امرأة العزيز تثأر من نساء مجتمعها

امرأة العزيز تثأر من نساء مجتمعها

كانت امرأة العزيز الّذي يقيم يوسف(ع) في بيتها لا تزال مشغوفةً بحبّه، طامعةً باستجابته لها، مستخدمةً لذلك مختلف أنواع الضَّغط والإغراء، مثيرةً لشبابه الغريزيّ. وكان هذا الحبُّ يأخذ عليها كلَّ مشاعرها، حتّى إنّه كان يبدو عليها في قسمات وجهها، وفي ملاحظة النّساء اللاتي يزرنها، بما كنَّ يشاهدنه من إقبالها عليه، وطريقتها في التَّعامل الإغرائيّ معه. وربّما كانت تحدّث صديقاتها ومعارفها بغرامها به، ولا تخفي عنهنَّ سرّها، ولربّما كان مجتمع تلك النّساء يتحدَّثن عن هذا الوضع الغريب الّذي لم يكن مألوفاً، لأنَّ العلاقات الغراميَّة ربّما كانت سائدةً بينهم، ولكنَّها لم تعهد بين السَّادة والعبيد.

تنديد المجتمع بامرأة العزيز

ولذلك، كانت محلَّ استغرابٍ في صدورها عن هذه المرأة الّتي كانت تملك موقعاً مميَّزاً ورصيداً محترماً، لأنّها من شخصيَّات المجتمع، الأمر الَّذي جعل النِّساء يتناقلن الخبر بشكلٍ واسعٍ من واحدةٍ إلى أخرى، حتّى انتشر بين النَّاس، وهذا ما ذكره القرآن: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً}. والشَّغف من مادّة الشِّغاف، ومعناه القلب، أو الغشاء الرّقيق المحيط بالقلب. و{شَغَفَهَا حُبّاً}، معناه أنّها تعلَّقت به إلى درجةٍ، بحيث نفذ حبّه إلى قلبها، واستقرَّ في أعماقها، حتّى اندفعت نحوه لتضغط على مشاعره في ممارسة الفحشاء معها، ولتمارس الخيانة الزّوجيّة من خلال ذلك، غير عابئةٍ بالقيم الأخلاقيَّة الاجتماعيَّة الّتي تحكم التزامات النَّاس في عهود الزّواج.

{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[1]، فهذا هو الحكم الَّذي أصدرنه عليها، والنَّظرة التي نظرْنَ بها إلى علاقتها بفتاها المملوك لها. وأيّ ضلالٍ أبعد وأوضح من عشق السيِّدة لعبدها، بما يمثّله ذلك من خسَّةٍ في النَّفس وسقوطٍ اجتماعيّ، وخروجٍ عن التّقاليد المألوفة المحترمة في النّسيج الاجتماعيّ، وتنكّر للطّبقة المميّزة في مواقع النّخبة التي تنتمي إليها؟! فإذا كان المجتمع الرّاقي لديهم يبيح للمرأة أن تخون زوجها، وتتَّخذ لها عشيقاً خارج الشّرعيّة القانونيّة، فإنّ عليها أن تتَّخذه من داخل طبقتها الرّفيعة الّتي تنتمي إليها، لئلاّ تسيء إلى تقاليدها الطّبقيَّة الّتي تفرض عليها إقامة الحواجز بينها وبين الطّبقة السّفلى، ولا سيَّما إذا كان أفرادها من العبيد، فلا تتنازل السيِّدة الكبيرة في المجتمع لعبدها، مهما كانت الظّروف، في أيّة حالة عطفٍ وشهوة؛ فكيف يُسمَح لها أو تسمح لنفسها بأن تدعوه إلى نفسها وتراوده عن نفسه من أجل ممارسة الجنس معها؟!

وهكذا بدأ الحديث عنها يتَّخذ منحى خطيراً في تشويه سمعتها، وتحقير مكانتها، وإسقاط مركزها، والتَّنديد بخروجها عن الأخلاق والقيم المجتمعيّة الطبقيَّة الّتي يحترمها مجتمعها، الّذي يرى في الخروج عنها ضلالاً مبيناً وانحرافاً خطيراً. وربّما كانَ حديثهنَّ السَّلبيّ عنها صادراً عن سوء نيَّة أو شعورٍ بالحسد لها، لا عن إخلاصٍ للقيم الاجتماعيّة والتّقاليد الطّبقيّة.

تبرير الموقف أمام النِّساء

وقرَّرت أن تدافع عن نفسها، وتبرّر موقفها، لتؤكِّد لهنَّ أنَّ ما فعلته قد يفعلنه لو أنّهنّ عشْنَ الظّروف الّتي عاشتها، أو التقين بأمثال الشّابِّ الّتي راودته عن نفسه، بحيث يراودنه عن نفسه كما راودته هي عن نفسه.

وهذا ما قصَّه الله في كتابه: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ}، بما يتحدَّثن به عنها من السّوء، وما يسعين له من تحقيرٍ وإسقاطٍ لمكانتها في المجتمع، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}، في دعوةٍ اجتماعيّةٍ لا توحي بأيّ طابعٍ خاصٍّ مميَّز، تماماً كما هي عادة النِّساء في اجتماعاتهنّ الخاصَّة في مناسبة فرحٍ أو حزنٍ، أو للأخذ بأسباب اللَّهو، أو التحدّث بأمرٍ طارئ، أو بأيّ شيءٍ يملأ الفراغ ويمتّع النّفس، وكانت تريد مفاجأتهنّ والالتفاف على مكرهنّ بمكرٍ أشدِّ تأثيراً، في عمليّةٍ ذكيّةٍ لتوريطهنّ بما تورَّطت به، ولإيقاعهنَّ في خطيئة التمرّد على تقاليد المجتمع الطبقيّة، فدعتهنّ إليها، {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً}، بما يوحي به ذلك من المجلس المميَّز الّذي يستسلمن فيه للرّاحة والاسترخاء، ليأخذن حرّيّتهن في الجلوس وفي الحديث، في جوٍّ يشبه الجوَّ العائليّ الحميم، {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً}، لتقطع به الفاكهة الّتي قدَّمتها إليهنّ في هذا المجلس.

ثم أطلقَت أمامهنَّ المفاجأة الّتي لم يكنَّ قد تهيّأنَ لها ولم ينتظرْنها، فلم يكن في البرنامج ـ أو هكذا يبدو ـ أن يخرج يوسف إليهنَّ أو يجلس معهنَّ، بما يملك من الحسن الفائق في جماله وإشراقة وجهه الّذي يكاد يضيء لمن حوله بالنّور، في صورةٍ لا تُشبِه أيَّة صورةٍ أخرى، بحيث يُخيَّل للناظر إليها أنها ليس صورة جسدٍ يوحي بالدّهشة والإغراء، بل هي صورة روحٍ تنفتح على كلّ جمالات الرّوح، بحيث تتمثّل صورته في عالمٍ سماويٍّ يحلّق في آفاق الجمال، وليس في عالمٍ أرضيٍّ يحمل ملامح الجمال الّذي يراه النّاس في جمالات الأرض.

وهكذا أصدرت له الأمر، {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}، في أمرٍ حاسم صادر عن السيِّدة لمن تراه عبداً لها، فخرج إليهنَّ بهيئته في قمَّة حسنه وجماله، لأنَّ موقعه يفرض عليه الطّاعة لمن تعتبر سيّدته، فإذا بالزّلزال الشّعوريّ والعاطفيّ والشّهوانيّ ينساب في مشاعرهنّ الغريزيّة في اندفاعة ساحقة. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}، واستصغرن جمالهنّ أمامه، وشعرن بأنّه ليس من هذا العالم الّذي يختزن النّقص في بعض ملامح وجوده من حيث الشَّكل، فهنّ لم يبصرن مثل هذا الإشراق السَّاحر للوجه من قبل، وهذا التّناسق الدّقيق بين الأعضاء في ميزان الجمال، وهذا السِّحر الّذي يتمثَّل في ملامحه السَّاحرة الّتي تسحر العيون وتسلب العقول، وهذه الحلاوة اللّذيذة الَّتي تنفذ في إحساس الذّات.

تأثير يوسف في النّسوة

لقد كان ذلك كلّه مفاجأةً لهنّ، لأنّهنّ كُنّ يتصوّرنه على صورة العبيد السّود الّذين لا يملكون أيّة ميزةٍ إنسانيّةٍ جماليّة، ولهذا كنّ ينكرن على امرأة العزيز أن تراود فتاها عن نفسه، وأن تعشقه عشق المرأة للرّجل لتجذبه إليها. وقد لا يكون ذلك الإنكار ناشئاً من احترامهنّ للأخلاق والعفّة النفسيّة، لأنَّ مجتمعهنَّ الطبقيّ كان غارقاً في الفساد وفي شيوع الخيانة الزّوجيّة بين أفراده، فلم يكن يعير أهميّةً لصدور الخيانة عن رموز المجتمع اللاأخلاقيّ، بل ربّما كان يبتدع لنفسه أخلاقاً خاصّةً تعتمد في خطوطها على الانسجام مع الانفتاح على اللّذّة والحريّة في العلاقات الجنسيّة، سواء في خيانة الأزواج لزوجاتهنّ مع زوجات الآخرين، أو خيانة الزّوجات لأزواجهنَّ مع أزواج الأخريات. وربّما كانت نظرتهنّ ناشئةً من اعتبار موقفها شذوذاً في التصرّف، وانحرافاً عن الذَّوق، عندما تستسلم المرأة السيِّدة الاجتماعيَّة لعبدها الّذي لا يحمل في شخصه أيَّ جمالٍ ولا يوحي بأيِّ إثارة.

أمَّا الآن، فقد وجدْنَ لها كلَّ العذر، لأنَّ المسألة تمثّل وضعاً فوق التّصوّر، لأنّهنّ وقفن أمام هذا الجمال الباهر العظيم في ذهولٍ وانجذاب فقدْنَ معه السَّيطرة على مشاعرهنّ ووعيهنّ، حتى لم يعدْن يعقلن ماذا يفعلن، وربّما حاولت كلّ واحدةٍ منهنَّ أن تجذبه إلى نفسها وتحتضنه في حبٍّ وهيامٍ وتراوده عن نفسه، لأنّه أثار فيهنَّ من سعار الشَّهوة ما لم يحدث لهنّ مع أيّ رجلٍ آخر ممّن يرتبطن بعلاقة معه، وقد أخذ هذا الذّهول مأخذه منهنّ، فتركن تقطيع الفاكهة بالسَّكاكين الّتي بأيديهنّ، {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، من دون شعورٍ بالألم، فإذا بالدِّماء تسيل من الأيدي من دون إحساسٍ بذلك أمام سكرة الشَّهوة وغياب الوعي، بفعل تأثير جمال يوسف عليهنَّ من خلال النَّظرة الأولى الّتي كانت في مستوى الصَّدمة الشّعوريّة والانجذاب اللاشعوريّ.

وقد عبّرن عن ذلك، {وَقُلْنَ حَاشَا للهِ}، في تعبيرٍ يستنكر وصفه بالكلمات المألوفة الّتي تجعله من صنف البشر، كأنّهنّ يقلن حاشا لله أن يكون كذلك فيما يقوله النَّاس عنه، أو تعجّباً من قدرة الله على خلق جميلٍ في صورته أو عفيفٍ مثله. {مَا هَـذَا بَشَراً}، لأنّه ليس هناك بشرٌ يملك مثل هذا الجمال الّذي يكاد يكون روحاً يتجسَّد، {إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}[2]، بما يتصوَّرْن به الملائكة من السّموّ في الجمال الخارق الّذي لا يدانيه جمالٌ في الكون، لأنّهم يمثِّلون أقصى حدود الرَّوعة في التَّكوين. فقد ركَّز الله في الطّباع أن لا أحسن من الملك، ولذلك، يشبّه كلّ متناهٍ في الحسن بالملائكة، وما ركّز ذلك فيها إلا لأنَّ الحقيقة كذلك.

وهنا، جاء دور امرأة العزيز لتثأر منهم في موقفهنَّ منها، وتنديدهنَّ بها، وتشهيرهنَّ بسلوكها السيِّئ المخالف للقيم الاجتماعيَّة في مجتمعهم الّذي عاشوا فيه، ولتدافع عن نفسها، وتبرّر علاقتها بيوسف ومراودتها له الّتي عرَّضتها لهجوم هؤلاء النّسوة، {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}، فإذا كنتنّ قد فقدتنّ شعوركنّ وإرادتكنّ وعقولكنّ أمام النّظرة الأولى لهذا الملاك الجميل، فما بال المرأة الّتي تعيش معه في البيت في كلِّ أوقاتها، في خلوةٍ كاملة توحي إليها بالحريّة الكاملة أمام إغراء الجمال؟! فهل عليَّ لومٌ ذاتيّ أو اجتماعيّ إن فعلت ما فعلت، أو ثارت غرائزي تجاهه؟! إنّها التّجربة الصَّعبة التي لا مثيلَ لها، ولم تتعرّض امرأةٌ لظروفها الإغرائيَّة، ولا تزال النّيران تلهب جسدي، وتثير مشاعري، وتفجّر أحاسيسي وغرائزي كالجحيم، من دون أن أتمكَّن من إطفائها، بل إنّي أعيش الشّعور بالحقارة أمام نظرته المتعفِّفة الورعة المتعالية عن الإغراء الّتي ترفضني وترفض كلَّ هذا الجمال وكلّ هذه اللّذّة الّتي أقدِّمها إليه، وتستهين به وتحتقره، كما أنّه يثير فيَّ الرّغبة التي تشتدّ أمام الامتناع من جهةٍ أخرى، ما يجعلني أحسّ بالهبوط نحو الأسفل وارتفاعه نحو الأعلى.

تهديد يوسف(ع) بالسِّجن

وربّما شعرت بأنَّ حديثها الموجَّه إليهنَّ الَّذي يتمثَّل بالتّبرير والاعتذار، يضعها في موقف الضَّعف؛ فكيف يمتنع هذا العبد عليها وهي السيِّدة المالكة له، المسيطرة عليه؟ وكيف يرفضها وهي الّتي يتساقط كلّ الرّجال تحت أقدامها طلباً لرضاها، وانجذاباً إليها، وطمعاً في مواصلتها؟ ولهذا أرادت أن تستعرض قوّتها أمامه وأمامهنَّ، لئلاّ يحتقرن موقعها منه ويتعاملن معها تعامل الإشفاق عليها بما يوحي باستضعافها، وربّما فكّرن في اجتذاب يوسف إليهنّ في فرصةٍ أخرى بطريقةٍ أخرى، فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} من الخضوع لرغباتي وشهواتي، {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ}[3]، بما أملكه من تأثيرٍ في زوجي وفي أولي الأمر، يتيح لي الضَّغط لإدخاله السِّجن، حيث يشعر بحقارة موقعه، ويعرف حقيقة قدره، فيقف عند حدوده، ولا يتمرَّد على أسياده، ولا يتعالى على رغباتهم في وقفة عزٍّ وكبرياء، وبذلك يفقد الحياة الرّخيّة الّتي كان يتمتَّع بها في بيتها، والحرّيّة التي كان يملكها، والعزّ الّذي كان ينفتح عليه، والرّعاية التي كان يحصل عليها.

إنَّ المسألة هي مسألة ثأرٍ لنفسها، وانتقامٍ لموقعها، وتعزيزٍ لما فقدته من كرامتها. إنّها العقوبة الوحشيَّة الحاقدة الّتي حاولت أن تظهر من خلالها أمام النِّسوة بمظهر القوّة الّتي تملك التّصرّف في النّاس ومصادرة حريّاتهم وكراماتهم بكلّ عنفوانٍ في المظهر وحقارة في الذّات.

والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 30].

[2]  [يوسف: 31].

[3]  [يوسف: 32].

كانت امرأة العزيز الّذي يقيم يوسف(ع) في بيتها لا تزال مشغوفةً بحبّه، طامعةً باستجابته لها، مستخدمةً لذلك مختلف أنواع الضَّغط والإغراء، مثيرةً لشبابه الغريزيّ. وكان هذا الحبُّ يأخذ عليها كلَّ مشاعرها، حتّى إنّه كان يبدو عليها في قسمات وجهها، وفي ملاحظة النّساء اللاتي يزرنها، بما كنَّ يشاهدنه من إقبالها عليه، وطريقتها في التَّعامل الإغرائيّ معه. وربّما كانت تحدّث صديقاتها ومعارفها بغرامها به، ولا تخفي عنهنَّ سرّها، ولربّما كان مجتمع تلك النّساء يتحدَّثن عن هذا الوضع الغريب الّذي لم يكن مألوفاً، لأنَّ العلاقات الغراميَّة ربّما كانت سائدةً بينهم، ولكنَّها لم تعهد بين السَّادة والعبيد.

تنديد المجتمع بامرأة العزيز

ولذلك، كانت محلَّ استغرابٍ في صدورها عن هذه المرأة الّتي كانت تملك موقعاً مميَّزاً ورصيداً محترماً، لأنّها من شخصيَّات المجتمع، الأمر الَّذي جعل النِّساء يتناقلن الخبر بشكلٍ واسعٍ من واحدةٍ إلى أخرى، حتّى انتشر بين النَّاس، وهذا ما ذكره القرآن: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً}. والشَّغف من مادّة الشِّغاف، ومعناه القلب، أو الغشاء الرّقيق المحيط بالقلب. و{شَغَفَهَا حُبّاً}، معناه أنّها تعلَّقت به إلى درجةٍ، بحيث نفذ حبّه إلى قلبها، واستقرَّ في أعماقها، حتّى اندفعت نحوه لتضغط على مشاعره في ممارسة الفحشاء معها، ولتمارس الخيانة الزّوجيّة من خلال ذلك، غير عابئةٍ بالقيم الأخلاقيَّة الاجتماعيَّة الّتي تحكم التزامات النَّاس في عهود الزّواج.

{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[1]، فهذا هو الحكم الَّذي أصدرنه عليها، والنَّظرة التي نظرْنَ بها إلى علاقتها بفتاها المملوك لها. وأيّ ضلالٍ أبعد وأوضح من عشق السيِّدة لعبدها، بما يمثّله ذلك من خسَّةٍ في النَّفس وسقوطٍ اجتماعيّ، وخروجٍ عن التّقاليد المألوفة المحترمة في النّسيج الاجتماعيّ، وتنكّر للطّبقة المميّزة في مواقع النّخبة التي تنتمي إليها؟! فإذا كان المجتمع الرّاقي لديهم يبيح للمرأة أن تخون زوجها، وتتَّخذ لها عشيقاً خارج الشّرعيّة القانونيّة، فإنّ عليها أن تتَّخذه من داخل طبقتها الرّفيعة الّتي تنتمي إليها، لئلاّ تسيء إلى تقاليدها الطّبقيَّة الّتي تفرض عليها إقامة الحواجز بينها وبين الطّبقة السّفلى، ولا سيَّما إذا كان أفرادها من العبيد، فلا تتنازل السيِّدة الكبيرة في المجتمع لعبدها، مهما كانت الظّروف، في أيّة حالة عطفٍ وشهوة؛ فكيف يُسمَح لها أو تسمح لنفسها بأن تدعوه إلى نفسها وتراوده عن نفسه من أجل ممارسة الجنس معها؟!

وهكذا بدأ الحديث عنها يتَّخذ منحى خطيراً في تشويه سمعتها، وتحقير مكانتها، وإسقاط مركزها، والتَّنديد بخروجها عن الأخلاق والقيم المجتمعيّة الطبقيَّة الّتي يحترمها مجتمعها، الّذي يرى في الخروج عنها ضلالاً مبيناً وانحرافاً خطيراً. وربّما كانَ حديثهنَّ السَّلبيّ عنها صادراً عن سوء نيَّة أو شعورٍ بالحسد لها، لا عن إخلاصٍ للقيم الاجتماعيّة والتّقاليد الطّبقيّة.

تبرير الموقف أمام النِّساء

وقرَّرت أن تدافع عن نفسها، وتبرّر موقفها، لتؤكِّد لهنَّ أنَّ ما فعلته قد يفعلنه لو أنّهنّ عشْنَ الظّروف الّتي عاشتها، أو التقين بأمثال الشّابِّ الّتي راودته عن نفسه، بحيث يراودنه عن نفسه كما راودته هي عن نفسه.

وهذا ما قصَّه الله في كتابه: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ}، بما يتحدَّثن به عنها من السّوء، وما يسعين له من تحقيرٍ وإسقاطٍ لمكانتها في المجتمع، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}، في دعوةٍ اجتماعيّةٍ لا توحي بأيّ طابعٍ خاصٍّ مميَّز، تماماً كما هي عادة النِّساء في اجتماعاتهنّ الخاصَّة في مناسبة فرحٍ أو حزنٍ، أو للأخذ بأسباب اللَّهو، أو التحدّث بأمرٍ طارئ، أو بأيّ شيءٍ يملأ الفراغ ويمتّع النّفس، وكانت تريد مفاجأتهنّ والالتفاف على مكرهنّ بمكرٍ أشدِّ تأثيراً، في عمليّةٍ ذكيّةٍ لتوريطهنّ بما تورَّطت به، ولإيقاعهنَّ في خطيئة التمرّد على تقاليد المجتمع الطبقيّة، فدعتهنّ إليها، {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً}، بما يوحي به ذلك من المجلس المميَّز الّذي يستسلمن فيه للرّاحة والاسترخاء، ليأخذن حرّيّتهن في الجلوس وفي الحديث، في جوٍّ يشبه الجوَّ العائليّ الحميم، {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً}، لتقطع به الفاكهة الّتي قدَّمتها إليهنّ في هذا المجلس.

ثم أطلقَت أمامهنَّ المفاجأة الّتي لم يكنَّ قد تهيّأنَ لها ولم ينتظرْنها، فلم يكن في البرنامج ـ أو هكذا يبدو ـ أن يخرج يوسف إليهنَّ أو يجلس معهنَّ، بما يملك من الحسن الفائق في جماله وإشراقة وجهه الّذي يكاد يضيء لمن حوله بالنّور، في صورةٍ لا تُشبِه أيَّة صورةٍ أخرى، بحيث يُخيَّل للناظر إليها أنها ليس صورة جسدٍ يوحي بالدّهشة والإغراء، بل هي صورة روحٍ تنفتح على كلّ جمالات الرّوح، بحيث تتمثّل صورته في عالمٍ سماويٍّ يحلّق في آفاق الجمال، وليس في عالمٍ أرضيٍّ يحمل ملامح الجمال الّذي يراه النّاس في جمالات الأرض.

وهكذا أصدرت له الأمر، {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}، في أمرٍ حاسم صادر عن السيِّدة لمن تراه عبداً لها، فخرج إليهنَّ بهيئته في قمَّة حسنه وجماله، لأنَّ موقعه يفرض عليه الطّاعة لمن تعتبر سيّدته، فإذا بالزّلزال الشّعوريّ والعاطفيّ والشّهوانيّ ينساب في مشاعرهنّ الغريزيّة في اندفاعة ساحقة. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}، واستصغرن جمالهنّ أمامه، وشعرن بأنّه ليس من هذا العالم الّذي يختزن النّقص في بعض ملامح وجوده من حيث الشَّكل، فهنّ لم يبصرن مثل هذا الإشراق السَّاحر للوجه من قبل، وهذا التّناسق الدّقيق بين الأعضاء في ميزان الجمال، وهذا السِّحر الّذي يتمثَّل في ملامحه السَّاحرة الّتي تسحر العيون وتسلب العقول، وهذه الحلاوة اللّذيذة الَّتي تنفذ في إحساس الذّات.

تأثير يوسف في النّسوة

لقد كان ذلك كلّه مفاجأةً لهنّ، لأنّهنّ كُنّ يتصوّرنه على صورة العبيد السّود الّذين لا يملكون أيّة ميزةٍ إنسانيّةٍ جماليّة، ولهذا كنّ ينكرن على امرأة العزيز أن تراود فتاها عن نفسه، وأن تعشقه عشق المرأة للرّجل لتجذبه إليها. وقد لا يكون ذلك الإنكار ناشئاً من احترامهنّ للأخلاق والعفّة النفسيّة، لأنَّ مجتمعهنَّ الطبقيّ كان غارقاً في الفساد وفي شيوع الخيانة الزّوجيّة بين أفراده، فلم يكن يعير أهميّةً لصدور الخيانة عن رموز المجتمع اللاأخلاقيّ، بل ربّما كان يبتدع لنفسه أخلاقاً خاصّةً تعتمد في خطوطها على الانسجام مع الانفتاح على اللّذّة والحريّة في العلاقات الجنسيّة، سواء في خيانة الأزواج لزوجاتهنّ مع زوجات الآخرين، أو خيانة الزّوجات لأزواجهنَّ مع أزواج الأخريات. وربّما كانت نظرتهنّ ناشئةً من اعتبار موقفها شذوذاً في التصرّف، وانحرافاً عن الذَّوق، عندما تستسلم المرأة السيِّدة الاجتماعيَّة لعبدها الّذي لا يحمل في شخصه أيَّ جمالٍ ولا يوحي بأيِّ إثارة.

أمَّا الآن، فقد وجدْنَ لها كلَّ العذر، لأنَّ المسألة تمثّل وضعاً فوق التّصوّر، لأنّهنّ وقفن أمام هذا الجمال الباهر العظيم في ذهولٍ وانجذاب فقدْنَ معه السَّيطرة على مشاعرهنّ ووعيهنّ، حتى لم يعدْن يعقلن ماذا يفعلن، وربّما حاولت كلّ واحدةٍ منهنَّ أن تجذبه إلى نفسها وتحتضنه في حبٍّ وهيامٍ وتراوده عن نفسه، لأنّه أثار فيهنَّ من سعار الشَّهوة ما لم يحدث لهنّ مع أيّ رجلٍ آخر ممّن يرتبطن بعلاقة معه، وقد أخذ هذا الذّهول مأخذه منهنّ، فتركن تقطيع الفاكهة بالسَّكاكين الّتي بأيديهنّ، {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، من دون شعورٍ بالألم، فإذا بالدِّماء تسيل من الأيدي من دون إحساسٍ بذلك أمام سكرة الشَّهوة وغياب الوعي، بفعل تأثير جمال يوسف عليهنَّ من خلال النَّظرة الأولى الّتي كانت في مستوى الصَّدمة الشّعوريّة والانجذاب اللاشعوريّ.

وقد عبّرن عن ذلك، {وَقُلْنَ حَاشَا للهِ}، في تعبيرٍ يستنكر وصفه بالكلمات المألوفة الّتي تجعله من صنف البشر، كأنّهنّ يقلن حاشا لله أن يكون كذلك فيما يقوله النَّاس عنه، أو تعجّباً من قدرة الله على خلق جميلٍ في صورته أو عفيفٍ مثله. {مَا هَـذَا بَشَراً}، لأنّه ليس هناك بشرٌ يملك مثل هذا الجمال الّذي يكاد يكون روحاً يتجسَّد، {إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}[2]، بما يتصوَّرْن به الملائكة من السّموّ في الجمال الخارق الّذي لا يدانيه جمالٌ في الكون، لأنّهم يمثِّلون أقصى حدود الرَّوعة في التَّكوين. فقد ركَّز الله في الطّباع أن لا أحسن من الملك، ولذلك، يشبّه كلّ متناهٍ في الحسن بالملائكة، وما ركّز ذلك فيها إلا لأنَّ الحقيقة كذلك.

وهنا، جاء دور امرأة العزيز لتثأر منهم في موقفهنَّ منها، وتنديدهنَّ بها، وتشهيرهنَّ بسلوكها السيِّئ المخالف للقيم الاجتماعيَّة في مجتمعهم الّذي عاشوا فيه، ولتدافع عن نفسها، وتبرّر علاقتها بيوسف ومراودتها له الّتي عرَّضتها لهجوم هؤلاء النّسوة، {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}، فإذا كنتنّ قد فقدتنّ شعوركنّ وإرادتكنّ وعقولكنّ أمام النّظرة الأولى لهذا الملاك الجميل، فما بال المرأة الّتي تعيش معه في البيت في كلِّ أوقاتها، في خلوةٍ كاملة توحي إليها بالحريّة الكاملة أمام إغراء الجمال؟! فهل عليَّ لومٌ ذاتيّ أو اجتماعيّ إن فعلت ما فعلت، أو ثارت غرائزي تجاهه؟! إنّها التّجربة الصَّعبة التي لا مثيلَ لها، ولم تتعرّض امرأةٌ لظروفها الإغرائيَّة، ولا تزال النّيران تلهب جسدي، وتثير مشاعري، وتفجّر أحاسيسي وغرائزي كالجحيم، من دون أن أتمكَّن من إطفائها، بل إنّي أعيش الشّعور بالحقارة أمام نظرته المتعفِّفة الورعة المتعالية عن الإغراء الّتي ترفضني وترفض كلَّ هذا الجمال وكلّ هذه اللّذّة الّتي أقدِّمها إليه، وتستهين به وتحتقره، كما أنّه يثير فيَّ الرّغبة التي تشتدّ أمام الامتناع من جهةٍ أخرى، ما يجعلني أحسّ بالهبوط نحو الأسفل وارتفاعه نحو الأعلى.

تهديد يوسف(ع) بالسِّجن

وربّما شعرت بأنَّ حديثها الموجَّه إليهنَّ الَّذي يتمثَّل بالتّبرير والاعتذار، يضعها في موقف الضَّعف؛ فكيف يمتنع هذا العبد عليها وهي السيِّدة المالكة له، المسيطرة عليه؟ وكيف يرفضها وهي الّتي يتساقط كلّ الرّجال تحت أقدامها طلباً لرضاها، وانجذاباً إليها، وطمعاً في مواصلتها؟ ولهذا أرادت أن تستعرض قوّتها أمامه وأمامهنَّ، لئلاّ يحتقرن موقعها منه ويتعاملن معها تعامل الإشفاق عليها بما يوحي باستضعافها، وربّما فكّرن في اجتذاب يوسف إليهنّ في فرصةٍ أخرى بطريقةٍ أخرى، فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} من الخضوع لرغباتي وشهواتي، {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ}[3]، بما أملكه من تأثيرٍ في زوجي وفي أولي الأمر، يتيح لي الضَّغط لإدخاله السِّجن، حيث يشعر بحقارة موقعه، ويعرف حقيقة قدره، فيقف عند حدوده، ولا يتمرَّد على أسياده، ولا يتعالى على رغباتهم في وقفة عزٍّ وكبرياء، وبذلك يفقد الحياة الرّخيّة الّتي كان يتمتَّع بها في بيتها، والحرّيّة التي كان يملكها، والعزّ الّذي كان ينفتح عليه، والرّعاية التي كان يحصل عليها.

إنَّ المسألة هي مسألة ثأرٍ لنفسها، وانتقامٍ لموقعها، وتعزيزٍ لما فقدته من كرامتها. إنّها العقوبة الوحشيَّة الحاقدة الّتي حاولت أن تظهر من خلالها أمام النِّسوة بمظهر القوّة الّتي تملك التّصرّف في النّاس ومصادرة حريّاتهم وكراماتهم بكلّ عنفوانٍ في المظهر وحقارة في الذّات.

والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 30].

[2]  [يوسف: 31].

[3]  [يوسف: 32].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية