تزخر حياة النّبيّ إبراهيم(ع) بالكثير من المحطَّات والمواقف الرساليَّة الصَّلبة والرّاسخة، الَّتي تنوَّعت بين حركته الإيمانيَّة، من خلال التأمّل في الكون، وصراعه مع الوثنيّة والصَّنميّة الَّتي أخذ بها قومه من دون الله، ثمَّ مواجهته لأبيه الَّذي كان على دين قومه، وبعد ذلك، اختبار الله له في ذبح ولده، إلى غير ذلك، ما جعله أبا الأنبياء، وجعل رسالته أمّ الرّسالات السّماويّة.
وفي ما يأتي، بعض ما اهتمّ القرآن الكريم ببيانه حول حياة هذا النّبيّ العظيم.
الرّسالة الأمّ
لقد أكَّد القرآن الكريم ملَّة إبراهيم، وأراد للنّاس من بعده أن يأخذوا بها ويلتزموا بأحكامها، ما يوحي بأنها الرِّسالة الأمّ الَّتي تفرّعت منها الرسالات، والَّتي تتضمَّن القاعدة المنفتحة على وحي الله الممتدّ في حياة الرّسل من حيث المبدأ الأصيل، وقد جاء في سورة البقرة:
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}1، ما يدلّ على أنَّ النِّداء موجَّه إلى الناس كافّةً، من الّذين يرغبون عن ملّة إبراهيم ليستعيضوا عنها بملّةٍ أخرى، كما هو حال اليهود والنَّصارى، لتأكيد الالتزام بهذه الملّة، لأنَّ الرّغبة عنها تدلّ على سفاهة الإنسان، فإبراهيم لم ينطلق من حالةٍ ذاتيَّةٍ في دعوته إلى ملّته، لأنّه الإنسان الّذي اصطفاه الله واختاره في الدّنيا من بين النّاس، ليكون رسولاً له يحمل رسالته ويبلّغها للنّاس، ليهديهم إلى صراطه المستقيم...
إنّها الرسالة المرتكزة على التَّوحيد الخالص لله، والإسلام الشَّامل له، المنفتح على كلّ قيم الروح وخصال الخير واستقامة الخطّ وطهارة القلب وصفاء السَّريرة، والَّتي تلتقي معها كلّ الرسالات الّتي جاءت بعدها في خطوطها العامَّة، لأنّها أصل الرسالات، فكلّ رسالةٍ منفتحة على ملّته، وكلّ نبيٍّ يستوحي منه.
ولعلَّ ما جاء بعد ذلك من قوله تعالى:
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}2، يدلُّ على أنَّ الإسلام المطلق لله، هو القاعدة الّتي ترتكز عليها هذه الملّة وتنطلق منها، باعتبار أنَّ التّوحيد الاستسلامي الّذي يمثّل العبوديّة المطلقة الشّاملة، هو الأساس الّذي يختزن في داخله كلَّ الالتزامات التي أراد الله للنّاس أن يأخذوا بها، لأنَّ القضيَّة هي قضيَّة طاعة الله في أوامره ونواهيه، ممّا يصلح أمرهم ويحقِّق لهم الخير والنّجاح، وهو ما قد تختلف فيه رسالات الأنبياء بين تشريعٍ وتشريعٍ آخر بحسب المصالح والمفاسد المترتّبة على أوضاع النّاس ومفردات أمورهم، الأمر الَّذي يعني امتداد هذه الملّة إلى كلّ رسالة أرسل الله بها هذا النّبيّ أو ذاك.
وقد تتابعت الآيات القرآنيَّة في الدعوة إلى اتّباع ملَّة إبراهيم، كما جاء في قوله تعالى:
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ}، فقد انطلق كلّ فريق من أتباع اليهود والنّصارى إلى تأكيد الانتماء إلى مذهبه، ولكنَّ الله أمرهم باتّباع ملّة إبراهيم حنيفاً:
{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}3. وهكذا جاء التأكيد في قوله تعالى:
{قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}4، وقوله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}5. وقوله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}6. وفي هذا دلالة على أنَّ الملَّة الإسلاميَّة الّتي تمثّل الدّين الّذي جاء به رسول الله(ص)، هي ملّة إبراهيم، وليست منفصلةً عنها. وتلتقي هذه الآية بقوله تعالى:
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}7، وقوله تعالى:
{مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}8.
صفة الحنيفيَّة
أمّا كلمة "حنيفاً"، فقد جاءت في صيغة الجمع في قوله تعالى:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}9. وقوله تعالى:
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ}10، وفي حديثه عن إبراهيم:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}11. وقد فُسِّر الحنف بأنّه الميل عن الضَّلال إلى الاستقامة، والحنيف: هو من أسلم أمره لله ولم يلتوِ، وتحنّف فلان أي تحرّى طريق الاستقامة. وسمّت العرب كلَّ من حجّ أو اختتن حنيفاً، تنبيهاً على أنّه على دين إبراهيم.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ وصف ملّة إبراهيم بالحنيفيَّة، تأكيد لما يمثّله هذا الخطّ من الميل إلى خطِّ الاستقامة العقيديّة والعمليّة على مستوى المنهج الّذي يحتوي كلَّ الخطوط التي تتحرك في ميزان القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة والتوحيديّة، في تجسيدها للإسلام الكلّيّ لله الّذي يؤكِّد التوحيد لله في الألوهيّة والعبادة والطّاعة، وفي انفتاحها على الإحسان في الالتزام بطاعة الله في حركة الخير للنّاس، وهذا ما توحي به الآية الكريمة:
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ}12، وهذا الخطّ هو الّذي جاء به محمّد رسول الله(ص):
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}13.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ الحنيفيَّة لا تقتصر على بعض الأعمال الخاصَّة مما أفاض به المفسِّرون، بل إنّها تتّسع لتشمل كلَّ النّهج الإيمانيّ والقيم الكبرى، مما كان يتَّسع ويضيق تبعاً للمرحلة الّتي يكلّف الله به عباده، في عمليَّة الارتباط به، والالتزام بوحدانيَّته، ونفي الشّركاء عنه.
خليل الله
ومن خصائص النّبيّ إبراهيم(ع)، ما تحدَّث الله عنه في قوله تعالى:
{وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}14. والخليل: هو الصَّديق المخلص، وقد منحه الله هذه المكرمة تكريماً لتضحيته وإخلاصه وفنائه في ذات الله. وقد جاء عن الإمام عليّ بن موسى الرضا(ع) قال: "سمعت أبي(ع) يحدِّث عن أبيه(ع) أنّه قال: إنَّما اتّخذ الله إبراهيم خليلاً لأنّه لم يردّ أحداً، ولم يسأل أحداً قطّ غير الله عزّ وجلّ"15.
وقد نستوحي ذلك من استجابته لله عندما دعاه إلى الإسلام له، وذلك قوله تعالى:
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}16، ولم يكتفِ بذلك، بل إنّه أوصى بها جميع بنيه، وامتدَّ بها في الحياة كلِّها، بحيث كان الإسلام دعوته الخالصة الشَّاملة التي اعتبرها عنواناً لرسالته ولمن يأتي من الأجيال من بعده، فلا علاقة له بغير الله، ولا استغراق له في ذاته، ولا انفتاح له على أحدٍ في الخضوع والطّاعة، الأمر الَّذي تميَّز به من بين أولياء الله ورسله. وتلك هي العلاقة التي يخصّ الله بها عباده المخلصين، ممن يعيشون الإسلام في عمق روحهم وحياتهم، فيرتفع بهم إلى تلك الدَّرجة العالية.
والله الغنيّ عن كلّ عباده، ليس بحاجةٍ إلى خليلٍ يرتبط به ويملك صداقته، ولكنَّ هذه الخِلّة من الله لإبراهيم، كانت تكرمةً منه له، لأنّه ذاب فيه وباع نفسه له، ولم يكن له من ذاته شيء لذاته، فتقبَّل الله منه هذا المستوى من الإخلاص الكلّيّ ومن الصَّداقة الرّوحيَّة، فاتّخذه خليلاً. وبذلك تحوَّل إبراهيم(ع) إلى واجهة رساليَّة للرّسل كلّهم وللرّسالات كلّها.
الباحث عن الحقيقة
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}17.
وهذه قصَّة من قصص الحوار القرآنيّ الَّتي تطلّ بنا على حياة النَّبيّ إبراهيم(ع) في علاقته مع الله، وتبرز لنا جانباً من شخصيَّته النَّبويَّة، وهو جانب الباحث عن الحقيقة بأسلوب الحوار، سواء كان ذلك من خلال ما يثيره مع نفسه في تصوير العقيدة حول ذات الخالق، أو الَّذي كان يثيره مع النَّاس في تحطيم عقيدة الشّرك في عبادة الأصنام في نفوسهم، أو الّذي كان يثيره مع ربّه في مناجاته له.
وقد سأل ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى، فقد كان يريد أن يشاهد عمليَّة الإحياء على الطَّبيعة، وكان الجواب سؤالاً تقريريّاً:
{أَوَلَمْ تُؤْمِن}، فإنَّ مثل هذا السّؤال قد يصدر في صورته هذه عن غير المؤمن، فكيف يصدر عن إبراهيم(ع)، الَّذي جاء من أجل أن يقود النّاس إلى الإيمان؟
فكان جواب إبراهيم بتأكيد إيمانه، وأنَّ السّؤال لم يكن منطلقاً من حال شكّ، بل من أجل الحصول على حال الاطمئنان القلبيّ الَّذي يتحرّك في مواقع الحسّ في الحياة، لتحصيل المعرفة الحسّيّة إلى جانب المعرفة العقليّة، بما لا يحصل من خلال القناعة الفكريّة التي تعتمد على المعادلات العقليَّة الّتي تصنع للإنسان إيمانه، ولكنَّها لا تمنع الهواجس الذاتيَّة، كالخيال الَّذي يتحرك في النّفس في نطاق الأوهام الطارئة، مما لم يكن يحصل لإبراهيم الَّذي كان ممتلئاً إيماناً، ولم يكن لديه حاجة إلى زيادة في الإيمان، ولكنَّه كان يبحث عن معرفة خاصَّة غير عاديّة إلى جانب معرفته الذّاتيَّة.
ولهذا، كانت الرّغبة في المشاهدة من أجل تذويب كلِّ ما قد يخطر في البال مما يشبه الأوهام. واستجاب الله لرغبته من خلال محبَّته له وتنمية معرفته بالحقيقة، فطلب منه أن يواجه التّجربة بنفسه، وذلك بأن يأخذ أربعةً من الطّير، فيضمهنَّ إليه، ثم يقطّعهن ويجزّئهن ويفرّق أجزاءهنّ على الجبال المحيطة به، ثم يدعوهنّ فيأتين ساعياتٍ مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن ـ على اختلاف التّفسير لكلمة "سعياً" ـ .
إشكال وردّ
وقد أثار المفسّرون حديثاً طويلاً حول ما يمثّله سؤال إبراهيم للحصول على الاطمئنان القلبيّ، من حيث إنَّ ذلك لا يتناسب مع مقامه النبوي الَّذي ينطلق في رسالته من أجل تحصيل الطَّمأنينة للآخرين لا لنفسه. وأجاب بعضهم عن هذا الإشكال بأنَّ السؤال هو عن كيفيَّة حصول الإحياء، دون مشاهدة حثيثة لكيفيَّة الإحياء، فكأنَّ إبراهيم طلب بذلك المعرفة التّجريديّة بكيفيّة الإحياء، تماماً كما يقول القائل: كيف يُصنَع الحبر؟ فتقول: خذ كذا وكذا تصر حبراً...
ولكنَّنا نقول إنَّ ظاهر الآية يدلّ على أنَّ طلب إبراهيم(ع) كان المشاهدة الحسيّة لكيفيَّة الإحياء، وهو ما توحي به كلمة "أرني"، ما يدلّ على أنَّ السّؤال هو عن كيفيَّة الإحياء.
ولعلَّ ما يقوله هؤلاء المفسِّرون، يختزن استبعاداً للغيب عن ساحة الأنبياء، وهذا أمرٌ نرفضه، لأنّه يدفعنا إلى التحفّظ تجاه الغيب كمبدأ. ونحن نتساءل: ما هو المانع من أن يبعث الله الحياة في هذه الطّيور المقطَّعة بقدرته بمجرّد دعوة إبراهيم؟ ونحن لا نجد لهؤلاء دليلاً على تعزيز مثل هذا الاتجاه السّلبيّ في حمل اللّفظ على خلاف ظاهره.
وأمّا جوابنا عن أصل الإشكال، فهو يرتكز على أنَّ الاطمئنان يمثِّل سكون القلب وهدوء الإحساس، بحيث لا يعيش أيَّ خاطر مضادّ، ولو في جولة الأوهام، ما يفرض أن تكون مصادره واضحةً للحسّ أو ما يقرب من الحسّ، وهذا لا يُعتبر منافياً للإيمان، لأنّه قد يكون من قبيل ضمّ المعرفة الحسيَّة إلى المعرفة العقليَّة.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة
1 [البقرة: 130].
2 [البقرة: 130]
3 [البقرة: 135].
4 [آل عمران: 95].
5 [النساء: 135].
6 [النساء: 125].
7 [النّحل: 123].
8 [الحجّ: 78].
9 [البينة: 5].
10 [الحج: 30، 31].
11 [آل عمران: 67].
12 [النساء: 125].
13 [الأنعام: 161].
14 [النساء: 125].
15 بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 12، ص 4.
16 [البقرة: 131].
17 [البقرة: 260].