خصائص النبيّ داود(ع) في القرآن الكريم

خصائص النبيّ داود(ع) في القرآن الكريم

في هذه المحاضرة، نتناول بعضاً من سيرة نبيٍّ من أنبياء الله الَّذين أسَّسوا لخطّ التَّوحيد في مسيرة الإنسان، وهو النّبيّ داود(ع)، الَّذي ميَّزه الله من كثيرٍ من الأنبياء، فقد جعله خليفةً في الأرض يؤدِّي رسالة الخلافة الإلهيَّة في إرشاد النَّاس وهدايتهم إلى الإيمان بالله في خطِّ التَّوحيد، وفي الانفتاح على خلافات النّاس فيما يختلفون فيه من خطوط الفكر في قضايا الحقّ والباطل، والصَّواب والخطأ، ومن قضاياهم المتنوّعة في شؤون الحياة في المسائل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة.

الحكم بالحقّ نهج الأنبياء

وهذا ما جاء في قوله تعالى في خطابه له: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ـ وربما نستوحي من هذه الآية، أنَّ رسالته المنفتحة على موقعه في الخلافة في الأرض، لم تكن محدودةً بمنطقةٍ خاصَّة، بل كانت واسعةً شاملةً لكلِّ منطقةٍ يتحرَّك فيها نشاطه الرّساليّ ودعوته الإيمانيّة التّوحيديَّة للنّاس كافةً.

كما توحي بهذا الأمر الفقرة التّالية من الآية ـفَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ـ إذ كانت مسؤوليَّته أن يحكم بين النّاس، على تنوّعاتهم في مناطقهم وقومياتهم وأعراقهم، مما عرّفه الله إياه وألهمه موازينه في خطوط العقيدة والشَّريعة ومنهج العدل في الأحكام ـ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، وهذا هو الأسلوب التّوجيهيّ الّذي يوجِّه الله به رسله وأولياءه، ليؤكِّد دورهم في الالتزام بالمنهج الإلهيّ، وفق قاعدة الحقِّ في الأمور كلِّها، من دون أيِّ انحرافٍ مما قد يمارسه النّاس في ابتعادهم عن خطِّ الاستقامة، اتّباعاً للهوى المنطلق من ذاتياتهم في شهواتهم وأطماعهم، لأنَّ الله يريد للإنسان أن يقوم ببناء شخصيَّته على أساس الحقِّ في أفكاره وأقواله وأفعاله وعلاقاته، ليكون تجسيداً للحقّ، ورفضاً لنداء الهوى. وتلك هي مهمَّة الأنبياء في تبليغ الرِّسالة وإيضاح الحقائق.

وما حذَّر الله منه رسله من اتّباع الهوى، ليس لأنَّ الهوى قد يترك تأثيره فيهم أو في حركتهم في الدَّعوة والحكم والممارسة الفعليَّة، بل لأنّه أراد أن يحدِّد لهم المنهج المتمثّل بالالتزام بالحقّ فيما يريد لهم أن يبيِّنوه للنّاس، ولا سيَّما أنَّ الله يختار الأنبياء ويصطفيهم، لما يعرفه من الحالة الرّوحيَّة الَّتي تفيض على ذواتهم، والحقيقة الفكريَّة المنطلقة في عقولهم، والاستقامة الأخلاقيَّة في أوضاعهم العامَّة والخاصَّة، وجاء التَّحذير أيضاً، لأنَّ الله يريد أن يؤكِّد لهم وعي المواقف الّتي يخوضونها، والمواقع الَّتي يتحركون فيها، وخصوصاً عندما ينـزلون إلى السَّاحة الميدانيّة في الواقع الَّذي قد تختلط فيه الأمور، وتتحرّك فيه الأهواء، وتتصادم فيه الاتجاهات، ليوجِّههم إلى خطورة اتّباع الهوى في مقابل الحكم بين النّاس بالحقّ، لأنَّ النّاس في منازعاتهم ومرافعاتهم أمام القضاء الشّرعيّ، قد يتطلَّبون الحكم على أساس اندفاعات الهوى، فيما يحاوله البعض من الضّغط على الحاكم أو إغرائه ليحكم له بالباطل. وفي ضوء هذه الملاحظة، قد يكون النّهي تحذيريّاً توجيهيّاً، لتتكامل للنبيّ الصّورة في إيجابيّاتها وسلبيّاتها، من منطلق موقعه الرّساليّ الَّذي يقوم على أساس الحكم العادل.

ويتابع القرآن التَّحذير التّأكيديّ من النّتائج الخطيرة المترتّبة على اتّباع الهوى، الَّذي يضلّ صاحبه عن سبيل الله، وينحرف به عن خطِّ الحقّ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ـ وهو الخطر الَّذي لا خطر فوقه ـإِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[1]، لأنَّ الَّذين لا يتذكَّرون هذا اليوم، لا يقفون عند حدود الله، ولا يحسبون حساب المسؤوليَّة أمام الله، وهذا ما يريد الله لرسوله أن يبلّغه للنّاس، ليتعرَّفوا خطورة الموقف المسؤول بين يديه، عندما يحاسبهم على الضَّلال عن سبيله، مما أخذوا به في حياتهم في أوضاعهم ومواقفهم...

وهذا هو المنهج القرآنيّ في التَّخطيط للمنهج الفكريّ والعمليّ في توجيه الأنبياء، من أجل تثبيت اتجاهاتهم الرساليَّة على الخطّ المستقيم، ودعوة النّاس إلى اتّباع سبيل الله في خطّ الحقّ، والابتعاد عن مواقع الضَّلال عن سبيله.

ولعلَّ هذا النهج يدلّ دلالةً واضحةً على أنَّ القرآن لم يكن من تأليف النبي محمّد(ص) أو من إملاء الآخرين عليه، بل هو وحيٌ من الله، باعتبار أنَّ اللغة القويَّة والتحذير الشديد اللذين كانا يتوجَّهان إليه، لا يمكن أن يصدرا عن الشَّخص نفسه الذي تقتضي طبيعة احترامه لذاته أن لا يتحدَّث عن موقعه بطريقة تهديديّة سلبيَّة، كما ورد في قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[2]، وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}[3]، وغير ذلك من الآيات المماثلة، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}[4].

الزّبور كتاب داود(ع)

وقد تحدَّث الله عن داود بأنّه صاحب كتابٍ أوحى به إليه ـ وهو الزّبور ـ ليكون الوجه الرّساليّ الَّذي يلتقي فيه بالنّاس، في روعة الآفاق الفنيَّة الرّوحيَّة الّتي توحي بالفكر في أصالة الحقّ، وبالرّوح في رحابة الإيمان، وبالخشوع في آفاق عظمة الله، وبالاستقامة في خطِّ القيم الأخلاقيَّة، ليعيش دور الخلافة القويّ في حركة الدّعوة والتّبليغ، وفي تثقيف النّاس بالوحي الإلهيّ الّذي يتضمَّن كلّ القيم والأحكام والمفاهيم الَّتي ترتبط بحياة النّاس وتنظيم أمورهم في الحياة، وبالحقائق الّتي قد تطلّ على غيب المستقبل في موقع الإرادة الإلهيَّة.

وهذا الكتاب يتميَّز بالكلمة الأحسن المشتملة على حمد الله وتسبيحه، وبالأسلوب الأحسن الَّذي يثير أعمق مشاعر الإيمان في الانفتاح على الله سبحانه والخضوع له والخشوع أمام جلاله. وهكذا، كان هذا السّحر اللّفظيّ والمضمونيّ والروحيّ، الممتزج بالسِّحر الصّوتيّ الّذي كان يتميَّز به نبيّ الله داود عندما كان يقرأ الزّبور، يوجب الاهتزاز الكونيّ بالتّسبيح لله، حتى لتحسّ بأنَّ الكون يسبِّح من حوله، والطّيور تسبِّح من فوقه.

وقد ذكر بعض المفسّرين، أنَّ كتاب الزّبور لم يحتوِ أحكاماً جديدة، بل كانت فيه الحِكَم والنَّصائح والإرشادات والوصايا وأنواع الدّعاء، وأنّه يشتمل على مائة وخمسين فصلاً، يسمَّى كلّ فصل (مزموراً)، وهو من أوَّله إلى آخره يشتمل على ما ذكرناه آنفاً.

وقد تحدَّث الله في الزّبور عن نهاية العالم، وعن أولياء الله الصَّالحين الَّذين يرثون الأرض ويحكمونها وينشرون فيها نظام الرسالات، وذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ ـ والذّكر هو التّوراة، لأنَّ الله سمّاها به في قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[5]، وقيل هو القرآن، لأنَّ الله أطلق عليه ذلك في أكثر من آية. والظّاهر هو الأوّل، لأنَّ الآية تدلٌّ على أنه يسبق الزّبور في حديثه هذا ـ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[6]، فيسيطرون عليها سيطرة حكم وقيادة ورسالة، بحيث ينفِّذون برامج الرّسالات التي تحوّل الأرض إلى ساحةٍ للإيمان بالله وإطاعةٍ لأوامره، وربما يضاف إلى ذلك، وراثة أرض الجنّة الّتي وعد الله بها عباده المتّقين، بحيث يتبوّأون فيها مواقعهم كما يشاؤون.

فالصَّالحون هم الّذين يرثون الحياة كلَّها في الدّنيا والآخرة، ليشعروا بالثّقة بأنَّ الأرض ليست مجرّد فرصةٍ للأشرار في حكمهم وعبثهم وفسادهم، بل إنّها ستكون ـ ولو في نهاية المطاف ـ فرصةً للأخيار من أتباع الرّسالات، ينطلقون فيها بالحركة الرّساليَّة التي تشمل الحياة كلَّها في مواردها ومصادرها وأوضاعها وأشخاصها، حتى يكونوا هم الجيل الأخير للبشريَّة، الَّذين يُسلِمون الأرض لله على خطِّ الأمانة الّتي حمّلها للإنسان ليؤدِّيها إلى أهلها كاملةً غير منقوصة، وليتسلّموا من الله مواقعهم من رضوانه وجنَّته.

وقد كثرت الأحاديث المرويّة عن النبيّ(ص) وأهل بيته وصحابته، بأنّ الإمام المهديّ(عج) هو الّذي يرث الأرض مع أصحابه الصّالحين، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

ميزتان لداود(ع)

وهناك مسألتان ميّزتا هذا النّبيّ فيما أفاضه الله عليه من لطفه ورحمته وكرامته بما لم يتميَّز به أيّ نبيّ قبله أو بعده؛ الميزة الأولى هي ما تحدَّث الله سبحانه وتعالى به عنه في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}[7]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}[8]، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ}[9]، فقد أوحى الله إلى الجبال والطّير أن تسبِّح معه.

وكان داود(ع) يفتح قلبه ويحرّك شفتيه بذكر الله، فينطلق التَّسبيح الخاشع من كلِّ روحه، في كلماتٍ مثل السّحر، وصوتٍ بصفاء النّور ونقاء الينبوع، يهمي ويهمي، فتنساب منه الأنغام في عفوية الترنيمة الحلوة، وغيبوبة المشاعر الحالمة، فتمتزج حلاوة صوته بحلاوة كلماته، ليمتزجا بالحبّ الإلهيّ في قلبه، حتى كان الحديث عن مزامير داود، لأنَّ مناجاته كانت كمثل المزامير في حلاوة النغم، وعذوبة اللّحن، من دون تكلّفٍ ولا تعقيد. وهكذا كانت الجبال تسبِّح معه، وترجِّع أصداء الكلمات، وكلّ تقاطيع النّغمات، وكانت الطير تنسجم في أجواء التّسبيح معه، فكان الكون كلّه يبدو كأنّه ينطلق ـ من خلاله ـ في تسبيحةٍ واحدةٍ لله الواحد الأحد.

وقد نستطيع الأخذ بظاهر القرآن ـ فيما لم تثبت استحالته أو خلافه ـ فلا نرى أيّ مانع من أن ترجّع الجبال صدى صوته، والطَّير نغمات تسبيحه بالطريقة الحسية المادية، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[10]، بما أبدعه الله في تكوينها من ذلك في مسار التجربة الخاصَّة لداود(ع). على أنَّ هناك آخرين لا يقتصرون في التصرّف بظاهر القرآن على المورد الَّذي لا يتَّفق فيه الظّاهر مع الحقيقة القطعية في وجدانهم الفكريّ، حيث يكون الأخذ بالظّاهر مرادفاً للأخذ بالمستحيل، أو الَّذي لا يتفق فيه مع الدّليل الثابت بشكلٍ مقبول، بل إنهم يجدون الاطمئنان العقليّ أو النفسيّ عندما تتوفَّر الأجواء المحيطة بالموضوع، كافياً في الخروج عن الظّاهر، فهم في الوقت الَّذي لا ينكرون أن يكون للجبال وعي التَّسبيح فيما لا نفهمه منها، أو أن يكون للطَّير وعي الانسجام مع داود بطريقةٍ إراديّةٍ، لا يجدون المسألة قريبةً من الذّهنيَّة العامَّة التي يخاطب فيها القرآن النّاس في تصوّرهم للأشياء، من خلال المفردات الحسيَّة الموجودة لديهم، إذ يقولون إنَّ ترجيع الجبال أو تسبيح الطّير معه، واردٌ على سبيل الاستعارة، تماماً كما يقول النّاس إنَّ الكون كلّه يتحرّك معه أو يسبّح معه ونحو ذلك.

ولكنَّ القضيَّة ليست واردةً في نطاق الأسباب الماديّة الطبيعيّة التي يتمثّل فيها الجمود في الجبال، وفقدان الإرادة الواعية في الطير، بل هي واردة في نطاق المعجزة التي سخّرها له الله الذي أنطق كلّ شيء، وألهم الوجود كلّه حركيّته بالطَّريقة الغيبيَّة، مما عبّر عنه سبحانه بتسخير هذه الكائنات لداود، كما في الآيات التي تنفتح على هذا المفهوم الَّذي يشبه عمليّة الخلق في إيجاد الأصوات في المواقع الجامدة الَّتي لا تنفتح في وجودها على الشّعور والإحساس، وفي الحيوانات الطّائرة التي لا ينطلق التّسبيح منها بشكلٍ اختياريّ، بل بإرادة الله...

فكلمة التّسخير توحي بوجود نوعٍ من المشاركة الحقيقيّة الَّتي لا نحيط بطبيعتها ولا بعلمها، ولكنَّنا نؤمن بها من خلال الله الَّذي يوحي بالأسرار الخفيّة إلى خلقه، مما اختصَّ بعلمه دون أن يوضح لنا سرّه، فليس لأحدٍ من عباده أيّ وضوح معرفيّ في تفاصيل وجوده، وقد بيّن الله هذه الكرامة الَّتي أكرم بها نبيّه مما آتاه من فضلٍ بقوله تعالى: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}[11]، فيما نريد أن نخصَّ به بعض الأنبياء الصَّالحين في إيمانهم وإخلاصهم للرّسالة الَّتي أريد لهم إبلاغها للنّاس، من الكرامات المعنويَّة الَّتي تظهر فضلهم على العالمين.

وهكذا، كانت تسابيح داود(ع) في مزاميره الرّوحيَّة تتصاعد في الآفاق منطلقةً من روحانيَّة صوته، في انفتاحٍ عباديٍّ على الله بطريقته الرساليّة الروحيّة، فكان(ع) عندما يصبح الصّباح، يذكر الله في إشراقة النور الّذي ينبعث من الشّمس المشرقة الّتي تمنح الكون نهاره، وعندما يمسي المساء في العشيّ، يذكر الله في الهدوء الّذي يسود الحياة، حيث يخلد الناس إلى الراحة، ويبقى داود مستيقظاً في تسبيحةٍ صلاتيّةٍ خاشعةٍ يهتزّ فيها الكون من حوله في خشوع وانسجام، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}[12]، راجعٌ إلى ربّه، ومنفتح عليه إلى أقصى الحدود، في إحساسٍ عميقٍ بعبوديّته الخالصة لربوبيَّته العظيمة.

وللحديث بقيَّة، إن شاء الله تعالى، والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [ص: 26].

[2]  [الحاقة: 44 ـ 47].

[3]  [الإسراء: 74، 75].

[4]  [الزمر: 65، 66].

[5]  [النحل: 43].

[6]  [الأنبياء: 105].

[7]  [الأنبياء: 79].

[8]  [سبأ: 10].

[9]  [ص: 17 ـ 19].

[10]  [الإسراء: 44].

[11]  [الأنبياء: 79].

[12]  [ص: 17].


في هذه المحاضرة، نتناول بعضاً من سيرة نبيٍّ من أنبياء الله الَّذين أسَّسوا لخطّ التَّوحيد في مسيرة الإنسان، وهو النّبيّ داود(ع)، الَّذي ميَّزه الله من كثيرٍ من الأنبياء، فقد جعله خليفةً في الأرض يؤدِّي رسالة الخلافة الإلهيَّة في إرشاد النَّاس وهدايتهم إلى الإيمان بالله في خطِّ التَّوحيد، وفي الانفتاح على خلافات النّاس فيما يختلفون فيه من خطوط الفكر في قضايا الحقّ والباطل، والصَّواب والخطأ، ومن قضاياهم المتنوّعة في شؤون الحياة في المسائل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة.

الحكم بالحقّ نهج الأنبياء

وهذا ما جاء في قوله تعالى في خطابه له: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ـ وربما نستوحي من هذه الآية، أنَّ رسالته المنفتحة على موقعه في الخلافة في الأرض، لم تكن محدودةً بمنطقةٍ خاصَّة، بل كانت واسعةً شاملةً لكلِّ منطقةٍ يتحرَّك فيها نشاطه الرّساليّ ودعوته الإيمانيّة التّوحيديَّة للنّاس كافةً.

كما توحي بهذا الأمر الفقرة التّالية من الآية ـفَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ـ إذ كانت مسؤوليَّته أن يحكم بين النّاس، على تنوّعاتهم في مناطقهم وقومياتهم وأعراقهم، مما عرّفه الله إياه وألهمه موازينه في خطوط العقيدة والشَّريعة ومنهج العدل في الأحكام ـ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، وهذا هو الأسلوب التّوجيهيّ الّذي يوجِّه الله به رسله وأولياءه، ليؤكِّد دورهم في الالتزام بالمنهج الإلهيّ، وفق قاعدة الحقِّ في الأمور كلِّها، من دون أيِّ انحرافٍ مما قد يمارسه النّاس في ابتعادهم عن خطِّ الاستقامة، اتّباعاً للهوى المنطلق من ذاتياتهم في شهواتهم وأطماعهم، لأنَّ الله يريد للإنسان أن يقوم ببناء شخصيَّته على أساس الحقِّ في أفكاره وأقواله وأفعاله وعلاقاته، ليكون تجسيداً للحقّ، ورفضاً لنداء الهوى. وتلك هي مهمَّة الأنبياء في تبليغ الرِّسالة وإيضاح الحقائق.

وما حذَّر الله منه رسله من اتّباع الهوى، ليس لأنَّ الهوى قد يترك تأثيره فيهم أو في حركتهم في الدَّعوة والحكم والممارسة الفعليَّة، بل لأنّه أراد أن يحدِّد لهم المنهج المتمثّل بالالتزام بالحقّ فيما يريد لهم أن يبيِّنوه للنّاس، ولا سيَّما أنَّ الله يختار الأنبياء ويصطفيهم، لما يعرفه من الحالة الرّوحيَّة الَّتي تفيض على ذواتهم، والحقيقة الفكريَّة المنطلقة في عقولهم، والاستقامة الأخلاقيَّة في أوضاعهم العامَّة والخاصَّة، وجاء التَّحذير أيضاً، لأنَّ الله يريد أن يؤكِّد لهم وعي المواقف الّتي يخوضونها، والمواقع الَّتي يتحركون فيها، وخصوصاً عندما ينـزلون إلى السَّاحة الميدانيّة في الواقع الَّذي قد تختلط فيه الأمور، وتتحرّك فيه الأهواء، وتتصادم فيه الاتجاهات، ليوجِّههم إلى خطورة اتّباع الهوى في مقابل الحكم بين النّاس بالحقّ، لأنَّ النّاس في منازعاتهم ومرافعاتهم أمام القضاء الشّرعيّ، قد يتطلَّبون الحكم على أساس اندفاعات الهوى، فيما يحاوله البعض من الضّغط على الحاكم أو إغرائه ليحكم له بالباطل. وفي ضوء هذه الملاحظة، قد يكون النّهي تحذيريّاً توجيهيّاً، لتتكامل للنبيّ الصّورة في إيجابيّاتها وسلبيّاتها، من منطلق موقعه الرّساليّ الَّذي يقوم على أساس الحكم العادل.

ويتابع القرآن التَّحذير التّأكيديّ من النّتائج الخطيرة المترتّبة على اتّباع الهوى، الَّذي يضلّ صاحبه عن سبيل الله، وينحرف به عن خطِّ الحقّ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ـ وهو الخطر الَّذي لا خطر فوقه ـإِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[1]، لأنَّ الَّذين لا يتذكَّرون هذا اليوم، لا يقفون عند حدود الله، ولا يحسبون حساب المسؤوليَّة أمام الله، وهذا ما يريد الله لرسوله أن يبلّغه للنّاس، ليتعرَّفوا خطورة الموقف المسؤول بين يديه، عندما يحاسبهم على الضَّلال عن سبيله، مما أخذوا به في حياتهم في أوضاعهم ومواقفهم...

وهذا هو المنهج القرآنيّ في التَّخطيط للمنهج الفكريّ والعمليّ في توجيه الأنبياء، من أجل تثبيت اتجاهاتهم الرساليَّة على الخطّ المستقيم، ودعوة النّاس إلى اتّباع سبيل الله في خطّ الحقّ، والابتعاد عن مواقع الضَّلال عن سبيله.

ولعلَّ هذا النهج يدلّ دلالةً واضحةً على أنَّ القرآن لم يكن من تأليف النبي محمّد(ص) أو من إملاء الآخرين عليه، بل هو وحيٌ من الله، باعتبار أنَّ اللغة القويَّة والتحذير الشديد اللذين كانا يتوجَّهان إليه، لا يمكن أن يصدرا عن الشَّخص نفسه الذي تقتضي طبيعة احترامه لذاته أن لا يتحدَّث عن موقعه بطريقة تهديديّة سلبيَّة، كما ورد في قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[2]، وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}[3]، وغير ذلك من الآيات المماثلة، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}[4].

الزّبور كتاب داود(ع)

وقد تحدَّث الله عن داود بأنّه صاحب كتابٍ أوحى به إليه ـ وهو الزّبور ـ ليكون الوجه الرّساليّ الَّذي يلتقي فيه بالنّاس، في روعة الآفاق الفنيَّة الرّوحيَّة الّتي توحي بالفكر في أصالة الحقّ، وبالرّوح في رحابة الإيمان، وبالخشوع في آفاق عظمة الله، وبالاستقامة في خطِّ القيم الأخلاقيَّة، ليعيش دور الخلافة القويّ في حركة الدّعوة والتّبليغ، وفي تثقيف النّاس بالوحي الإلهيّ الّذي يتضمَّن كلّ القيم والأحكام والمفاهيم الَّتي ترتبط بحياة النّاس وتنظيم أمورهم في الحياة، وبالحقائق الّتي قد تطلّ على غيب المستقبل في موقع الإرادة الإلهيَّة.

وهذا الكتاب يتميَّز بالكلمة الأحسن المشتملة على حمد الله وتسبيحه، وبالأسلوب الأحسن الَّذي يثير أعمق مشاعر الإيمان في الانفتاح على الله سبحانه والخضوع له والخشوع أمام جلاله. وهكذا، كان هذا السّحر اللّفظيّ والمضمونيّ والروحيّ، الممتزج بالسِّحر الصّوتيّ الّذي كان يتميَّز به نبيّ الله داود عندما كان يقرأ الزّبور، يوجب الاهتزاز الكونيّ بالتّسبيح لله، حتى لتحسّ بأنَّ الكون يسبِّح من حوله، والطّيور تسبِّح من فوقه.

وقد ذكر بعض المفسّرين، أنَّ كتاب الزّبور لم يحتوِ أحكاماً جديدة، بل كانت فيه الحِكَم والنَّصائح والإرشادات والوصايا وأنواع الدّعاء، وأنّه يشتمل على مائة وخمسين فصلاً، يسمَّى كلّ فصل (مزموراً)، وهو من أوَّله إلى آخره يشتمل على ما ذكرناه آنفاً.

وقد تحدَّث الله في الزّبور عن نهاية العالم، وعن أولياء الله الصَّالحين الَّذين يرثون الأرض ويحكمونها وينشرون فيها نظام الرسالات، وذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ ـ والذّكر هو التّوراة، لأنَّ الله سمّاها به في قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[5]، وقيل هو القرآن، لأنَّ الله أطلق عليه ذلك في أكثر من آية. والظّاهر هو الأوّل، لأنَّ الآية تدلٌّ على أنه يسبق الزّبور في حديثه هذا ـ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[6]، فيسيطرون عليها سيطرة حكم وقيادة ورسالة، بحيث ينفِّذون برامج الرّسالات التي تحوّل الأرض إلى ساحةٍ للإيمان بالله وإطاعةٍ لأوامره، وربما يضاف إلى ذلك، وراثة أرض الجنّة الّتي وعد الله بها عباده المتّقين، بحيث يتبوّأون فيها مواقعهم كما يشاؤون.

فالصَّالحون هم الّذين يرثون الحياة كلَّها في الدّنيا والآخرة، ليشعروا بالثّقة بأنَّ الأرض ليست مجرّد فرصةٍ للأشرار في حكمهم وعبثهم وفسادهم، بل إنّها ستكون ـ ولو في نهاية المطاف ـ فرصةً للأخيار من أتباع الرّسالات، ينطلقون فيها بالحركة الرّساليَّة التي تشمل الحياة كلَّها في مواردها ومصادرها وأوضاعها وأشخاصها، حتى يكونوا هم الجيل الأخير للبشريَّة، الَّذين يُسلِمون الأرض لله على خطِّ الأمانة الّتي حمّلها للإنسان ليؤدِّيها إلى أهلها كاملةً غير منقوصة، وليتسلّموا من الله مواقعهم من رضوانه وجنَّته.

وقد كثرت الأحاديث المرويّة عن النبيّ(ص) وأهل بيته وصحابته، بأنّ الإمام المهديّ(عج) هو الّذي يرث الأرض مع أصحابه الصّالحين، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

ميزتان لداود(ع)

وهناك مسألتان ميّزتا هذا النّبيّ فيما أفاضه الله عليه من لطفه ورحمته وكرامته بما لم يتميَّز به أيّ نبيّ قبله أو بعده؛ الميزة الأولى هي ما تحدَّث الله سبحانه وتعالى به عنه في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}[7]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}[8]، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ}[9]، فقد أوحى الله إلى الجبال والطّير أن تسبِّح معه.

وكان داود(ع) يفتح قلبه ويحرّك شفتيه بذكر الله، فينطلق التَّسبيح الخاشع من كلِّ روحه، في كلماتٍ مثل السّحر، وصوتٍ بصفاء النّور ونقاء الينبوع، يهمي ويهمي، فتنساب منه الأنغام في عفوية الترنيمة الحلوة، وغيبوبة المشاعر الحالمة، فتمتزج حلاوة صوته بحلاوة كلماته، ليمتزجا بالحبّ الإلهيّ في قلبه، حتى كان الحديث عن مزامير داود، لأنَّ مناجاته كانت كمثل المزامير في حلاوة النغم، وعذوبة اللّحن، من دون تكلّفٍ ولا تعقيد. وهكذا كانت الجبال تسبِّح معه، وترجِّع أصداء الكلمات، وكلّ تقاطيع النّغمات، وكانت الطير تنسجم في أجواء التّسبيح معه، فكان الكون كلّه يبدو كأنّه ينطلق ـ من خلاله ـ في تسبيحةٍ واحدةٍ لله الواحد الأحد.

وقد نستطيع الأخذ بظاهر القرآن ـ فيما لم تثبت استحالته أو خلافه ـ فلا نرى أيّ مانع من أن ترجّع الجبال صدى صوته، والطَّير نغمات تسبيحه بالطريقة الحسية المادية، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[10]، بما أبدعه الله في تكوينها من ذلك في مسار التجربة الخاصَّة لداود(ع). على أنَّ هناك آخرين لا يقتصرون في التصرّف بظاهر القرآن على المورد الَّذي لا يتَّفق فيه الظّاهر مع الحقيقة القطعية في وجدانهم الفكريّ، حيث يكون الأخذ بالظّاهر مرادفاً للأخذ بالمستحيل، أو الَّذي لا يتفق فيه مع الدّليل الثابت بشكلٍ مقبول، بل إنهم يجدون الاطمئنان العقليّ أو النفسيّ عندما تتوفَّر الأجواء المحيطة بالموضوع، كافياً في الخروج عن الظّاهر، فهم في الوقت الَّذي لا ينكرون أن يكون للجبال وعي التَّسبيح فيما لا نفهمه منها، أو أن يكون للطَّير وعي الانسجام مع داود بطريقةٍ إراديّةٍ، لا يجدون المسألة قريبةً من الذّهنيَّة العامَّة التي يخاطب فيها القرآن النّاس في تصوّرهم للأشياء، من خلال المفردات الحسيَّة الموجودة لديهم، إذ يقولون إنَّ ترجيع الجبال أو تسبيح الطّير معه، واردٌ على سبيل الاستعارة، تماماً كما يقول النّاس إنَّ الكون كلّه يتحرّك معه أو يسبّح معه ونحو ذلك.

ولكنَّ القضيَّة ليست واردةً في نطاق الأسباب الماديّة الطبيعيّة التي يتمثّل فيها الجمود في الجبال، وفقدان الإرادة الواعية في الطير، بل هي واردة في نطاق المعجزة التي سخّرها له الله الذي أنطق كلّ شيء، وألهم الوجود كلّه حركيّته بالطَّريقة الغيبيَّة، مما عبّر عنه سبحانه بتسخير هذه الكائنات لداود، كما في الآيات التي تنفتح على هذا المفهوم الَّذي يشبه عمليّة الخلق في إيجاد الأصوات في المواقع الجامدة الَّتي لا تنفتح في وجودها على الشّعور والإحساس، وفي الحيوانات الطّائرة التي لا ينطلق التّسبيح منها بشكلٍ اختياريّ، بل بإرادة الله...

فكلمة التّسخير توحي بوجود نوعٍ من المشاركة الحقيقيّة الَّتي لا نحيط بطبيعتها ولا بعلمها، ولكنَّنا نؤمن بها من خلال الله الَّذي يوحي بالأسرار الخفيّة إلى خلقه، مما اختصَّ بعلمه دون أن يوضح لنا سرّه، فليس لأحدٍ من عباده أيّ وضوح معرفيّ في تفاصيل وجوده، وقد بيّن الله هذه الكرامة الَّتي أكرم بها نبيّه مما آتاه من فضلٍ بقوله تعالى: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}[11]، فيما نريد أن نخصَّ به بعض الأنبياء الصَّالحين في إيمانهم وإخلاصهم للرّسالة الَّتي أريد لهم إبلاغها للنّاس، من الكرامات المعنويَّة الَّتي تظهر فضلهم على العالمين.

وهكذا، كانت تسابيح داود(ع) في مزاميره الرّوحيَّة تتصاعد في الآفاق منطلقةً من روحانيَّة صوته، في انفتاحٍ عباديٍّ على الله بطريقته الرساليّة الروحيّة، فكان(ع) عندما يصبح الصّباح، يذكر الله في إشراقة النور الّذي ينبعث من الشّمس المشرقة الّتي تمنح الكون نهاره، وعندما يمسي المساء في العشيّ، يذكر الله في الهدوء الّذي يسود الحياة، حيث يخلد الناس إلى الراحة، ويبقى داود مستيقظاً في تسبيحةٍ صلاتيّةٍ خاشعةٍ يهتزّ فيها الكون من حوله في خشوع وانسجام، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}[12]، راجعٌ إلى ربّه، ومنفتح عليه إلى أقصى الحدود، في إحساسٍ عميقٍ بعبوديّته الخالصة لربوبيَّته العظيمة.

وللحديث بقيَّة، إن شاء الله تعالى، والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [ص: 26].

[2]  [الحاقة: 44 ـ 47].

[3]  [الإسراء: 74، 75].

[4]  [الزمر: 65، 66].

[5]  [النحل: 43].

[6]  [الأنبياء: 105].

[7]  [الأنبياء: 79].

[8]  [سبأ: 10].

[9]  [ص: 17 ـ 19].

[10]  [الإسراء: 44].

[11]  [الأنبياء: 79].

[12]  [ص: 17].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية