كان اللّقاء الّذي دبَّرته امرأة العزيز ليوسف للدِّفاع عن نفسها، صدمةً عنيفةً للنَّبيّ يوسف؛ الشابّ التقيّ النقيّ الّذي تمتلئ ذاته بالعفَّة والطَّهارة، وربّما رأى أنَّ تجربته مع امرأة العزيز يمكن أن تتكرَّر مع كلّ واحدةٍ منهنّ، ممّا رآه من شغفهنّ به وانجذابهنّ إليه واشتهائهنّ له، وشعر بأنّه محاصَرٌ بهذا الجمال المتنوّع بين امرأة العزيز الّتي راودته عن نفسه، وكانت تدعوه إلى نفسها في اللَّيل والنَّهار، وتضغط على شبابه بكلّ ما تملكه من أساليب الإغراء والإغواء، بهدف إثارة غريزته وتفجير شهوته، وهؤلاء النّسوة اللاتي أغرقنه بإعجابهنّ به في هذا اللّقاء، وربّما أحسَّ ببداية مراودتهنّ له عن نفسه، بطريقةٍ خفيّة أو معلنة.
ضغط النّسوة على يوسف
وربّما كنّ يفكّرْنَ في ملاحقته في المستقبل، ودعوته إلى بيوتهنّ بطريقةٍ حميمةٍ ضاغطةٍ، وقد يحاولن الضَّغط الشّديد عليه بتهديده بطريقةٍ وبأخرى، بما يملكنه من موقعٍ اجتماعيّ أو مركز رسميّ إذا لم يستجب لهنّ، وذلك بسجنه أو تدمير أوضاعه، على الطّريقة التي أشارت إليها امرأة العزيز.
فماذا يفعل أمام ذلك؟ وكيف يهرب من هذه الحالة الَّتي تشبه المأزق؟ إنّه بشرٌ كبقيّة البشر في تأثّره الطّبيعيّ الغريزيّ، وليس من الملائكة، ولذلك فربّما كان يخشى على نفسه من الميل إليهنّ، ومن سقوطه في التَّجربة الصَّعبة المنحرفة أخيراً، لأنَّ القدرة على المقاومة والصَّلابة في قوّة الإرادة، والارتفاع إلى مستوى القيمة الرّوحيَّة، قد تضعف أو تتلاشى أمام هذه الضّغوط من الإغراءات المحيطة به، لأنَّ القضيَّة أقوى من قدراته الحاليّة، وهذا ربّما ما كان يفكّر فيه ويستعيذ بالله منه.
إنَّ يوسف بشرٌ كبقيَّة البشر، تماماً كما هي حال كلّ الأنبياء الّذين يؤكِّد الله بشريّتهم في قدراتهم الذاتيَّة، وفي حالاتهم النّفسيَّة، وفي مشاعرهم الدّاخليَّة، ولذلك، فإنّهم يتأثّرون بما يتأثّر به النّاس، ويستجيبون لما يستجيبون له. ولولا أنَّ الله ركَّب في تكوينهم ملكة العصمة، وارتفع بهم إلى مستوى روحيَّة القيمة وأخلاقيّة الرّوح، لسقطوا كما سقط غيرهم من النّاس، وانفعلوا بما ينفعلون به. ولولا رعاية الله له، وعنايته به، وتقويته لإرادته، وعصمته، لانقاد كغيره إلى ما يدعونه إليه، كما أرادت له زليخا أن ينقاد إليها في دعوتها الفاجرة. ولكنَّه انطلق من أعماق روحيَّته، وانفتح على آفاق معرفته التَّوحيديَّة وإخلاصه الإيمانيّ، فها هو يستعين بالله في هذا الموقف كما استعان به في موقفه معها، في عمليَّة استعاذةٍ صرفت عنه السّوء والفحشاء، وأراد من الله أن ينقذه الآن من كلِّ هذا الجمع المشبع بالإغراء والإغواء، والضَّاغط بالدَّعوة إلى الانحراف عن الخطِّ المستقيم، كما تكفَّل بإنقاذه من قبل.
إنّه الإنسان الَّذي ذاب في الله، وآمن به، وأقرّ بربوبيّته، ووحَّده بالعقيدة والعبادة والطّاعة، فكان الله في ذاته كلّ وجوده، فلم يكن هناك ربٌّ غيره، ولا إله سواه، ولا وجود في معنى الخلق والوجود إلا من خلاله. ولذلك، كان توجّهه في كلِّ إحساسه وشعوره، وكلّ عقله وفكره، أنّه يفضِّل مصائب الدّنيا وآلامها كلّها على أيّة معصية لربّه، ولهذا لجأ إلى الله وابتهل إليه بكلّ قلبه، في دعاءٍ خاشعٍ حارٍّ مبتهل، وبروحيّة العبد الّذي تحضر كلّ مشاعره وأحاسيسه، ويتحرّك كلّ عقله، وتنطلق كلّ إرادته، طلباً للنَّجاة من هذا المأزق، ومن ملاحقة الشَّيطان الّذي يريد إسقاط عفَّته وأمانته وأخلاقيّته ووفائه والتزاماته الأخلاقيَّة وقيمه الرّوحية، ليبعده عن محبّة الله ومواقع القرب إليه.
إنّه يعيش في هذه اللَّحظة حالةً أشبه بحال الطّوارئ، فهو ينشد الخلاص من هذا الحصار الشَّهوانيّ الّذي يحيط به، والّذي يعرض عليه الاستجابة للانجذاب إلى هذا الجمال المتنوّع بكلِّ كنوزه.
رغبة يوسف(ع) بالسِّجن
وهكذا، رفع كفّيه بالدّعاء إلى الله: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}، من ارتكاب الفاحشة، والخضوع للتأثّر بالسّقوط أمام الإغراء، لأنَّ السّجن قد يمنحني الخلوة بك، والانقطاع إليك، والتأمّل في آفاق معرفتك، والانفتاح على سرِّ توحيدك، فأخلص إليك، وأقرب منك، وأعيش في أجواء الرّوح الّذي يفيض منك، واللّطف الّذي ينفتح منك عليّ، والرَّحمة الّتي تملأ كياني. وإذا كان السِّجن يضيق بي في الجدران الّتي تحاصرني وتحجز حرّيتي عن الحركة، فإنّه عندي، مع رضاك، أفضل وأحبّ إليَّ من الحرّيّة واللّذّة والمنفعة مع معصيتك، لأنَّ في رضاك سعادة الرّوح في الدّنيا والآخرة، أمَّا غضبك، فإنّه يؤدِّي إلى شقاء الرّوح في الدّنيا والآخرة.
إنّني ـ يا ربّ ـ أقف الآن بين سعادة الأبد في خطِّ الطَّاعة مع ظلام السّجن، وشقاء الأبد في حركة المعصية في نور الحريّة، فأرى في السِّجن السّعادة، وفي الحريّة الشّقاء. فأعنّي ـ يا ربّ ـ على بلوغ رضاك، وقوِّ إرادتي لأقف في ساحة محبَّتك، وامنعني من أن أقارف معصيتك، {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ}، بما تمنحني إيّاه من قوّة الإيمان وصلابة الإرادة، وبما تبعدني به عن أجواء الإغراء، {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}، وأمِل إلى تحقيق رغباتهنّ الّتي قد تخضع لها رغبتي البشريّة اللاشعوريّة، {وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}[1]، الَّذين خسروا أنفسهم يوم القيامة لقاء لذَّةٍ فانيةٍ لا تمثِّل شيئاً في عالم السَّعادة والخلود.
وهكذا تتمثّل في هذا الموقف النَّفسيّ الإيمانيّ الرّوحيّ المتمرّد على أشدّ أنواع الإغراء، أروع مواقف الرَّفض للانحراف، وأعلى حالات السّموّ الأخلاقيّ، من أجل أن يستقيم للمؤمن خطّه، ويتعمَّق إيمانه، ويؤكِّد عمق الالتزام في عصمته، ويستمرّ في حركته الصَّاعدة إلى الذّروة المنفتحة على مواقع القيمة الرّوحيَّة. إنّه الموقف الّذي يعيش فيه الإنسان الصراع بين حريّة جسده في التحرّك في خطِّ الشّيطان، والخضوع لشّهواته وغرائزه المنحطّة، وبين حريّة روحه في التحرّك في خطِّ الله والالتزام بطاعته.
الإرادة أمام الإغراءات
لقد فكَّر يوسف(ع) في أنَّ الاستسلام لرغبة امرأة العزيز وصويحباتها في ممارسة الفاحشة معهنَّ، يجعله في موقع العبوديّة لهنّ، بحيث لا يملك إرادته أمامهنّ، وبذلك يفقد إنسانيّته الحرّة فكراً وشعوراً وحركة إيمان، وربّما كان يفكِّر أنَّ عبوديّته لامرأة العزيز الَّتي كان يخضع لها، ويسقط أمام رغباتها وطلباتها العاديّة العامّة، لم تكن هي المشكلة الكبيرة الّتي حاول أن يتفاداها أو يتحدَّاها، لأنَّها كانت تمثِّل حجزاً لحريَّته في حركة حياته من تنقّلات حركيَّة وتوقيتٍ لليقظة والنّوم، وقد عمل على خدمتها وخدمة زوجها، ولكنَّ ذلك لم يكن ليقترب من عمق المضمون الرّوحيّ لإنسانيَّته في عنفوان الإيمان والبعد الأخلاقيّ والسّلوكيّ في الالتزام بأمر الله ونهيه.
أمَّا الاستسلام إلى ما يُردنه له من شهواتٍ، فيمثّل السّقوط والانحطاط الأكبر في الهاوية، حيث يفقد قيمه الأخلاقيّة والروحيّة، ويفقد الإيمان بمبادئه ورسالته، وبهذا تتحقَّق عبوديّته للبشر بأقسى دلالاتها في نفسه، فلا يعود يملك أن يقرّر بحريّة، ولا يكون باستطاعته أن يوجّه إرادته باستقلال. ولهذا، اختار السِّجن الّذي تكبّل فيه حركة الجسد، ليرتفع بروحه إلى فضاء الحريّة، ورفض كلّ تسويلاتهنّ وضغوطهنّ وإغراءاتهنّ، الّتي تمثِّل العبوديّة العمياء الّتي تسقط عندها إنسانيّته الحرّة.
وهكذا انطلق الإنسان الحرّ من أعماقه، لتبقى له إرادة الحريّة في حياته، وليولد في شخصه إنسانٌ جديدٌ ينفتح على المستقبل الحركيّ الواسع الّذي يؤدِّي فيه رسالته، وليقوم بإدارة شؤون النّاس طاهراً نقيّاً، ليس في تاريخه عيبٌ يعيبه، ولا في سلوكه خطيئةٌ ترهق ضميره، وليشعر النّاس بأنهم يتبعون إنساناً رساليّاً يرتفع إلى آفاق السّموّ ودرجات القيمة العليا.
العصمة وبشريَّة الرّسول
وهناك سؤالٌ يثيره الكثيرون من المفسِّرين وغيرهم حول هذه الحالات النّفسيَّة الّتي راودت يوسف عندما راودته امرأة العزيز عن نفسه، أو الّتي أثارت في ذهنه القلق الحائر في لقاء النّسوة له ودعوتهنّ إليه في عمليَّة انجذابٍ وشهوة، والسّؤال هو: ما هي علاقة ذلك كلّه بقضيَّة العصمة؛ فكيف يخطر في بال المعصوم، ولا سيَّما إذا كان نبيّاً، مثل هذه الخواطر، وكيف تدخل في ذهنه تلك الهواجس الّتي تلتقي فيها الغريزة بالذَّات؟
وقد كان رأي البعض أنَّ العصمة قد تسبق النبوّة، كما قد تلحقها أو ترافقها، بينما يرى بعضٌ آخر، أنَّ النَّبيَّ إذا لم يكن معصوماً قبل البعثة، فلا بدَّ من أن يكون ذا مناعةٍ أخلاقيَّةٍ لا تسقط أمام أيّة حالةٍ من حالات الإغراء، لأنَّ مسألة النبوّة ليست مجرَّد وظيفةٍ تتعلّق بالدّعوة، بل هي مسألةٌ تتَّصل بالحكمة والتّزكية والعمق المتأصِّل في أعماق الشّخصيَّة، وبروحيّة النبيّ في قوّة الشّخصيَّة التي لا تضعف أمام عوامل الانحراف، لأنّ دوره الإنسانيّ هو في القيام بمهمّة تغيير العالم على أساس الرّسالة، هذا إلى جانب شهادة الله بأنَّه من عباده المخلصين، كما ذكر في آخر الآية في قصَّة يوسف، ما يفرض أن يكون الإخلاص الكلّيّ لله في العبوديّة وفي الطّاعة سرّاً مركوزاً في شخصيَّته، لا حالةً طارئةً عليها.
ولكنّنا في الوقت الَّذي نلتقي مع هؤلاء في جوِّ الفكرة، مع بعض التحفّظات في تفاصيلها، نعتقد أنَّ العصمة أو المناعة الرّوحيَّة أو القوّة الأخلاقيَّة، لا تتنافى مع الحالة الإنسانيّة المتمثّلة ببشريّة الرَّسول في خضوعها لعوامل التّأثر الطّبيعيّ الإنسانيّ بالرّغبة والرّهبة والأحاسيس الجسديّة والمشاعر النّفسيّة، بل إنّ كلّ ما تؤمّنه هو الالتزام الفكريّ والرّوحيّ والعمليّ في الخطِّ المستقيم؛ فلا ينحرف في موقفٍ، ولا يسقط في تجربةٍ، ولا يخطئ في رأيٍ، ولا يكذب في قولٍ. أمَّا التَّهاويل الذاتيَّة والخطرات الإحساسيَّة والتأثّرات الجسديّة إذا حدث هناك ما يثيرها، فهي أمور طبيعيّة تخطر في ذهنه أو في شعوره، ثم تغيب وتتلاشى، لتبقى له طهارته النقيَّة وعصمته الرّوحيَّة وإرادته الإيمانيَّة. ولذلك، لا مجال لإثارة الشّبهة حول موقف يوسف(ع)، كما يظهر في آية المراودة، أو في آية الانجذاب النِّسائي المجتمعيّ، ولا مجال للتَّأويل والتكلّف الّذي يبتعد عن المضمون الحقيقيّ للعصمة. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [يوسف: 33].