غضب يونس من قومه وابتلاء الله له

غضب يونس من قومه وابتلاء الله له

السّؤال الّذي يطرح في قصّة يونس مع قومه: هل إنَّ الله أرسله إلى قومه مرّتين؟ ففي المرّة الأولى لم يستجيبوا له، ولذلك، ذهب مغاضباً، وحصل لقومه ما حصل من البلاء، وفي المرّة الثانية استجابوا له وآمنوا به.

إرسال يونس إلى قومه

يرى العلامة الطَّباطبائي أنَّ الله أرسله إليهم مرّةً ثانيةً بعد إنقاذه من السِّجن في بطن الحوت، وذلك من خلال السّياق الّذي لا يخلو من إشعار ـ بل دلالة ـ في سورة الصّافّات، بأنّ المراد من إرساله في قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ}[1]، أمره بالذَّهاب ثانيةً إلى القوم، وبإيمانهم في قوله: {فَآمَنُوا}[2]، إيمانهم بتصديقه واتّباعه بعدما آمنوا وتابوا حين رأوا العذاب.

وقد لاحظنا على ذلك في تفسيرنا، أنّه لم يرد في كلِّ الآيات المتعرّضة لقصَّة يونس أنّه كان مرسلاً إلى قومه قبل التقام الحوت إيّاه، لنستفيد من الآية المذكورة أنّه أرسل إليهم ثانيةً، هذا إضافةً إلى أنَّ الظّاهر من إيمانهم هو إيمانهم بالله، وهو ما لا يتناسب مع ما تذكره قصَّته المشهورة من إيمانهم بعد خروجه منهم مغاضباً، لأنّهم كانوا كافرين قبل إرساله إليهم.

والظَّاهر ـ والله العالم ـ أنَّ آية يونس تلتقي مع آية الصّافّات في الحديث عن إيمان قوم يونس، فقد أجملت الآية الأولى وبيَّنت أنَّ هؤلاء لمّا آمنوا، كشف الله عنهم العذاب الّذي أعدَّه للكافرين، فمتَّعهم الله بسبب ذلك، وأفاض عليهم من فضله بما تمتَّعوا به من نعمه. ولم تفصِّل هذه الآية السَّبب في إيمانهم، ولم تتحدَّث عن أيّ رسولٍ أو مرشد قام بهدايتهم إلى الإيمان، أو حذّرهم من نزول العذاب عليهم قريباً إذا أصرّوا على كفرهم.

أمَّا آية الصّافّات، فقد تحدّثت عن أنَّ الله سبحانه أرسل يونس إلى هؤلاء القوم الّذين يبلغون في عددهم ما يزيد عن المائة ألف، ليهديهم إلى الله، ويرشدهم إلى الالتزام بالإيمان به وبتوحيده، فبذل جهده في إبلاغهم الرّسالة، وإرشادهم إلى الحقّ، فآمنوا بالله بفضل نشاطه الرّساليّ، وكانت نتيجة ذلك أن متَّعهم الله بما أنعم عليهم من رزقه، وما تفضَّل به من فضله.

وبذلك، نستوحي أنَّ الآيتين واردتان في موقعٍ واحدٍ، وهو الحديث عن النَّتائج الإيجابيَّة للإيمان الّذي يلتزمه النَّاس من خلال دعوة الرسول، حيث تظهر من خلال اللّطف الإلهيّ والإمتاع الرّوحيّ الذي يمثِّل السَّعادة الرّوحيَّة والمادّيَّة في الحياة.

سبب ذهابه مغاضباً

 وقد تتحرَّك الملاحظة في سؤالٍ آخر، عن السَّبب في ذهابه مغاضباً، إذا لم تكن المسألة قصّة تمرّدهم عليه وجحودهم لرسالته وكفرهم بالله، بالرّغم من دعوته المتكرّرة الطّويلة الموجَّهة إليهم في توعيتهم ووعظهم وإرشادهم وهدايتهم إلى الحقّ؟

 وربّما يجاب عن ذلك بأنَّ المسألة قد تكون وليدة ظروفٍ معقَّدة عاشها يونس(ع)، فأدَّت إلى غضبه وذهابه إلى ساحةٍ أخرى قد يحلّ فيها مشكلته، أو ينفِّس فيها عن نفسه، أو يخفِّف فيها عن غضبه، بفعل الحالات الصَّعبة وثقته بأنَّ الله لن يضيِّق عليه أمره أو يبقيه في هذا الضّيق النفسيّ، أملاً برحمة الله ولطفه، تماماً كما هي حال الإنسان الّذي يفرّ من ضغط الأوضاع القاسية عليه وسيطرة الغمّ على ذاته، فكانت حالته كحال الآبق الّذي يفرّ من سيّده، لأنه لم يصبر على ما يلاقيه من الصّعوبات.

ولم تكن المسألة متَّصلةً بفراره من الله سبحانه، لأنّه لم يكن يفكِّر بهذه الطّريقة التي لا يفكّر بها الصَّالحون من عباد الله، فكان أن أدخله الله في هذه التّجربة الصّعبة في التقام الحوت إيّاه، وبقائه في بطنه إلى حين، فأثبت نجاحه في التَّجربة، لأنّه بقي منفتحاً على حضور الله في نفسه، ومسبِّحاً له، ومبتهلاً إليه، ومستغيثاً به، حتّى استجاب الله له دعاءه، وأنقذه من ذلك السِّجن المظلم، ورفع بذلك درجته، تماماً كما رفع درجات بعض رسله الّذين ابتلاهم ببعض البلاء، فصبروا عليه ونجحوا في الامتحان الإلهيّ.

وقد وردت بعض الرّوايات الضَّعيفة التي تؤكّد القصَّة المشهورة في قضيَّة دعاء يونس على قومه بالعذاب وإجابة الله له في ذلك، بحيث شعروا بجدّيّته فتابوا. ولكنَّ ظهور القرآن في الإشارة إلى بعض ما يتعلَّق بالقصَّة يوحي بما ذكرناه؛ والله العالم.

قصَّته(ع) عند أهل الكتاب

أمّا أهل الكتاب، فقد تحدّثوا عن قصّته بطريقةٍ أخرى لا تتناسب مع مقامه الرسولي وصلاحه الإيمانيّ، فقد ذكروا أنَّ اسمه "يوناه بن أمناي"، كما جاء في العهد القديم، كما ذكروه في العهد الجديد من دون استكمال قصَّته [قاموس الكتاب المقدّس].

ونقل الألوسي في "روح المعاني" قصَّته عند أهل الكتاب، ويؤيّد ذلك ما في بعض كتبهم من إجمال القصَّة: "أنَّ الله أمره بالذّهاب إلى دعوة أهل نينوى، وكانت إذ ذاك عظيمةً جدّاً، لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيَّام، وكانوا قد عظم شرّهم وكثر فسادهم، فاستعظم الأمر، وهرب إلى [مدينة] ترسيس، فجاء [مدينة] يافا، فوجد سفينةً يريد أهلها الذَّهاب بها إلى ترسيس، فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السَّفينة، فهاجت ريحٌ عظيمة، وكثرت الأمواج، وأشرفت السَّفينة على الغرق، ففزع الملاحون، ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخفّ السفينة، وعند ذلك، نزل يونس إلى السَّفينة، ونام حتى علا نَفَسُهُ، فتقدّم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائماً؟ قم وادعُ إلهك لعلَّه يخلّصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا.

وقال بعضهم: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشرّ بسببه، فتقارعوا، فوقعت القرعة على يونس، فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين تمضي؟ ومن أيّ كورةٍ أنت؟ ومن أيّ شعبٍ أنت؟... فقال: ألقوني في البحر يسكن، فإنّه من أجلي صار هذا الموج العظيم، فجهد الرّجال أن يردّوه إلى البرّ فلم يستطيعوا، فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع مَن في السَّفينة، فسكن البحر، وأمر الله حوتاً عظيماً فابتلعه، فبقي في بطنه ثلاثة أيّام وثلاث ليالٍ، وصلّى في بطنه إلى ربّه واستغاث به، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليابسة، ثمّ قال له: قم وامضِ إلى نينوى، ونادِ أهلها كما أمرتك من قبل.

فمضى ونادى وقال: تخسف نينوى بعد ثلاثة أيّام، فآمنت رجال نينوى بالله، ونادوا بالصِّيام، ولبسوا المسوح جميعاً، ووصل الخبر إلى الملك، فقام عن كرسيِّه، ونزع حلَّته، ولبس مسحاً، وجلس على الرّماد، ونودي أن لا يذوق أحدٌ من النَّاس والبهائم طعاماً ولا شراباً، وجاؤوا إلى الله تعالى، ورجعوا عن الشرّ والظّلم، فرحمهم الله ولم ينزل بهم العذاب. فحزن يونس وقال: إلهي، من هذا هربت، فإني علمت أنَّك الرّحيم الرّؤوف الصّبور التوّاب. يا ربّ، خذ نفسي، فالموت خيرٌ لي من الحياة، فقال: يا يونس، حزنت من هذا جدّاً، فقال: نعم يا ربّ.

وخرج يونس، وجلس مقابل المدينة، وصنع له هناك مظلّةً وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة، فأمر الله تعالى يقطيناً، فصعد على رأسه ليكون ظلاله من كربه، ففرح باليقطين فرحاً عظيماً، وأمر الله تعالى دودةً فضربت اليقطين، فجفَّ، ثم هبّت ريحٌ سموم وأشرقت الشَّمس على رأس يونس، فعظم الأمر عليه واستطاب الموت. فقال الربّ: يا يونس، أحزنت جداً على اليقطين؟ فقال: نعم يا ربّ، حزنت جداً، فقال تعالى: حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربّه، بل صار من ليلته وهلك من ليلته، فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة الّتي فيها أكثر من اثني عشر ربوةً من الناس، قومٌ لا يعلمون يمينهم من شمالهم وبهائمهم كثيرة. انتهى".

ونلاحظ على هذا النّصّ المرويّ عن أهل الكتاب، أنَّ يونس فرّ في بداية بعثته الأولى إلى أهل نينوى من أداء الرّسالة، وهو ما يتنافى مع شخصيّته كرسول، ثم إنّه في المرّة الثّانية من بعثته، لم يرضَ برفع العذاب عنهم، مع علمه بإيمانهم وتوبتهم الّتي هي الهدف الأساس لدعوة الأنبياء في إبعادهم عن الكفر والشِّرك، وانفتاحهم على الالتزام بالإيمان، والإنابة إلى الله، والاستغاثة به، والوصول إلى مواقع رضاه بالتّوبة الخالصة التي صوّرتها القصّة في رواية أهل الكتاب، وهذا مما يتنزَّه الأنبياء عنه، انطلاقاً من عصمتهم الرّوحيَّة والإيمانيّة والأخلاقيّة، وهو ما صوَّر الله به النّبيّ يونس، بأن جعله من الصَّالحين، وأثنى عليه بأنّه من المؤمنين، وذكره في سورة الأنعام، في الآية 87، بأنّه من الأنبياء الّذين فضَّلهم على العالمين وهداهم إلى الصِّراط المستقيم.

العبر المستوحاة من القصَّة

وقد نستوحي من هذه القصَّة الخاطفة التي لم يتحدَّث القرآن كثيراً عن تفاصيلها وجزئيَّاتها، أنَّ الله قد يبتلي الدّعاة المؤمنين من عباده ورسله بما يمكن أن يكونوا قد قصَّروا فيه من دون تعمّد، أو تهرّبوا منه من مسؤوليَّات، أو بما تقتضيه حكمته بأن يدخلهم في التّجربة العمليّة التي يبرز فيها صبرهم على البلاء وصمودهم أمام الآلام، ليكون ذلك درساً لهم في خطِّ مواجهة التّحدّيات الكبرى في حركتهم في الدَّعوة، ليبقوا في حالٍ من الثَّبات على إبلاغ الرّسالة، بالرّغم ممّا يواجههم به الكافرون من الفئات المضادّة.

وربما كان ذلك هو ما أراد الله للنبيّ يونس أن يعيشه، لينطلق من حال البلاء إلى حال العافية، بقوَّة التَّصميم على مواصلة الرِّسالة بكلِّ ما تفرضه حركتها من تحدِّيات الجحود والنّكران، أو تثيره من الآلام من خلال الأذى الَّذي يصيبه...

وهكذا تنطلق هذه القصَّة في إيحاءاتها، ليكون هذا النبيّ نموذجاً للرَّسول الصّابر في تحمّله الألم، وفي إخلاصه لله ورجوعه إليه في حال الشدّة. كما أنَّ إيحاءاتها تنفتح على القوم الّذين انحرفوا عن الخطِّ المستقيم، وكفروا بالله أو تمرّدوا على رسله، وأنّهم إذا آمنوا بعد كفرٍ واستقاموا بعد انحراف، فإنَّ الله يكشف عنهم العذاب الّذي كانوا يستحقّونه في حال كفرهم، لأنَّ الله يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السيِّئات، وينعم على التّائبين، ويمتّعهم في الدّنيا متاعاً حسناً، ويدخلهم في الآخرة في جنّةِ رضوانه.

وفي ضوء ذلك، فإنّنا نلتقي مع الموقف المبدئيّ، بالابتهالات الخاشعة لله، المنطلقة من روحيَّة الإحساس بالعبوديّة الّتي يشعر المؤمن معها بأنَّ الله يلتقيه في مواقع الإنابة، مهما كانت الخطايا والذّنوب والانحرافات عن الحقّ، وأنَّ الخطأ لا يتحوَّل إلى عقدة، بل إلى فرصة للّقاء بالله من جديد ـ بعد خروجه من الغفلة النفسيّة ـ في مواقع التّوبة الحقيقيَّة الخالصة التي بدأ فيها التّائبون تاريخاً جديداً وصفحةً بيضاء ناصعةً في حياتهم في رضوان الله.

والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [الصّافّات: 147].

[2]  [الصّافّات: 148].


السّؤال الّذي يطرح في قصّة يونس مع قومه: هل إنَّ الله أرسله إلى قومه مرّتين؟ ففي المرّة الأولى لم يستجيبوا له، ولذلك، ذهب مغاضباً، وحصل لقومه ما حصل من البلاء، وفي المرّة الثانية استجابوا له وآمنوا به.

إرسال يونس إلى قومه

يرى العلامة الطَّباطبائي أنَّ الله أرسله إليهم مرّةً ثانيةً بعد إنقاذه من السِّجن في بطن الحوت، وذلك من خلال السّياق الّذي لا يخلو من إشعار ـ بل دلالة ـ في سورة الصّافّات، بأنّ المراد من إرساله في قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ}[1]، أمره بالذَّهاب ثانيةً إلى القوم، وبإيمانهم في قوله: {فَآمَنُوا}[2]، إيمانهم بتصديقه واتّباعه بعدما آمنوا وتابوا حين رأوا العذاب.

وقد لاحظنا على ذلك في تفسيرنا، أنّه لم يرد في كلِّ الآيات المتعرّضة لقصَّة يونس أنّه كان مرسلاً إلى قومه قبل التقام الحوت إيّاه، لنستفيد من الآية المذكورة أنّه أرسل إليهم ثانيةً، هذا إضافةً إلى أنَّ الظّاهر من إيمانهم هو إيمانهم بالله، وهو ما لا يتناسب مع ما تذكره قصَّته المشهورة من إيمانهم بعد خروجه منهم مغاضباً، لأنّهم كانوا كافرين قبل إرساله إليهم.

والظَّاهر ـ والله العالم ـ أنَّ آية يونس تلتقي مع آية الصّافّات في الحديث عن إيمان قوم يونس، فقد أجملت الآية الأولى وبيَّنت أنَّ هؤلاء لمّا آمنوا، كشف الله عنهم العذاب الّذي أعدَّه للكافرين، فمتَّعهم الله بسبب ذلك، وأفاض عليهم من فضله بما تمتَّعوا به من نعمه. ولم تفصِّل هذه الآية السَّبب في إيمانهم، ولم تتحدَّث عن أيّ رسولٍ أو مرشد قام بهدايتهم إلى الإيمان، أو حذّرهم من نزول العذاب عليهم قريباً إذا أصرّوا على كفرهم.

أمَّا آية الصّافّات، فقد تحدّثت عن أنَّ الله سبحانه أرسل يونس إلى هؤلاء القوم الّذين يبلغون في عددهم ما يزيد عن المائة ألف، ليهديهم إلى الله، ويرشدهم إلى الالتزام بالإيمان به وبتوحيده، فبذل جهده في إبلاغهم الرّسالة، وإرشادهم إلى الحقّ، فآمنوا بالله بفضل نشاطه الرّساليّ، وكانت نتيجة ذلك أن متَّعهم الله بما أنعم عليهم من رزقه، وما تفضَّل به من فضله.

وبذلك، نستوحي أنَّ الآيتين واردتان في موقعٍ واحدٍ، وهو الحديث عن النَّتائج الإيجابيَّة للإيمان الّذي يلتزمه النَّاس من خلال دعوة الرسول، حيث تظهر من خلال اللّطف الإلهيّ والإمتاع الرّوحيّ الذي يمثِّل السَّعادة الرّوحيَّة والمادّيَّة في الحياة.

سبب ذهابه مغاضباً

 وقد تتحرَّك الملاحظة في سؤالٍ آخر، عن السَّبب في ذهابه مغاضباً، إذا لم تكن المسألة قصّة تمرّدهم عليه وجحودهم لرسالته وكفرهم بالله، بالرّغم من دعوته المتكرّرة الطّويلة الموجَّهة إليهم في توعيتهم ووعظهم وإرشادهم وهدايتهم إلى الحقّ؟

 وربّما يجاب عن ذلك بأنَّ المسألة قد تكون وليدة ظروفٍ معقَّدة عاشها يونس(ع)، فأدَّت إلى غضبه وذهابه إلى ساحةٍ أخرى قد يحلّ فيها مشكلته، أو ينفِّس فيها عن نفسه، أو يخفِّف فيها عن غضبه، بفعل الحالات الصَّعبة وثقته بأنَّ الله لن يضيِّق عليه أمره أو يبقيه في هذا الضّيق النفسيّ، أملاً برحمة الله ولطفه، تماماً كما هي حال الإنسان الّذي يفرّ من ضغط الأوضاع القاسية عليه وسيطرة الغمّ على ذاته، فكانت حالته كحال الآبق الّذي يفرّ من سيّده، لأنه لم يصبر على ما يلاقيه من الصّعوبات.

ولم تكن المسألة متَّصلةً بفراره من الله سبحانه، لأنّه لم يكن يفكِّر بهذه الطّريقة التي لا يفكّر بها الصَّالحون من عباد الله، فكان أن أدخله الله في هذه التّجربة الصّعبة في التقام الحوت إيّاه، وبقائه في بطنه إلى حين، فأثبت نجاحه في التَّجربة، لأنّه بقي منفتحاً على حضور الله في نفسه، ومسبِّحاً له، ومبتهلاً إليه، ومستغيثاً به، حتّى استجاب الله له دعاءه، وأنقذه من ذلك السِّجن المظلم، ورفع بذلك درجته، تماماً كما رفع درجات بعض رسله الّذين ابتلاهم ببعض البلاء، فصبروا عليه ونجحوا في الامتحان الإلهيّ.

وقد وردت بعض الرّوايات الضَّعيفة التي تؤكّد القصَّة المشهورة في قضيَّة دعاء يونس على قومه بالعذاب وإجابة الله له في ذلك، بحيث شعروا بجدّيّته فتابوا. ولكنَّ ظهور القرآن في الإشارة إلى بعض ما يتعلَّق بالقصَّة يوحي بما ذكرناه؛ والله العالم.

قصَّته(ع) عند أهل الكتاب

أمّا أهل الكتاب، فقد تحدّثوا عن قصّته بطريقةٍ أخرى لا تتناسب مع مقامه الرسولي وصلاحه الإيمانيّ، فقد ذكروا أنَّ اسمه "يوناه بن أمناي"، كما جاء في العهد القديم، كما ذكروه في العهد الجديد من دون استكمال قصَّته [قاموس الكتاب المقدّس].

ونقل الألوسي في "روح المعاني" قصَّته عند أهل الكتاب، ويؤيّد ذلك ما في بعض كتبهم من إجمال القصَّة: "أنَّ الله أمره بالذّهاب إلى دعوة أهل نينوى، وكانت إذ ذاك عظيمةً جدّاً، لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيَّام، وكانوا قد عظم شرّهم وكثر فسادهم، فاستعظم الأمر، وهرب إلى [مدينة] ترسيس، فجاء [مدينة] يافا، فوجد سفينةً يريد أهلها الذَّهاب بها إلى ترسيس، فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السَّفينة، فهاجت ريحٌ عظيمة، وكثرت الأمواج، وأشرفت السَّفينة على الغرق، ففزع الملاحون، ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخفّ السفينة، وعند ذلك، نزل يونس إلى السَّفينة، ونام حتى علا نَفَسُهُ، فتقدّم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائماً؟ قم وادعُ إلهك لعلَّه يخلّصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا.

وقال بعضهم: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشرّ بسببه، فتقارعوا، فوقعت القرعة على يونس، فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين تمضي؟ ومن أيّ كورةٍ أنت؟ ومن أيّ شعبٍ أنت؟... فقال: ألقوني في البحر يسكن، فإنّه من أجلي صار هذا الموج العظيم، فجهد الرّجال أن يردّوه إلى البرّ فلم يستطيعوا، فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع مَن في السَّفينة، فسكن البحر، وأمر الله حوتاً عظيماً فابتلعه، فبقي في بطنه ثلاثة أيّام وثلاث ليالٍ، وصلّى في بطنه إلى ربّه واستغاث به، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليابسة، ثمّ قال له: قم وامضِ إلى نينوى، ونادِ أهلها كما أمرتك من قبل.

فمضى ونادى وقال: تخسف نينوى بعد ثلاثة أيّام، فآمنت رجال نينوى بالله، ونادوا بالصِّيام، ولبسوا المسوح جميعاً، ووصل الخبر إلى الملك، فقام عن كرسيِّه، ونزع حلَّته، ولبس مسحاً، وجلس على الرّماد، ونودي أن لا يذوق أحدٌ من النَّاس والبهائم طعاماً ولا شراباً، وجاؤوا إلى الله تعالى، ورجعوا عن الشرّ والظّلم، فرحمهم الله ولم ينزل بهم العذاب. فحزن يونس وقال: إلهي، من هذا هربت، فإني علمت أنَّك الرّحيم الرّؤوف الصّبور التوّاب. يا ربّ، خذ نفسي، فالموت خيرٌ لي من الحياة، فقال: يا يونس، حزنت من هذا جدّاً، فقال: نعم يا ربّ.

وخرج يونس، وجلس مقابل المدينة، وصنع له هناك مظلّةً وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة، فأمر الله تعالى يقطيناً، فصعد على رأسه ليكون ظلاله من كربه، ففرح باليقطين فرحاً عظيماً، وأمر الله تعالى دودةً فضربت اليقطين، فجفَّ، ثم هبّت ريحٌ سموم وأشرقت الشَّمس على رأس يونس، فعظم الأمر عليه واستطاب الموت. فقال الربّ: يا يونس، أحزنت جداً على اليقطين؟ فقال: نعم يا ربّ، حزنت جداً، فقال تعالى: حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربّه، بل صار من ليلته وهلك من ليلته، فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة الّتي فيها أكثر من اثني عشر ربوةً من الناس، قومٌ لا يعلمون يمينهم من شمالهم وبهائمهم كثيرة. انتهى".

ونلاحظ على هذا النّصّ المرويّ عن أهل الكتاب، أنَّ يونس فرّ في بداية بعثته الأولى إلى أهل نينوى من أداء الرّسالة، وهو ما يتنافى مع شخصيّته كرسول، ثم إنّه في المرّة الثّانية من بعثته، لم يرضَ برفع العذاب عنهم، مع علمه بإيمانهم وتوبتهم الّتي هي الهدف الأساس لدعوة الأنبياء في إبعادهم عن الكفر والشِّرك، وانفتاحهم على الالتزام بالإيمان، والإنابة إلى الله، والاستغاثة به، والوصول إلى مواقع رضاه بالتّوبة الخالصة التي صوّرتها القصّة في رواية أهل الكتاب، وهذا مما يتنزَّه الأنبياء عنه، انطلاقاً من عصمتهم الرّوحيَّة والإيمانيّة والأخلاقيّة، وهو ما صوَّر الله به النّبيّ يونس، بأن جعله من الصَّالحين، وأثنى عليه بأنّه من المؤمنين، وذكره في سورة الأنعام، في الآية 87، بأنّه من الأنبياء الّذين فضَّلهم على العالمين وهداهم إلى الصِّراط المستقيم.

العبر المستوحاة من القصَّة

وقد نستوحي من هذه القصَّة الخاطفة التي لم يتحدَّث القرآن كثيراً عن تفاصيلها وجزئيَّاتها، أنَّ الله قد يبتلي الدّعاة المؤمنين من عباده ورسله بما يمكن أن يكونوا قد قصَّروا فيه من دون تعمّد، أو تهرّبوا منه من مسؤوليَّات، أو بما تقتضيه حكمته بأن يدخلهم في التّجربة العمليّة التي يبرز فيها صبرهم على البلاء وصمودهم أمام الآلام، ليكون ذلك درساً لهم في خطِّ مواجهة التّحدّيات الكبرى في حركتهم في الدَّعوة، ليبقوا في حالٍ من الثَّبات على إبلاغ الرّسالة، بالرّغم ممّا يواجههم به الكافرون من الفئات المضادّة.

وربما كان ذلك هو ما أراد الله للنبيّ يونس أن يعيشه، لينطلق من حال البلاء إلى حال العافية، بقوَّة التَّصميم على مواصلة الرِّسالة بكلِّ ما تفرضه حركتها من تحدِّيات الجحود والنّكران، أو تثيره من الآلام من خلال الأذى الَّذي يصيبه...

وهكذا تنطلق هذه القصَّة في إيحاءاتها، ليكون هذا النبيّ نموذجاً للرَّسول الصّابر في تحمّله الألم، وفي إخلاصه لله ورجوعه إليه في حال الشدّة. كما أنَّ إيحاءاتها تنفتح على القوم الّذين انحرفوا عن الخطِّ المستقيم، وكفروا بالله أو تمرّدوا على رسله، وأنّهم إذا آمنوا بعد كفرٍ واستقاموا بعد انحراف، فإنَّ الله يكشف عنهم العذاب الّذي كانوا يستحقّونه في حال كفرهم، لأنَّ الله يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السيِّئات، وينعم على التّائبين، ويمتّعهم في الدّنيا متاعاً حسناً، ويدخلهم في الآخرة في جنّةِ رضوانه.

وفي ضوء ذلك، فإنّنا نلتقي مع الموقف المبدئيّ، بالابتهالات الخاشعة لله، المنطلقة من روحيَّة الإحساس بالعبوديّة الّتي يشعر المؤمن معها بأنَّ الله يلتقيه في مواقع الإنابة، مهما كانت الخطايا والذّنوب والانحرافات عن الحقّ، وأنَّ الخطأ لا يتحوَّل إلى عقدة، بل إلى فرصة للّقاء بالله من جديد ـ بعد خروجه من الغفلة النفسيّة ـ في مواقع التّوبة الحقيقيَّة الخالصة التي بدأ فيها التّائبون تاريخاً جديداً وصفحةً بيضاء ناصعةً في حياتهم في رضوان الله.

والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [الصّافّات: 147].

[2]  [الصّافّات: 148].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية