النَّبيّ إلياس(ع) كما قدَّمه القرآن

النَّبيّ إلياس(ع) كما قدَّمه القرآن

وهذا رسولٌ من رسل الله المقرَّبين، الّذي كان قومه من عبدة الأصنام، فأرسله الله إليهم ليهديهم إلى عقيدة التَّوحيد الإلهيّ الَّتي تنطلق في خطِّ الإيمان بالله في العقيدة والطّاعة والعبادة، لتحرير عقولهم من التّحجّر الفكريّ، والتخلّف الرّوحيّ، والذّهنيَّة الخرافيَّة المنحطَّة عن آفاق العقل في سموّه وعمق تفكيره.

النّبيّ الصَّالح

وقد تحدَّث عنه القرآن في سياق الحديث عن الأنبياء، في قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ}[1]، الّذين تميَّزوا بالصَّلاح الرّوحيّ والعمليّ، في القيم الَّتي تختزنها ذواتهم، وفي الحركيَّة الّتي تتمثّل في رساليّتهم، وفي مواجهتهم التحدّيات بصلابة الموقف والصّبر على البلاء، بما توحي به صفة الصَّلاح بشكلٍ مطلق، من الصّفة الإنسانيَّة الشَّاملة الّتي ميَّز الله بها الأنبياء.

وقد اختلف المفسِّرون في اسمه، فقيل إنّه اسم ثانٍ للنّبيّ إدريس، وقيل: إنّه الخضر، أو صديقه، وقيل: إنّه ابن اليسع، وقيل: إنّه يحيى معمدان المسيح... ولكنّ الظّاهر من التّعبير القرآنيّ، أنّه اسم مستقلّ لأحد الأنبياء الَّذين تحدَّث عنهم بأسمائهم الخاصَّة، وأنّ ما ذكره البعض من الأسماء الأخرى له، هو اجتهادٌ شخصيّ لا دليل عليه.

أمَّا قصته، فقد اختصرها القرآن بأنّه من المرسلين في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ}[2]، أرسله إلى القوم الَّذين كانوا يعبدون الأصنام، وكان لهم صنمٌ يجتمعون عليه، ويتبرّكون به، ويقدِّمون حاجاتهم إليه، ويتعبَّدون له، ويسجدون أمام إحساسهم بربوبيَّته، في عظمة الخضوع للربّ، وكان اسمه "بعل". وقد ذكر بعض المفسِّرين أنّ إلياس كان مبعوثاً إلى مدينة بعلبكّ إحدى مدن الشّام، فإنّ كلمة "بك" تعني المدينة، ومن تركيب هاتين الكلمتين، نحصل على كلمة "بعلبكّ". ولكنَّ الظّاهر أنّ الآية تؤكِّد اسم الصَّنم لا اسم المدينة.

وقد قام الرَّسول بالدَّعوة إلى رفض عبادة هذا الصَّنم، لأنّه مجرّد حجرٍ صنعوه بأيديهم، فلا يملك أيَّ معنًى للسرّ الكامن في شخصيَّة الإله، فلا روح له، ولا سمع له ولا بصر، ولا حركة لوجوده، ما يجعل من الارتباط بربوبيّته والتعبّد له، تخلّفاً روحيّاً وسقوطاً فكريّاً إنسانيّاً.

 وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ}[3] الله الَّذي هو ربّ كلِّ شيءٍ وموجده وخالقه، والمهيمن على الأمر كلِّه والقوّة كلّها والقدرة المطلقة، وهو الّذي خلقكم وأنعم عليكم بما تتقلَّبون به من ضرورات الحياة وشروطها الطّبيعيّة، ممّا يتوقَّف عليه امتداد وجودكم، أفلا تخافون من عقابه في هذا الشِّرك العباديّ الّذي تأخذون به وتلتزمونه وتسيرون في اتّجاهه في خطِّ الضَّلال؟!

محاججته لعبدة الأصنام

{أَتَدْعُونَ بَعْلاً}، وتتقرَّبون إليه في عبادتكم له، وتطلبون منه حاجاتكم، وتتوجَّهون إليه في أموركم، وتعتمدون عليه في قضاياكم وحلِّ مشاكلكم وتفريج همومكم، وهو مجرَّد صنمٍ يلعب به اللاعبون، ويكسره الكاسرون، ولا يملك أيّة قوّة يدفع بها الاعتداء عن نفسه، ما يجعل من التزامكم بربوبيّته التزاماً بمسألة توحي بالتخلّف والسّقوط؟!

{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ}[4]، وهو الله الخالق لكلِّ شيء، فلا خالق غيره. وربّما جاء هذا التّعبير الَّذي قد يدلّ على وجود خالقين آخرين، لكنَّه يشير إلى ما قد يصنعه الإنسان من التَّماثيل، أو من تغيير شكل الموادّ الطبيعيَّة إلى صورةٍ أخرى، وإطلاق كلمة الخالق باعتبار صنع الصّورة أو تغيير الشَّكل على نحو التَّعبير المجازيّ، باعتبار أنَّ الخلق يعني الإيجاد للشَّيء، لا التصرّف في طبيعة الصّورة الَّتي تعرض على الموجودات.

{اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}[5]، الّذي تمتدّ ربوبيّته في وجودكم، فهو خالقكم وربّكم، في سرّ القدرة، وفي كلّ النّعم التي أفاضها عليكم، وهي من شروط استمراركم في الحياة، كما تمتدّ للنّاس من بعدكم، لأنّها لا تختصّ بقومٍ دون قوم، ولا بزمانٍ دون زمان. أمَّا غيره ممّا تعبدونه، فلا يُعَدُّ مصدراً للخير والبركة، ولا يمكنه دفع الشّرّ والبلاء عنكم، وتتمثَّل ربوبيّته بوجود آبائكم الّذين تعتبرونهم القدوة لكم في عبادة الأصنام الّذين ورّثوكم هذا الضَّلال، فهم ـ كما أنتم ـ مربوبون لله في وجودهم من حيث المبدأ ومن حيث الامتداد، فلا ربَّ لهم غيره، ولا خالق لهم سواه.

 وربّما كان استخدام كلمة "الرّبّ" بدلاً من كلمة "الإله"، باعتبار أنّها هي التي توحي بالعقل والتّفكير في إحساس الإنسان بذاته ووعيه لوجوده، لأنَّ أهمَّ قضيّة في حياته، هي أن يعرف من الّذي خلقه، ومن هو الّذي ربّاه ومنحه النِّعمة في كلِّ أموره...

القوم يكذّبون نبيّهم

وهكذا، كانت دعوته لهم بالاستقامة في عقيدة التَّوحيد، والابتعاد عن السّير في خطِّ الشّرك، بالأساليب المتنوّعة التي تفتح عقولهم على التَّفكير العميق في مسألة الإله، وفي مسألة الحقيقة الّتي يمثّلها في قضيّة الوجود وأسراره.

 لكنّهم أغلقوا عقولهم عن التَّفكير فيما يدعوهم إليه، وأسماعهم عن الاستماع إلى ما يحدِّثهم به، لأنَّ عقولهم تحجَّرت من خلال حجريّة أصنامهم الّتي استولت على شخصيّاتهم، ولأنَّ أفكارهم تجمَّدت عند تقاليدهم التي ورثوها عن آبائهم، فلم تنفتح على الآفاق الواسعة الّتي تقودهم إلى حقيقة الوجود وخالقه والإنسان وحاجاته إلى الله.

{فَكَذَّبُوهُ}، بعد أن أقام الحجَّة عليهم بالفكر الرّساليّ، ولم تكن لهم أيّة حجَّة في إنكارهم وتكذيبهم، {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}[6]، غداً يوم القيامة، عندما يبعثهم الله إليه، ويقفون للحساب بين يديه، فيحضرون في محكمة العدل الإلهيّ، ويواجهون العذاب الّذي أعدَّه الله للمشركين، ممّا استحقّوه على أعمالهم المتمرّدة على الحقّ والمكذّبة للرّسل.

 {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[7]، الَّذين أخلصوا لله الإيمان والعبادة، والتزموا بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه، في كلِّ أمورهم الخاصّة والعامّة...

وفي هذا الاستثناء، بعض الإيحاء أو الدَّلالة على أنَّ هناك فئةً من قوم النبيّ إلياس، آمنوا به وصدَّقوه، واتّبعوه في دعوته، وساندوه في رسالته، فاستحقّوا صفة: {عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.

وهكذا، قام هذا الرّسول بمهمّته خير قيام، وبذل في هدايتهم كلَّ جهوده، وواجه التحدّيات الكبرى بكلِّ صبرٍ وإيمان، لأنَّ التّجربة الرّساليّة في حركة الرّسل كانت تواجه مختلف أساليب الاضطهاد ووسائل الضَّغط المادّيّ والمعنويّ من أقوامهم، ولا سيّما من المترفين الَّذين كانوا يملكون الامتيازات الكثيرة في مجتمعاتهم، الأمر الّذي يجعلهم في موقف الخوف على أوضاعهم من الدّعوات الرّساليّة الإصلاحيّة التي تدعو إلى إسقاط الاستكبار وتوعية المستضعفين في الانفتاح على حريّاتهم الإنسانيّة، واحترامهم لعقولهم في التَّفكير الجدّيّ في قضاياهم المصيريّة. وهنا ينطلق المستكبرون ليستخدموا الوسائل الضَّاغطة لعزل المستضعفين عن حركة الرّسل، لإبقائهم في دائرة الخضوع لاستعباد المستكبرين.

تخليد دوره الرّساليّ

وهكذا انتهت مهمَّة هذا الرّسول بعد أن قام بمسؤوليَّته خير قيام، وقد قدَّر الله له ذلك الجهد والإخلاص في الرّسالة والعبوديّة، فأراد أن يخلِّد ذكراه في التّاريخ الإنسانيّ، ليتذكّر النّاس حركته الرّساليَّة، وإخلاصه الإيمانيّ، فينطلقوا في السَّلام عليه، تحيّةً وتقديراً وتعظيماً لإخلاصه لله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}[8]، من الأمم القادمة، فلا تُنسى الجهود الكبيرة الّتي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خطِّ التّوحيد، وتنمية بذرة الإيمان، فما دامت الحياة مستمرّةً في هذه الدّنيا، فإنَّ رسالتهم ستبقى حيّةً خالدةً في التّاريخ.

{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}[9]، الَّذي يستحقّ هذا السّلام المتكرّر في حياة الأجيال كلّها، لجهاده في سبيل الله، ودعوته إلى دينه.

 ونلاحظ أنَّ الله لم يؤكِّد هذا الامتداد في السّلام إلا لبعض الرّسل، ما يدلّ على الموقع المميَّز لهذا الرّسول عند الله.

 {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[10]، الّذين كانت حركتهم تجسّد الإحسان كلّه في علاقتهم بالله وبالإنسان والحياة، فلينطلق النّاس إلى الله من موقع الالتزام بالإحسان، ليحصلوا على ثوابه ورضاه، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}[11]، الّذين ارتضاهم الله لدينه وهداهم بهداه، لأنَّ العبوديّة والإيمان هما مصدر الإحسان. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنعام: 85].

[2] [الصّافّات: 123].

[3]  [الصّافّات: 124].

[4]  [الصّافّات: 125].

[5]  [الصّافّات: 126].

[6]  [الصّافّات: 127].

[7]  [الصّافّات: 128].

[8]  [الصّافات: 129].

[9]  [الصّافّات: 130].

[10]  [الصّافّات: 131].

[11]  [الصّافّات: 132].


وهذا رسولٌ من رسل الله المقرَّبين، الّذي كان قومه من عبدة الأصنام، فأرسله الله إليهم ليهديهم إلى عقيدة التَّوحيد الإلهيّ الَّتي تنطلق في خطِّ الإيمان بالله في العقيدة والطّاعة والعبادة، لتحرير عقولهم من التّحجّر الفكريّ، والتخلّف الرّوحيّ، والذّهنيَّة الخرافيَّة المنحطَّة عن آفاق العقل في سموّه وعمق تفكيره.

النّبيّ الصَّالح

وقد تحدَّث عنه القرآن في سياق الحديث عن الأنبياء، في قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ}[1]، الّذين تميَّزوا بالصَّلاح الرّوحيّ والعمليّ، في القيم الَّتي تختزنها ذواتهم، وفي الحركيَّة الّتي تتمثّل في رساليّتهم، وفي مواجهتهم التحدّيات بصلابة الموقف والصّبر على البلاء، بما توحي به صفة الصَّلاح بشكلٍ مطلق، من الصّفة الإنسانيَّة الشَّاملة الّتي ميَّز الله بها الأنبياء.

وقد اختلف المفسِّرون في اسمه، فقيل إنّه اسم ثانٍ للنّبيّ إدريس، وقيل: إنّه الخضر، أو صديقه، وقيل: إنّه ابن اليسع، وقيل: إنّه يحيى معمدان المسيح... ولكنّ الظّاهر من التّعبير القرآنيّ، أنّه اسم مستقلّ لأحد الأنبياء الَّذين تحدَّث عنهم بأسمائهم الخاصَّة، وأنّ ما ذكره البعض من الأسماء الأخرى له، هو اجتهادٌ شخصيّ لا دليل عليه.

أمَّا قصته، فقد اختصرها القرآن بأنّه من المرسلين في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ}[2]، أرسله إلى القوم الَّذين كانوا يعبدون الأصنام، وكان لهم صنمٌ يجتمعون عليه، ويتبرّكون به، ويقدِّمون حاجاتهم إليه، ويتعبَّدون له، ويسجدون أمام إحساسهم بربوبيَّته، في عظمة الخضوع للربّ، وكان اسمه "بعل". وقد ذكر بعض المفسِّرين أنّ إلياس كان مبعوثاً إلى مدينة بعلبكّ إحدى مدن الشّام، فإنّ كلمة "بك" تعني المدينة، ومن تركيب هاتين الكلمتين، نحصل على كلمة "بعلبكّ". ولكنَّ الظّاهر أنّ الآية تؤكِّد اسم الصَّنم لا اسم المدينة.

وقد قام الرَّسول بالدَّعوة إلى رفض عبادة هذا الصَّنم، لأنّه مجرّد حجرٍ صنعوه بأيديهم، فلا يملك أيَّ معنًى للسرّ الكامن في شخصيَّة الإله، فلا روح له، ولا سمع له ولا بصر، ولا حركة لوجوده، ما يجعل من الارتباط بربوبيّته والتعبّد له، تخلّفاً روحيّاً وسقوطاً فكريّاً إنسانيّاً.

 وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ}[3] الله الَّذي هو ربّ كلِّ شيءٍ وموجده وخالقه، والمهيمن على الأمر كلِّه والقوّة كلّها والقدرة المطلقة، وهو الّذي خلقكم وأنعم عليكم بما تتقلَّبون به من ضرورات الحياة وشروطها الطّبيعيّة، ممّا يتوقَّف عليه امتداد وجودكم، أفلا تخافون من عقابه في هذا الشِّرك العباديّ الّذي تأخذون به وتلتزمونه وتسيرون في اتّجاهه في خطِّ الضَّلال؟!

محاججته لعبدة الأصنام

{أَتَدْعُونَ بَعْلاً}، وتتقرَّبون إليه في عبادتكم له، وتطلبون منه حاجاتكم، وتتوجَّهون إليه في أموركم، وتعتمدون عليه في قضاياكم وحلِّ مشاكلكم وتفريج همومكم، وهو مجرَّد صنمٍ يلعب به اللاعبون، ويكسره الكاسرون، ولا يملك أيّة قوّة يدفع بها الاعتداء عن نفسه، ما يجعل من التزامكم بربوبيّته التزاماً بمسألة توحي بالتخلّف والسّقوط؟!

{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ}[4]، وهو الله الخالق لكلِّ شيء، فلا خالق غيره. وربّما جاء هذا التّعبير الَّذي قد يدلّ على وجود خالقين آخرين، لكنَّه يشير إلى ما قد يصنعه الإنسان من التَّماثيل، أو من تغيير شكل الموادّ الطبيعيَّة إلى صورةٍ أخرى، وإطلاق كلمة الخالق باعتبار صنع الصّورة أو تغيير الشَّكل على نحو التَّعبير المجازيّ، باعتبار أنَّ الخلق يعني الإيجاد للشَّيء، لا التصرّف في طبيعة الصّورة الَّتي تعرض على الموجودات.

{اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}[5]، الّذي تمتدّ ربوبيّته في وجودكم، فهو خالقكم وربّكم، في سرّ القدرة، وفي كلّ النّعم التي أفاضها عليكم، وهي من شروط استمراركم في الحياة، كما تمتدّ للنّاس من بعدكم، لأنّها لا تختصّ بقومٍ دون قوم، ولا بزمانٍ دون زمان. أمَّا غيره ممّا تعبدونه، فلا يُعَدُّ مصدراً للخير والبركة، ولا يمكنه دفع الشّرّ والبلاء عنكم، وتتمثَّل ربوبيّته بوجود آبائكم الّذين تعتبرونهم القدوة لكم في عبادة الأصنام الّذين ورّثوكم هذا الضَّلال، فهم ـ كما أنتم ـ مربوبون لله في وجودهم من حيث المبدأ ومن حيث الامتداد، فلا ربَّ لهم غيره، ولا خالق لهم سواه.

 وربّما كان استخدام كلمة "الرّبّ" بدلاً من كلمة "الإله"، باعتبار أنّها هي التي توحي بالعقل والتّفكير في إحساس الإنسان بذاته ووعيه لوجوده، لأنَّ أهمَّ قضيّة في حياته، هي أن يعرف من الّذي خلقه، ومن هو الّذي ربّاه ومنحه النِّعمة في كلِّ أموره...

القوم يكذّبون نبيّهم

وهكذا، كانت دعوته لهم بالاستقامة في عقيدة التَّوحيد، والابتعاد عن السّير في خطِّ الشّرك، بالأساليب المتنوّعة التي تفتح عقولهم على التَّفكير العميق في مسألة الإله، وفي مسألة الحقيقة الّتي يمثّلها في قضيّة الوجود وأسراره.

 لكنّهم أغلقوا عقولهم عن التَّفكير فيما يدعوهم إليه، وأسماعهم عن الاستماع إلى ما يحدِّثهم به، لأنَّ عقولهم تحجَّرت من خلال حجريّة أصنامهم الّتي استولت على شخصيّاتهم، ولأنَّ أفكارهم تجمَّدت عند تقاليدهم التي ورثوها عن آبائهم، فلم تنفتح على الآفاق الواسعة الّتي تقودهم إلى حقيقة الوجود وخالقه والإنسان وحاجاته إلى الله.

{فَكَذَّبُوهُ}، بعد أن أقام الحجَّة عليهم بالفكر الرّساليّ، ولم تكن لهم أيّة حجَّة في إنكارهم وتكذيبهم، {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}[6]، غداً يوم القيامة، عندما يبعثهم الله إليه، ويقفون للحساب بين يديه، فيحضرون في محكمة العدل الإلهيّ، ويواجهون العذاب الّذي أعدَّه الله للمشركين، ممّا استحقّوه على أعمالهم المتمرّدة على الحقّ والمكذّبة للرّسل.

 {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[7]، الَّذين أخلصوا لله الإيمان والعبادة، والتزموا بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه، في كلِّ أمورهم الخاصّة والعامّة...

وفي هذا الاستثناء، بعض الإيحاء أو الدَّلالة على أنَّ هناك فئةً من قوم النبيّ إلياس، آمنوا به وصدَّقوه، واتّبعوه في دعوته، وساندوه في رسالته، فاستحقّوا صفة: {عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.

وهكذا، قام هذا الرّسول بمهمّته خير قيام، وبذل في هدايتهم كلَّ جهوده، وواجه التحدّيات الكبرى بكلِّ صبرٍ وإيمان، لأنَّ التّجربة الرّساليّة في حركة الرّسل كانت تواجه مختلف أساليب الاضطهاد ووسائل الضَّغط المادّيّ والمعنويّ من أقوامهم، ولا سيّما من المترفين الَّذين كانوا يملكون الامتيازات الكثيرة في مجتمعاتهم، الأمر الّذي يجعلهم في موقف الخوف على أوضاعهم من الدّعوات الرّساليّة الإصلاحيّة التي تدعو إلى إسقاط الاستكبار وتوعية المستضعفين في الانفتاح على حريّاتهم الإنسانيّة، واحترامهم لعقولهم في التَّفكير الجدّيّ في قضاياهم المصيريّة. وهنا ينطلق المستكبرون ليستخدموا الوسائل الضَّاغطة لعزل المستضعفين عن حركة الرّسل، لإبقائهم في دائرة الخضوع لاستعباد المستكبرين.

تخليد دوره الرّساليّ

وهكذا انتهت مهمَّة هذا الرّسول بعد أن قام بمسؤوليَّته خير قيام، وقد قدَّر الله له ذلك الجهد والإخلاص في الرّسالة والعبوديّة، فأراد أن يخلِّد ذكراه في التّاريخ الإنسانيّ، ليتذكّر النّاس حركته الرّساليَّة، وإخلاصه الإيمانيّ، فينطلقوا في السَّلام عليه، تحيّةً وتقديراً وتعظيماً لإخلاصه لله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}[8]، من الأمم القادمة، فلا تُنسى الجهود الكبيرة الّتي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خطِّ التّوحيد، وتنمية بذرة الإيمان، فما دامت الحياة مستمرّةً في هذه الدّنيا، فإنَّ رسالتهم ستبقى حيّةً خالدةً في التّاريخ.

{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}[9]، الَّذي يستحقّ هذا السّلام المتكرّر في حياة الأجيال كلّها، لجهاده في سبيل الله، ودعوته إلى دينه.

 ونلاحظ أنَّ الله لم يؤكِّد هذا الامتداد في السّلام إلا لبعض الرّسل، ما يدلّ على الموقع المميَّز لهذا الرّسول عند الله.

 {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[10]، الّذين كانت حركتهم تجسّد الإحسان كلّه في علاقتهم بالله وبالإنسان والحياة، فلينطلق النّاس إلى الله من موقع الالتزام بالإحسان، ليحصلوا على ثوابه ورضاه، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}[11]، الّذين ارتضاهم الله لدينه وهداهم بهداه، لأنَّ العبوديّة والإيمان هما مصدر الإحسان. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنعام: 85].

[2] [الصّافّات: 123].

[3]  [الصّافّات: 124].

[4]  [الصّافّات: 125].

[5]  [الصّافّات: 126].

[6]  [الصّافّات: 127].

[7]  [الصّافّات: 128].

[8]  [الصّافات: 129].

[9]  [الصّافّات: 130].

[10]  [الصّافّات: 131].

[11]  [الصّافّات: 132].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية