علاقة النّبيَّ يعقوب(ع) بأولاده

علاقة النّبيَّ يعقوب(ع) بأولاده

ونواصل الحديث عن التَّجارب النّبويَّة، وكنا قد بدأنا الحديث عن تجربة النّبيّ موسى(ع)، ووصلنا إلى الحديث عن تجربة النّبيّ يعقوب(ع).

كيفيَّة تلقّي يعقوب(ع) الوحي

يعقوب هو نبيٌّ من ذريَّة إبراهيم(ع) من ولد إسحاق، وقد تحدَّث عنه القرآن الكريم في الإشارة إلى اسمه في ستّ عشرة آيةً، وصرَّح بأنَّ الله أنزل عليه الوحي من دون تفصيلٍ لذلك، وأراد للمسلمين أن يؤمنوا به كما يؤمنون بما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وذلك قوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[1]، وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ}[2].

ولكن هل كان إنزال الرِّسالة على يعقوب والإيحاء إليه بالطَّريقة المباشرة التي يبلّغ الله بها أنبياءه بما يكلِّفهم به من مهمَّة النبوَّة، أو ما ينـزل عليهم من آيات، أو كان ذلك مستمرّاً مع رسالة إبراهيم، وهي الحنيفيَّة الإسلاميَّة الّتي أوحى الله بها إلى إبراهيم في حديثه له بشكلٍ مباشر، وذلك في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[3]، فكان إلزام الأنبياء من ولده بما أنزله الله إليه، بمثابة الإنزال إليهم والإيحاء إليهم؟

ربما نستفيد من بعض تفاصيل قصَّة يوسف(ع)، أنَّ الله كان يلهم يعقوب بأسلوب الوحي الرّساليّ، أو بوسائل معيَّنة، وهو ما يظهر في حديثه مع أبنائه، بعد أن جاؤوا إليه باكين مدَّعين أنَّ الذّئب قد أكل يوسف بعدما غفلوا عنه فيما كانوا يتسابقون، وذلك قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}[4]، فقد كان يعقوب يعتقد أنهم كانوا كاذبين فيما أخبروه به، وأنَّ لهم صنعاً في افتقاده، ومكراً في أمره، ولكن لم يكن له طريق للتحقّق ممّا جرى على يوسف، وتحرّي ما آل إليه أمره وأين هو، وما حاله، لأنَّ أعوان الشّخص على أمثال هذه النّوائب، وأعضاده لدفع ما يقصده من المكاره، إنما هم أبناؤه الّذين يشكّلون عصبةً أولي قوّةٍ وشدّةٍ، فإذا كانوا هم السَّبب لنـزول النّائبة ووقوع المصيبة، فبمن يستعين؟ وبماذا يدفع عن نفسه؟! وفي مثل هذه الحالة، لا يسعه إلا الصَّبر.

ولذلك، قال لهم ـ فيما قصَّه الله من ذلك ـ {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[5]، للإيحاء إليهم بأنّه لم يصدّقهم في ما زعموه، لأنَّ المسألة لا تخضع للواقع بحسب طبيعته المعقولة، ولكنَّه لا يريد الدّخول في التّفاصيل ليكشف لهم ما يعلمه مما علّمه الله، أو مما ينطلق به إحساسه الرّوحيّ حول الموضوع، لأنَّ الوقت المناسب لم يأت بعد.

رؤيا يوسف(ع)

وقد بدأت القصَّة مع يعقوب عندما حدَّثه ابنه يوسف عن رؤياه في المنام: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[6]، وكان هذا الولد أثيراً عنده، حبيباً إليه، لجماله ووداعته وطفولته الحلوة وصفاء روحه، وقد أثارت هذه الرّؤيا القلق في نفسه، لما تشتمل عليه من جوٍّ غريبٍ يوحي بالسموّ، ولكنّه حافل بالغموض، فأراد من أبيه الّذي أكرمه الله بالنبوَّة، أن يكشف له أسرار هذه الرّؤيا الّتي قد توحي بأوضاعه الخاصَّة في المستقبل، ليوضح له معالم المستقبل من خلالها.

وربما كان يتصوَّر أنها رؤيا صادقة تعبّر عن الواقع، فحاول أن يعرف طبيعتها، وربما كان حائراً بين هذا النَّوع من الرّؤيا الصَّادقة أو الرّؤيا الحالمة، فأحبَّ أن يجلو كنهها كأيِّ إنسانٍ في مثل عمره كان ما يزال ينفتح على أوائل الشّباب... ولما أثاره ذلك في نفسه من تساؤلٍ حول هذه الأعجوبة الكونيَّة، فما معنى ذلك؟ وما مداه؟ وكيف يمكن أن تسجد هذه المخلوقات الكونيَّة الضَّخمة العظيمة لبشرٍ مثله؟ وما هو موقعه من ذلك؟

وكان يعقوب(ع) يستشرف بحسِّه النّبويّ مستقبل ولده يوسف من خلال هذا الحلم العجيب الّذي كان يراه حلماً صادقاً ينفتح على الحقيقة، فيرى فيه شخصاً عظيماً يسمو على أهله بالمكانة والمنـزلة، إلى المستوى الَّذي سيكون عليهم أن يتعاملوا معه تعاملهم مع الشَّخص العظيم، وأن يقدِّموا له فروض الاحترام بطريقة السّجود، مما كانت تقاليد ذلك العصر تفرضه على النّاس.

وليس من الضَّروريّ أن يكون النبيّ يعقوب قد انفتح على التّفاصيل التي كانت أحداثها كامنةً في عالم الغيب، ولكنّه خاف على ولده العزيز من أولاده الآخرين الّذين كانوا من أمٍّ أخرى، وكانوا يحسدون أخاهم يوسف على ما يتميَّز به عنهم من جمالٍ وذكاءٍ ووداعةٍ وصفاء، ما جعله ينال هذه المنـزلة الكبيرة في المحبّة عند أبيه، كنتيجةٍ لما يملكه من الصّفات التي أهّلته لهذه المعاملة، وهو ما جعلهم يعيشون العقدة تجاهه، بما قد يدفعهم إلى التّآمر عليه والتخلّص منه إذا حدَّثهم عن رؤياه العجيبة، وفهموا منها مستقبله الكبير الّذي قد يزداد من خلاله حقدهم عليه، وحسدهم له فيما إذا صدقت الرّؤيا وتحقَّق مضمونها المميَّز في الواقع، عندما يصبح غداً في موقعٍ رفيعٍ يفوقهم شأناً، لأنَّ الحسد يدفع أصحابه إلى الكيد للحسود وإيذائه بشكلٍ مباشر.

تأويل الرّؤيا

وقد أحبَّ يعقوب الّذي عاش القلق على ولده الحبيب، أن يحذِّر يوسف من أن يقصَّ رؤياه على إخوته، كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ـ فيسعوا في هلاكك، ليمنعوا ما ينتظرك من مستقبلٍ مشرقٍ توحي به الرّؤيا، ظنّاً منهم أنَّهم يستطيعون بذلك منع ما يريده الله أن يكون فيما استشرفه يعقوب، وذلك من خلال وسوسة الشَّيطان لهم، ليفسد عليهم أوضاعهم، وليحرّكهم في اتجاه معصية الله، ما يؤدِّي بهم إلى العذاب في الآخرة ـإِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[7].

ويتابع الأب النّبيّ بشارة ولده بالمستقبل الكبير ـ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ـ أي يصطفيك، لما يراه من خضوعك له، وإيمانك به، ويختار لك الكرامة من عنده ـ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ـ في تفسيرك للرّؤيا الّتي قد تجعلك حاجةً للنَّاس الَّذين يحتاجون إلى من يفسِّرها لهم، ما قد يفتح لك أبواب المستقبل الكبير ـ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ـ بالنبوَّة الّتي يمنحك إيّاها ـ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ـ ممن ارتضاهم الله لرسالته، وأفاض عليهم من رحمته، ومنحهم من كرامته ـ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ـ فقد اتّخذ الله إبراهيم خليلاً ورسولاً ونبيّاً، وجعل إسحاق نبيّاً ـ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[8]، فهو الَّذي يعلم من يصلح للرّسالة ويتصرَّف بالحكمة، في اختياره رسله الَّذين يبلِّغون رسالاته ويدعون إلى توحيده.

عقدة أولاد يعقوب(ع)

وربما يسأل البعض: لماذا ميَّز يعقوب يوسف وأخاه بالمحبَّة الكبيرة الَّتي أدَّت إلى تعقيد أولاده منه ومن ولديه، كما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}، فقد كانوا عشرةً من أمٍّ، وكان يوسف وأخوه من أمٍّ أخرى؟ والجواب أنّه ربما كان ليعقوب بعض العاطفة المميَّزة لهما، كنتيجةٍ لبعض الخصائص الرّوحيَّة والأخلاقيَّة الّتي كانا يتمتَّعان بها، ولصغر سنّهما الَّتي تجعلهما بحاجةٍ إلى الاحتضان العاطفيّ، إلى جانب ما تستثيره تلك السنّ من عاطفةٍ في قلب الأب، بحيث تجعل الكبير يهفو إلى الصَّغير ويرعاه رعايةً خاصَّة ويدلِّله. ولكنَّ الكبار من الأولاد ـ عادةً ـ لا يفهمون طبيعة الشّعور الإنسانيّ للأب، وما يحتاجه الصَّغير في الجانب العاطفيّ، ولا سيَّما مع اختلاف الأمّ، الَّذي قد يبعث على التّعقيد في نفوس الأولاد تبعاً للتّعقيد بين الأمّهات.

وكان هؤلاء يفكّرون في القضيَّة وفق معيار تفوّقهم العدديّ، وقدرتهم على مساعدة الأسرة بجهودهم الخاصَّة، وهو ما كانوا يفترضون معه ترجيحهم في المحبَّة والقرب الشّعوريّ على الأقلّ، وكانوا ينطلقون في تفكيرهم مما يوحيه العدد الكبير من قوّةٍ تتيح لهم تصحيح ما كانوا يعتبرونه خطأً في تمييز أبيهم في مشاعره الأبويّة تجاه أولاده، الأمر الَّذي عبَّروا عنه بقولهم الَّذي أشار إليه الله في قوله تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[9]، ما نستوحي منه أنهم كانوا لا يحترمون شخصيَّة النّبيّ في أبيهم، وهو الَّذي لم ينطلق في سلوكه من عقدةٍ ذاتيَّةٍ، بل من حالةٍ عقلانيَّة روحيَّة، وعدالةٍ سلوكيَّة لا تبتعد عن خطِّ الرّسالة في السّلوك الذّاتيّ أو الأسريّ أو الاجتماعيّ العامّ، لأنَّ دور النبيّ أن يكون القدوة في كلِّ شيء، لأنّه يمثِّل الرّسالة في حياته كما يمثِّلها في كلماته، من خلال التّكامل بين الكلمة والفعل في حركة الرِّسالة والرّسول.

وقد يحدث ذلك في علاقة الأبناء بأبيهم، بحيث يستسلمون للعلاقة الطبيعيَّة الّتي تتحرّك في تفاصيل الحياة في البيت العائليّ، فلا يعودون يشعرون بالهيبة تجاهه بما يشعر به الآخرون، وربما قادهم ذلك إلى فقدان التأثّر بالجوانب الأخرى من شخصيَّته، أو عدم الشّعور بقدسيّتها وعظمتها، حتى لو كان في موقع القداسة والعظمة، فينعكس ذلك على نظرتهم إليه في مشاعره وسلوكه، بعيداً عن التعمّق في طبيعة ذلك كلِّه.

التّآمر على يوسف(ع)

ولعلّ هذا هو الّذي جعلهم يبتعدون عن الالتزام بالحدود الشرعيّة والخطوط الأخلاقيّة الّتي جاءت بها الرّسالة في المضمون العقيديّ التوحيديّ والامتثال لأوامر الله ونواهيه، فدفعهم ذلك إلى التّفكير في التّخلّص من أخيهم والتعدّي على حياته أو حريّته، وإغضاب أبيهم في تصرفاتهم، بما يسيء إلى حالته النفسيَّة ومشاعره العاطفيَّة، الأمر الّذي جعلهم يندفعون نحو عصيان الله والتمرّد عليه. وقد لا يخفِّف من ذلك أنّهم قرَّروا التّوبة إلى الله بعد التخلّص من أخيهم والكذب على أبيهم، وذلك كما جاء في قوله تعالى ـ حكايةً عنهم ـ {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}[10]، من دون أن يكون لهم وعي الخطّ الإلهيّ في التّوبة التي لا تعبِّر عن واقعيّةٍ إيمانيّة عميقة، لأنَّ جرأتهم على الله من خلال تصميمهم على المعصية، قد توحي بتكرارهم الجريمة عندما تتوفّر الظّروف المماثلة لذلك.

هذا مع تأكيد أنَّ يعقوب لم يكن في وارد التَّمييز بين أولاده، فقد كان يحبّهم جميعاً، ولكن سلوكه في رعاية الصَّغيرين كان سببه حاجتهما إلى ذلك، انطلاقاً من حالة الضَّعف الطّبيعيّ في حياتهما من خلال وضعهما في الأسرة مع الوالدين، بينما لم يكن الكبار يشعرون بتلك الحاجة، بل ربما كان أبوهم هو الَّذي يحتاج إلى رعايتهم له ومساعدتهم له في حياته عندما يتقدَّم به العمر ويخضع لحالات الضَّعف الجسديّ، ولذلك، فإنّهم كانوا مخطئين في فهمهم لسلوك أبيهم في علاقته بهم وبأخويهم الصَّغيرين.

ويبقى الحديث عن يعقوب في قصَّة يوسف، في أكثر من إيحاءٍ رساليّ، في حزنه وعلاقته بأولاده، مما نرجو أن نتحدَّث عنه في الحديث القادم، إن شاء الله.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [البقرة: 136].

[2]  [النساء: 163].

[3]  [البقرة: 131].

[4]  [يوسف: 15].

[5]  [يوسف: 18].

[6]  [يوسف: 4].

[7]  [يوسف: 5].

[8]  [يوسف: 6].

[9]  [يوسف: 8].

[10]  [يوسف: 9].


ونواصل الحديث عن التَّجارب النّبويَّة، وكنا قد بدأنا الحديث عن تجربة النّبيّ موسى(ع)، ووصلنا إلى الحديث عن تجربة النّبيّ يعقوب(ع).

كيفيَّة تلقّي يعقوب(ع) الوحي

يعقوب هو نبيٌّ من ذريَّة إبراهيم(ع) من ولد إسحاق، وقد تحدَّث عنه القرآن الكريم في الإشارة إلى اسمه في ستّ عشرة آيةً، وصرَّح بأنَّ الله أنزل عليه الوحي من دون تفصيلٍ لذلك، وأراد للمسلمين أن يؤمنوا به كما يؤمنون بما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وذلك قوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[1]، وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ}[2].

ولكن هل كان إنزال الرِّسالة على يعقوب والإيحاء إليه بالطَّريقة المباشرة التي يبلّغ الله بها أنبياءه بما يكلِّفهم به من مهمَّة النبوَّة، أو ما ينـزل عليهم من آيات، أو كان ذلك مستمرّاً مع رسالة إبراهيم، وهي الحنيفيَّة الإسلاميَّة الّتي أوحى الله بها إلى إبراهيم في حديثه له بشكلٍ مباشر، وذلك في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[3]، فكان إلزام الأنبياء من ولده بما أنزله الله إليه، بمثابة الإنزال إليهم والإيحاء إليهم؟

ربما نستفيد من بعض تفاصيل قصَّة يوسف(ع)، أنَّ الله كان يلهم يعقوب بأسلوب الوحي الرّساليّ، أو بوسائل معيَّنة، وهو ما يظهر في حديثه مع أبنائه، بعد أن جاؤوا إليه باكين مدَّعين أنَّ الذّئب قد أكل يوسف بعدما غفلوا عنه فيما كانوا يتسابقون، وذلك قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}[4]، فقد كان يعقوب يعتقد أنهم كانوا كاذبين فيما أخبروه به، وأنَّ لهم صنعاً في افتقاده، ومكراً في أمره، ولكن لم يكن له طريق للتحقّق ممّا جرى على يوسف، وتحرّي ما آل إليه أمره وأين هو، وما حاله، لأنَّ أعوان الشّخص على أمثال هذه النّوائب، وأعضاده لدفع ما يقصده من المكاره، إنما هم أبناؤه الّذين يشكّلون عصبةً أولي قوّةٍ وشدّةٍ، فإذا كانوا هم السَّبب لنـزول النّائبة ووقوع المصيبة، فبمن يستعين؟ وبماذا يدفع عن نفسه؟! وفي مثل هذه الحالة، لا يسعه إلا الصَّبر.

ولذلك، قال لهم ـ فيما قصَّه الله من ذلك ـ {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[5]، للإيحاء إليهم بأنّه لم يصدّقهم في ما زعموه، لأنَّ المسألة لا تخضع للواقع بحسب طبيعته المعقولة، ولكنَّه لا يريد الدّخول في التّفاصيل ليكشف لهم ما يعلمه مما علّمه الله، أو مما ينطلق به إحساسه الرّوحيّ حول الموضوع، لأنَّ الوقت المناسب لم يأت بعد.

رؤيا يوسف(ع)

وقد بدأت القصَّة مع يعقوب عندما حدَّثه ابنه يوسف عن رؤياه في المنام: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[6]، وكان هذا الولد أثيراً عنده، حبيباً إليه، لجماله ووداعته وطفولته الحلوة وصفاء روحه، وقد أثارت هذه الرّؤيا القلق في نفسه، لما تشتمل عليه من جوٍّ غريبٍ يوحي بالسموّ، ولكنّه حافل بالغموض، فأراد من أبيه الّذي أكرمه الله بالنبوَّة، أن يكشف له أسرار هذه الرّؤيا الّتي قد توحي بأوضاعه الخاصَّة في المستقبل، ليوضح له معالم المستقبل من خلالها.

وربما كان يتصوَّر أنها رؤيا صادقة تعبّر عن الواقع، فحاول أن يعرف طبيعتها، وربما كان حائراً بين هذا النَّوع من الرّؤيا الصَّادقة أو الرّؤيا الحالمة، فأحبَّ أن يجلو كنهها كأيِّ إنسانٍ في مثل عمره كان ما يزال ينفتح على أوائل الشّباب... ولما أثاره ذلك في نفسه من تساؤلٍ حول هذه الأعجوبة الكونيَّة، فما معنى ذلك؟ وما مداه؟ وكيف يمكن أن تسجد هذه المخلوقات الكونيَّة الضَّخمة العظيمة لبشرٍ مثله؟ وما هو موقعه من ذلك؟

وكان يعقوب(ع) يستشرف بحسِّه النّبويّ مستقبل ولده يوسف من خلال هذا الحلم العجيب الّذي كان يراه حلماً صادقاً ينفتح على الحقيقة، فيرى فيه شخصاً عظيماً يسمو على أهله بالمكانة والمنـزلة، إلى المستوى الَّذي سيكون عليهم أن يتعاملوا معه تعاملهم مع الشَّخص العظيم، وأن يقدِّموا له فروض الاحترام بطريقة السّجود، مما كانت تقاليد ذلك العصر تفرضه على النّاس.

وليس من الضَّروريّ أن يكون النبيّ يعقوب قد انفتح على التّفاصيل التي كانت أحداثها كامنةً في عالم الغيب، ولكنّه خاف على ولده العزيز من أولاده الآخرين الّذين كانوا من أمٍّ أخرى، وكانوا يحسدون أخاهم يوسف على ما يتميَّز به عنهم من جمالٍ وذكاءٍ ووداعةٍ وصفاء، ما جعله ينال هذه المنـزلة الكبيرة في المحبّة عند أبيه، كنتيجةٍ لما يملكه من الصّفات التي أهّلته لهذه المعاملة، وهو ما جعلهم يعيشون العقدة تجاهه، بما قد يدفعهم إلى التّآمر عليه والتخلّص منه إذا حدَّثهم عن رؤياه العجيبة، وفهموا منها مستقبله الكبير الّذي قد يزداد من خلاله حقدهم عليه، وحسدهم له فيما إذا صدقت الرّؤيا وتحقَّق مضمونها المميَّز في الواقع، عندما يصبح غداً في موقعٍ رفيعٍ يفوقهم شأناً، لأنَّ الحسد يدفع أصحابه إلى الكيد للحسود وإيذائه بشكلٍ مباشر.

تأويل الرّؤيا

وقد أحبَّ يعقوب الّذي عاش القلق على ولده الحبيب، أن يحذِّر يوسف من أن يقصَّ رؤياه على إخوته، كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ـ فيسعوا في هلاكك، ليمنعوا ما ينتظرك من مستقبلٍ مشرقٍ توحي به الرّؤيا، ظنّاً منهم أنَّهم يستطيعون بذلك منع ما يريده الله أن يكون فيما استشرفه يعقوب، وذلك من خلال وسوسة الشَّيطان لهم، ليفسد عليهم أوضاعهم، وليحرّكهم في اتجاه معصية الله، ما يؤدِّي بهم إلى العذاب في الآخرة ـإِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[7].

ويتابع الأب النّبيّ بشارة ولده بالمستقبل الكبير ـ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ـ أي يصطفيك، لما يراه من خضوعك له، وإيمانك به، ويختار لك الكرامة من عنده ـ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ـ في تفسيرك للرّؤيا الّتي قد تجعلك حاجةً للنَّاس الَّذين يحتاجون إلى من يفسِّرها لهم، ما قد يفتح لك أبواب المستقبل الكبير ـ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ـ بالنبوَّة الّتي يمنحك إيّاها ـ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ـ ممن ارتضاهم الله لرسالته، وأفاض عليهم من رحمته، ومنحهم من كرامته ـ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ـ فقد اتّخذ الله إبراهيم خليلاً ورسولاً ونبيّاً، وجعل إسحاق نبيّاً ـ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[8]، فهو الَّذي يعلم من يصلح للرّسالة ويتصرَّف بالحكمة، في اختياره رسله الَّذين يبلِّغون رسالاته ويدعون إلى توحيده.

عقدة أولاد يعقوب(ع)

وربما يسأل البعض: لماذا ميَّز يعقوب يوسف وأخاه بالمحبَّة الكبيرة الَّتي أدَّت إلى تعقيد أولاده منه ومن ولديه، كما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}، فقد كانوا عشرةً من أمٍّ، وكان يوسف وأخوه من أمٍّ أخرى؟ والجواب أنّه ربما كان ليعقوب بعض العاطفة المميَّزة لهما، كنتيجةٍ لبعض الخصائص الرّوحيَّة والأخلاقيَّة الّتي كانا يتمتَّعان بها، ولصغر سنّهما الَّتي تجعلهما بحاجةٍ إلى الاحتضان العاطفيّ، إلى جانب ما تستثيره تلك السنّ من عاطفةٍ في قلب الأب، بحيث تجعل الكبير يهفو إلى الصَّغير ويرعاه رعايةً خاصَّة ويدلِّله. ولكنَّ الكبار من الأولاد ـ عادةً ـ لا يفهمون طبيعة الشّعور الإنسانيّ للأب، وما يحتاجه الصَّغير في الجانب العاطفيّ، ولا سيَّما مع اختلاف الأمّ، الَّذي قد يبعث على التّعقيد في نفوس الأولاد تبعاً للتّعقيد بين الأمّهات.

وكان هؤلاء يفكّرون في القضيَّة وفق معيار تفوّقهم العدديّ، وقدرتهم على مساعدة الأسرة بجهودهم الخاصَّة، وهو ما كانوا يفترضون معه ترجيحهم في المحبَّة والقرب الشّعوريّ على الأقلّ، وكانوا ينطلقون في تفكيرهم مما يوحيه العدد الكبير من قوّةٍ تتيح لهم تصحيح ما كانوا يعتبرونه خطأً في تمييز أبيهم في مشاعره الأبويّة تجاه أولاده، الأمر الَّذي عبَّروا عنه بقولهم الَّذي أشار إليه الله في قوله تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[9]، ما نستوحي منه أنهم كانوا لا يحترمون شخصيَّة النّبيّ في أبيهم، وهو الَّذي لم ينطلق في سلوكه من عقدةٍ ذاتيَّةٍ، بل من حالةٍ عقلانيَّة روحيَّة، وعدالةٍ سلوكيَّة لا تبتعد عن خطِّ الرّسالة في السّلوك الذّاتيّ أو الأسريّ أو الاجتماعيّ العامّ، لأنَّ دور النبيّ أن يكون القدوة في كلِّ شيء، لأنّه يمثِّل الرّسالة في حياته كما يمثِّلها في كلماته، من خلال التّكامل بين الكلمة والفعل في حركة الرِّسالة والرّسول.

وقد يحدث ذلك في علاقة الأبناء بأبيهم، بحيث يستسلمون للعلاقة الطبيعيَّة الّتي تتحرّك في تفاصيل الحياة في البيت العائليّ، فلا يعودون يشعرون بالهيبة تجاهه بما يشعر به الآخرون، وربما قادهم ذلك إلى فقدان التأثّر بالجوانب الأخرى من شخصيَّته، أو عدم الشّعور بقدسيّتها وعظمتها، حتى لو كان في موقع القداسة والعظمة، فينعكس ذلك على نظرتهم إليه في مشاعره وسلوكه، بعيداً عن التعمّق في طبيعة ذلك كلِّه.

التّآمر على يوسف(ع)

ولعلّ هذا هو الّذي جعلهم يبتعدون عن الالتزام بالحدود الشرعيّة والخطوط الأخلاقيّة الّتي جاءت بها الرّسالة في المضمون العقيديّ التوحيديّ والامتثال لأوامر الله ونواهيه، فدفعهم ذلك إلى التّفكير في التّخلّص من أخيهم والتعدّي على حياته أو حريّته، وإغضاب أبيهم في تصرفاتهم، بما يسيء إلى حالته النفسيَّة ومشاعره العاطفيَّة، الأمر الّذي جعلهم يندفعون نحو عصيان الله والتمرّد عليه. وقد لا يخفِّف من ذلك أنّهم قرَّروا التّوبة إلى الله بعد التخلّص من أخيهم والكذب على أبيهم، وذلك كما جاء في قوله تعالى ـ حكايةً عنهم ـ {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}[10]، من دون أن يكون لهم وعي الخطّ الإلهيّ في التّوبة التي لا تعبِّر عن واقعيّةٍ إيمانيّة عميقة، لأنَّ جرأتهم على الله من خلال تصميمهم على المعصية، قد توحي بتكرارهم الجريمة عندما تتوفّر الظّروف المماثلة لذلك.

هذا مع تأكيد أنَّ يعقوب لم يكن في وارد التَّمييز بين أولاده، فقد كان يحبّهم جميعاً، ولكن سلوكه في رعاية الصَّغيرين كان سببه حاجتهما إلى ذلك، انطلاقاً من حالة الضَّعف الطّبيعيّ في حياتهما من خلال وضعهما في الأسرة مع الوالدين، بينما لم يكن الكبار يشعرون بتلك الحاجة، بل ربما كان أبوهم هو الَّذي يحتاج إلى رعايتهم له ومساعدتهم له في حياته عندما يتقدَّم به العمر ويخضع لحالات الضَّعف الجسديّ، ولذلك، فإنّهم كانوا مخطئين في فهمهم لسلوك أبيهم في علاقته بهم وبأخويهم الصَّغيرين.

ويبقى الحديث عن يعقوب في قصَّة يوسف، في أكثر من إيحاءٍ رساليّ، في حزنه وعلاقته بأولاده، مما نرجو أن نتحدَّث عنه في الحديث القادم، إن شاء الله.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [البقرة: 136].

[2]  [النساء: 163].

[3]  [البقرة: 131].

[4]  [يوسف: 15].

[5]  [يوسف: 18].

[6]  [يوسف: 4].

[7]  [يوسف: 5].

[8]  [يوسف: 6].

[9]  [يوسف: 8].

[10]  [يوسف: 9].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية