في أجواء قصَّة النّبيّ يعقوب(ع)، نتحدَّث في هذا العدد عن معنى الأسباط، الَّذين قيل إنَّهم ذريَّة يعقوب(ع)، الَّذين أوصاهم بالالتزام بخطِّ التَّوحيد الَّذي سار فيه إدريس وإسماعيل(ع).
معنى الأسباط
فلقد تكرَّر ذكر كلمة الأسباط في القرآن ملحقةً بذكر يعقوب، واختلف المفسّرون في معنى الكلمة، ومضمونها اللّغويّ، ومصداقها الخارجيّ، وموقع أشخاصها من حيث القداسة الرّساليَّة.
وربما يكون سبب ذكر هؤلاء بعد ذكر يعقوب وآبائه، أنَّ لهم صلة انتساب وقرابة له، كما أنَّ ذكرهم مع الأنبياء قد يدفع إلى اعتبارهم أنبياء، ولكن هناك من نفى أن يكونوا أولاد يعقوب، وهذا ما نحاول الحديث عنه. فقد أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس، أنَّ الأسباط بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً، وكلّ واحد منهم ولد أمَّةً من النّاس.
وجاء في التَّفسير الكبير للفخر الرّازي: "قال الخليل: السِّبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب. وقال صاحب الكشّاف: والسّبط الحافد ـ الحفيد ـ وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله، والأسباط حفدة يعقوب وذراري أبنائه الإثني عشر"[1]. ويدلّ ذلك على أنَّ المقصود بكلمة الأسباط هو الامتداد النّسبيّ لأولاد يعقوب، الَّذين يمثِّلون مجتمعاً متعدِّداً بتعدّد الآباء، ولكنّ ذلك لا ينطبق على يعقوب الّذي هو الأب لهم وليس فرعاً.
وجاء في روح المعاني للألوسي، أنَّ "الأسباط جمع سبط، كأحمال وحمل، وهم أولاد إسرائيل ـ وهو اسم يعقوب ـ وقيل: هم في أولاد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل، مأخوذ من السّبط، وهو شجرة كثيرة الأغصان، فكأنهم سُمّوا بذلك لكثرتهم. وقيل: من السّبوطة، وهي الاسترسال، وقيل إنّه مقلوب البسط، وقيل إنَّ الحسنين سبطا رسول الله(ص) لانتشار ذرّيتهم، وقيل لكلّ ابن بنت سبط ـ وهذا هو المشهور في الاستعمال العرفي ـ وكذا قيل له حفيد أيضاً"[2].
وقد جاء في المفردات للرّاغب الأصفهاني: "والسّبط ولد الولد، كأنّه امتدادٌ لفروع، قال: ويعقوب والأسباط، أي قبائل كلّ قبيلة من نسل رجلٍ أسباطاً أمماً"[3].
"الأسباط" في تفسير الألوسي
ونتابع مع الألولسي: "واختلف الناس في الأسباط أولاد يعقوب؛ هل كانوا كلّهم أنبياء أم لا؟ والّذي صحَّ عندي هو الثّاني، وهو المرويّ عن جعفر الصَّادق(ع)، وإليه ذهب السّيوطي وألّف فيه، لأنَّ ما وقع منهم مع يوسف(ع) ينافي النبوَّة قطعاً، وكونه قبل البلوغ غير مسلّم، لأنَّ فيه أفعالاً لا يقدر عليها إلا البالغون، وعلى تقدير التَّسليم، لا يجدي نفعاً على ما هو القول الصَّحيح في شأن الأنبياء، وكم كبيرة تضمَّن ذلك الفعل، وليس في القرآن ما يدلُّ على نبوَّتهم، والآية قد علمت ما ذكرنا فيها، فاحفظ ذلك هُديت"[4].
وجاء في مجمع البيان للطَّبرسي، "قال قتادة: هم يوسف وأخوته بنو يعقوب، ولد كلّ واحدٍ منهم أمّةً من النّاس، فسُمّوا الأسباط، وبه قال السّدّي والرّبيع ومحمد بن إسحاق، وذكروا أسماء الإثني عشر: يوسف وبنيامين وزبالون وروبيل ويهوذا وشمعون ولاوي ودان وقهاب ويشجر ونفتالي وجاد، وأشرفهم ولد يعقوب لا خلاف بين المفسّرين فيه. وقال كثير من المفسّرين إنهم كانوا أنبياء. والَّذي يقتضيه مذهبنا، أنهم لم يكونوا أنبياء بأجمعهم، لأنَّ ما وقع منهم من المعصية فيما فعلوه بيوسف لا خفاء به، والنّبيّ عندنا معصوم من القبائح، صغيرها وكبيرها، وليس في ظاهر القرآن ما يدلّ على أنهم كانوا أنبياء، وقوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم}[5]، لا يدلّ على أنهم كانوا أنبياء، لأنَّ الإنزال يجوز أنّه كان على بعضهم ممن كان نبيّاً، ولم يقع منه ما ذكرناه من الأفعال القبيحة.
ويحتمل أن يكون مثل قوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم}، وأنَّ المنـزل على النّبيّ خاصّةً، لكنّ المسلمين لما كانوا مأمورين بما فيه، أضيف الإنزال إليهم. وقد روى العياشي في تفسيره عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: قلت له: أكان ولد يعقوب أنبياء؟ قال: لا، ولكنّهم كانوا أسباطاً أولاد الأنبياء، ولم يكونوا فارقوا الدّنيا إلا سعداء، تابوا وتذكّروا ما صنعوا"[6].
في تفسير الميزان
وجاء في تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي (رحمه الله): "الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل، والسّبط كالقبيلة، الجماعة يجتمعون على أبٍ واحد، وقد كانوا اثنتي عشرة أسباطاً أمماً، وكلّ واحدة منهم تنتمي إلى واحدٍ من أولاد يعقوب، وكانوا اثني عشر، فخلف كلّ واحدٍ منهم أمّةً من النّاس، فإن كان المراد بالأسباط الأمم والأقوام، فنسبة الإنزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم، وإن كان المراد بالأسباط الأشخاص، كانوا أنبياء أنزل إليهم، وليسوا بأخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء.
ونظير الآية قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى...} [7]"[8]. والظَّاهر أنَّ الوحي كان لإبراهيم، فهو الّذي خاطبه الله برسالته، وفرض عليه الملَّة الحنيفيَّة من خلال العنوان الإسلاميّ الشَّامل لكلِّ مفردات الرِّسالة وكلّ إيحاءاتها، ثم اتّبعه أبناؤه وأحفاده في الالتزام بهذا الوحي الإلهي، كما لو كانوا ممّن أوحي إليهم به.
وهكذا، كان ذكر الأسباط امتداداً للذّريَّة الطيِّبة من نسل إبراهيم في حركة الزَّمن، بحيث تتابع فيها الأنبياء والصَّالحون والملتزمون بالإسلام، الَّذي كان وصيَّة إبراهيم لولده بالسَّير في خطّه الأصيل، ووصيّة يعقوب لبنيه عند وفاته، بأن تنتهي حياتهم بالإسلام، وأن تكون عقولهم وقلوبهم وحياتهم في خطِّ التَّوحيد.
إدريس(ع) النّبيّ الصّدّيق
ومن هؤلاء، نبيّ من أنبياء ما قبل التّاريخ، وهو النّبيّ إدريس، وقد تحدَّثت الرّوايات في سيرته، أنَّه كان في محكمة جبَّارٍ امتنع أحد أفراد شعبه عن بيعه أرضه، فقتله ليستولي عليها، فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك ليهدِّده بأنه سيسلبه ملكه في العاجل، فما كان من إدريس إلا أن بلَّغه رسالة الله، فطرده الملك الجبّار، وأراد قتله، فخرج هارباً من البلد.
وهكذا كانت تفاصيل هذه القصَّة الَّتي لم تثبت صحَّتها، لأنها لم تتوثَّق بسندٍ موثوق. وقد شاع بين أهل السِّير والآثار، أنّه أوَّل من خطَّ بالقلم، وأوَّل من خاط. وفي تفسير القمّي، قال: "وسمّي إدريس لكثرة دراسته الكتب"[9].
وقد ذكر في القرآن في آيتين في سورة مريم، وذلك في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}[10]. وفي هذا دلالة على أنّه كان الصدّيق الَّذي تميَّز بالصِّدق في كلامه ورسالته ومواقفه مع نفسه ومع الله ومع النَّاس، وقد رفعه الله مكاناً عليّاً من خلال صفاته المميَّزة، ونشاطه في سبيل الدَّعوة إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته، مما تميَّز به من الصّفات الرّوحيَّة والعمليَّة الَّتي يختار الله من خلالها رسله، فجعله نبيّاً يبلِّغ رسالات الله ويهدي النّاس إلى الحقّ.
وجاء في آيةٍ أخرى في سورة الأنبياء: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ}[11]، فقد ذكره الله في عداد الأنبياء الّذين أدخلهم في رحمته، بإفاضة القداسة عليهم، والكرامة لمواقعهم، لأنهم كانوا من الصَّالحين الّذين أخذوا بأسباب الصَّلاح في إخلاصهم له، وصبرهم على الأذى في جنبه، والتزامهم برسالاتهم، وانفتاحهم على الدَّعوة إلى الخير في حياة النّاس، الَّذين يدعونهم إلى ما فيه صلاحهم، ويبعدونهم عمّا فيه فساد أمرهم.
إسماعيل الصَّادق الوعد
وهناك نبيٌّ آخر أيضاً قد لا يرقى إلى مستوى موسى الَّذي هو من أنبياء أولي العزم الَّذي أنزل الله عليه التّوراة ليكون نوراً ودستوراً يحكم به النبيّون الّذين آمنوا، ولكنَّه كان يتميَّز بإيمانٍ قويّ ثابت، وخلق عظيم. ومن مظاهر ذلك، أنّه كان صادق الوعد، كما تحدَّث الله عنه في كتابه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً}[12]، مهما كان صدق الوعد يكلِّفه من جهد، حتّى في أشدِّ المواقع صعوبةً، وقد جاء في بعض الأحاديث المأثورة، أنّه وعد رجلاً فانتظره حولاً، تعبيراً عن الالتزام الصَّادق بوعده الذي ألزم به نفسه مع الآخرين الَّذين وعدهم بالوفاء باللّقاء، فكانت الكلمة دستوراً يحكم حياته، لأنَّه كان يرى الإيمان موقفاً، والكلمة التزاماً.
وقد وردت الأحاديث في نصوصنا الإسلاميَّة، أنَّ الفرق بين المؤمن والمنافق، أنَّ المؤمن إذا وعد وفى، والمنافق إذا وعد أخلف، {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ـ فكان من المفروض أن يدعو النّاس بعمله قبل أن يدعوهم بلسانه، لأنَّ ذلك أعمق أساليب الدَّعوة ـ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}[13]، ليربّيهم على الالتزام بالإيمان بالله وتوحيده وطاعته والاتّصال شبه المباشر به، وليربطهم بالجانب الرّوحيّ، حيث يتمثَّل حضور الإنسان الفكريّ والشعوريّ أمام الله عبر الصَّلاة، وبالجانب المادّيّ في روحيّة العطاء الإنسانيّ المنفتح على المسؤوليَّة الماديَّة تجاه الآخرين من المحرومين، وفي النِّطاق الَّذي ينفتح فيه الإنسان على الله، ليعيش عبادة العطاء، وليؤدِّي أمانة الله عنده للمحتاجين إلى المال، على أساس أنَّ المال مال الله، كما جاء في قوله تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[14]، وقوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[15]، أي وكلاء في إيصاله إلى أصحابه الَّذين أمر الله بإعطائهم إيّاه. وهكذا كانت الزكاة الّتي يدفعها المؤمن تقرّباً إلى الله عبادةً، كما يعيش عبادة الصَّلاة.
{وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً}[16]، من خلال إيمانه القويّ، وعمله الصَّالح، وجهاده المستمرّ بين يدي الله. ومن الطّبيعيّ أنَّ الإنسان عندما يكون مرضياً لله، فإنه لا بدَّ من أن يبلغ أعلى مستوى من العبوديَّة الخالصة، والالتزام المطلق، والعصمة الروحيَّة، والمحبَّة لله، ليكون عبد الله الّذي يحصل على شرف الانتماء إليه في توحيد العقيدة والطَّاعة والعبادة والحبّ العميق، وهذا هو موقع الرّسل الّذين أنعم الله عليهم، وعاشوا الخضوع والخشوع، والَّذين كانوا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}[17]، بما يمثّله السّجود من المظهر البارز للخضوع، وبما يمثّله البكاء من خشية الله ومحبَّته، من خلال دموع الفرح بالله، والانفتاح على مواقع عظمته، ما جعلهم ينالون المكانة الرّفيعة في درجة النبوَّة الَّتي جعلتهم أمناء الله في أرضه، وحججه على عباده. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] تفسير الرّازي، الرازي، ج 4، ص 92.
[2] تفسير الألوسي، الألوسي، ج 1، ص 395.
[3] مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 222.
[4] تفسير الألوسي، ج 1، ص 395.
[5] [المائدة: 66].
[6] تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 1، ص 405.
[7] [النّساء: 163].
[8] تفسير الميزان، السيّد الطباطبائي، ج 1، ص 312.
[9] تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج 2، ص 52.
[10] [مريم: 56، 57].
[11] [الأنبياء: 85، 86].
[12] [مريم: 54].
[13] [مريم: 54، 55].
[14] [النّور: 33].
[15] [الحديد: 7].
[16] [مريم: 55].
[17] [مريم: 58].