شخصيّتا إسماعيل(ع) وإدريس(ع) في القرآن الكريم

شخصيّتا إسماعيل(ع) وإدريس(ع) في القرآن الكريم

تحدَّث الله سبحانه عن عددٍ من الشّخصيّات النّبويّة، بما تميّزوا به من قيمٍ كانت بارزةً في حياتهم، والّتي أراد الله للنَّاس أن يذكروهم بها، ليقتدوا بهم في القيمة الأخلاقيَّة الخاصَّة، باعتبارها ذات تأثيرٍ إيجابيّ في الواقع الإنسانيّ على مستوى الفرد والمجتمع، للإيحاء بأنَّ الله إذا كان يصف رسوله بالفضائل والأخلاق، مع ما للرَّسول من موقع الكرامة عنده، فإنَّ في ذلك تذكيراً للنّاس بأنّهم سوف يحصلون على الكرامة عنده إذا أخذوا بتلك القيم، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ}[1]. وقد ذهب الجمهور إلى أنّه ابن إبراهيم(ع)، وقالوا إنّ الله فصل ذِكْرَه عن ذِكْرِ أبيه وأخيه، لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلاً.

شخصيّتان رساليّتان

ولكن قد نلاحظ على ذلك، أنَّ موقع أبيه كان من المواقع المتحرّكة في أكثر من مرحلة، وكان أكبر من قضيَّة، وأوسع من حركة، حتى نال أعلى المراتب عند ربّه: {وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}[2].

كما أنّ أخاه إسحاق كان متميّزاً بالدّعوة التّوحيديّة على خطى أبيه، كما كانت له ذرّيّة رساليّة منفتحة على الرّسالة، حيث انطلق أولاده، وفي مقدَّمهم يعقوب، للأخذ بها والسَّير على هداه، الأمر الّذي يبعد أن يكون المقصود من الآية إسماعيل بن إبراهيم، الّذي خاض التَّجربة مع أبيه في الاستسلام للذَّبح.

ولذلك، فقد يكون الأقرب هو ما ذكره بعض المفسّرين، أنّه شخص آخر اسمه إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه، فسلخوا جلدة رأسه، فخيّره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه، ورضي بثوابه سبحانه، وفوَّض عزَّ وجلَّ أمرهم إليه في العفو أو العقوبة. وروى ذلك الإماميّة عن أبي عبد الله(ع)، كما ذكر ذلك الألوسي في "روح المعاني"، "جزء 8، ص 433"، ولكنَّه قال: "وغالب الظنِّ أنّه لا يصحّ عنه".

والظّاهر أنَّ الأمر ليس كما قال، لأنَّ السّند في هذه الرّواية ليس ضعيفاً، إضافةً إلى ما أسند إلى أنس بن مالك عن رسول الله(ص)، ولكن لم تثبت وثاقته.

ونلاحظ أنَّه لو كانت المسألة كما ذكر، لكان ينبغي الإشارة إليها في القرآن، لأنَّ فيها دلالةً كبرى على الروحيّة العالية التي يتميّز بها، إضافةً إلى ما فعله قومه به.

ميزة الوفاء بالوعد

{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}[3]، وربما كان وصفه بذلك لاشتهاره بهذه الصّفة بين النّاس. وقد ذكر المفسِّرون في رواياتهم، أنّه وعد رجلاً أن يقيم له بمكان، فغاب عنه حولاً، فلمَّا جاءه قال له: ما برحت مكانك؟ فقال: لا والله، ما كنت لأخلف بموعدي. وقيل: غاب عنه اثني عشر يوماً، وعن مقاتل ثلاثة أيّام، وعن سهل بن سعد يوماً وليلةً، والأوَّل أشهر. ورواه الإماميَّة عن أبي عبد الله(ع)، كما جاء عن الألوسي في تفسير "روح المعاني".

 ونلاحظ على هذه الرِّوايات، أنَّ طبيعة الوعد الّذي يحصل بين النَّاس، تفرض التّوقيت الزّمنيّ بشكلٍ متعارف، ولا سيَّما في القضايا الّتي ينتظر فيها النَّاس بعضهم بعضاً لقضاء حاجةٍ أو للحديث في موضوع، وليس من الطّبيعيّ أن يكون الوعد مطلقاً يمتدُّ إلى الزّمن الّذي تتحدّث عنه الرّوايات المذكورة.

وعلى أيِّ حال، فإنَّ هذا الإنسان كان يتميَّز بالوفاء بالوعد الَّذي حثَّت الرّسالات على الالتزام به، لأنّه يؤكِّد الصِّدق في شخصيّة الإنسان في علاقته بالنّاس قولاً وفعلاً، ولأنّ الانحراف عنه بالإخلاف بالوعد، يؤدّي إلى الكثير من النتائج السلبيّة في حياتهم، لما يترتّب عليه من ضياع الكثير من الفرص الَّتي يربطها النّاس بوعود الآخرين.

وقد ورد في الحديث عن صفة المؤمن، أنَّه إذا وعد وفى. وعن أبي عبد الله(ع) قال: "قال رسول الله(ص): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليفِ إذا وعد"[4]، ما يوحي بأنَّ ذلك من مقتضى الإيمان ولوازمه، فمن لم يفعل ذلك فليس بمؤمن.

كما ورد في صفة المنافق أنَّه إذا وعد أخلف. وقد ورد عن أبي عبد الله ـ مما رواه هشام بن سالم ـ قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "عِدةُ المؤمنِ أخاه نذرٌ لا كفّارةَ له، فمن أخلف فبخُلف الله بدأ، ولمقته تعرَّض، وذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[5].[6]

وهكذا كان إسماعيل يرى في الكلمة التي يمنحها للآخرين في وعده مسؤوليّةً أخلاقيّةً تفرض عليه الالتزام بها كدستورٍ يحكم حياته، لأنَّ الإيمان موقف. وبذلك كانت الكلمة الصَّادرة عن المؤمن بمثابة الموقف.

تبليغ الرّسالة الإلهيَّة

{وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً}[7]، فقد أرسله الله إلى النَّاس ليدعوهم إلى الإيمان به، وإلى توحيده في العقيدة والطَّاعة والعبادة، فكان يتحرّك فيهم برسوليَّته، وينفتح على حياتهم بنبوَّته، ويتحرّك في مجتمعاتهم ليجمعهم على الهدى، ويقودهم إلى الصَّلاح، كأيِّ رسول نبيّ يتحمَّل مسؤوليّته في أداء الرّسالة الّتي بلّغه الله إيّاها وحمّله مسؤوليّة إبلاغها للنَّاس. وكان من أوائل مسؤوليّات عمله، أن ينذر أهله ويهديهم إلى الإيمان بالله، باعتبارهم أقرب النَّاس إليه، وهذا ما بدأ به رسول الله محمّد(ص) عندما بعثه الله بالرّسالة، فقد دعا زوجته خديجة أمّ المؤمنين، ثم ثنّى بعليّ(ع)، وأمرهما بالصَّلاة، فكان يقف في المسجد الحرام ليصلِّي بهما، ثم دعا عشيرته بعد أن جمعهم وأبلغهم رسالة ربّه، استجابةً لقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[8].

وقد جاء في سورة طه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[9]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}[10].

فأهل النبيّ يمثِّلون المجتمع الأقرب إليه، وهم الَّذين يتطلَّع النّاس إليهم، ليروا كيف كانت استجابتهم له، فيكون ذلك حافزاً لهم على اتّباعه والاستجابة له، بينما يكون انحرافهم عنه مؤدِّياً إلى الابتعاد عنه.

وهكذا، أراد الله له أن يربطهم بالجانب الرّوحيّ، بحيث يتمثَّل حضور الإنسان الفكريّ والشّعوريّ والعباديّ أمام الله عبر الصَّلاة، وبالجانب المادّي عبر المسؤوليّة المادّية تجاه الآخرين من المحرومين، في النِّطاق الذي ينفتح فيه الإنسان على الله ليعيش عبادة العطاء كما يعيش عبادة الصّلاة: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً}[11].

وذكر صاحب تفسير "روح المعاني" عن الحسن: "المراد بأهله أمَّته، لكون النّبيِّ بمنـزلة الأب لأمَّته، ويؤيِّد ذلك أنَّ في مصحف عبد الله: وكان يأمر قومه...".(ج 8، ص 433).

ولكن ما ذكره لم يثبت بشكلٍ موثّق، وخصوصاً أنَّ القراءة المتواترة بين المسلمين، تؤكّد ما هو مذكورٌ في المصاحف المتداولة التي يأخذ بها النَّاس من دون تغييرٍ أو تبديل.

وقد أراد هذا النبيّ من أهله أن يأخذوا بالزّكاة التي تدفعهم إلى التقرّب من الله بذهنيَّة روحيّة عباديّة، ليتابعوا حاجات النّاس في أوضاعهم المادّية، فيبادروا إلى مساعدتهم بالعطاء بما أنعم الله عليهم من نعمه الكثيرة الّتي حمَّلهم مسؤوليّة مشاركة الآخرين من ذوي الحاجات بها، كما جاء في قوله تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ}[12].

{وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً}[13]، فقد بلّغ رسالة ربّه، وأخلص له، وتحمّل الأذى في سبيل الدَّعوة إليه، وانفتح عليه بالعبادة وبالرّوحانيّة الفيّاضة التي ملأت عقله وقلبه وحياته، فكان عقله يفكِّر في الحقّ، وقلبه ينبض بالخير والمحبَّة، وحياته تتحرَّك بالعدل والإنصاف والنَّصيحة للعباد والإصلاح لأمورهم بكلِّ عمق وإخلاص. وبذلك، حاز رضا الله في كلِّ أعماله، وهذه هي النِّعمة العظيمة الّتي لا نعمة أعظم منها ولا أكبر منها، كما جاء في قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ}[14]. وهكذا تحدَّث الله عن نعمة الجنَّة الخالدة التي وعد الله بها عباده المخلصين: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[15].

شخصيّة إدريس(ع)

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ}[16]. وهذا نبيٌّ من أنبياء ما قبل التَّاريخ، الّذي كان أوَّل الأنبياء البارزين في صفتهم النّبويّة بعد آدم، وقيل إنّه جدّ أب نوح، واسمه في التّوراة أخنوخ، وإنّه سمّي إدريس لكثرة درسه الكتب التي كانت موجودةً في عهده، مما لا نعرف لها اسماً ولا موضوعاً، وهو أوَّل من خطَّ بالقلم، الأمر الذي جعله يكتب ما يلقى إليه أو يفكِّر فيه أو يقرأه، ولكنّه مع ذلك، كان صاحب مهنةٍ يعتاش منها أو ينفع النَّاس بها، فقد كان خيّاطاً، وأوّل من خاط الثّياب الَّتي لم تكن معروفةً عند النّاس بالطّريقة التي يلبسونها في أشكالها وطريقتها، ليستفيدوا منها في الوقاية من الحرّ والبرد، وحماية الجسد مما قد يؤذيه من الزواحف والحشرات المؤذية.

وقيل: إنَّ الله تعالى علَّمه بطريقة الإلهام، أو بوسيلةٍ أخرى، علم النّجوم والحساب وعلم الهيئة، وكان ذلك ـ كما قالوا ـ معجزةً له.

ولكنَّ هذه المعلومات التّفصيليَّة عن أوضاعه الشّخصيَّة، وثقافته العلميَّة، ومهنته العمليَّة، لم تخضع لتوثيقٍ علميٍّ ومصدرٍ موثوق. وقد ذكر القصَّاصون الكثير من الرّوايات الضَّعيفة التي تتحدَّث عن قبض روحه بين السّماء الرابعة والخامسة، وعن استجارة بعض الملائكة به، ممّن غضب الله عليهم فأهبطهم إلى الأرض، وعن صداقته للملك الَّذي يحمل الشّمس، إلى غير ذلك مما يدخل في حساب الأساطير الإسرائيليَّة الَّتي دسّها بعض المفسّرين في كتب التّفسير لتفصيل ما أجمله القرآن، مما كان يعبث به اليهود الّذين دخل بعضهم في الإسلام، من أجل أن يشوِّهوا مفاهيمه، ويدخلوا الأكاذيب والخرافات في تفسيره، سواء كان ذلك مما يرويه أولئك عن الرّسول(ص)، أو ممّا يروونه عن الصَّحابة أو عن أئمَّة أهل البيت(ع)، في رواياتٍ ضعيفةٍ لا يوثق بها.

وقد ذكر صاحب تفسير الميزان بعضاً منها مما استضعفه سنداً ومتناً، لمخالفة بعضها القرآن في ظاهره، كما في قصَّة الملاك الذي غضب الله عليه، في حين يؤكِّد ظاهر القرآن عصمة الملائكة ونزاهتهم عن الذَّنب والخطيئة[17].

كما أنَّ بعضها لا يتناسب مع عصمة إدريس وأخلاقيّته وعطفه على المستضعفين. وقد علّق العلامة الطباطبائي على هذه الرّوايات في موضعٍ آخر، قال: "ولا يرتاب الناقد البصير في أنّ هذه الروايات إسرائيليّات لعبت بها أيدي الوضع، ويدفعها الموازين العلميّة والأصول المسلّمة من الدّين"[18].

النّبيّ الصّدّيق

فلننفتح على حديث الله عنه، فإنّه أصدق الحديث، فقد وصفه بـ {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً}[19]. وقد ذكر الرّاغب الأصفهاني في مفرداته في معنى كلمة (الصدّيق)، أنه مَنْ كثر منه الصّدق. وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قطّ. وقيل: بل يقال: لمن لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده الصّدق. وقيل: بل لمن صدق بقوله واعتقاده وحقَّق صدقه بفعله[20].

ولعلَّ هذا القول هو الأقرب إلى معنى الكلمة، لأنَّ الظَّاهر منها أنَّ الصّدق يمثِّل التَّجسيد الحيّ للشّخصيَّة، بحيث يكون في كلِّ حياته الخاصَّة والعامَّة تجسيداً للصّدق، فيدخل في عقله في صدق الفكرة بالحقّ، وفي قلبه في صدق القيمة الرّوحيّة وصدق الحديث والمعاملة والعقيدة، وبذلك ترتفع الصِّفة إلى مستوى المبالغة الّتي تلتقي بأعلى درجات القيمة الأخلاقيّة. أمَّا كلمة (النبيّ)، فإنَّها توحي باصطفاء الله له في حمل رسالته وإبلاغها للنَّاس، في تأكيدٍ لتوحيد الله والمعرفة لمواقع عظمته وامتدادات رحمته.

وتذكر بعض الرّوايات أنّه كان ـ ومن معه من المؤمنين ـ يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وطاعة الله عزَّ وجلَّ، ويبلّغهم رسالة الله، ويدعوهم إلى توحيده.

المقام العالي عند الله

وكان هذا الإخلاص لله في الدَّعوة إليه ومواجهة التّحدّيات في سبيل ذلك، هو الذي أدَّى إلى أن يرفعه الله إلى الدَّرجة العليا من كرامته ورضوانه، كما ورد في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}[21]، فقد رفعه الله إلى مواقع القرب لديه، وهذا هو المكان العليّ الّذي يعبَّر عنه بالمنـزلة العليا.

ولا وجه لما ذكره البعض من أنَّ المقصود من رفعه إلى ذلك المكان هو رفعه إلى السَّماء، لأنَّ السياق يتضمَّن بيان الموقع الخاصّ في قيمة الشخصيّة النبويّة في الدّور الّذي أريد له القيام به، ما جعله موضع تقدير النَّاس له واحترامهم إيَّاه، حتى إنَّنا نلاحظ بقاء ذكره وخلوده في ذاكرة النّاس من الفلاسفة وأهل العلم جيلاً بعد جيل، وربما أنَّ ذلك، كما يقول صاحب الميزان: "يكشف عن أنّه من أقدم أئمَّة العلم الَّذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكّر الاستدلاليّ، والإمعان في البحث عن المعارف الإلهيَّة، أو هو أوّلهم (عليه السّلام)"[22].

وربما كان ذلك وارداً لديه على نحو الاستيحاء من مقام النبوَّة الّذي يتحرّك من أجل رفع مستوى الوعي لدى النَّاس، وارتباطهم بالعقل، وإقبالهم على المعرفة الحقَّة فيما يرتبط بقضايا مصيرهم في الوجود، وربما كان التَّوجيه القرآنيّ لذكر هذا النبيّ التّاريخيّ، منطلقاً للاستحياء من موقعه والاستفادة من عناصر شخصيَّته، ولا سيَّما في عنصر الشّخصيّة التّصديقيّة الّتي جعلته صدقاً كلّه، في كلِّ حركته الداخليَّة والخارجيَّة في الحياة.

ولذلك، جاء ذكره في القرآن الكريم في موضعين، أحدهما في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}، وثانيهما في قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[23].

وهكذا كان إدريس ممن أدخله الله في رحمته، واعتبره من الصَّالحين الذين يتجسّد الصّلاح في حياتهم، ويمتدّ إلى حياة الآخرين من خلالهم، كما كان من الّذين أنعم الله عليهم، ممن اجتباهم الله واصطفاهم وهداهم إلى الصِّراط المستقيم، وكانوا من الخاشعين لذكر الله، بحيث إنهم إذا سمعوا آيات الرّحمن تتلى عليهم، خرّوا سجّداً لله، تأكيداً للخضوع المطلق والانسحاق والذّوبان في خشيته، والباكين من خوفه ومحبّته، لأنهم عرفوا الله في مواقع عظمته، فأحبّوه وخضعوا له، وخشعوا بين يديه إخلاصاً لربوبيّته. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  (مريم: 54).

[2]  (النّساء: 125).

[3]  (مريم: 54).

[4]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص 515.

[5]  (الصَّفّ: 2، 3).

[6]  وسائل الشيعة، ج 8، ص 516.

[7]  (مريم: 54).

[8]  (الشعراء: 214).

[9]  (طه: 132).

[10]  (التَّحريم: 6).

[11]  (مريم: 55).

[12]  (النور: 33).

[13]  (مريم: 55).

[14]  (التوبة: 72).

[15]  (المائدة: 119).

[16]  (مريم: 56).

[17]  تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 14، ص 69.

[18]  المصدر نفسه، ج 14، ص 71.

[19]  (مريم: 56).

[20]  معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص 285.

[21]  (مريم: 57).

[22]  تفسير الميزان، ج 14، ص 73.

[23]  (الأنبياء: 85، 86).


تحدَّث الله سبحانه عن عددٍ من الشّخصيّات النّبويّة، بما تميّزوا به من قيمٍ كانت بارزةً في حياتهم، والّتي أراد الله للنَّاس أن يذكروهم بها، ليقتدوا بهم في القيمة الأخلاقيَّة الخاصَّة، باعتبارها ذات تأثيرٍ إيجابيّ في الواقع الإنسانيّ على مستوى الفرد والمجتمع، للإيحاء بأنَّ الله إذا كان يصف رسوله بالفضائل والأخلاق، مع ما للرَّسول من موقع الكرامة عنده، فإنَّ في ذلك تذكيراً للنّاس بأنّهم سوف يحصلون على الكرامة عنده إذا أخذوا بتلك القيم، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ}[1]. وقد ذهب الجمهور إلى أنّه ابن إبراهيم(ع)، وقالوا إنّ الله فصل ذِكْرَه عن ذِكْرِ أبيه وأخيه، لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلاً.

شخصيّتان رساليّتان

ولكن قد نلاحظ على ذلك، أنَّ موقع أبيه كان من المواقع المتحرّكة في أكثر من مرحلة، وكان أكبر من قضيَّة، وأوسع من حركة، حتى نال أعلى المراتب عند ربّه: {وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}[2].

كما أنّ أخاه إسحاق كان متميّزاً بالدّعوة التّوحيديّة على خطى أبيه، كما كانت له ذرّيّة رساليّة منفتحة على الرّسالة، حيث انطلق أولاده، وفي مقدَّمهم يعقوب، للأخذ بها والسَّير على هداه، الأمر الّذي يبعد أن يكون المقصود من الآية إسماعيل بن إبراهيم، الّذي خاض التَّجربة مع أبيه في الاستسلام للذَّبح.

ولذلك، فقد يكون الأقرب هو ما ذكره بعض المفسّرين، أنّه شخص آخر اسمه إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه، فسلخوا جلدة رأسه، فخيّره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه، ورضي بثوابه سبحانه، وفوَّض عزَّ وجلَّ أمرهم إليه في العفو أو العقوبة. وروى ذلك الإماميّة عن أبي عبد الله(ع)، كما ذكر ذلك الألوسي في "روح المعاني"، "جزء 8، ص 433"، ولكنَّه قال: "وغالب الظنِّ أنّه لا يصحّ عنه".

والظّاهر أنَّ الأمر ليس كما قال، لأنَّ السّند في هذه الرّواية ليس ضعيفاً، إضافةً إلى ما أسند إلى أنس بن مالك عن رسول الله(ص)، ولكن لم تثبت وثاقته.

ونلاحظ أنَّه لو كانت المسألة كما ذكر، لكان ينبغي الإشارة إليها في القرآن، لأنَّ فيها دلالةً كبرى على الروحيّة العالية التي يتميّز بها، إضافةً إلى ما فعله قومه به.

ميزة الوفاء بالوعد

{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}[3]، وربما كان وصفه بذلك لاشتهاره بهذه الصّفة بين النّاس. وقد ذكر المفسِّرون في رواياتهم، أنّه وعد رجلاً أن يقيم له بمكان، فغاب عنه حولاً، فلمَّا جاءه قال له: ما برحت مكانك؟ فقال: لا والله، ما كنت لأخلف بموعدي. وقيل: غاب عنه اثني عشر يوماً، وعن مقاتل ثلاثة أيّام، وعن سهل بن سعد يوماً وليلةً، والأوَّل أشهر. ورواه الإماميَّة عن أبي عبد الله(ع)، كما جاء عن الألوسي في تفسير "روح المعاني".

 ونلاحظ على هذه الرِّوايات، أنَّ طبيعة الوعد الّذي يحصل بين النَّاس، تفرض التّوقيت الزّمنيّ بشكلٍ متعارف، ولا سيَّما في القضايا الّتي ينتظر فيها النَّاس بعضهم بعضاً لقضاء حاجةٍ أو للحديث في موضوع، وليس من الطّبيعيّ أن يكون الوعد مطلقاً يمتدُّ إلى الزّمن الّذي تتحدّث عنه الرّوايات المذكورة.

وعلى أيِّ حال، فإنَّ هذا الإنسان كان يتميَّز بالوفاء بالوعد الَّذي حثَّت الرّسالات على الالتزام به، لأنّه يؤكِّد الصِّدق في شخصيّة الإنسان في علاقته بالنّاس قولاً وفعلاً، ولأنّ الانحراف عنه بالإخلاف بالوعد، يؤدّي إلى الكثير من النتائج السلبيّة في حياتهم، لما يترتّب عليه من ضياع الكثير من الفرص الَّتي يربطها النّاس بوعود الآخرين.

وقد ورد في الحديث عن صفة المؤمن، أنَّه إذا وعد وفى. وعن أبي عبد الله(ع) قال: "قال رسول الله(ص): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليفِ إذا وعد"[4]، ما يوحي بأنَّ ذلك من مقتضى الإيمان ولوازمه، فمن لم يفعل ذلك فليس بمؤمن.

كما ورد في صفة المنافق أنَّه إذا وعد أخلف. وقد ورد عن أبي عبد الله ـ مما رواه هشام بن سالم ـ قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "عِدةُ المؤمنِ أخاه نذرٌ لا كفّارةَ له، فمن أخلف فبخُلف الله بدأ، ولمقته تعرَّض، وذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[5].[6]

وهكذا كان إسماعيل يرى في الكلمة التي يمنحها للآخرين في وعده مسؤوليّةً أخلاقيّةً تفرض عليه الالتزام بها كدستورٍ يحكم حياته، لأنَّ الإيمان موقف. وبذلك كانت الكلمة الصَّادرة عن المؤمن بمثابة الموقف.

تبليغ الرّسالة الإلهيَّة

{وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً}[7]، فقد أرسله الله إلى النَّاس ليدعوهم إلى الإيمان به، وإلى توحيده في العقيدة والطَّاعة والعبادة، فكان يتحرّك فيهم برسوليَّته، وينفتح على حياتهم بنبوَّته، ويتحرّك في مجتمعاتهم ليجمعهم على الهدى، ويقودهم إلى الصَّلاح، كأيِّ رسول نبيّ يتحمَّل مسؤوليّته في أداء الرّسالة الّتي بلّغه الله إيّاها وحمّله مسؤوليّة إبلاغها للنَّاس. وكان من أوائل مسؤوليّات عمله، أن ينذر أهله ويهديهم إلى الإيمان بالله، باعتبارهم أقرب النَّاس إليه، وهذا ما بدأ به رسول الله محمّد(ص) عندما بعثه الله بالرّسالة، فقد دعا زوجته خديجة أمّ المؤمنين، ثم ثنّى بعليّ(ع)، وأمرهما بالصَّلاة، فكان يقف في المسجد الحرام ليصلِّي بهما، ثم دعا عشيرته بعد أن جمعهم وأبلغهم رسالة ربّه، استجابةً لقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[8].

وقد جاء في سورة طه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[9]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}[10].

فأهل النبيّ يمثِّلون المجتمع الأقرب إليه، وهم الَّذين يتطلَّع النّاس إليهم، ليروا كيف كانت استجابتهم له، فيكون ذلك حافزاً لهم على اتّباعه والاستجابة له، بينما يكون انحرافهم عنه مؤدِّياً إلى الابتعاد عنه.

وهكذا، أراد الله له أن يربطهم بالجانب الرّوحيّ، بحيث يتمثَّل حضور الإنسان الفكريّ والشّعوريّ والعباديّ أمام الله عبر الصَّلاة، وبالجانب المادّي عبر المسؤوليّة المادّية تجاه الآخرين من المحرومين، في النِّطاق الذي ينفتح فيه الإنسان على الله ليعيش عبادة العطاء كما يعيش عبادة الصّلاة: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً}[11].

وذكر صاحب تفسير "روح المعاني" عن الحسن: "المراد بأهله أمَّته، لكون النّبيِّ بمنـزلة الأب لأمَّته، ويؤيِّد ذلك أنَّ في مصحف عبد الله: وكان يأمر قومه...".(ج 8، ص 433).

ولكن ما ذكره لم يثبت بشكلٍ موثّق، وخصوصاً أنَّ القراءة المتواترة بين المسلمين، تؤكّد ما هو مذكورٌ في المصاحف المتداولة التي يأخذ بها النَّاس من دون تغييرٍ أو تبديل.

وقد أراد هذا النبيّ من أهله أن يأخذوا بالزّكاة التي تدفعهم إلى التقرّب من الله بذهنيَّة روحيّة عباديّة، ليتابعوا حاجات النّاس في أوضاعهم المادّية، فيبادروا إلى مساعدتهم بالعطاء بما أنعم الله عليهم من نعمه الكثيرة الّتي حمَّلهم مسؤوليّة مشاركة الآخرين من ذوي الحاجات بها، كما جاء في قوله تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ}[12].

{وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً}[13]، فقد بلّغ رسالة ربّه، وأخلص له، وتحمّل الأذى في سبيل الدَّعوة إليه، وانفتح عليه بالعبادة وبالرّوحانيّة الفيّاضة التي ملأت عقله وقلبه وحياته، فكان عقله يفكِّر في الحقّ، وقلبه ينبض بالخير والمحبَّة، وحياته تتحرَّك بالعدل والإنصاف والنَّصيحة للعباد والإصلاح لأمورهم بكلِّ عمق وإخلاص. وبذلك، حاز رضا الله في كلِّ أعماله، وهذه هي النِّعمة العظيمة الّتي لا نعمة أعظم منها ولا أكبر منها، كما جاء في قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ}[14]. وهكذا تحدَّث الله عن نعمة الجنَّة الخالدة التي وعد الله بها عباده المخلصين: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[15].

شخصيّة إدريس(ع)

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ}[16]. وهذا نبيٌّ من أنبياء ما قبل التَّاريخ، الّذي كان أوَّل الأنبياء البارزين في صفتهم النّبويّة بعد آدم، وقيل إنّه جدّ أب نوح، واسمه في التّوراة أخنوخ، وإنّه سمّي إدريس لكثرة درسه الكتب التي كانت موجودةً في عهده، مما لا نعرف لها اسماً ولا موضوعاً، وهو أوَّل من خطَّ بالقلم، الأمر الذي جعله يكتب ما يلقى إليه أو يفكِّر فيه أو يقرأه، ولكنّه مع ذلك، كان صاحب مهنةٍ يعتاش منها أو ينفع النَّاس بها، فقد كان خيّاطاً، وأوّل من خاط الثّياب الَّتي لم تكن معروفةً عند النّاس بالطّريقة التي يلبسونها في أشكالها وطريقتها، ليستفيدوا منها في الوقاية من الحرّ والبرد، وحماية الجسد مما قد يؤذيه من الزواحف والحشرات المؤذية.

وقيل: إنَّ الله تعالى علَّمه بطريقة الإلهام، أو بوسيلةٍ أخرى، علم النّجوم والحساب وعلم الهيئة، وكان ذلك ـ كما قالوا ـ معجزةً له.

ولكنَّ هذه المعلومات التّفصيليَّة عن أوضاعه الشّخصيَّة، وثقافته العلميَّة، ومهنته العمليَّة، لم تخضع لتوثيقٍ علميٍّ ومصدرٍ موثوق. وقد ذكر القصَّاصون الكثير من الرّوايات الضَّعيفة التي تتحدَّث عن قبض روحه بين السّماء الرابعة والخامسة، وعن استجارة بعض الملائكة به، ممّن غضب الله عليهم فأهبطهم إلى الأرض، وعن صداقته للملك الَّذي يحمل الشّمس، إلى غير ذلك مما يدخل في حساب الأساطير الإسرائيليَّة الَّتي دسّها بعض المفسّرين في كتب التّفسير لتفصيل ما أجمله القرآن، مما كان يعبث به اليهود الّذين دخل بعضهم في الإسلام، من أجل أن يشوِّهوا مفاهيمه، ويدخلوا الأكاذيب والخرافات في تفسيره، سواء كان ذلك مما يرويه أولئك عن الرّسول(ص)، أو ممّا يروونه عن الصَّحابة أو عن أئمَّة أهل البيت(ع)، في رواياتٍ ضعيفةٍ لا يوثق بها.

وقد ذكر صاحب تفسير الميزان بعضاً منها مما استضعفه سنداً ومتناً، لمخالفة بعضها القرآن في ظاهره، كما في قصَّة الملاك الذي غضب الله عليه، في حين يؤكِّد ظاهر القرآن عصمة الملائكة ونزاهتهم عن الذَّنب والخطيئة[17].

كما أنَّ بعضها لا يتناسب مع عصمة إدريس وأخلاقيّته وعطفه على المستضعفين. وقد علّق العلامة الطباطبائي على هذه الرّوايات في موضعٍ آخر، قال: "ولا يرتاب الناقد البصير في أنّ هذه الروايات إسرائيليّات لعبت بها أيدي الوضع، ويدفعها الموازين العلميّة والأصول المسلّمة من الدّين"[18].

النّبيّ الصّدّيق

فلننفتح على حديث الله عنه، فإنّه أصدق الحديث، فقد وصفه بـ {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً}[19]. وقد ذكر الرّاغب الأصفهاني في مفرداته في معنى كلمة (الصدّيق)، أنه مَنْ كثر منه الصّدق. وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قطّ. وقيل: بل يقال: لمن لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده الصّدق. وقيل: بل لمن صدق بقوله واعتقاده وحقَّق صدقه بفعله[20].

ولعلَّ هذا القول هو الأقرب إلى معنى الكلمة، لأنَّ الظَّاهر منها أنَّ الصّدق يمثِّل التَّجسيد الحيّ للشّخصيَّة، بحيث يكون في كلِّ حياته الخاصَّة والعامَّة تجسيداً للصّدق، فيدخل في عقله في صدق الفكرة بالحقّ، وفي قلبه في صدق القيمة الرّوحيّة وصدق الحديث والمعاملة والعقيدة، وبذلك ترتفع الصِّفة إلى مستوى المبالغة الّتي تلتقي بأعلى درجات القيمة الأخلاقيّة. أمَّا كلمة (النبيّ)، فإنَّها توحي باصطفاء الله له في حمل رسالته وإبلاغها للنَّاس، في تأكيدٍ لتوحيد الله والمعرفة لمواقع عظمته وامتدادات رحمته.

وتذكر بعض الرّوايات أنّه كان ـ ومن معه من المؤمنين ـ يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وطاعة الله عزَّ وجلَّ، ويبلّغهم رسالة الله، ويدعوهم إلى توحيده.

المقام العالي عند الله

وكان هذا الإخلاص لله في الدَّعوة إليه ومواجهة التّحدّيات في سبيل ذلك، هو الذي أدَّى إلى أن يرفعه الله إلى الدَّرجة العليا من كرامته ورضوانه، كما ورد في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}[21]، فقد رفعه الله إلى مواقع القرب لديه، وهذا هو المكان العليّ الّذي يعبَّر عنه بالمنـزلة العليا.

ولا وجه لما ذكره البعض من أنَّ المقصود من رفعه إلى ذلك المكان هو رفعه إلى السَّماء، لأنَّ السياق يتضمَّن بيان الموقع الخاصّ في قيمة الشخصيّة النبويّة في الدّور الّذي أريد له القيام به، ما جعله موضع تقدير النَّاس له واحترامهم إيَّاه، حتى إنَّنا نلاحظ بقاء ذكره وخلوده في ذاكرة النّاس من الفلاسفة وأهل العلم جيلاً بعد جيل، وربما أنَّ ذلك، كما يقول صاحب الميزان: "يكشف عن أنّه من أقدم أئمَّة العلم الَّذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكّر الاستدلاليّ، والإمعان في البحث عن المعارف الإلهيَّة، أو هو أوّلهم (عليه السّلام)"[22].

وربما كان ذلك وارداً لديه على نحو الاستيحاء من مقام النبوَّة الّذي يتحرّك من أجل رفع مستوى الوعي لدى النَّاس، وارتباطهم بالعقل، وإقبالهم على المعرفة الحقَّة فيما يرتبط بقضايا مصيرهم في الوجود، وربما كان التَّوجيه القرآنيّ لذكر هذا النبيّ التّاريخيّ، منطلقاً للاستحياء من موقعه والاستفادة من عناصر شخصيَّته، ولا سيَّما في عنصر الشّخصيّة التّصديقيّة الّتي جعلته صدقاً كلّه، في كلِّ حركته الداخليَّة والخارجيَّة في الحياة.

ولذلك، جاء ذكره في القرآن الكريم في موضعين، أحدهما في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}، وثانيهما في قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[23].

وهكذا كان إدريس ممن أدخله الله في رحمته، واعتبره من الصَّالحين الذين يتجسّد الصّلاح في حياتهم، ويمتدّ إلى حياة الآخرين من خلالهم، كما كان من الّذين أنعم الله عليهم، ممن اجتباهم الله واصطفاهم وهداهم إلى الصِّراط المستقيم، وكانوا من الخاشعين لذكر الله، بحيث إنهم إذا سمعوا آيات الرّحمن تتلى عليهم، خرّوا سجّداً لله، تأكيداً للخضوع المطلق والانسحاق والذّوبان في خشيته، والباكين من خوفه ومحبّته، لأنهم عرفوا الله في مواقع عظمته، فأحبّوه وخضعوا له، وخشعوا بين يديه إخلاصاً لربوبيّته. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  (مريم: 54).

[2]  (النّساء: 125).

[3]  (مريم: 54).

[4]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص 515.

[5]  (الصَّفّ: 2، 3).

[6]  وسائل الشيعة، ج 8، ص 516.

[7]  (مريم: 54).

[8]  (الشعراء: 214).

[9]  (طه: 132).

[10]  (التَّحريم: 6).

[11]  (مريم: 55).

[12]  (النور: 33).

[13]  (مريم: 55).

[14]  (التوبة: 72).

[15]  (المائدة: 119).

[16]  (مريم: 56).

[17]  تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 14، ص 69.

[18]  المصدر نفسه، ج 14، ص 71.

[19]  (مريم: 56).

[20]  معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص 285.

[21]  (مريم: 57).

[22]  تفسير الميزان، ج 14، ص 73.

[23]  (الأنبياء: 85، 86).

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية