ذو الكفل وذو النّون في القرآن الكريم

ذو الكفل وذو النّون في القرآن الكريم

"ذو الكفل"، ورد ذكره في سياق ذكر الأنبياء في قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ}[1].

ذو الكفل: الصَّالح الصَّابر

وقد اختلف المفسِّرون في صفته، فقال البعض إنّه رجلٌ صالح عاش حياته في صلاحٍ من إيمانه بالله، وتوحيده له، ومن أخلاقه الحسنة الَّتي كان ينفتح بها على ما يصلح أمور النّاس في قضاء حاجاتهم، وتيسير أوضاعهم، والإحسان إليهم، والاهتمام بقضاياهم، وتخفيف آلامهم، وحلّ مشاكلهم، وإنّه كان يصوم النّهار ويقوم اللّيل في عبادته لله، ويتّسع صدره لمن يسيء إليه، ويدرأ بالحسنة السيّئة، فلا يغضب، ولا ينفعل، ويعمل بالحقّ في كلِّ مواقعه. ولكنَّه لم يكن نبيّاً ـ بحسب هذا الرّأي ـ وهذا هو الَّذي قرّبه إلى الله، فشكر له، ورفع درجته، حتّى جعله في الدَّرجة الرّفيعة عنده.

 وقيل إنّه كان من الأنبياء، وقد روى ذلك في كتاب النبوّة بالإسناد عن عبد العظيم الحسني، قال: "كتبت إلى أبي جعفر(ع) أسأله عن ذي الكفل وما اسمه، وهل كان من المرسلين؟ فكتب(ع):إنَّ الله بعث مائة ألف نبيٍّ وأربعةً وعشرين ألف نبيّ؛ المرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وإنّ ذا الكفل منهم، وكان بعد سليمان بن داود، وكان يقضي بين النَّاس كما يقضي داود، ولم يغضب قطُّ إلا لله، وكان اسمه (عدويا بن أدارين)"[2].

والكفل في اللّغة هو الحظّ، لأنَّه حصل على حظِّه من الكرامة الإلهيَّة بإخلاصه لله. والظَّاهر أنّه من الأنبياء ـ كما ذكر آنفاً ـ لأنّه جرى ذكره في سياق الحديث عن الأنبياء، كإسماعيل وإدريس وذي النّون وزكريّا، وربما كانت في مشاركته لهم بأنّه من الصَّابرين، بعض الإيحاء بذلك، باعتبار صبره على التّحدّيات الموجَّهة إلى الأنبياء من قِبَل أعداء الرّسالات، وقد وصفه الله، كما وصف إسماعيل وإدريس، بأنّه من الصّالحين، وذلك قوله تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ}[3]. وهذا هو الوصف الّذي تكرَّر في القرآن في وصف بعض الأنبياء.

وقد جاء في تفسير القرطبي عن التّرمذي من حديث ابن عمر عن النبيّ(ص) قال: "كان في بني إسرائيل رجل يقال له "ذو الكفل"، لا يتورَّع من ذنبٍ عمله، فاتّبع امرأةً، فأعطاها ستّين ديناراً على أن يطأها، فلمَّا قعد منها مقعد الرَّجل من امرأته، ارتعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل. والله ما عملته قطّ، قال: أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملني عليه الحاجة. قال: اذهبي فهو لك، والله لا أعصي الله بعدها أبداً. ثم مات من ليلته، فوجدوا مكتوباً على باب داره، إنَّ الله قد غفر لذي الكفل"[4].

والظّاهر أنَّ هذا الحديث لا ينسجم مع وصف القرآن له بأنّه من الصَّابرين ومن الصَّالحين، ولا مع ورود ذكره مع الأنبياء الّذي يوحي بأنّه منهم، فكيف يوصف بأنَّه كان لا يتورّع من ذنب في حياته؟

وقد تحدَّث كثير من العلماء، أنَّ الحديث ضعيف، وأنَّ بعض رواته مجهول، وقال ابن كثير: هو حديث غريب جدّاً، وفي إسناده نظر. وقد جاء عن بعض المفسِّرين، أنّه كان رجلاً عفيفاً يتكفَّل بشأن كلِّ إنسانٍ وقع في بلاءٍ أو تهمةٍ أو مطالبة، فينجيه الله على يديه. وهذا ينافي الحديث السَّلبيّ عنه في أنَّه كان لا يتورّع من ذنب.

 وفي كلّ حال، فإنَّ ذكره مع الأنبياء في القرآن يدلّ على أنّه كان يجسِّد الصّلاح في حياته، والصَّبر في طاعة الله وفي أموره كلِّها.

ذو النّون مع قومه

(ذو النّون) يونس بن متّى. وهذا نبيٌّ تختلفُ حركةُ حياته عن حركة حياة بقيّة الأنبياء، بما أحاط بها من الأوضاع الصّعبة التي عرضت له في البلاء الّذي حلَّ به، في قصّةٍ تختزن الكثير من الغرابة، حيث عاش في ظلام السِّجن الَّذي يختلف عن بقيَّة السّجون، لأنّه كان سجيناً في بطن الحوت الَّذي التقمه، فبقي في داخله عدَّة أيّام، بما يلتقي بمضمون المعجزة في بقائه على قيد الحياة، من خلال الاختناق الَّذي يحدث للإنسان عادةً في مثل هذه الحالة، أو من افتراس الحوت له وإقدامه على أكله، كما هي طريقة الحيتان المفترسة الكبيرة التي تتغذَّى من فرائسها المتنوّعة.

وكان من قصَّته المستوحاة من الآيات المتفرّقة في القرآن، أنَّ الله أرسله إلى قومه الذين يزيد عددهم على مائة ألفٍ من النَّاس، فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته وطاعته، وابتعادهم عن الشِّرك به في عبادة الأوثان، كما هي حال أمثالهم ممّن لم تبلغهم الرِّسالة، ولم يحكِّموا عقولهم ليدركوا سخافة الشِّرك وتقديس الأصنام، فكان موقفهم من دعوته التَّكذيب والردّ لمضمون رسالته، ولم يخافوا أو يحسبوا حساباً لما توعَّدهم به من العذاب، حتى استنفد كلَّ جهده في الدَّعوة، ولم يترك وسيلةً إلا واستخدمها في هدايتهم إلى الحقّ، وتحذيرهم من الباطل، حتى أدركه اليأس من خلال تجربته، واقتنع بأنَّه لن يؤمن به من قومه إلا من قد آمن، بحيثُ لن يكون هناك فائدة من وجوده بينهم، في إحساسٍ بالغربة الرّوحيَّة والاجتماعيَّة، ففضَّل الخروج من بلدهم، في مبادرةٍ ذاتيّةٍ خيّل إليه فيها أنّه استكمل مهمَّته، فلم تعد له أيّة مسؤوليَّة في استمرار دعوتهم.

وربّما نستوحي من أجواء الآيات القرآنيَّة، أنّه حذَّرهم بأنّ إصرارهم على رفض الرّسالة، وبقاءهم في خطِّ الكفر والضَّلال، سوف يعجِّل في إنزال العذاب عليهم، وأنَّ وجوده بينهم هو الَّذي يمنع ذلك عنهم.

وهكذا خرج من مجتمعهم، ولم ينتظر الإذن الإلهيَّ في ذلك، معتقداً أنَّ تجربته جعلته في حلٍّ من البقاء بينهم والاستمرار في الدَّعوة، لأنّه لا فائدة من ذلك، تماماً كما هو حال الرّسل الّذين شعروا باليأس بعد أن كُذِّبوا ورفضهم القوم الَّذين أرسلوا إليهم رفضاً قاطعاً. ولكنَّه كان في حال غضبٍ شديدٍ أمام ضياع جهده وخيبة أمله، ولا سيَّما مع ما عاناه من الآلام، وما أحاط به من المشاكل في المدَّة التي قضاها بينهم.

وقيل إنَّ خروج يونس من بينهم أصابهم بالصّدمة العنيفة والقلق العميق والخوف الشَّديد من نزول العذاب عليهم، لأنّهم عرفوا منه الصّدق في الوعد والوعيد. وتذكر بعض الرّوايات، أنَّ بعض من آمن بيونس، رجلٌ يملك العلم الّذي جعله موضع الثّقة عندهم، فأنذرهم بأنَّ خروج يونس قد يكون نذيراً بنزول العذاب عليهم، ما يفرض عليهم التّوبة والرّجوع إلى الله والاستغاثة به، في تظاهرةٍ خضوعيّةٍ له، وذلك بأن يفرّقوا بين الأمِّ وأولادها، والبهائم وأولادها، لينبعث الصّراخ الابتهاليّ في أجواء التَّوبة، وليضجّوا إلى الله ضجّةً واحدةً. فلمَّا فعلوا ذلك، وعرف الله منهم صدق التَّوبة وإخلاص الإنابة، رفع العذاب عنهم.

غضب ذي النّون

وكان يونس ـ كما تقول الرّواية ـ يستطلع أخبارهم، فلمَّا عرف أنّهم يعيشون حالةً طبيعيّةً، وأنَّ الله لم يعذّبهم بالرّغم من تهديده لهم بالعذاب من خلال طبيعة كفرهم وضلالهم، أخذه الغضب، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً}[5]. وقد اختلف المفسِّرون في تفسير هذه المغاضبة، فقال بعضهم: إنّه ذهب مغاضباً لقومه ـ عن ابن عبّاس والضحّاك ـ أي مراغماً لهم، من حيث إنّه دعاهم إلى الإيمان مدّةً طويلةً، فلم يؤمنوا، حتّى أوعدهم الله بالعذاب، فخرج من بينهم مغاضباً لهم قبل أن يؤذن له بالخروج، ظنّاً منه أنَّ الله يعطيه الرّخصة في ذلك.

وجاء في بعض القصص القرآنيّ، ممّا يذكره الرّواة من قصَّة يونس، أنّه انفعل من رفعِ العذاب عنهم، فذهب مغاضباً، لأنَّ ذلك قد يسقط موقعه من قومه، لأنَّ ما وعدهم به من العذاب لم يتحقَّق، فكأنَّ المسألة بالنِّسبة إليه انفعالٌ ثأريٌّ للذّات.

ولكنَّ هذا الرّأي لا يتناسب مع العمق الإيمانيّ الّذي يتميّز به هذا الرّسول الصَّالح في حركة الدّعوة إلى الله، وفي ابتهالاته الرّوحيَّة في حال الشدّة، وفي حديث الله عنه بأنّه من المؤمنين الَّذين يستجيب الله لهم دعاءهم وينجيهم من الغمّ برحمته، هذا إضافةً إلى أنَّ رفع العذاب عنهم يمثّل استجابةً لما كان يونس يعظهم به، من أنّهم إذا آمنوا وتابوا إلى الله وأنابوا إليه، فإنّ الله يرحمهم ولا يعذِّبهم على ما أسلفوا من الشّرك، فكيف يغضب منهم بعد أن رأى منهم صدق التّوبة، وبعد أن عرف الله منهم صدق الإنابة؟!

التّضييق على يونس(ع)

وهكذا، كان خروجه المغاضب لقومه قبل إيمانهم، معتقداً أنّه يملك الحريّة الواسعة في حركته، لأنّه تخلّص من ثقل المسؤوليَّة ومن حساب الله له في مفارقته لقومه، بعد أن أدَّى مهمَّته كاملةً غير منقوصة، فلم يقصِّر في أدائها بكلِّ جهده، لذا لن يضيّق الله عليه في حياته، وهذا ما أشارت إليه الآية: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}[6]، أي لن نضيِّق عليه، عن عطاء وجماعة من المفسِّرين. وقيل: أن لن نقضي عليه ما قضيناه، والقدر بمعنى القضاء، عن مجاهد وقتادة والكلبي والجبائي.

قال الجبائي: ضيَّق الله عليه الطّريق، حتّى ألجأه إلى ركوب البحر، ثم قُذف فابتلعته السَّمكة. وقد يتبادر إلى الذّهن ـ لدى البعض ـ أنّه انطلق في غضبه من حال تمرّدٍ في الذّات وهروبٍ انفعاليٍّ يستغرق فيه الإنسان، حتى ليخيّل إليه أنّه يملك القدرة المطلقة على الذهاب إلى أيّ مكانٍ شاء، بعيداً عن قدرة الله التي تحيط بكلِّ شيء.

 وهكذا يبدو ـ لأوّل وهلةٍ ـ أنّه كان يظنّ في غفلةٍ من الذَّات، أنّه حرٌّ في حركته وفي هروبه، وبذلك انحرف عن خطِّ العقيدة والإيمان وظلم نفسه، ولكنَّ هذا كلّه ناشئ من تفسير كلمة (نقدر) بالقدرة. ولكنَّ المراد منها ـ كما أشرنا إليه ـ المعنى الّذي يلتقي بالتَّضييق أو بالتَّحديد، كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}[7].

وهكذا، يكون معنى هذه الفقرة من الآية، أنَّ هذا العبد الصّالح خرج مغاضباً لقومه، وهو يظنّ أنّه قد ملك حرّيّته بعد أن انتهت مهمّته باستنفاد كلِّ تجاربه في الدّعوة إلى الله، وعدم تجاوب قومه معه، واستحقاقهم العذاب على ذلك وقرب نزوله عليهم، فلم يفكِّر في المرحلة الجديدة من عمله، ولم ينتظر عودتهم إلى الإيمان، بعد أن يئس منهم، من خلال التّجربة الأخيرة التي قد تحقِّق نتائج كبيرةً على هذا الصَّعيد، وهي مسألة تهديدهم بالعذاب الّذي ثبت بعد ذلك أنّه كان الصَّدمة القويّة ـ بفعل خروج يونس عنهم ـ الّتي أرجعتهم إلى عقولهم، فانفتحت قلوبهم على الإيمان بالله ورسالته من جديد، كما حدَّثنا الله عن ذلك في آيةٍ أخرى.

لقد كانت لحظة انفعالٍ تختزنُ الغضبَ لله، فقد ضاقت نفسه بما قام به قومه من تحدٍّ ضدّ الرّسالة، وفقد الأمل في هدايتهم حتّى اليأس، ولكنَّ هذه الحالة لم تشكِّل منطلقاً للتّفكير في المستقبل في آفاق الدَّعوة إلى الله، الّتي تعمل على أن تطلَّ على الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه، لتنتظر منه انفتاحة إيمان، ويقظة روح، وخفقة قلب. ولهذا، كان الأنبياء يستمرّون في الحياة مع قومهم، بالرّغم من حال الجحود والنّكران، حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ظاهرة نبويّة خاصّة

أمّا يونس، فقد كان ظاهرةً خاصّةً في حركة النبوّة، فكان خروجه السّريع سرعةً انفعاليّةً في اتّخاذ القرار، وقد لا يكون ذلك تهرّباً من المسؤوليَّة وحبّاً للراحة وابتعاداً عن أثقال الرسالة ومشاكلها، فربّما كان الأمر يتحرّك في جوٍّ من الحيرة الشَّديدة والغمّ والحزن، بحيث أراد معه أن يخرج من هذا الجوِّ الخانق، ليجد لنفسه ملجأً جديداً أو موقعاً آخر للدَّعوة أو لأيِّ مشروعٍ جديدٍ في هذا الاتّجاه، تماماً كما هي حركة إبراهيم(ع)، بعد أن أقام الحجَّة على قومه، وتعرَّض للحرق بالنَّار من قِبَلِهم، فأنجاه الله منها وقال لها: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فقد قرَّر أن ينتقل إلى أرضٍ أخرى ومجتمعٍ آخر يمارس فيه مسؤوليَّة الدّعوة، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}[8].

وهكذا كان يونس يفكّر في أنَّ الله سوفَ يفسح له في المجال لحركته الجديدة في إبلاغ الرّسالة، ويمنحه الفرصة الواسعة، ولن يضيِّق عليه في رزقه وفي حركته ودوره، ولكنَّ المفاجأة كانت تنتظره بشكلٍ قاسٍ، وهذا ما أشارت إليه الآية: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}[9]، أي هرب أو ذهب. وغلب استعمال هذا اللَّفظ على هروب العبيد وذهابهم من غير خوفٍ ولا كدّ عمل. وربّما كان هذا التَّعبير يوحي بهروبه من مسؤوليَّته والخروج منها بفعل الحالة الّتي سيطرت على حركته اليائسة الغاضبة.

وكانت السّفينة مشحونةً بالنّاس وبأثقالهم، فعرض لهم حوتٌ عظيم، لم يجدوا بدّاً من أن يلقوا إليه واحداً منهم يبتلعه وينجو الفلك بذلك من هجومه عليهم وتهديده للسّفينة، فساهموا وأجروا القرعة فيما بينهم، فأصابت يونس، كما جاء في قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ}[10]، أي من المغلوبين، {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ}، بعد أن ألقوه إليه، فابتلعه، {وَهُوَ مُلِيمٌ}[11]، أي مستحقّ للملامة، في سرعة خروجه من قومه، وعدم انتظاره الأمر الإلهيّ في انتهاء مسؤوليَّته. وهذا الموقف لم يكن تمرّداً منه على الله، ولكنَّه استوحاه من خلال الظّروف المحيطة بالموضوع الّتي قد تقوده إلى صدوره عن الله بشكلٍ خفيٍّ غير مباشر.

الانفتاح على الله

وعاش بطريقةٍ إعجازيةٍ في ظلمات البحر وجوف الحوت، وحال الهم والغمّ التي أصابت نفسه، ولكنَّه لم يسقط في الإحباط النّفسيّ، بل توجَّه فوراً إلى الله سبحانه وتعالى، في انفتاحٍ على وحدانيّته ورحمته الواسعة، في تلك المتاهة البحريّة المظلمة وفي ظلماتها المدلهمَّة.

وهكذا انفتحت أمامه من جديد آفاق الحياة في إيمانه الواسع، فعاش روحيّته مع الله في ابتهالٍ وخشوعٍ، وبدأ يتذكَّر لطف الله به ورحمته ورعايته له في أموره كلِّها، وتكريمه إيّاه من خلال ما اختصَّه به من الرّسالة، وما سهَّل له في الماضي من سبل الحياة، وما هداه إليها من وسائلها، وتذكَّر كيف خرج من موقع رسالته من دون أن يحصل على الإذن من ربِّه في ذلك، أو يصبر على قومه انتظاراً لإيمانهم، فانطلقت صرخته المثقلة بالهمِّ الرّوحيّ والرّساليّ الذاتيّ الكبير من كلّ أعماقه، في استغاثةٍ عميقةٍ بالله وحده، ولا سيَّما في ظروفه القاسية الصَّعبة التي لا يملك أحدٌ فيها أن يقدِّم إليه شيئاً في حالٍ من الاضطرار الّذي لا مثيل لها.

{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ}، فلا ملجأ لأيِّ هاربٍ أو ضائعٍ أو حائرٍ إلا إليك، ولا ملاذ لأحدٍ إلا أنت، فأنت القادر على كلّ شيء، والرّحيم لكلِّ مخلوق، والمجيب لكلِّ مضطرّ، والكاشف لكلِّ سوء، والعليم بكلِّ الخفايا، والمهيمن على الأمر كلّه، والغافر لكلّ ذنب، والمستجيب لكلّ داع، والمغيث لكلّ ملهوف، والمفرّج لكلِّ مهموم أو مكروب، وليس لي غيرك ممّن أسأله كشف ضرّي والنظر في أمري، فأنت ربّي وسيّدي ومولاي وملاذي في الأمور كلّها.

{سُبْحَانَكَ}، إذ يختزن قلبي وعقلي ووجداني الإحساس بعظمتك في كلِّ مواقع العظمة، في مجالات التصوّر، وفي حركة القدرة في الواقع، في مظاهر الخلق والإبداع، فيتحوَّل ذلك إلى تسبيحٍ منفتحِ خاشعٍ مبتهلٍ إلى الله.

{إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[12]، فقد ظلمت نفسي في تحرّكي أو تقصيري في سبيل الدَّعوة من غير قصدٍ ولا عمد، من دون ذنبٍ أعصي فيه أمرك ونهيك، ومن دون تمرّدٍ عليك أو ممارسة أيّة خطيئة، فلا أزال ـ يا ربّ ـ في مواقع طاعتك، ممّا أستوحيه فيما علّمتني إيّاه، وكيف أعصيك وقد أرسلتني إلى النَّاس لأبعدهم عن المعصية، وها أنا ـ يا ربّ ـ راجعٌ إليك بكلِّ قلبي وعقلي وحياتي، لتقبلني بكلِّ لطفك ورضوانك ورحمتك، ولتكشف عنّي كلَّ أجواء الحيرة، وكلّ نوازع الغمّ التي تغمرني بالآلام وتوقعني في المشاكل. فهل تستجيب لي، إنّك أنت الّذي تستجيب الدَّعوات لمن دعاك، وقد طلبت منَّا أن ندعوك ووعدتنا بالإجابة، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[13]؟!

الاستجابة لدعاء يونس(ع)

وهكذا استجاب الله له دعاءه الّذي انطلق من عمق الإخلاص في كيانه، وذلك قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ}، الَّذي كان يسبِّب له المشاكل في نفسه وفي واقعه، في تطلّعه نحو مستقبله، لأنّه كان الإنسان الرّساليّ الّذي لم يتمرّد ولم يرفض أن يكون في المواقع التي يريد الله له أن يكون فيها، بل كان ذلك من موقع الاعتقاد أن المهمّة قد انتهت بالفشل من دون أن يكون لها بديل. {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}[14]، الّذين عاشوا الإيمان في روحيَّتهم وفي فكرهم وحياتهم فكراً وديناً وإيماناً ورسالةً ودعوةً وموقفاً للحياة، حيث أخلصوا العبادة لله، هؤلاء هم الّذين يتعهَّدهم الله برعايته، فينجيهم من كلّ بلاء، ويفتح لهم أبواب الرَّحمة من أوسع الآفاق الرَّحيمة المنطلقة بالعفو والرّضوان.

وقد أكَّد الله ليونس صفته الرّساليَّة في قوله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[15]، وبذلك منحه كلَّ امتيازات الرّسول، وكلَّ مواقع القرب منه، كما أنّه كان يمثِّل الانفتاح العمليّ في التّسبيح لله وهو في بطن الحوت، كما جاء في قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[16]، فقد كان انشغاله بالتَّسبيح الَّذي يمثّل استحضاره لقدرة الله وانفتاحه على مواقع عظمته، السَّبب في إفاضة رحمته عليه وإنقاذه من هذا السّجن المظلم المؤلم الّذي كان من الممكن أن يمتدَّ وجوده فيه بقدرة الله سبحانه. وهكذا ألقاه الله وأنقذه من الحوت، {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء}، وهي الأرض الجرداء الخالية من الأشجار والنَّبات {وَهُوَ سَقِيمٌ}[17]، أي مريض بفعل ما حلّ به من الأذى في بطن الحوت.

فقد أثّر هذا السِّجن العجيب في سلامة يونس وصحّته، إذ إنّه تحرّر منه وهو منهار ومعتلّ. وقد ذكر بعض المفسّرين أنَّ يونس خرج من بطن الحوت وكأنّه فرخ دجاجة وضعيف وهزيل جدّاً، لا يمتلك القدرة على الحركة، وربّما كانت كلمة "سقيم" تتَّسع لمثل هذا الوضع وهذه الحالة... وقد شمله اللّطف الإلهيّ بعد ذلك، فقد كانت حرارة الشّمس تؤذيه، فيحتاج إلى ظلٍّ لطيفٍ يحجب عنه أشعَّة الشَّمس ويظلِّل جسده.

وهكذا، أنبت الله عليه ـ بقدرته ـ شجرةً من يقطين، كما جاء في قوله تعالى: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}[18]. وقد قال أصحاب اللّغة والتّفسير، إنَّ "اليقطين" نبات لا ساق له، وله أوراق كبيرة مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكنَّ الكثيرين من المفسّرين ورواة الحديث، أعلنوا أنَّ المقصود من "اليقطين" هو القرع، وقيل: إنَّ كلمة الشَّجرة في اللّغة العربيَّة تطلق على النّباتات الّتي لها ساق وأغصان، والّتي ليس لها ساق وأغصان، وبعبارةٍ أخرى، تشمل كلّ الأشجار والنّباتات.

وقيل: إنَّ أوراق شجرة القرع، إضافةً إلى أنّها كانت كبيرةً ورطبةً جدّاً، ويمكن الاستفادة منها كظلٍّ جيِّد، فإنَّ الذّباب لا يتجمَّع حول هذه الأوراق، ولهذا، فإنَّ يونس التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشّمس ومن الحشرات في الوقت نفسه، إذ إنَّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدَّى إلى أن يصبح جلده رقيقاً جدّاً وحسّاساً جدّاً، بحيث كان يتألّم إذا استقرَّت عليه حشرة. والله العالم.

وقد أكرمه الله بنعمته وجعله من الصَّالحين، كما جاء في قوله تعالى: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}[19]، يعيش الغيظ في نفسه، ويحبسه في صدره، من خلال البلاء الذي أصابه والألم الّذي ألمَّ به. {لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ}، في استجابته لتضرّعه، ورعايته له في إنقاذه، ولطفه به في العناية بصحّته وسلامته، {لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ}[20]، في نظرة النّاس إليه واحتقارهم له. {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ}، واختاره لرسالته، واصطفاه لكرامته، {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[21]، الّذين يجسِّدون الصّلاح في مستوى القيم الرّوحيَّة والأخلاقيَّة والعمليَّة، تماماً كما جعل الله بعض أنبيائه بهذه الصّفة المميَّزة في حياتهم العامَّة والخاصَّة وقرّبهم إليه.

ويبقى الحديث حول قوم يونس(ع) وإرساله إليهم بعد هذه التَّجربة الصّعبة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنبياء: 85].

[2]  تفسير مجمع البيان، الشيخ الطّبرسي، ج 7، ص 107.

[3]  [الأنبياء: 86].

[4]  القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص327.

[5]   [الأنبياء: 87].

[6]  [الأنبياء: 87].

[7]   [الفجر: 16].

[8]   [العنكبوت: 26].

[9]  [الصافات: 140].

[10]  [الصافات: 141].

[11]  [الصافات: 142].

[12]  [الأنبياء: 87].

[13]   [غافر: 60].

[14]  [الأنبياء: 88].

[15]  [الصافات: 39].

[16]  [الصافات: 143، 144].

[17] [الصافات: 145].

[18]  [الصافات: 146].

[19]  [القلم: 48].

[20]  [القلم: 49].

[21]   [القلم: 50].


"ذو الكفل"، ورد ذكره في سياق ذكر الأنبياء في قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ}[1].

ذو الكفل: الصَّالح الصَّابر

وقد اختلف المفسِّرون في صفته، فقال البعض إنّه رجلٌ صالح عاش حياته في صلاحٍ من إيمانه بالله، وتوحيده له، ومن أخلاقه الحسنة الَّتي كان ينفتح بها على ما يصلح أمور النّاس في قضاء حاجاتهم، وتيسير أوضاعهم، والإحسان إليهم، والاهتمام بقضاياهم، وتخفيف آلامهم، وحلّ مشاكلهم، وإنّه كان يصوم النّهار ويقوم اللّيل في عبادته لله، ويتّسع صدره لمن يسيء إليه، ويدرأ بالحسنة السيّئة، فلا يغضب، ولا ينفعل، ويعمل بالحقّ في كلِّ مواقعه. ولكنَّه لم يكن نبيّاً ـ بحسب هذا الرّأي ـ وهذا هو الَّذي قرّبه إلى الله، فشكر له، ورفع درجته، حتّى جعله في الدَّرجة الرّفيعة عنده.

 وقيل إنّه كان من الأنبياء، وقد روى ذلك في كتاب النبوّة بالإسناد عن عبد العظيم الحسني، قال: "كتبت إلى أبي جعفر(ع) أسأله عن ذي الكفل وما اسمه، وهل كان من المرسلين؟ فكتب(ع):إنَّ الله بعث مائة ألف نبيٍّ وأربعةً وعشرين ألف نبيّ؛ المرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وإنّ ذا الكفل منهم، وكان بعد سليمان بن داود، وكان يقضي بين النَّاس كما يقضي داود، ولم يغضب قطُّ إلا لله، وكان اسمه (عدويا بن أدارين)"[2].

والكفل في اللّغة هو الحظّ، لأنَّه حصل على حظِّه من الكرامة الإلهيَّة بإخلاصه لله. والظَّاهر أنّه من الأنبياء ـ كما ذكر آنفاً ـ لأنّه جرى ذكره في سياق الحديث عن الأنبياء، كإسماعيل وإدريس وذي النّون وزكريّا، وربما كانت في مشاركته لهم بأنّه من الصَّابرين، بعض الإيحاء بذلك، باعتبار صبره على التّحدّيات الموجَّهة إلى الأنبياء من قِبَل أعداء الرّسالات، وقد وصفه الله، كما وصف إسماعيل وإدريس، بأنّه من الصّالحين، وذلك قوله تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ}[3]. وهذا هو الوصف الّذي تكرَّر في القرآن في وصف بعض الأنبياء.

وقد جاء في تفسير القرطبي عن التّرمذي من حديث ابن عمر عن النبيّ(ص) قال: "كان في بني إسرائيل رجل يقال له "ذو الكفل"، لا يتورَّع من ذنبٍ عمله، فاتّبع امرأةً، فأعطاها ستّين ديناراً على أن يطأها، فلمَّا قعد منها مقعد الرَّجل من امرأته، ارتعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل. والله ما عملته قطّ، قال: أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملني عليه الحاجة. قال: اذهبي فهو لك، والله لا أعصي الله بعدها أبداً. ثم مات من ليلته، فوجدوا مكتوباً على باب داره، إنَّ الله قد غفر لذي الكفل"[4].

والظّاهر أنَّ هذا الحديث لا ينسجم مع وصف القرآن له بأنّه من الصَّابرين ومن الصَّالحين، ولا مع ورود ذكره مع الأنبياء الّذي يوحي بأنّه منهم، فكيف يوصف بأنَّه كان لا يتورّع من ذنب في حياته؟

وقد تحدَّث كثير من العلماء، أنَّ الحديث ضعيف، وأنَّ بعض رواته مجهول، وقال ابن كثير: هو حديث غريب جدّاً، وفي إسناده نظر. وقد جاء عن بعض المفسِّرين، أنّه كان رجلاً عفيفاً يتكفَّل بشأن كلِّ إنسانٍ وقع في بلاءٍ أو تهمةٍ أو مطالبة، فينجيه الله على يديه. وهذا ينافي الحديث السَّلبيّ عنه في أنَّه كان لا يتورّع من ذنب.

 وفي كلّ حال، فإنَّ ذكره مع الأنبياء في القرآن يدلّ على أنّه كان يجسِّد الصّلاح في حياته، والصَّبر في طاعة الله وفي أموره كلِّها.

ذو النّون مع قومه

(ذو النّون) يونس بن متّى. وهذا نبيٌّ تختلفُ حركةُ حياته عن حركة حياة بقيّة الأنبياء، بما أحاط بها من الأوضاع الصّعبة التي عرضت له في البلاء الّذي حلَّ به، في قصّةٍ تختزن الكثير من الغرابة، حيث عاش في ظلام السِّجن الَّذي يختلف عن بقيَّة السّجون، لأنّه كان سجيناً في بطن الحوت الَّذي التقمه، فبقي في داخله عدَّة أيّام، بما يلتقي بمضمون المعجزة في بقائه على قيد الحياة، من خلال الاختناق الَّذي يحدث للإنسان عادةً في مثل هذه الحالة، أو من افتراس الحوت له وإقدامه على أكله، كما هي طريقة الحيتان المفترسة الكبيرة التي تتغذَّى من فرائسها المتنوّعة.

وكان من قصَّته المستوحاة من الآيات المتفرّقة في القرآن، أنَّ الله أرسله إلى قومه الذين يزيد عددهم على مائة ألفٍ من النَّاس، فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته وطاعته، وابتعادهم عن الشِّرك به في عبادة الأوثان، كما هي حال أمثالهم ممّن لم تبلغهم الرِّسالة، ولم يحكِّموا عقولهم ليدركوا سخافة الشِّرك وتقديس الأصنام، فكان موقفهم من دعوته التَّكذيب والردّ لمضمون رسالته، ولم يخافوا أو يحسبوا حساباً لما توعَّدهم به من العذاب، حتى استنفد كلَّ جهده في الدَّعوة، ولم يترك وسيلةً إلا واستخدمها في هدايتهم إلى الحقّ، وتحذيرهم من الباطل، حتى أدركه اليأس من خلال تجربته، واقتنع بأنَّه لن يؤمن به من قومه إلا من قد آمن، بحيثُ لن يكون هناك فائدة من وجوده بينهم، في إحساسٍ بالغربة الرّوحيَّة والاجتماعيَّة، ففضَّل الخروج من بلدهم، في مبادرةٍ ذاتيّةٍ خيّل إليه فيها أنّه استكمل مهمَّته، فلم تعد له أيّة مسؤوليَّة في استمرار دعوتهم.

وربّما نستوحي من أجواء الآيات القرآنيَّة، أنّه حذَّرهم بأنّ إصرارهم على رفض الرّسالة، وبقاءهم في خطِّ الكفر والضَّلال، سوف يعجِّل في إنزال العذاب عليهم، وأنَّ وجوده بينهم هو الَّذي يمنع ذلك عنهم.

وهكذا خرج من مجتمعهم، ولم ينتظر الإذن الإلهيَّ في ذلك، معتقداً أنَّ تجربته جعلته في حلٍّ من البقاء بينهم والاستمرار في الدَّعوة، لأنّه لا فائدة من ذلك، تماماً كما هو حال الرّسل الّذين شعروا باليأس بعد أن كُذِّبوا ورفضهم القوم الَّذين أرسلوا إليهم رفضاً قاطعاً. ولكنَّه كان في حال غضبٍ شديدٍ أمام ضياع جهده وخيبة أمله، ولا سيَّما مع ما عاناه من الآلام، وما أحاط به من المشاكل في المدَّة التي قضاها بينهم.

وقيل إنَّ خروج يونس من بينهم أصابهم بالصّدمة العنيفة والقلق العميق والخوف الشَّديد من نزول العذاب عليهم، لأنّهم عرفوا منه الصّدق في الوعد والوعيد. وتذكر بعض الرّوايات، أنَّ بعض من آمن بيونس، رجلٌ يملك العلم الّذي جعله موضع الثّقة عندهم، فأنذرهم بأنَّ خروج يونس قد يكون نذيراً بنزول العذاب عليهم، ما يفرض عليهم التّوبة والرّجوع إلى الله والاستغاثة به، في تظاهرةٍ خضوعيّةٍ له، وذلك بأن يفرّقوا بين الأمِّ وأولادها، والبهائم وأولادها، لينبعث الصّراخ الابتهاليّ في أجواء التَّوبة، وليضجّوا إلى الله ضجّةً واحدةً. فلمَّا فعلوا ذلك، وعرف الله منهم صدق التَّوبة وإخلاص الإنابة، رفع العذاب عنهم.

غضب ذي النّون

وكان يونس ـ كما تقول الرّواية ـ يستطلع أخبارهم، فلمَّا عرف أنّهم يعيشون حالةً طبيعيّةً، وأنَّ الله لم يعذّبهم بالرّغم من تهديده لهم بالعذاب من خلال طبيعة كفرهم وضلالهم، أخذه الغضب، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً}[5]. وقد اختلف المفسِّرون في تفسير هذه المغاضبة، فقال بعضهم: إنّه ذهب مغاضباً لقومه ـ عن ابن عبّاس والضحّاك ـ أي مراغماً لهم، من حيث إنّه دعاهم إلى الإيمان مدّةً طويلةً، فلم يؤمنوا، حتّى أوعدهم الله بالعذاب، فخرج من بينهم مغاضباً لهم قبل أن يؤذن له بالخروج، ظنّاً منه أنَّ الله يعطيه الرّخصة في ذلك.

وجاء في بعض القصص القرآنيّ، ممّا يذكره الرّواة من قصَّة يونس، أنّه انفعل من رفعِ العذاب عنهم، فذهب مغاضباً، لأنَّ ذلك قد يسقط موقعه من قومه، لأنَّ ما وعدهم به من العذاب لم يتحقَّق، فكأنَّ المسألة بالنِّسبة إليه انفعالٌ ثأريٌّ للذّات.

ولكنَّ هذا الرّأي لا يتناسب مع العمق الإيمانيّ الّذي يتميّز به هذا الرّسول الصَّالح في حركة الدّعوة إلى الله، وفي ابتهالاته الرّوحيَّة في حال الشدّة، وفي حديث الله عنه بأنّه من المؤمنين الَّذين يستجيب الله لهم دعاءهم وينجيهم من الغمّ برحمته، هذا إضافةً إلى أنَّ رفع العذاب عنهم يمثّل استجابةً لما كان يونس يعظهم به، من أنّهم إذا آمنوا وتابوا إلى الله وأنابوا إليه، فإنّ الله يرحمهم ولا يعذِّبهم على ما أسلفوا من الشّرك، فكيف يغضب منهم بعد أن رأى منهم صدق التّوبة، وبعد أن عرف الله منهم صدق الإنابة؟!

التّضييق على يونس(ع)

وهكذا، كان خروجه المغاضب لقومه قبل إيمانهم، معتقداً أنّه يملك الحريّة الواسعة في حركته، لأنّه تخلّص من ثقل المسؤوليَّة ومن حساب الله له في مفارقته لقومه، بعد أن أدَّى مهمَّته كاملةً غير منقوصة، فلم يقصِّر في أدائها بكلِّ جهده، لذا لن يضيّق الله عليه في حياته، وهذا ما أشارت إليه الآية: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}[6]، أي لن نضيِّق عليه، عن عطاء وجماعة من المفسِّرين. وقيل: أن لن نقضي عليه ما قضيناه، والقدر بمعنى القضاء، عن مجاهد وقتادة والكلبي والجبائي.

قال الجبائي: ضيَّق الله عليه الطّريق، حتّى ألجأه إلى ركوب البحر، ثم قُذف فابتلعته السَّمكة. وقد يتبادر إلى الذّهن ـ لدى البعض ـ أنّه انطلق في غضبه من حال تمرّدٍ في الذّات وهروبٍ انفعاليٍّ يستغرق فيه الإنسان، حتى ليخيّل إليه أنّه يملك القدرة المطلقة على الذهاب إلى أيّ مكانٍ شاء، بعيداً عن قدرة الله التي تحيط بكلِّ شيء.

 وهكذا يبدو ـ لأوّل وهلةٍ ـ أنّه كان يظنّ في غفلةٍ من الذَّات، أنّه حرٌّ في حركته وفي هروبه، وبذلك انحرف عن خطِّ العقيدة والإيمان وظلم نفسه، ولكنَّ هذا كلّه ناشئ من تفسير كلمة (نقدر) بالقدرة. ولكنَّ المراد منها ـ كما أشرنا إليه ـ المعنى الّذي يلتقي بالتَّضييق أو بالتَّحديد، كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}[7].

وهكذا، يكون معنى هذه الفقرة من الآية، أنَّ هذا العبد الصّالح خرج مغاضباً لقومه، وهو يظنّ أنّه قد ملك حرّيّته بعد أن انتهت مهمّته باستنفاد كلِّ تجاربه في الدّعوة إلى الله، وعدم تجاوب قومه معه، واستحقاقهم العذاب على ذلك وقرب نزوله عليهم، فلم يفكِّر في المرحلة الجديدة من عمله، ولم ينتظر عودتهم إلى الإيمان، بعد أن يئس منهم، من خلال التّجربة الأخيرة التي قد تحقِّق نتائج كبيرةً على هذا الصَّعيد، وهي مسألة تهديدهم بالعذاب الّذي ثبت بعد ذلك أنّه كان الصَّدمة القويّة ـ بفعل خروج يونس عنهم ـ الّتي أرجعتهم إلى عقولهم، فانفتحت قلوبهم على الإيمان بالله ورسالته من جديد، كما حدَّثنا الله عن ذلك في آيةٍ أخرى.

لقد كانت لحظة انفعالٍ تختزنُ الغضبَ لله، فقد ضاقت نفسه بما قام به قومه من تحدٍّ ضدّ الرّسالة، وفقد الأمل في هدايتهم حتّى اليأس، ولكنَّ هذه الحالة لم تشكِّل منطلقاً للتّفكير في المستقبل في آفاق الدَّعوة إلى الله، الّتي تعمل على أن تطلَّ على الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه، لتنتظر منه انفتاحة إيمان، ويقظة روح، وخفقة قلب. ولهذا، كان الأنبياء يستمرّون في الحياة مع قومهم، بالرّغم من حال الجحود والنّكران، حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ظاهرة نبويّة خاصّة

أمّا يونس، فقد كان ظاهرةً خاصّةً في حركة النبوّة، فكان خروجه السّريع سرعةً انفعاليّةً في اتّخاذ القرار، وقد لا يكون ذلك تهرّباً من المسؤوليَّة وحبّاً للراحة وابتعاداً عن أثقال الرسالة ومشاكلها، فربّما كان الأمر يتحرّك في جوٍّ من الحيرة الشَّديدة والغمّ والحزن، بحيث أراد معه أن يخرج من هذا الجوِّ الخانق، ليجد لنفسه ملجأً جديداً أو موقعاً آخر للدَّعوة أو لأيِّ مشروعٍ جديدٍ في هذا الاتّجاه، تماماً كما هي حركة إبراهيم(ع)، بعد أن أقام الحجَّة على قومه، وتعرَّض للحرق بالنَّار من قِبَلِهم، فأنجاه الله منها وقال لها: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فقد قرَّر أن ينتقل إلى أرضٍ أخرى ومجتمعٍ آخر يمارس فيه مسؤوليَّة الدّعوة، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}[8].

وهكذا كان يونس يفكّر في أنَّ الله سوفَ يفسح له في المجال لحركته الجديدة في إبلاغ الرّسالة، ويمنحه الفرصة الواسعة، ولن يضيِّق عليه في رزقه وفي حركته ودوره، ولكنَّ المفاجأة كانت تنتظره بشكلٍ قاسٍ، وهذا ما أشارت إليه الآية: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}[9]، أي هرب أو ذهب. وغلب استعمال هذا اللَّفظ على هروب العبيد وذهابهم من غير خوفٍ ولا كدّ عمل. وربّما كان هذا التَّعبير يوحي بهروبه من مسؤوليَّته والخروج منها بفعل الحالة الّتي سيطرت على حركته اليائسة الغاضبة.

وكانت السّفينة مشحونةً بالنّاس وبأثقالهم، فعرض لهم حوتٌ عظيم، لم يجدوا بدّاً من أن يلقوا إليه واحداً منهم يبتلعه وينجو الفلك بذلك من هجومه عليهم وتهديده للسّفينة، فساهموا وأجروا القرعة فيما بينهم، فأصابت يونس، كما جاء في قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ}[10]، أي من المغلوبين، {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ}، بعد أن ألقوه إليه، فابتلعه، {وَهُوَ مُلِيمٌ}[11]، أي مستحقّ للملامة، في سرعة خروجه من قومه، وعدم انتظاره الأمر الإلهيّ في انتهاء مسؤوليَّته. وهذا الموقف لم يكن تمرّداً منه على الله، ولكنَّه استوحاه من خلال الظّروف المحيطة بالموضوع الّتي قد تقوده إلى صدوره عن الله بشكلٍ خفيٍّ غير مباشر.

الانفتاح على الله

وعاش بطريقةٍ إعجازيةٍ في ظلمات البحر وجوف الحوت، وحال الهم والغمّ التي أصابت نفسه، ولكنَّه لم يسقط في الإحباط النّفسيّ، بل توجَّه فوراً إلى الله سبحانه وتعالى، في انفتاحٍ على وحدانيّته ورحمته الواسعة، في تلك المتاهة البحريّة المظلمة وفي ظلماتها المدلهمَّة.

وهكذا انفتحت أمامه من جديد آفاق الحياة في إيمانه الواسع، فعاش روحيّته مع الله في ابتهالٍ وخشوعٍ، وبدأ يتذكَّر لطف الله به ورحمته ورعايته له في أموره كلِّها، وتكريمه إيّاه من خلال ما اختصَّه به من الرّسالة، وما سهَّل له في الماضي من سبل الحياة، وما هداه إليها من وسائلها، وتذكَّر كيف خرج من موقع رسالته من دون أن يحصل على الإذن من ربِّه في ذلك، أو يصبر على قومه انتظاراً لإيمانهم، فانطلقت صرخته المثقلة بالهمِّ الرّوحيّ والرّساليّ الذاتيّ الكبير من كلّ أعماقه، في استغاثةٍ عميقةٍ بالله وحده، ولا سيَّما في ظروفه القاسية الصَّعبة التي لا يملك أحدٌ فيها أن يقدِّم إليه شيئاً في حالٍ من الاضطرار الّذي لا مثيل لها.

{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ}، فلا ملجأ لأيِّ هاربٍ أو ضائعٍ أو حائرٍ إلا إليك، ولا ملاذ لأحدٍ إلا أنت، فأنت القادر على كلّ شيء، والرّحيم لكلِّ مخلوق، والمجيب لكلِّ مضطرّ، والكاشف لكلِّ سوء، والعليم بكلِّ الخفايا، والمهيمن على الأمر كلّه، والغافر لكلّ ذنب، والمستجيب لكلّ داع، والمغيث لكلّ ملهوف، والمفرّج لكلِّ مهموم أو مكروب، وليس لي غيرك ممّن أسأله كشف ضرّي والنظر في أمري، فأنت ربّي وسيّدي ومولاي وملاذي في الأمور كلّها.

{سُبْحَانَكَ}، إذ يختزن قلبي وعقلي ووجداني الإحساس بعظمتك في كلِّ مواقع العظمة، في مجالات التصوّر، وفي حركة القدرة في الواقع، في مظاهر الخلق والإبداع، فيتحوَّل ذلك إلى تسبيحٍ منفتحِ خاشعٍ مبتهلٍ إلى الله.

{إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[12]، فقد ظلمت نفسي في تحرّكي أو تقصيري في سبيل الدَّعوة من غير قصدٍ ولا عمد، من دون ذنبٍ أعصي فيه أمرك ونهيك، ومن دون تمرّدٍ عليك أو ممارسة أيّة خطيئة، فلا أزال ـ يا ربّ ـ في مواقع طاعتك، ممّا أستوحيه فيما علّمتني إيّاه، وكيف أعصيك وقد أرسلتني إلى النَّاس لأبعدهم عن المعصية، وها أنا ـ يا ربّ ـ راجعٌ إليك بكلِّ قلبي وعقلي وحياتي، لتقبلني بكلِّ لطفك ورضوانك ورحمتك، ولتكشف عنّي كلَّ أجواء الحيرة، وكلّ نوازع الغمّ التي تغمرني بالآلام وتوقعني في المشاكل. فهل تستجيب لي، إنّك أنت الّذي تستجيب الدَّعوات لمن دعاك، وقد طلبت منَّا أن ندعوك ووعدتنا بالإجابة، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[13]؟!

الاستجابة لدعاء يونس(ع)

وهكذا استجاب الله له دعاءه الّذي انطلق من عمق الإخلاص في كيانه، وذلك قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ}، الَّذي كان يسبِّب له المشاكل في نفسه وفي واقعه، في تطلّعه نحو مستقبله، لأنّه كان الإنسان الرّساليّ الّذي لم يتمرّد ولم يرفض أن يكون في المواقع التي يريد الله له أن يكون فيها، بل كان ذلك من موقع الاعتقاد أن المهمّة قد انتهت بالفشل من دون أن يكون لها بديل. {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}[14]، الّذين عاشوا الإيمان في روحيَّتهم وفي فكرهم وحياتهم فكراً وديناً وإيماناً ورسالةً ودعوةً وموقفاً للحياة، حيث أخلصوا العبادة لله، هؤلاء هم الّذين يتعهَّدهم الله برعايته، فينجيهم من كلّ بلاء، ويفتح لهم أبواب الرَّحمة من أوسع الآفاق الرَّحيمة المنطلقة بالعفو والرّضوان.

وقد أكَّد الله ليونس صفته الرّساليَّة في قوله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[15]، وبذلك منحه كلَّ امتيازات الرّسول، وكلَّ مواقع القرب منه، كما أنّه كان يمثِّل الانفتاح العمليّ في التّسبيح لله وهو في بطن الحوت، كما جاء في قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[16]، فقد كان انشغاله بالتَّسبيح الَّذي يمثّل استحضاره لقدرة الله وانفتاحه على مواقع عظمته، السَّبب في إفاضة رحمته عليه وإنقاذه من هذا السّجن المظلم المؤلم الّذي كان من الممكن أن يمتدَّ وجوده فيه بقدرة الله سبحانه. وهكذا ألقاه الله وأنقذه من الحوت، {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء}، وهي الأرض الجرداء الخالية من الأشجار والنَّبات {وَهُوَ سَقِيمٌ}[17]، أي مريض بفعل ما حلّ به من الأذى في بطن الحوت.

فقد أثّر هذا السِّجن العجيب في سلامة يونس وصحّته، إذ إنّه تحرّر منه وهو منهار ومعتلّ. وقد ذكر بعض المفسّرين أنَّ يونس خرج من بطن الحوت وكأنّه فرخ دجاجة وضعيف وهزيل جدّاً، لا يمتلك القدرة على الحركة، وربّما كانت كلمة "سقيم" تتَّسع لمثل هذا الوضع وهذه الحالة... وقد شمله اللّطف الإلهيّ بعد ذلك، فقد كانت حرارة الشّمس تؤذيه، فيحتاج إلى ظلٍّ لطيفٍ يحجب عنه أشعَّة الشَّمس ويظلِّل جسده.

وهكذا، أنبت الله عليه ـ بقدرته ـ شجرةً من يقطين، كما جاء في قوله تعالى: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}[18]. وقد قال أصحاب اللّغة والتّفسير، إنَّ "اليقطين" نبات لا ساق له، وله أوراق كبيرة مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكنَّ الكثيرين من المفسّرين ورواة الحديث، أعلنوا أنَّ المقصود من "اليقطين" هو القرع، وقيل: إنَّ كلمة الشَّجرة في اللّغة العربيَّة تطلق على النّباتات الّتي لها ساق وأغصان، والّتي ليس لها ساق وأغصان، وبعبارةٍ أخرى، تشمل كلّ الأشجار والنّباتات.

وقيل: إنَّ أوراق شجرة القرع، إضافةً إلى أنّها كانت كبيرةً ورطبةً جدّاً، ويمكن الاستفادة منها كظلٍّ جيِّد، فإنَّ الذّباب لا يتجمَّع حول هذه الأوراق، ولهذا، فإنَّ يونس التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشّمس ومن الحشرات في الوقت نفسه، إذ إنَّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدَّى إلى أن يصبح جلده رقيقاً جدّاً وحسّاساً جدّاً، بحيث كان يتألّم إذا استقرَّت عليه حشرة. والله العالم.

وقد أكرمه الله بنعمته وجعله من الصَّالحين، كما جاء في قوله تعالى: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}[19]، يعيش الغيظ في نفسه، ويحبسه في صدره، من خلال البلاء الذي أصابه والألم الّذي ألمَّ به. {لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ}، في استجابته لتضرّعه، ورعايته له في إنقاذه، ولطفه به في العناية بصحّته وسلامته، {لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ}[20]، في نظرة النّاس إليه واحتقارهم له. {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ}، واختاره لرسالته، واصطفاه لكرامته، {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[21]، الّذين يجسِّدون الصّلاح في مستوى القيم الرّوحيَّة والأخلاقيَّة والعمليَّة، تماماً كما جعل الله بعض أنبيائه بهذه الصّفة المميَّزة في حياتهم العامَّة والخاصَّة وقرّبهم إليه.

ويبقى الحديث حول قوم يونس(ع) وإرساله إليهم بعد هذه التَّجربة الصّعبة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنبياء: 85].

[2]  تفسير مجمع البيان، الشيخ الطّبرسي، ج 7، ص 107.

[3]  [الأنبياء: 86].

[4]  القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص327.

[5]   [الأنبياء: 87].

[6]  [الأنبياء: 87].

[7]   [الفجر: 16].

[8]   [العنكبوت: 26].

[9]  [الصافات: 140].

[10]  [الصافات: 141].

[11]  [الصافات: 142].

[12]  [الأنبياء: 87].

[13]   [غافر: 60].

[14]  [الأنبياء: 88].

[15]  [الصافات: 39].

[16]  [الصافات: 143، 144].

[17] [الصافات: 145].

[18]  [الصافات: 146].

[19]  [القلم: 48].

[20]  [القلم: 49].

[21]   [القلم: 50].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية