثه الرّساليّ مع صاحبيه في السّجن، ودعاهما إلى التّفكير في عظمة الله وسيطرته على الوجود كلّه، ولا سيَّما وجود الإنسان في حركته في الحياة بتنوّعاتها السّلبيَّة والإيجابيَّة، من خلال نقاط الضَّعف الذاتيّة التي لا يملك معها أيّة قوّةٍ خاصّةٍ، لأنّه لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً.
لا حكم إلا لله
فهو قال لهما: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لله، فالله سبحانه هو الّذي منح الإنسان وجوده، وهو الّذي يحدِّد له خطَّ العبادة والطّاعة وخطّ السّير، فلا معبودَ سواه، ولا طاعة لغيره، ولا خطّ للسّير إلا الخطّ المستقيم الّذي أنعم به عليه، فهو الَّذي حدَّد له الغاية، ليبعده عن ساحة غضبه.
{أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}[1]، بما تمثِّله العبادة من خضوعٍ له في التَّشريع وفي الحكم وفي كلّ شؤون الحياة، فلا أمرَ إلا أمره، ولا حكمَ إلا حكمه، ولا شريعةَ إلا شريعته، وهذا ما يجعل الشّرك في العبادة مسألةً لا تتعلّق بالجانب العباديّ التّقليديّ على مستوى الصّلاة والصّيام والحجّ ونحوها، بل تتعلّق بالخطّ الّذي يتحرّك فيه الإنسان في حياته، وما يلتزم به من أحكامٍ، وما يعيشه من أوضاع وعلاقات، وما يتّخذه من مواقف، فمن اختار شريعةً غير شريعة الله، ومنهجاً غير منهجه، وقيادةً غير قيادته الّتي أراد للنّاس أن يلتزموها، فقد أشرك بعبادة الله غيره، لأنَّ هذا الخطّ يجسّد الخضوع المطلق لله في واقع الحياة، بما تعنيه العبادة من معنى الخضوع.
وقد أكَّد يوسف مسألة حصر الحكم بالله، للتّركيز على الأساس الّذي تقوم عليه العقيدة، وعدم شرعية الأحكام التي يصدرها أيّ حاكمٍ من الخلق على النّاس، وإلزامهم بطاعته في كلّ الشّؤون الإنسانيّة، لأنّ أيّ شخصٍ من هؤلاء محكومٌ لله في كلّ تفاصيل وجوده واختياراته، فليس لهم أن يقرّروا للنّاس ما يفعلون وما يتركون وما يتّخذون من مواقف، ولا سيّما ما يتّصل بالعبادة، فهم مكلّفون بالعبادة، لله وليس لهم أن يلزموا النّاس بالعبادة لهم، كما كان يفعل فرعون عندما استخفّ قومه، واعتبر نفسه إلههم المعبود وربّهم الأعلى.
سرّ التّوحيد
وهذا هو سرّ التّوحيد في طبيعته واستمراره، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[2]. حتى إنَّ الأنبياء قدّموا أنفسهم إلى شعوبهم بامتثال الأمر لله في عبادتهم إيّاه قبل دعوته النّاس إلى عبادته، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[3]، واعتبروا الانحراف عن ذلك خطيئةً كبيرةً يخافون أن تؤدّي إلى غضب الله كبقيّة النّاس، {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[4]، وهذا هو الّذي يختصر الدّين كلّه في كلمتين: الإيمان بربوبيّة الله، والاستقامة على هذا الخطّ.
وهكذا كان النبيّ يوسف يوجّههم ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويبتعد بهم عن عبادة الأوثان الّتي يخضعون لها من دون معنى في المضمون، لأنّهم هم الّذين صنعوها ولم تصنعهم، وهم الّذين أوجدوها ولم توجدهم. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم القائم على إدارة شؤون الحياة والإنسان، والحاكم بكلّ شيءٍ فيها، والّذي يتلخّص بكلمةٍ واحدةٍ في دعوة الأنبياء: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}[5]، بما يمثّله ذلك من إخلاص العبادة لله وحده، فذلك الّذي يحدّد للنّاس خطّ السّير من البداية إلى النّهاية، ويخطّط للاتّجاه على كلّ صعيد.
وفي ضوء ذلك، نعرف أنّ الدّين الّذي أراد الله لعباده أن يؤمنوا به ويلتزموه في أفعالهم وأقوالهم ومواقعهم ومواقفهم وعباداتهم، هو الّذي يعيش الإنسان فيه مع الله في كلّ شيء، بحيث يشعر بالارتباط به في الأمور كلّها، والالتقاء به في كلّ المواقع، حتى إنّ العلاقات كلّها تمرّ به، وكلّ الشّرائع تلتقي عنده، وكلّ الانتماءات تنتهي إليه. وتبقى التّفاصيل خاضعةً لهذا الخطّ في بداية الحركة، وفي خطّ السّير، وفي نهاية المطاف، حيث يبدأ الإنسان منه لينتهي إليه، من دون فاصلٍ يفصله عنه، ومن دون التواءٍ أو انحراف، وهذا ما يجب على النّاس أن يفهموه ويلتزموه ويتّجهوا إليه ويسيروا فيه ويزدادوا معرفةً به، لينفتحوا عليه في درجات الوعي، ويبتعدوا عن ظلمات الجهل.
{وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[6]، بفعل الغفلة عن الحقيقة، والبعد عن أسباب المعرفة، والاقتصار على ما ورثوه من أساطير الآباء الّذين لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون، بحيث يجعلهم ذلك ينحرفون إلى مواقع الجهل، ولا يلجأون إلى موقع العقل الّذي يضيءُ لهم إشراقة الفكر الّذي يميِّز بين الحقّ والباطل، ويعرّفهم سلبيّات التّفكير المضادّ، فيبتعدون عن الخطّ من حيث لا يعلمون، ليُتصوّر لهم الباطل في صورة الحقّ، والحقّ في صورة الباطل، فيضلّوا في متاهات الضّلالة والجهالة.
حركة الدّعوة في السّجن
وهكذا رأى يوسف أنَّ طبيعةَ موقعه في السّجن منحته الفرصة للبدء في هداية صاحبيْه، ليؤدّي رسالته الّتي حمّله الله مسؤوليّتها، حتّى لو كان ذلك في مثل هذا الموقع المحدود الّذي ربّما يتّسع في مستقبل أمره. وهكذا أراد أن لا يكون لقاؤه بهما لقاءً عاديّاً يستهلك فيه الأحاديث المتداولة بين النّاس، فتوجّه إليهما ليدفعهما إلى التّفكير الرّساليّ الذي لم يتعرّفا إليه من قبل، ليعيشا في هذا الجوّ الجديد، وينفصلا عن أجواء الضّلال الّتي عاشاها في المجتمع الكافر الّذي كانا جزءاً منه في عبوديّتهما الخاضعة للملك الّذي يملك الأمر كلّه، ويسيطر على الحكم كلّه، من دون أن تكون لهما حريّة الإرادة وحريّة الحركة.
ولا ندري هل استجابا له، وهل انفتحا على التّفكير في ما دعاهما إليه، أو أنّهما كانا يستعجلان معرفة تأويل الحُلمين اللّذين طلبا تأويلهما والتعرّف إلى ما يختزنانه في تحديد مستقبل أمرهما، لأنّ القرآن لم يحدّثنا عن ذلك، باعتبار أنّه لا يجد كبير أثرٍ في ذلك، بل إنّ الجانب الأهمّ هو في تصوير الشّخصيّة الرّساليّة ليوسف، الّذي لم يترك السّجن أيّ تأثيرٍ سلبيّ في نفسه، ولم تشغله آلامُ السّجنِ وحرمانه من حريّة الحركة الّتي كان يعيشها عن ضرورة التحرّك في خطّ الدّعوة في هذه السّاحة الّتي يملك فيها حرّيّة الكلمة وانطلاقة الحركة في الحديث الّذي يهدف إلى التّأثير في الآخرين، ولو بالشّكل المحدود الذي يمثّل التّجربة الأولى للدّعوة، بعد أن كانت الظّروف السّابقة في بيت العزيز الذي اشتراه واستعبده لا تفسح له في المجال في الدّخول إلى المجتمع والتأثير فيه. ولم يكن يوسف شخصاً يترك مهمّته الرّساليّة متعلّلاً ـ كما عليه الكثير من أصحاب المسؤوليّات ـ بالأعذار الواهية أمام نفسه وأمام الآخرين، للتّقاعس عن أداء المهمّة أو التحرّك في خطّ الرّسالة.
تأويل رؤيا صاحبيه
وهكذا انتهى بهما يوسف إلى ما طلباه من تأويل حلميهما اللَّذين أثارا القلق في نفسيهما، فتحدَّث إلى أحدهما بالمفاجأة السارّة، وإلى الآخر بالنّتيجة السيّئة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا}، وهو الذي حلم بأنّه يعصر الخمر، {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً}، فيكون ساقياً للملك، لأنّ ذلك هو ما يوحي به هذا الحلم، وذلك لأنّ العاصر للعنب ليصنع منه الخمر، يقوم بإعداد الخمر لسيّده ليسقيه منه. {وَأَمَّا الآخَرُ}، الّذي كان يحمل الخبز على رأسه، وكانت الطّير تأكل من رأسه، {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ}، لأنّ الطّير لا تجرؤ على أن تحطّ على رأسه في حال حياته لتأكل منه أو ممّا يحمله فوقه، فيبقى ـ بعد صلبه ـ نهماً للطّيور، حيث يستمرّ مصلوباً ـ وهو ميت ـ مدّةً طويلةً بحسب العادة، مما يغري الطّير بالأكل منه في حال فقدان الحماية له من نفسه ومن الآخرين.
{قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}[7]، فهذا هو الّذي يكشف عنه الحلم لدى كلّ واحدٍ منهما، وهو القضاء الّذي يختزنه واقع مستقبلهما مما استوحاه يوسف من حلم هذا وحلم ذاك، فلم يكن الأمر بيده ليمنع الفاجعة عن المنكوب الّذي سوف يُصلب فتأكل الطّير من رأسه، لأنّه ليس إلا مفسّراً للرّؤيا، أمّا الأمر، فهو بيد الله.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا}، وهو الّذي فسَّر له حلمه بأنَّه سوف يكون في مستقبل أمره ساقياً للملك، بما يجعله قريباً منه، أثيراً لديه، مسموع الكلمة عنده، {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}، في ساعات نشوته وسروره، وحدّثه عن الظّلامة الّتي وقعت عليّ وعن مشكلتي في إدخالي السّجن بدون ذنبٍ، واطلب منه أن يخرجني منه لأظهر براءتي عنده.
{فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}، أي أنساه ذكر يوسف عند صاحبه الّذي يخدمه في تقديم الخمر إليه، وذلك في غمرة مشاغله في وضعه الجديد بعد خروجه من السّجن، لعدم اهتمامه بوضعيّة يوسف الّذي لم تتعمّق العلاقة بينه وبينه، ولا سيّما في الحديث الّذي أثاره معه في هدايته إلى التّوحيد، ورفض ما يلتزمه من عبادة الأوثان ممّا لم يدخل في عقله ووجدانه. ولذلك، قد تكون علاقته به سلبيّةً أو سطحيّةً كأيّةِ علاقةٍ طارئةٍ تذهب وتمحى من ذهن الإنسان وحياته بعد غياب الظّروف التي أحاطت بها، بحيث لا يبقى منها سوى الذّكريات.
يوسف وحيداً في السّجن
وهكذا استمرّ يوسف في السّجن وحيداً بعد خروج صاحبيْه منه، بسبب حكم الطّغاة الّذين لا يحترمون الإنسان، ولا يلتزمون بقانون، ولا يشعرون بأيّة مسؤوليّة تجاهه، ولا سيّما إذا كان ـ في نظرهم ـ من طبقة العبيد الّذين لا يمثّلون في قانون المجتمع أيّة قيمةٍ تدفع إلى الاحترام أو تدعو إلى الاهتمام. لذلك، فإنّ قضايا هذه الطّبقة كانت تتعلّق بمزاج الطّاغية وإرادته، فإذا اقتضى مزاجه إطلاق حريّة العبد، كان ذلك هو القانون السّلطويّ الذي يتولى إصداره وتنفيذه، وإذا نسي الموضوع كلّه، أو لم يجد له أيّة أهميّة في ملكه، أو كان مزاجه الطّاغي أن يبقى في سجنه من دون محاكمة، فهذا هو خطّ "العدالة" الطّاغوتيّة الّذي لا يخضع لقاعدةٍ إنسانيّةٍ أو سماويّة. {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[8]، لا نملك تحديدها، ولكنّها ـ كما قيل ـ تتراوح بين الثّلاثة والعشرة، وربّما أكثر، إذ حدّدها البعض باثنتي عشرة سنةً.
وقد يثير البعض على ما طلبه يوسف من صاحبه الّذي نجا وأصبح ساقياً للملك سؤالاً مثيراً، وهو: كيف يطلب يوسف ـ وهو الرّسول ـ حاجته من العبد، بينما يفرض الإيمان على المؤمن ألا يطلب حاجته إلا من الله؟ وربّما جاء في بعض الرّوايات، أنّ الله عاقب يوسف على ذلك، فأنسى الرّجل ذكر أمره للملك.
والجواب: إنّنا لا نرى في ذلك أيّة حالةٍ من المساس بالإيمان، فضلاً عن أن يكون ذلك خطيئةً يستحقّ عليها العقوبة، لأنَّ من حقّ المؤمن أن يستخدم للوصول إلى أغراضه وحاجاته الحياتيّة، الأشخاص الّذين يملكون خدمته، وذلك من خلال التّوسّل إلى الله في إنفاذ كلّ أموره، وهداية الآخرين إلى العطف عليه والسّعي في حوائجه، ما لا يجعل في الموضوع أيّة مشكلة له من قريب أو من بعيد، ولا سيّما أنّ يوسف الَّذي مدحه الله وأثنى عليه، كان متحرّكاً في كلّ أموره برعاية الله وتسديده وتيسير أموره، ليبلغ الموقع الّذي أراد الله له أن يبلغه، ما يجعل كلّ خطواته محفوفةً برعاية الله وعنايته. والحمد لله ربّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [يوسف: 40].
[2] [الأحقاف: 13].
[3] [يونس: 72].
[4] [الأنعام: 15].
[5] [الأعراف: 59].
[6] [يوسف: 40].
[7] [يوسف: 41].
[8] [يوسف: 42].