تجربة النّبيّ يوسف(ع) في السِّجن

تجربة النّبيّ يوسف(ع) في السِّجن

لقد اكتشف المجتمعُ براءةَ يوسفَ وصدقَه، من خلال الشَّاهد الَّذي شهد له أمام زوجِ امرأةِ العزيز، ومن خلال صلابته أمام النِّسوة اللاتي ربّما حاولْنَ استمالته إليهنّ واجتذابه نحو الانفتاح على غرائزهنّ، وعدم استسلامه لتهديد امرأة العزيز بالسِّجن وبالعذاب القاسي، إلى غير ذلك من العلامات الواضحة الّتي لم يملكوا تزويرها وتشويه صورته النقيَّة في موقفه، ما أحرجهم أمام مجتمعهم الّذي بدأ يتحدَّث عن ذلك، وعن الفضيحة الّتي افتضح بها ذلك البيت الّذي عاش فيه يوسف في عدم الالتزام بالمبادئ الأخلاقيَّة.

سجن يوسف(ع)

وربَّما تشاوروا في الخلاص من ذلك، وإيجاد حجَّةٍ لهم على أنَّهم لم يبتعدوا عن الأصول الاجتماعيَّة، فكان الرّأي الّذي بدا لهم هو أن يسجنوه، للإيحاء بأنّه هو الّذي قام بالاعتداء على المرأة الّتي هي سيّدته ومالكته، وليست هي من بدأ ذلك، لتتوازن بذلك سمعتهم الاجتماعيّة، وتلتصق بهذا الشّابّ المتمرّد الّذي تتوجّه إليه التّهمة بالاعتداء الأثيم. وربّما أثاروا القضيّة بطريقةٍ إعلاميّةٍ تُبعد الشّبهة عن المرأة، ليقتنع النّاس بأنّ هناك تعدّياً على حقوق البيت المصريّ ذي الموقع الاجتماعيّ، ما يفرض على المسؤولين في المجتمع أن يبادروا إلى إنزال العقاب به، والحكم بالسّجن على هذا المعتدي الّذي لم يحفظ للبيت حرمته، وللتّربية فضلها، وللرّعاية قيمتها.

وهكذا كان السِّجن هو الحلّ للمشكلة الاجتماعيَّة الّتي عاشها المجتمع، للتَّغطية على الفضيحة الّتي كادت تطيح بمنزلتهم، من خلال تطويقها لسمعتهم بخروجها عن التَّقاليد المقدَّسة عندهم.

وذلك هو ديدن المجتمع المستكبر الّذي يعمل على حماية نفسه عندما يواجه اختلال القيم الظّاهرية الخادعة الّتي يمارسها بعض أفراده، بالبحث عن ضحيّةٍ ضعيفةٍ تلصق بها التّهمة، وذلك من بين المستضعفين الّذين لا يحترمهم المجتمع ولا قيمة لهم عنده، لأنّه لا يجد لهم أيّ حقٍّ في العيش الكريم والإرادة الحرّة والعدالة الشّرعيّة والاحترام الإنسانيّ، لأنَّ ذلك، في نظرهم، هو حقّ الأحرار، لا حقّ العبيد الّذين يرون أنّ يوسف كان منهم.

وربّما كان السّجن تنفيذاً للتَّهديد الّذي أطلقته امرأة العزيز في وجه يوسف أوّلاً وأخيراً، كوسيلةٍ من وسائل الضَّغط الّتي ترغمه على الاستجابة لها فيما تريده منه. وقد كانت دعوة زوجها إلى تنفيذه في البداية، ثمّ تحدَّثت به إلى صويحباتها في النّهاية، في اللّقاء الّذي حضره يوسف، ليعرف ـ من خلال فقدان حرّيّته ورفاهية الحياة الّتي كان يتمتّع بها في بيت سيِّدته المزعومة ـ أنَّ الانسجام مع رغبتها هو الأَوْلَى به والأفضل له، لأنَّ هذه المرأة مع صويحباتها كنّ يتصوَّرن هذا الشابّ الجميل كبقيَّة الشّباب الّذين يبحثون عن إشباع غريزتهم الجنسيّة بمختلف الوسائل، ويلهثون خلف النّساء لتحقيق رغباتهم، ويستجيبون لدعوتهنّ عند أوَّل إشارةٍ تصدر عنهنّ، ولم يتصوَّرن أنَّ هناك شابّاً يتميّز بالقيم الرّوحيَّة والمبادئ الأخلاقيّة، ويرفض الشَّهوة المحرَّمة، ويرتفع عن القيم المنحطّة، ويراقب الله في أفعاله وأقواله، ويتمرَّد على كلِّ دعوةٍ للسّقوط الأخلاقيّ، ويتصلَّب أمام كلّ عوامل الإغراء، ويثبت أمام كلِّ حالات الاهتزاز، ويسخر من كلِّ أوضاع التَّهديد، مهما كانت القوّة الضّاغطة.

إرادة يوسف أمام التحدّيات

ولذلك، كانت شخصيَّة يوسف في رفضه كلَّ دعواتهنّ المغرية، موضع تساؤلٍ واستغرابٍ، على الرَّغم من كلِّ محاولاتهنّ في التّرغيب والتّرهيب، فلم يتزحزحْ عن موقفه الرّافض للسّقوط، ولم يهتزّ في موقعه بفعل التَّهديد والواقع الصَّعب، بل بقي صامداً قويّاً كالجبل الأشمّ والصَّخرة الصمّاء، في صمتٍ يوحي بالانفتاح الرّوحيّ على الالتزام بالقيمة.

وربّما كان يقارن بين هذا السِّجن الّذي تحيط به الجدران وتطبق عليه الظّلمة، وسجن البيت الّذي كان يملك فيه حريّته فيما يريد وفيما لا يريد، فوجد في السِّجن حرّيّته الّتي يملك من خلالها حركته الذّاتيّة وإرادته الواقعيَّة، لأنّه كان يفكّر في المعنويّات ولا يفكّر في الماديّات، ويحلّق في تأمّلاته المعرفيّة الّتي تطلّ به على التأمّل في توحيد الله وآفاق عظمته، ولا يهبط إلى رغباته السّفليّة، فلم يكن الجوع مشكلته، ولم يكن الحصار الّذي يطوّقه موقع تفكيره.

وهكذا دخل يوسف السِّجن هازئاً من هؤلاء الّذين ظنّوا أنّهم سوف يغيّرون موقفه في تصوّرهم بأنّه يشبه الشّباب العابث اللاهي الّذي لا يلتزم بالقيم الرّوحيّة في تكوينه الذاتيّ، بل يندفع إلى مواقع اللّهو والعبث والشّهوة الحمراء، فكان شعوره شعور الإنسان المؤمن في روحيّته، الّذي لا يعتبر السِّجن مشكلةً له ومأساةً لمشاعره، بل يعتبر فيه موقع الانتصار على النَّوازع الجسديّة والضّغوط الخارجيّة الّتي تحاول ـ من خلال الظّالمين ـ أن تتحدَّى فيه إرادة الإيمان، وقوّة الالتزام، وصلابة الإرادة، وقوّة الصّبر.

وربّما كان يفكّر في أنَّ عليه أن لا يتجمَّد في مشاعره بفعل الوحشة والوحدة والفراغ الاجتماعيّ، لينتهي إلى حالةٍ كئيبةٍ من الضَّياع الرّوحيّ، بل كان يرى أنَّ دوره في هذا الموقع الجديد الّذي لم يعهد دخوله من قبل، أن يستثمر فرص الحركة الّتي تتيحها السّاحة له.

وفكَّر في أنّه ليس الوحيد من الأبرياء الّذين دخلوا السِّجن، فهناك من دخلوا فيه قبله، وهناك من سيدخلون بعده، وفيهم الكافرون والضالّون والضَّائعون في المتاهات السّحيقة، وفيهم المؤمنون من أمثاله الّذين يضغط عليهم الكافرون والمستكبرون.

السِّجن ساحة للدّعوة

ولذلك، فقد رأى أنَّ السّجن يمثّل ساحةً لدعوة الّذين لا يؤمنون بالله ورسالاته، وحدّد دوره بأن يستفيد من الأجواء الهادئة التي لا يشغله فيها شاغلٌ، بفعل الفراغ الّذي يعيشه السّجين، والمشاعر البائسة التي تجعله ينفتح على الله في ابتهالاته الرّوحيّة، والآمال الطيّبة التي قد تتمثّل معانيها وإيجابيّاتها في يقظته أو نومه، والحالات النّفسيّة الصّعبة التي يحتاج فيها إلى مَنْ يساعده في مواجهتها، ما يفسح في المجال للهدوء في فكره، والحياد في موقفه، الأمرُ الّذي قد يسهِّل على يوسف إدخال قناعاته وتغييرها، أو تطويرها وتنميتها على أساس الحقّ والصّواب.

وذلك هو شأن المؤمن الدَّاعية الّذي يعيش همَّ الدّعوة إلى الله في هداية النّاس إلى طريق الحقّ، فلا يترك فرصةً إلا ويستفيد منها في حركته نحو الهدف الكبير، فهو في التفاتةٍ دائمة إلى ما حوله ومَنْ حوله، وترقّبٍ مستمرّ للأجواء الملائمة الّتي تفتح له قلوب النّاس وعقولهم على الحقّ.

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ}، فتعرّف إليهما وتعرّفا إليه، ونشأت بين الثّلاثة صحبةٌ وألفةٌ، لما تفرضه طبيعة الوجود في السِّجن من حاجةٍ إلى من يستريح إليه السَّجين ويأنس به ويرتاح للحديث معه، ليخفِّف من وحشته ويزيل وحدته. وهكذا كان الحديث معهما في شؤونٍ كثيرةٍ متنوّعةٍ، كما هي العادة في الأشخاص الَّذين يلتقون ببعضهم البعض من دون تعارفٍ سابقٍ، فيتعارفون فيما بينهم لتلتقي مواقعهم، فيعرف كلٌّ منهم الآخر.

وربّما حدّثهم يوسف عن تاريخه في نسبه الرّساليّ، وعرّفهم بقدرته على تأويل الأحلام للنّاس، ليكشف لهم أسرارها الخفيّة ودلالاتها المستقبليّة، فاعتبرا ذلك فرصةً ذهبيّة لتأويل الحلم الغريب الّذي رآه كلٌّ منهما بشكلٍ مختلفٍ، ما جعل غرابتهما تثير في نفسيهما القلق والحيرة، لأنّهما لم يستطيعا أن يفسِّرا السرَّ الّذي يكمن خلف حلميهما، فأحبَّا أن يحدِّثا يوسف عنهما ويسألاه عن مدلولهما، بعد أن أدركا قدرته على معرفة السرّ الّذي يكمن في داخلهما، فلعلَّهما يجدان لديه التّفسير الواضح الّذي يوضح لهما هذا الغموض، وذلك في ملاحظتهما أو في حديثه لهما عن امتلاكه معرفة السرّ الكامن في داخل أيّ حُلُم، إضافةً إلى ما يتمتّع به يوسف من فكرٍ هادئٍ وعقلٍ متحرّك وشخصيّةٍ حكيمة، ما جعلهما يمنحانه الثّقة الكبيرة.

تأويل الأحلام

وهكذا، {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً}، ولم أستطع معرفة المضمون الواقعيّ لذلك فيما يحيط بحركة الحياة من حولي، وبالمستقبل الذي ينتظرني. {وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}، فما هو معنى الخبز؟ وما هو سرّ حمله على الرّأس؟ وما هو الرّمز الّذي يرمز إليه ذلك كلّه، فهل هو رمزٌ للنّعمة أو للعطاء، أو هو رمزٌ للنّقمة والفناء؟ {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}، لأنَّ للأحلام تأثيراً في الكشف عن حركة الإنسان في المستقبل، بما توحيه من تشاؤمٍ أو تفاؤلٍ، لنعرف كيف نحدّد اتّجاه موقفنا، وكيف نأخذ بأسباب الحذر حول هذين الأمرين.

{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[1]، الّذين يحبّون أن يعطوا الآخرين من مواقع المعرفة فيما يعرفونه من الخير والشّرّ، فلا يبخلون بالمعرفة على من يحتاج إليها، لأنَّ ذلك هو سرّ الإحسان الّذي ينطلق من حسّ الخير في الإنسان تجاه من حوله.

وقد جاء في بعض الكلمات التفسيريّة عن الإمام جعفر الصَّادق(ع) ـ فيما روي عنه ـ في قوله تعالى: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، قال: "كان يقوم على المريض، ويلتمس للمحتاج، ويوسِّع على المحبوس"[2]. ولعلَّ هذه الصّفات تمثّل أحد مواقع الإحسان عنده، وتمتدّ إلى عطاء العلم والمعرفة.

وربّما كانت هذه الأمور وما يتَّصل بمنهجها الأخلاقيّ، هي الَّتي جعلتهما ينجذبان إليه وينفتحان عليه هذا الانفتاح الرّوحيّ الّذي يعيش فيه الإنسان جوع المعرفة إلى فكر العارفين، ولا سيَّما بعد أن عرفا مستوى ثقافته في تفسير الأحلام.

ولم يكن ليوسف شأنٌ في الجانب الذَّاتيّ لما سألاه عنه، ولم يكن في صدد الإيحاء بإمكاناته العلميَّة في تأويل الأحلام، ليؤكِّد قدرته العلميَّة، أو ليستعرض أمامهما إمكاناته في هذا الأمر وفي غيره من الأمور، بل كان يتوسَّل هدايتهما إلى الصِّراط المستقيم من خلال ذلك، ككلِّ داعيةٍ إلى الله يتحسَّس ضرورة استخدام كلِّ طاقاته في سبيل الدَّعوة والهداية، وتحريك علاقاته بالنّاس في هذا الاتّجاه. هذا ما أراده يوسف؛ أن يثير أمامهما ما وهبه الله من إمكاناتٍ علميَّة تمكِّنه من استيحاء الأحلام ومعرفة أسرارها، وما تحمله من خفايا المستقبل وتطلّعاته، أو استلهام الإشراق الرّوحيّ الّذي أودعه الله في قلبه، واستكشاف الآفاق الواسعة المنفتحة على حياته الخاصَّة في الواقع المنتظر. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 36].

[2]  ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 2، ص 1264.

لقد اكتشف المجتمعُ براءةَ يوسفَ وصدقَه، من خلال الشَّاهد الَّذي شهد له أمام زوجِ امرأةِ العزيز، ومن خلال صلابته أمام النِّسوة اللاتي ربّما حاولْنَ استمالته إليهنّ واجتذابه نحو الانفتاح على غرائزهنّ، وعدم استسلامه لتهديد امرأة العزيز بالسِّجن وبالعذاب القاسي، إلى غير ذلك من العلامات الواضحة الّتي لم يملكوا تزويرها وتشويه صورته النقيَّة في موقفه، ما أحرجهم أمام مجتمعهم الّذي بدأ يتحدَّث عن ذلك، وعن الفضيحة الّتي افتضح بها ذلك البيت الّذي عاش فيه يوسف في عدم الالتزام بالمبادئ الأخلاقيَّة.

سجن يوسف(ع)

وربَّما تشاوروا في الخلاص من ذلك، وإيجاد حجَّةٍ لهم على أنَّهم لم يبتعدوا عن الأصول الاجتماعيَّة، فكان الرّأي الّذي بدا لهم هو أن يسجنوه، للإيحاء بأنّه هو الّذي قام بالاعتداء على المرأة الّتي هي سيّدته ومالكته، وليست هي من بدأ ذلك، لتتوازن بذلك سمعتهم الاجتماعيّة، وتلتصق بهذا الشّابّ المتمرّد الّذي تتوجّه إليه التّهمة بالاعتداء الأثيم. وربّما أثاروا القضيّة بطريقةٍ إعلاميّةٍ تُبعد الشّبهة عن المرأة، ليقتنع النّاس بأنّ هناك تعدّياً على حقوق البيت المصريّ ذي الموقع الاجتماعيّ، ما يفرض على المسؤولين في المجتمع أن يبادروا إلى إنزال العقاب به، والحكم بالسّجن على هذا المعتدي الّذي لم يحفظ للبيت حرمته، وللتّربية فضلها، وللرّعاية قيمتها.

وهكذا كان السِّجن هو الحلّ للمشكلة الاجتماعيَّة الّتي عاشها المجتمع، للتَّغطية على الفضيحة الّتي كادت تطيح بمنزلتهم، من خلال تطويقها لسمعتهم بخروجها عن التَّقاليد المقدَّسة عندهم.

وذلك هو ديدن المجتمع المستكبر الّذي يعمل على حماية نفسه عندما يواجه اختلال القيم الظّاهرية الخادعة الّتي يمارسها بعض أفراده، بالبحث عن ضحيّةٍ ضعيفةٍ تلصق بها التّهمة، وذلك من بين المستضعفين الّذين لا يحترمهم المجتمع ولا قيمة لهم عنده، لأنّه لا يجد لهم أيّ حقٍّ في العيش الكريم والإرادة الحرّة والعدالة الشّرعيّة والاحترام الإنسانيّ، لأنَّ ذلك، في نظرهم، هو حقّ الأحرار، لا حقّ العبيد الّذين يرون أنّ يوسف كان منهم.

وربّما كان السّجن تنفيذاً للتَّهديد الّذي أطلقته امرأة العزيز في وجه يوسف أوّلاً وأخيراً، كوسيلةٍ من وسائل الضَّغط الّتي ترغمه على الاستجابة لها فيما تريده منه. وقد كانت دعوة زوجها إلى تنفيذه في البداية، ثمّ تحدَّثت به إلى صويحباتها في النّهاية، في اللّقاء الّذي حضره يوسف، ليعرف ـ من خلال فقدان حرّيّته ورفاهية الحياة الّتي كان يتمتّع بها في بيت سيِّدته المزعومة ـ أنَّ الانسجام مع رغبتها هو الأَوْلَى به والأفضل له، لأنَّ هذه المرأة مع صويحباتها كنّ يتصوَّرن هذا الشابّ الجميل كبقيَّة الشّباب الّذين يبحثون عن إشباع غريزتهم الجنسيّة بمختلف الوسائل، ويلهثون خلف النّساء لتحقيق رغباتهم، ويستجيبون لدعوتهنّ عند أوَّل إشارةٍ تصدر عنهنّ، ولم يتصوَّرن أنَّ هناك شابّاً يتميّز بالقيم الرّوحيَّة والمبادئ الأخلاقيّة، ويرفض الشَّهوة المحرَّمة، ويرتفع عن القيم المنحطّة، ويراقب الله في أفعاله وأقواله، ويتمرَّد على كلِّ دعوةٍ للسّقوط الأخلاقيّ، ويتصلَّب أمام كلّ عوامل الإغراء، ويثبت أمام كلِّ حالات الاهتزاز، ويسخر من كلِّ أوضاع التَّهديد، مهما كانت القوّة الضّاغطة.

إرادة يوسف أمام التحدّيات

ولذلك، كانت شخصيَّة يوسف في رفضه كلَّ دعواتهنّ المغرية، موضع تساؤلٍ واستغرابٍ، على الرَّغم من كلِّ محاولاتهنّ في التّرغيب والتّرهيب، فلم يتزحزحْ عن موقفه الرّافض للسّقوط، ولم يهتزّ في موقعه بفعل التَّهديد والواقع الصَّعب، بل بقي صامداً قويّاً كالجبل الأشمّ والصَّخرة الصمّاء، في صمتٍ يوحي بالانفتاح الرّوحيّ على الالتزام بالقيمة.

وربّما كان يقارن بين هذا السِّجن الّذي تحيط به الجدران وتطبق عليه الظّلمة، وسجن البيت الّذي كان يملك فيه حريّته فيما يريد وفيما لا يريد، فوجد في السِّجن حرّيّته الّتي يملك من خلالها حركته الذّاتيّة وإرادته الواقعيَّة، لأنّه كان يفكّر في المعنويّات ولا يفكّر في الماديّات، ويحلّق في تأمّلاته المعرفيّة الّتي تطلّ به على التأمّل في توحيد الله وآفاق عظمته، ولا يهبط إلى رغباته السّفليّة، فلم يكن الجوع مشكلته، ولم يكن الحصار الّذي يطوّقه موقع تفكيره.

وهكذا دخل يوسف السِّجن هازئاً من هؤلاء الّذين ظنّوا أنّهم سوف يغيّرون موقفه في تصوّرهم بأنّه يشبه الشّباب العابث اللاهي الّذي لا يلتزم بالقيم الرّوحيّة في تكوينه الذاتيّ، بل يندفع إلى مواقع اللّهو والعبث والشّهوة الحمراء، فكان شعوره شعور الإنسان المؤمن في روحيّته، الّذي لا يعتبر السِّجن مشكلةً له ومأساةً لمشاعره، بل يعتبر فيه موقع الانتصار على النَّوازع الجسديّة والضّغوط الخارجيّة الّتي تحاول ـ من خلال الظّالمين ـ أن تتحدَّى فيه إرادة الإيمان، وقوّة الالتزام، وصلابة الإرادة، وقوّة الصّبر.

وربّما كان يفكّر في أنَّ عليه أن لا يتجمَّد في مشاعره بفعل الوحشة والوحدة والفراغ الاجتماعيّ، لينتهي إلى حالةٍ كئيبةٍ من الضَّياع الرّوحيّ، بل كان يرى أنَّ دوره في هذا الموقع الجديد الّذي لم يعهد دخوله من قبل، أن يستثمر فرص الحركة الّتي تتيحها السّاحة له.

وفكَّر في أنّه ليس الوحيد من الأبرياء الّذين دخلوا السِّجن، فهناك من دخلوا فيه قبله، وهناك من سيدخلون بعده، وفيهم الكافرون والضالّون والضَّائعون في المتاهات السّحيقة، وفيهم المؤمنون من أمثاله الّذين يضغط عليهم الكافرون والمستكبرون.

السِّجن ساحة للدّعوة

ولذلك، فقد رأى أنَّ السّجن يمثّل ساحةً لدعوة الّذين لا يؤمنون بالله ورسالاته، وحدّد دوره بأن يستفيد من الأجواء الهادئة التي لا يشغله فيها شاغلٌ، بفعل الفراغ الّذي يعيشه السّجين، والمشاعر البائسة التي تجعله ينفتح على الله في ابتهالاته الرّوحيّة، والآمال الطيّبة التي قد تتمثّل معانيها وإيجابيّاتها في يقظته أو نومه، والحالات النّفسيّة الصّعبة التي يحتاج فيها إلى مَنْ يساعده في مواجهتها، ما يفسح في المجال للهدوء في فكره، والحياد في موقفه، الأمرُ الّذي قد يسهِّل على يوسف إدخال قناعاته وتغييرها، أو تطويرها وتنميتها على أساس الحقّ والصّواب.

وذلك هو شأن المؤمن الدَّاعية الّذي يعيش همَّ الدّعوة إلى الله في هداية النّاس إلى طريق الحقّ، فلا يترك فرصةً إلا ويستفيد منها في حركته نحو الهدف الكبير، فهو في التفاتةٍ دائمة إلى ما حوله ومَنْ حوله، وترقّبٍ مستمرّ للأجواء الملائمة الّتي تفتح له قلوب النّاس وعقولهم على الحقّ.

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ}، فتعرّف إليهما وتعرّفا إليه، ونشأت بين الثّلاثة صحبةٌ وألفةٌ، لما تفرضه طبيعة الوجود في السِّجن من حاجةٍ إلى من يستريح إليه السَّجين ويأنس به ويرتاح للحديث معه، ليخفِّف من وحشته ويزيل وحدته. وهكذا كان الحديث معهما في شؤونٍ كثيرةٍ متنوّعةٍ، كما هي العادة في الأشخاص الَّذين يلتقون ببعضهم البعض من دون تعارفٍ سابقٍ، فيتعارفون فيما بينهم لتلتقي مواقعهم، فيعرف كلٌّ منهم الآخر.

وربّما حدّثهم يوسف عن تاريخه في نسبه الرّساليّ، وعرّفهم بقدرته على تأويل الأحلام للنّاس، ليكشف لهم أسرارها الخفيّة ودلالاتها المستقبليّة، فاعتبرا ذلك فرصةً ذهبيّة لتأويل الحلم الغريب الّذي رآه كلٌّ منهما بشكلٍ مختلفٍ، ما جعل غرابتهما تثير في نفسيهما القلق والحيرة، لأنّهما لم يستطيعا أن يفسِّرا السرَّ الّذي يكمن خلف حلميهما، فأحبَّا أن يحدِّثا يوسف عنهما ويسألاه عن مدلولهما، بعد أن أدركا قدرته على معرفة السرّ الّذي يكمن في داخلهما، فلعلَّهما يجدان لديه التّفسير الواضح الّذي يوضح لهما هذا الغموض، وذلك في ملاحظتهما أو في حديثه لهما عن امتلاكه معرفة السرّ الكامن في داخل أيّ حُلُم، إضافةً إلى ما يتمتّع به يوسف من فكرٍ هادئٍ وعقلٍ متحرّك وشخصيّةٍ حكيمة، ما جعلهما يمنحانه الثّقة الكبيرة.

تأويل الأحلام

وهكذا، {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً}، ولم أستطع معرفة المضمون الواقعيّ لذلك فيما يحيط بحركة الحياة من حولي، وبالمستقبل الذي ينتظرني. {وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}، فما هو معنى الخبز؟ وما هو سرّ حمله على الرّأس؟ وما هو الرّمز الّذي يرمز إليه ذلك كلّه، فهل هو رمزٌ للنّعمة أو للعطاء، أو هو رمزٌ للنّقمة والفناء؟ {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}، لأنَّ للأحلام تأثيراً في الكشف عن حركة الإنسان في المستقبل، بما توحيه من تشاؤمٍ أو تفاؤلٍ، لنعرف كيف نحدّد اتّجاه موقفنا، وكيف نأخذ بأسباب الحذر حول هذين الأمرين.

{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[1]، الّذين يحبّون أن يعطوا الآخرين من مواقع المعرفة فيما يعرفونه من الخير والشّرّ، فلا يبخلون بالمعرفة على من يحتاج إليها، لأنَّ ذلك هو سرّ الإحسان الّذي ينطلق من حسّ الخير في الإنسان تجاه من حوله.

وقد جاء في بعض الكلمات التفسيريّة عن الإمام جعفر الصَّادق(ع) ـ فيما روي عنه ـ في قوله تعالى: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، قال: "كان يقوم على المريض، ويلتمس للمحتاج، ويوسِّع على المحبوس"[2]. ولعلَّ هذه الصّفات تمثّل أحد مواقع الإحسان عنده، وتمتدّ إلى عطاء العلم والمعرفة.

وربّما كانت هذه الأمور وما يتَّصل بمنهجها الأخلاقيّ، هي الَّتي جعلتهما ينجذبان إليه وينفتحان عليه هذا الانفتاح الرّوحيّ الّذي يعيش فيه الإنسان جوع المعرفة إلى فكر العارفين، ولا سيَّما بعد أن عرفا مستوى ثقافته في تفسير الأحلام.

ولم يكن ليوسف شأنٌ في الجانب الذَّاتيّ لما سألاه عنه، ولم يكن في صدد الإيحاء بإمكاناته العلميَّة في تأويل الأحلام، ليؤكِّد قدرته العلميَّة، أو ليستعرض أمامهما إمكاناته في هذا الأمر وفي غيره من الأمور، بل كان يتوسَّل هدايتهما إلى الصِّراط المستقيم من خلال ذلك، ككلِّ داعيةٍ إلى الله يتحسَّس ضرورة استخدام كلِّ طاقاته في سبيل الدَّعوة والهداية، وتحريك علاقاته بالنّاس في هذا الاتّجاه. هذا ما أراده يوسف؛ أن يثير أمامهما ما وهبه الله من إمكاناتٍ علميَّة تمكِّنه من استيحاء الأحلام ومعرفة أسرارها، وما تحمله من خفايا المستقبل وتطلّعاته، أو استلهام الإشراق الرّوحيّ الّذي أودعه الله في قلبه، واستكشاف الآفاق الواسعة المنفتحة على حياته الخاصَّة في الواقع المنتظر. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 36].

[2]  ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 2، ص 1264.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية