معاناة النّبيّ يعقوب(ع) بغياب ولديه

معاناة النّبيّ يعقوب(ع) بغياب ولديه

ونواصل الحديث الَّذي بدأناه سابقاً حول النّبيّ يعقوب(ع) وتجربته، وما عاناه على المستوى الشَّخصيّ والرِّساليّ، فلقد واجه يعقوب(ع) الكارثة في فقد ولده الحبيب وغيابه عنه، في قضيَّةٍ غامضةٍ لم يستطع أولاده أن يفسِّروا طبيعتها، فبقيت بين احتمال تصديقه لهم في افتراس الذِّئب له وأكله إيَّاه، أو احتمال تآمرهم عليه...

الصَّبر الجميل

وهكذا شعر يعقوب بالفراغ العاطفيّ في افتقاده ليوسف وابتعاده عنه، ولكنَّه انطلق في إيمانه النّبويّ باللّجوء إلى الصَّبر الجميل الَّذي يستمدُّ فيه القوَّة من الله، ليتماسك أمام هذه الفاجعة، ويمسك زمام نفسه من أن تجزع وتهتزَّ وتسقط أمام ما قدَّمه أولاده من وصفٍ لطبيعة الحادث المأساويَّ، وقد كان يشعر بنوعٍ من الاتهام لهم فيما سوَّلت لهم أنفسهم من الإضرار بيوسف وأخيه، لما كان يعرفه من عقدتهم منه وحسدهم له.

ولكنَّ الأمل الرّوحيّ بقي منفتحاً على ما قد يحمله المستقبل من مفاجآتٍ سارَّةٍ في عودة يوسف إليه مع أخيه الَّذي احتفظ به يوسف بطريقته الخاصَّة، وهذا ما دعا النّبيّ إلى أن يتحدَّث إلى أولاده الَّذين وقعوا في المأزق الصَّعب في اعتقال بنيامين، الأخ الأصغر ليوسف، بعد أن عاهدوا أباهم بأن يحفظوه ويرجعوه إليه سالماً، لأنَّ ما قام به لم يترك لهم أيّة فرصة لإنقاذه وإرجاعه إلى أبيه، إذ إنَّ القضيَّة تحوَّلت إلى أزمة قضائيَّة جنائيَّة.

وقد كان حديثه مليئاً بالأمل، حافلاً بالتّفاؤل الَّذي ينفتح على الصَّبر الجميل الّذي التزمه يعقوب في موقفه الإيماني، فقال لهم: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ـ يوسف وأخيه ـ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[1] ـ الَّذي يعلم خفايا الأمور، فيدبِّر الأمور برحمته، ويحتوي حياة النَّاس بحكمته.

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْـ أعرض بوجهه عنهم، وغرق في أمواج الذّكريات، وتحرَّكت عاطفته، وانسابت الدُّموع في قلبه قبل أن تنفجر من عينيه، وتذكَّر يوسف في حنينٍ أبويٍّ حميم، وأسفٍ إنسانيّ على افتقاده وغيابه عنه ـ  وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}[2]، فقد كان قرَّة عينه وثمرة فؤاده، بما كان يحمله من ألمعيّة الفكر، وروحانيَّة الرّوح، وجمال النَّفس والجسد، وبما كان يُعدُّ له من الموقع العظيم الَّذي يمنحه الله لبعض عباده من ذريَّة إبراهيم(ع)، ممن تجتمع فيه الصِّفات المميَّزة الَّتي تؤهِّله لحمل الرّسالة والوصول إلى مستوى النبوَّة.

حزن يعقوب(ع)

{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ـ لما كان يذرفه من دموعٍ حارّةٍ حزينةٍ أثَّرت في بصره الّذي ربما كان يعاني ضعفاً فيه، حتى فقده، ولم يكن ذلك بفعل عنصر الجزع، بل بفعل الدّموع الّتي كانت تنساب بهدوءٍ كتعبيرٍ صافٍ عن عمق الحزن الهادئ، وهكذا كان حزنه حزن الأنبياء الَّذين لا تبتعد مشاعرهم عن مواقعهم، بل تنفتح على إنسانيَّتهم البشريَّة، كما روي عن النبيّ محمَّد(ص) أنّه عندما فقد ولده إبراهيم قال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرّبّ"[3]، وكذلك كان الأمر بالنِّسبة إلى يعقوب، فهو لم يثر أيَّ مشكلة لمن حوله ـ فَهُوَ كَظِيمٌ}[4]، يكظم حزنه ويحبسه في صدره، ويعيشه وحده في خلوات وحدته.

وفوجئ أولادُهُ بحديثه عن يوسف، فقد أصبح في نظرهم شيئاً قديماً جدّاً وميؤوساً منه، ولقد تحوَّل إلى ذكرى ميتة، فما بال أبيهم يعيدها إلى الحياة ليربك حياتهم من جديد، وليبعث فيهم عقدة الإحساس بالذّنب بعد أن تابوا إلى الله مما فعلوه وأصلحوا أمرهم وأخذوا بأسباب العمل الصَّالح، كما قال بعضهم لبعض عند بداية التّشاور في أمر إبعاد يوسف: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}[5]؟ ولهذا واجهوا أباهم يعقوب بعنفٍ يشبه التّوسّل أن يرحم نفسه ويرحمهم من هذه الذّكريات المؤلمة الَّتي تجعل ذكرى الجريمة تطوف في أذهانهم من جديد، {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ـ أي لا تنفكُّ تذكر يوسف الَّذي أصبح في ذمَّة التّاريخ وهلك، ولم يبق له أثر بعدما أكله الذّئب وانقطعت أخباره مع أخبار الهالكين، حتى بات الحديث عنه أمراً لا فائدة منه، كما أنّه لا فائدة من السَّعي للبحث عنه.

وهكذا، أرادوا أن يقولوا له إنَّ استثارة الحزن من خلال استثارة الذّكرى لن ينتهي ـ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً ـ أي مشرفاً على الهلاك ـأَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}[6]، الّذين تسقطهم الصَّدمة النفسيَّة في قبضة الموت.

ولكنَّه جابههم بأنَّ الأمر لا يعنيهم، فهو لا يشكو إليهم أمره، لأنهم لا يفهمون مشاعره وآلامه أوّلاً، ولا يستطيعون أن يقدِّموا له شيئاً ثانياً، بل يشكو أمره إلى من يملك أمره ومن يسمع شكواه، ومن يملك أن يحلَّ مشكلته، كما أنّه لن يأتي بما يهلك نفسه، ويسقط توازنه، ويقوده إلى اليأس القاتل.

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلى اللهِـ فهو الَّذي يكشف الهمَّ، ويزيل الغمَّ الَّذي يختزنه الإنسان في عمق ذاته، مما لا يستطيع صاحبه كتمانه، فيحاول أن يظهره لمن يفرِّج عنه، ولست معنيّاً ببثِّ الشَّكوى إليكم، لأنَّكم لا تملكون كشف الضّرّ عني، ولا تفهمون معنى حزني ـ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[7]، لأنَّ معرفتي بالله، وما يفيضه على عباده من فيوضات رحمته وألطافه، وما يوحي به إليَّ في إحساسٍ يشبه الإلهام الغيبـيّ الَّذي يملأ نفسي بالتَّفاؤل وقرب الفرج، يجعلني كبير الثّقة بمصير يوسف وحياته، لأنّه إذا كان قد ابتعد عن رعايتي له، فإنَّ رعاية الله ولطفه يفوقان كلَّ ما أختزنه له في قلبي من حبٍّ ورحمةٍ وتطلّعٍ إلى مواقع الخير في أمره، وإذا كنت أحزن وأعيش الهمّ، فلأنَّ جانب الضَّعف البشريّ في الإنسان، حتى لو كان نبيّاً، يخلق لديه من خلال التّفكير في التّفاصيل والفراق للحبيب، مشاعر إنسانيّةً عاطفيّةً حميمةً تثير أشجانه، وتدمِّر استقراره النّفسيّ.

البحث عن يوسف وأخيه

وهكذا بدأ الأمل يخضرُّ في نفسه، وينمو مع روحانيَّة الحديث الّذي كان يعيشه في مناجاته لله، حتى كاد يلامس المصير المشرق ليوسف في المستقبل كما لو كان يراه، وربما كانت القضيَّة علماً غيبيّاً منحه الله له في إعلامه ببقاء يوسف على قيد الحياة. ولهذا، طلب من أولاده أن يعودوا إلى مصر ليبحثوا عنه حيث تركوا أخاهم، لأنّه كان في داخله شبه إحساسٍ لا يعرف طبيعته ولا يدرك حقيقته، بأنَّ يوسف قد التقى بأخيه، وأنَّه من الممكن أن يجدوهما معاً...

وهكذا، فاجأهم بالطّلب إليهم بأن يتحركوا ليبحثوا عنهما بكلِّ ما يملكونه من أساليب عمليَّة، فلعلَّهم يواجهون المفاجأة الخفيَّة الَّتي لا تخطر لهم على بال، {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ}[8].

 وهناك بحثٌ بين اللّغويّين والمفسِّرين في الفرق بين التحسّس والتجسّس، وقد نقل عن ابن عبّاس أنَّ التحسُّس هو البحث عن الخير، والتجسّس هو البحث عن الشرّ. لكن ذهب آخرون إلى أن التَّحسّس هو السعي في معرفة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الّذي هو في معرفة الغيوب. وهناك رأيٌ ثالثٌ، وهو أنهما متّحدان في المعنى، إلا أنَّ ملاحظة الحديث الوارد عن رسول الله(ص) بقوله: "لا تجسّسوا ولا تحسّسوا"[9]، يثبت أنهما مختلفان، وربما كان قول ابن عبّاس أقرب.

وهكذا كان يعقوب يريد إعادة بنيه إلى أنفسهم، ليدفعهم إلى الشّعور بأنّهم لم يرتبطوا بالحقيقة فيما أخبروه به من أكل الذّئب ليوسف، بل كانت المسألة في مؤامرتهم في اتجاهٍ آخر ووسيلةٍ أخرى، مما ربما استوحاه من قول الله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}[10]، بطريقةٍ خفيَّةٍ موحيةٍ، وقد فعل يعقوب ذلك في حديثه معهم في هذا الفصل. وهكذا حاول أن يفتح قلوبهم على الرّوح الإيمانيّة في الثّقة بالله وبقدرته على أن يصل بهم إلى الحقيقة ليلتقوا بيوسف وأخيه، لأنَّ الله غالبٌ على أمره، وعالمٌ بخفايا الأمور، ومطَّلعٌ على المخبئات فيما يضيع في الأرض.

الدّعوة إلى عدم اليأس

وهكذا كان يدعوهم إلى عدم اليأس من روح الله في هذه الكلمة الّتي توحي بالرَّحمة والرّاحة والفرج والخلاص من الشدَّة، فإنَّ المؤمن يبقى واثقاً بالله في كلِّ أموره، مهما ضاقت عليه الأحوال، ومهما تعقَّدت من حوله الظّروف: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[11]، لأنَّ اليأس المطلق من الفرج لا يخلو من أحد أمرين: إمّا الشكّ في قدرة الله، وإمّا الشكّ في علمه، لأنَّ الَّذي يمنع من حلِّ المشكلة هو العجز عنها، أو عدم معرفة أبعادها والجهل بطبيعتها، وكلاهما كفرٌ بالله، وهذا ما قرَّره الفخر الرَّازي في تفسيره، حيث قال: "واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أنَّ الإله غير قادرٍ على الكمال، أو غير عالمٍ بجميع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل، وكلُّ واحدٍ من هذه الثّلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثّلاثة، وكلّ واحدٍ منها كفر، ثبت أنَّ اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً"[12].

ومن خلال ذلك، نعرفُ أنَّ القرآن الكريم ـ في حديثه عن المبدأ الَّذي أكَّده النبيّ يعقوب(ع) فيما أوحى به الله إليه في رسالته ـ أراد أن يقتلع جذور اليأس من نفس الإنسان بإعادته إلى إيمانه، لينطلق مع هذا الإيمان في تعقيدات الحياة وصعوباتها القاسية في وعيٍ ويقظةٍ وانفتاح، بحيث يشعر بالأمل يتفجَّر من ينابيع الإيمان كمثل الشّعاع المنسكب من قلب الشَّمس في روعة الشّروق...

أمَّا اليأس فجذوره الكفر، وإن لم يشعر به الإنسان بشكلٍ مباشر. وفي ضوء ذلك، فإنَّ على الإنسان الَّذي يعيش اليأس في قلبه، أن يعيد النَّظر في إيمانه، ليعرف إن كان منطلقاً من أساسٍ متينٍ أو لا. وقد نلاحظ أنَّ المنتحرين بسبب اليأس يفعلون ذلك في غياب إيمانهم عن وجدانهم.

أمّا ماذا كان مستقبل أمر يعقوب في لقائه بيوسف وأخيه؟ وكيف تصرَّف مع بنيه؟ فهذا ما نتحدَّث عنه في المحاضرة القادمة، إن شاء الله.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 83].

[2]  [يوسف: 84].

[3]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 263.

[4]  [يوسف: 84].

[5]  [يوسف: 9].

[6]  [يوسف: 85].

[7]  [يوسف: 86].

[8]  [يوسف: 87].

[9]  مقدمة ابن الصَّلاح، عثمان بن عبد الرحمن، ص 76.

[10]  [يوسف: 15].

[11]  [يوسف: 87].

[12]  تفسير الرازي، الرازي، ج 18، ص 199.


ونواصل الحديث الَّذي بدأناه سابقاً حول النّبيّ يعقوب(ع) وتجربته، وما عاناه على المستوى الشَّخصيّ والرِّساليّ، فلقد واجه يعقوب(ع) الكارثة في فقد ولده الحبيب وغيابه عنه، في قضيَّةٍ غامضةٍ لم يستطع أولاده أن يفسِّروا طبيعتها، فبقيت بين احتمال تصديقه لهم في افتراس الذِّئب له وأكله إيَّاه، أو احتمال تآمرهم عليه...

الصَّبر الجميل

وهكذا شعر يعقوب بالفراغ العاطفيّ في افتقاده ليوسف وابتعاده عنه، ولكنَّه انطلق في إيمانه النّبويّ باللّجوء إلى الصَّبر الجميل الَّذي يستمدُّ فيه القوَّة من الله، ليتماسك أمام هذه الفاجعة، ويمسك زمام نفسه من أن تجزع وتهتزَّ وتسقط أمام ما قدَّمه أولاده من وصفٍ لطبيعة الحادث المأساويَّ، وقد كان يشعر بنوعٍ من الاتهام لهم فيما سوَّلت لهم أنفسهم من الإضرار بيوسف وأخيه، لما كان يعرفه من عقدتهم منه وحسدهم له.

ولكنَّ الأمل الرّوحيّ بقي منفتحاً على ما قد يحمله المستقبل من مفاجآتٍ سارَّةٍ في عودة يوسف إليه مع أخيه الَّذي احتفظ به يوسف بطريقته الخاصَّة، وهذا ما دعا النّبيّ إلى أن يتحدَّث إلى أولاده الَّذين وقعوا في المأزق الصَّعب في اعتقال بنيامين، الأخ الأصغر ليوسف، بعد أن عاهدوا أباهم بأن يحفظوه ويرجعوه إليه سالماً، لأنَّ ما قام به لم يترك لهم أيّة فرصة لإنقاذه وإرجاعه إلى أبيه، إذ إنَّ القضيَّة تحوَّلت إلى أزمة قضائيَّة جنائيَّة.

وقد كان حديثه مليئاً بالأمل، حافلاً بالتّفاؤل الَّذي ينفتح على الصَّبر الجميل الّذي التزمه يعقوب في موقفه الإيماني، فقال لهم: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ـ يوسف وأخيه ـ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[1] ـ الَّذي يعلم خفايا الأمور، فيدبِّر الأمور برحمته، ويحتوي حياة النَّاس بحكمته.

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْـ أعرض بوجهه عنهم، وغرق في أمواج الذّكريات، وتحرَّكت عاطفته، وانسابت الدُّموع في قلبه قبل أن تنفجر من عينيه، وتذكَّر يوسف في حنينٍ أبويٍّ حميم، وأسفٍ إنسانيّ على افتقاده وغيابه عنه ـ  وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}[2]، فقد كان قرَّة عينه وثمرة فؤاده، بما كان يحمله من ألمعيّة الفكر، وروحانيَّة الرّوح، وجمال النَّفس والجسد، وبما كان يُعدُّ له من الموقع العظيم الَّذي يمنحه الله لبعض عباده من ذريَّة إبراهيم(ع)، ممن تجتمع فيه الصِّفات المميَّزة الَّتي تؤهِّله لحمل الرّسالة والوصول إلى مستوى النبوَّة.

حزن يعقوب(ع)

{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ـ لما كان يذرفه من دموعٍ حارّةٍ حزينةٍ أثَّرت في بصره الّذي ربما كان يعاني ضعفاً فيه، حتى فقده، ولم يكن ذلك بفعل عنصر الجزع، بل بفعل الدّموع الّتي كانت تنساب بهدوءٍ كتعبيرٍ صافٍ عن عمق الحزن الهادئ، وهكذا كان حزنه حزن الأنبياء الَّذين لا تبتعد مشاعرهم عن مواقعهم، بل تنفتح على إنسانيَّتهم البشريَّة، كما روي عن النبيّ محمَّد(ص) أنّه عندما فقد ولده إبراهيم قال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرّبّ"[3]، وكذلك كان الأمر بالنِّسبة إلى يعقوب، فهو لم يثر أيَّ مشكلة لمن حوله ـ فَهُوَ كَظِيمٌ}[4]، يكظم حزنه ويحبسه في صدره، ويعيشه وحده في خلوات وحدته.

وفوجئ أولادُهُ بحديثه عن يوسف، فقد أصبح في نظرهم شيئاً قديماً جدّاً وميؤوساً منه، ولقد تحوَّل إلى ذكرى ميتة، فما بال أبيهم يعيدها إلى الحياة ليربك حياتهم من جديد، وليبعث فيهم عقدة الإحساس بالذّنب بعد أن تابوا إلى الله مما فعلوه وأصلحوا أمرهم وأخذوا بأسباب العمل الصَّالح، كما قال بعضهم لبعض عند بداية التّشاور في أمر إبعاد يوسف: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}[5]؟ ولهذا واجهوا أباهم يعقوب بعنفٍ يشبه التّوسّل أن يرحم نفسه ويرحمهم من هذه الذّكريات المؤلمة الَّتي تجعل ذكرى الجريمة تطوف في أذهانهم من جديد، {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ـ أي لا تنفكُّ تذكر يوسف الَّذي أصبح في ذمَّة التّاريخ وهلك، ولم يبق له أثر بعدما أكله الذّئب وانقطعت أخباره مع أخبار الهالكين، حتى بات الحديث عنه أمراً لا فائدة منه، كما أنّه لا فائدة من السَّعي للبحث عنه.

وهكذا، أرادوا أن يقولوا له إنَّ استثارة الحزن من خلال استثارة الذّكرى لن ينتهي ـ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً ـ أي مشرفاً على الهلاك ـأَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}[6]، الّذين تسقطهم الصَّدمة النفسيَّة في قبضة الموت.

ولكنَّه جابههم بأنَّ الأمر لا يعنيهم، فهو لا يشكو إليهم أمره، لأنهم لا يفهمون مشاعره وآلامه أوّلاً، ولا يستطيعون أن يقدِّموا له شيئاً ثانياً، بل يشكو أمره إلى من يملك أمره ومن يسمع شكواه، ومن يملك أن يحلَّ مشكلته، كما أنّه لن يأتي بما يهلك نفسه، ويسقط توازنه، ويقوده إلى اليأس القاتل.

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلى اللهِـ فهو الَّذي يكشف الهمَّ، ويزيل الغمَّ الَّذي يختزنه الإنسان في عمق ذاته، مما لا يستطيع صاحبه كتمانه، فيحاول أن يظهره لمن يفرِّج عنه، ولست معنيّاً ببثِّ الشَّكوى إليكم، لأنَّكم لا تملكون كشف الضّرّ عني، ولا تفهمون معنى حزني ـ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[7]، لأنَّ معرفتي بالله، وما يفيضه على عباده من فيوضات رحمته وألطافه، وما يوحي به إليَّ في إحساسٍ يشبه الإلهام الغيبـيّ الَّذي يملأ نفسي بالتَّفاؤل وقرب الفرج، يجعلني كبير الثّقة بمصير يوسف وحياته، لأنّه إذا كان قد ابتعد عن رعايتي له، فإنَّ رعاية الله ولطفه يفوقان كلَّ ما أختزنه له في قلبي من حبٍّ ورحمةٍ وتطلّعٍ إلى مواقع الخير في أمره، وإذا كنت أحزن وأعيش الهمّ، فلأنَّ جانب الضَّعف البشريّ في الإنسان، حتى لو كان نبيّاً، يخلق لديه من خلال التّفكير في التّفاصيل والفراق للحبيب، مشاعر إنسانيّةً عاطفيّةً حميمةً تثير أشجانه، وتدمِّر استقراره النّفسيّ.

البحث عن يوسف وأخيه

وهكذا بدأ الأمل يخضرُّ في نفسه، وينمو مع روحانيَّة الحديث الّذي كان يعيشه في مناجاته لله، حتى كاد يلامس المصير المشرق ليوسف في المستقبل كما لو كان يراه، وربما كانت القضيَّة علماً غيبيّاً منحه الله له في إعلامه ببقاء يوسف على قيد الحياة. ولهذا، طلب من أولاده أن يعودوا إلى مصر ليبحثوا عنه حيث تركوا أخاهم، لأنّه كان في داخله شبه إحساسٍ لا يعرف طبيعته ولا يدرك حقيقته، بأنَّ يوسف قد التقى بأخيه، وأنَّه من الممكن أن يجدوهما معاً...

وهكذا، فاجأهم بالطّلب إليهم بأن يتحركوا ليبحثوا عنهما بكلِّ ما يملكونه من أساليب عمليَّة، فلعلَّهم يواجهون المفاجأة الخفيَّة الَّتي لا تخطر لهم على بال، {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ}[8].

 وهناك بحثٌ بين اللّغويّين والمفسِّرين في الفرق بين التحسّس والتجسّس، وقد نقل عن ابن عبّاس أنَّ التحسُّس هو البحث عن الخير، والتجسّس هو البحث عن الشرّ. لكن ذهب آخرون إلى أن التَّحسّس هو السعي في معرفة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الّذي هو في معرفة الغيوب. وهناك رأيٌ ثالثٌ، وهو أنهما متّحدان في المعنى، إلا أنَّ ملاحظة الحديث الوارد عن رسول الله(ص) بقوله: "لا تجسّسوا ولا تحسّسوا"[9]، يثبت أنهما مختلفان، وربما كان قول ابن عبّاس أقرب.

وهكذا كان يعقوب يريد إعادة بنيه إلى أنفسهم، ليدفعهم إلى الشّعور بأنّهم لم يرتبطوا بالحقيقة فيما أخبروه به من أكل الذّئب ليوسف، بل كانت المسألة في مؤامرتهم في اتجاهٍ آخر ووسيلةٍ أخرى، مما ربما استوحاه من قول الله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}[10]، بطريقةٍ خفيَّةٍ موحيةٍ، وقد فعل يعقوب ذلك في حديثه معهم في هذا الفصل. وهكذا حاول أن يفتح قلوبهم على الرّوح الإيمانيّة في الثّقة بالله وبقدرته على أن يصل بهم إلى الحقيقة ليلتقوا بيوسف وأخيه، لأنَّ الله غالبٌ على أمره، وعالمٌ بخفايا الأمور، ومطَّلعٌ على المخبئات فيما يضيع في الأرض.

الدّعوة إلى عدم اليأس

وهكذا كان يدعوهم إلى عدم اليأس من روح الله في هذه الكلمة الّتي توحي بالرَّحمة والرّاحة والفرج والخلاص من الشدَّة، فإنَّ المؤمن يبقى واثقاً بالله في كلِّ أموره، مهما ضاقت عليه الأحوال، ومهما تعقَّدت من حوله الظّروف: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[11]، لأنَّ اليأس المطلق من الفرج لا يخلو من أحد أمرين: إمّا الشكّ في قدرة الله، وإمّا الشكّ في علمه، لأنَّ الَّذي يمنع من حلِّ المشكلة هو العجز عنها، أو عدم معرفة أبعادها والجهل بطبيعتها، وكلاهما كفرٌ بالله، وهذا ما قرَّره الفخر الرَّازي في تفسيره، حيث قال: "واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أنَّ الإله غير قادرٍ على الكمال، أو غير عالمٍ بجميع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل، وكلُّ واحدٍ من هذه الثّلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثّلاثة، وكلّ واحدٍ منها كفر، ثبت أنَّ اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً"[12].

ومن خلال ذلك، نعرفُ أنَّ القرآن الكريم ـ في حديثه عن المبدأ الَّذي أكَّده النبيّ يعقوب(ع) فيما أوحى به الله إليه في رسالته ـ أراد أن يقتلع جذور اليأس من نفس الإنسان بإعادته إلى إيمانه، لينطلق مع هذا الإيمان في تعقيدات الحياة وصعوباتها القاسية في وعيٍ ويقظةٍ وانفتاح، بحيث يشعر بالأمل يتفجَّر من ينابيع الإيمان كمثل الشّعاع المنسكب من قلب الشَّمس في روعة الشّروق...

أمَّا اليأس فجذوره الكفر، وإن لم يشعر به الإنسان بشكلٍ مباشر. وفي ضوء ذلك، فإنَّ على الإنسان الَّذي يعيش اليأس في قلبه، أن يعيد النَّظر في إيمانه، ليعرف إن كان منطلقاً من أساسٍ متينٍ أو لا. وقد نلاحظ أنَّ المنتحرين بسبب اليأس يفعلون ذلك في غياب إيمانهم عن وجدانهم.

أمّا ماذا كان مستقبل أمر يعقوب في لقائه بيوسف وأخيه؟ وكيف تصرَّف مع بنيه؟ فهذا ما نتحدَّث عنه في المحاضرة القادمة، إن شاء الله.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 83].

[2]  [يوسف: 84].

[3]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 263.

[4]  [يوسف: 84].

[5]  [يوسف: 9].

[6]  [يوسف: 85].

[7]  [يوسف: 86].

[8]  [يوسف: 87].

[9]  مقدمة ابن الصَّلاح، عثمان بن عبد الرحمن، ص 76.

[10]  [يوسف: 15].

[11]  [يوسف: 87].

[12]  تفسير الرازي، الرازي، ج 18، ص 199.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية