كانت مهمّة النّبيّ إبراهيم(ع) الجديدة، بعد التّجربة الصَّعبة الَّتي خاضها مع قومه في مواجهة الصَّنميّة الَّتي يعيشونها، هي أن يؤسّس أوّل بيت للعبادة في المنطقة، وفق الأسس الَّتي تجذب النّاس إلى الإقبال عليه والتعبّد في ساحته، من خلال ما ينفتح فيه الإنسان على الله في فروض العبادة، بالركوع والسّجود والابتهال إلى الله، وقد بدأ العمل فيه مستعيناً بولده إسماعيل في عمليّة البناء بشكل مباشر.
ونستوحي من أكثر من آية، أنَّ الله هو الَّذي أوحى إلى نبيّه إبراهيم(ع) بذلك، لأنّ الله أراد قيام الكعبة في هذه المنطقة الجرداء، لتكون البيت العالميّ الّذي كلّف النّاس أن يحجّوا إليه ويقصدوه من أقاصي الأرض، وهكذا كانت البداية.
أوّل مسجد عالميّ
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، فكانا يقيمان الأسس ويرفعان البناء، في روحيَّة عباديَّة تتجاوز الجانب المادّيّ إلى الجانب الروحيّ، فقد كانا يمارسان دورهما في تشييد البيت الحرام في حالة تعبّدية، كما لو كانا يصلّيان لله في ذلك، ويطلبان من الله أن يتقبّل منهما عملهما فيما يقومان به، تماماً كالمؤمن الّذي يصلّي لربّه راجياً القبول.
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}، فنحن نستجيب لك فيما أوحيت به إلينا، وفيما ألهمتنا القيام به، امتثالاً لأمرك وطاعةً لك،
{إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}1، فأنت تسمع ابتهالاتنا وتسابيحنا ودعواتنا، وتعلم ما تختزنه ضمائرنا في توحيدك والإخلاص لك، وإيجاد الوسائل الّتي تجذب النّاس إلى الانفتاح عليك في عملهم العباديّ الخالص لك.
وربما نستفيد من قوله تعالى:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}2، أنّ هذا البيت الحرام، هو المسجد الأوَّل الّذي لم يسبقه مسجد آخر قبل بناء إبراهيم وإسماعيل له، بأمر من الله، وأنّه المسجد العالميّ الّذي تعبّد الله النّاس كلّهم بالحجّ إليه والطّواف به والتّعبّد فيه.
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} في امتداد حياتنا، بحيث نتمثّل الإسلام في أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقفنا في مستقبل حياتنا، كما كنّا في الماضي والحاضر، وذلك لأنَّ الإسلام لا يمثّل حالة واحدة في واقع الإنسان، بل هو حالة متحركة في كلّ أوضاعه، انطلاقاً من القاعدة الّتي ارتكزت عليها جذور الإنسان العقيديَّة والروحيَّة، الأمر الَّذي يشير أيضاً إلى أنَّ إبراهيم وإسماعيل كانا مسلمَيْن منذ البداية.
{وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}، لأنّ ما نفكّر فيه وندعو إليه في التزامنا بالإسلام التّوحيديّ، هو أن يمتدّ ذلك في ذريّاتنا من خلال التّربية الواسعة العميقة، والمراقبة الواعية لهم في البيئة الَّتي يتحركون في داخلها، ليكون الانتماء الإسلاميّ متحركاً في أجيالنا المستقبلية جيلاً بعد جيل، لأنّه ليس من الطّبيعيّ أن نحمل الإسلام رسالةً للناس كافّة، ثم ينحرف بعض أبنائنا عن السّير في خطّه المستقيم، فنحن مسؤولون عن الاهتمام بهذه المسألة في المستقبل الَّذي نملك الانفتاح عليه، كما كنّا مسؤولين عن ذلك في الماضي الَّذي عشناه.
{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}، لنتعلَّم من وحيك الَّذي توحي به إلينا في تعاليمك الشّرعيَّة، تفاصيل حجّنا وعبادتنا، حتى نملك وضوح الرؤية للمسؤوليّات الملقاة على عاتقنا في مواقع طاعتك الَّتي نحصل فيها على مواقع القرب إليك،
{وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}3، بما تعنيه التّوبة في الجانب الروحيّ من الحصول على رضاك والاندماج في الإحساس بعظمتك، حتى وإن لم نرتكب ذنباً، بل انسجاماً في ذلك مع كلّ ما يرضيك، وذلك من خلال ما تختزنه التّوبة من الإحساس العميق بخضوعنا لك، وخشوعنا بين يديك.
همّ المستقبل الرّساليّ
ثم ينطلق بعد ذلك دعاؤهما في اتجاه المجتمع المستقبليّ الّذي سوف يحيط بالبيت الحرام، ويحجّ إليه، ويقصد السّكنى والاستقرار في رحابه، بأن يرسل الله إليهم رسولاً من داخلهم، يفهمهم ويفهمونه، وتلتقي عقولهم مع عقله في أسلوب الدَّعوة إلى الله:
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ}، الّتي توحي إليهم بكلّ الشّرائع والمفاهيم والأفكار والمناهج والأهداف.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}، الَّذي يمثّل خطّ النظرية العام في المنهج الرساليّ للإنسان والحياة،
{وَالْحِكْمَةَ}، الّتي تمثّل حركة التّطبيق العمليّ للنظرية، فيضعون الأشياء في مواضعها، ويتحركون بها في مسارها الطّبيعيّ،
{وَيُزَكِّيهِمْ}، بما تمثّله التزكية من تصفية النّفوس وتطهيرها من الشّرك، ومن كلّ القذارات الروحيّة والأخلاقيّة التي تشوّه إنسانيّتهم، وتربك خطواتهم، وتبتعد بهم عن التصوّر والسّلوك السّليم،
{إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}4، الّذي لا ينتقص أحد من عزّته، والّذي لا يبتعد عن مواقع الحكمة، فقد جعل لكلِّ شيءٍ قدراً، ووضع كلّ شيء في موضعه، انطلاقاً مما يصلح الحياة والإنسان، ويجنّبهما المفاسد في كلّ حركة الواقع.
ويمنح الله البيت الحرام خصوصيّة لا تتوفّر لغيره:
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ}، ومقصداً لهم، بحيث يحجّون إليه من كلّ مكان، لما جعله له من القداسة الروحيَّة في انفتاحهم عليه، باعتباره مركزاً للعبادة، وموضعاً للّقاء بين المؤمنين، في عمليَّة تواصل وتعارف وتعاون. وربما كان المراد من كلمة
{مَثَابَةً لِّلنَّاسِ}، أنه المكان الذي يقصده المؤمنون ليحصلوا على الثواب من خلال الحجّ إليه والعبادة فيه،
{وَأَمْناً}5، أي يأمن فيه الناس على أنفسهم، فلا يعتدي عليهم أحد في اضطهاد أو جرح أو قتل، فقد أراده الله ساحةً للسّلام يملك فيها الإنسان حريّة الحركة، بعيداً عن أيّ اعتداء من أيّ أحد.
وقد تحوّل في وجدان النّاس إلى موقع للأمن، حتى إنَّ الإنسان يرى قاتل أبيه في ساحته، فلا يعرض له بسوء، وهذا ما تحدّث الله عنه في قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}6.
تطهير البيت من الشّرك
وقد كرّم الله إبراهيم(ع) فيما قام به من جهد عمليّ في بناء البيت، وبما اختزنه ذلك من روحيّة عالية، فأراد للناس أن يتَّخذوا مقامه الَّذي كان يقيم فيه مصلّى لهم:
{وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، يؤدّون فيه ركعتي الطَّواف بعد الطَّواف، ليتذكّروا هذا النّبي العظيم الّذي أعطى كلّ حياته لله، عندما أسلم نفسه له، فلم يبقَ لنفسه ولا لغيره شيء من نفسه، بل كان بكلّ ذاته لربّه.
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ}، من كلّ ما يمسّ معنى العبادة لله مما يرتبط بالشّرك، كالأصنام، ليكون الله وحده هو الَّذي يتوجّه النّاس إليه بالعبادة، وليتطهّروا في هذا البيت من كلّ القذارات العباديّة في عبادة غيره، ومن كلّ القذارات الروحيّة الّتي قد يمارسها الناس في تقاليدهم وعاداتهم، بعيداً عن الله، لأنَّ المطلوب هو أن يكون انفتاحهم الروحيّ على الله وحده...
{لِلطَّائِفِينَ}، الّذين يجدون في الطّواف به والتحرّك فيه معنىً يتجاوز المعنى المادّي إلى المعنى الروحيّ، الّذي يرتفعون فيه في تسابيحهم وابتهالاتهم، فكأنَّهم يطوفون برحمة الله، ويتطلَّعون إلى مواقع القرب منه،
{وَالْعَاكِفِينَ}، الّذين يتعبّدون الله بعبادة الاعتكاف داخل المسجد،
{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}7، الّذين يعبّرون عن عبوديّتهم لله بالخضوع الجسديّ الحركيّ في صورة الانحناء أمامه بما يمثّله الركوع، أو في الانسحاق الكلّي بين يديه بما يمثّله السّجود، بحيث يشعر السّاجد بأنّ كلّ كيانه يسجد لربّه، ولا يقتصر على الصّورة الّتي تتمثَّل بإلصاق الجبهة على الأرض.
ساحة الانفتاح على الله
ويعود إبراهيم في ابتهالاته إلى الله، ليطلب منه أن يعبّئ الناس الَّذين يسكنون حول البيت، والذين يقصدونه، بالشّعور المسؤول بالسّلام الَّذي تفرضه قداسة البيت، بحيث يحافظون عليه في سلوكهم على مستوى علاقاتهم المتنوّعة، بعيداً عن الحساسيّات الَّتي عاشوها وورثوها واختزنوها في أنفسهم، ليكون بلد الأمن الّذي يطمئن الناس إليه في إقامتهم فيه أو قصدهم إليه.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً}، يأمن فيه النّاس على حياتهم وعيشهم،
{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}، الّتي تشبع جوعهم، وتكسو عريهم، وتحقّق حاجاتهم، ليستريحوا إلى الإقامة فيه، فلا يشكو أحدٌ منهم من فقر أو جوع أو حرمان،
{مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، لأنَّ النّبيّ إبراهيم(ع) أراد لهذا البلد الّذي بنى المسجد فيه، أن يكون بلد العبادة، وبيت الإيمان، وساحة الانفتاح على الله، فليس لغير المؤمنين أيّ دور فيه، لأنَّهم بعيدون عن رحمة الله، لبعدهم عن الإيمان به.
وقد استجاب الله دعاءه، وأكَّد له أنّ الرزق الَّذي يفيض به على المؤمنين، قد يشمل الكافرين الّذين قد يمتّعهم قليلاً من خلال حكمته الّتي تشمل النّاس جميعاً،
{قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}، في حاجاته المادّية والمعنويّة، لأنّ الدّنيا ليست هي الأساس في قرب الناس وبُعدهم في مسألة الإعطاء والمنع، بل إنَّ الدار الآخرة هي الّتي يثيب الله فيها عباده المؤمنين الصّالحين، ويعاقب الكافرين المتمرّدين الّذين لن يجدوا فيها من الخير ما وجدوه في الدّنيا، فمن كفر ورزقه الله من الثّمرات في الدّنيا، فسوف يواجه الآخرة بطريقة أخرى،
{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}8، من خلال سخط الله عليه وغضبه منه.
توحيد الله في العبادة
وقد حدّد الله لإبراهيم مكان البيت، ليقوم بتشييده على أساس الإيمان التوحيديّ والالتزام بالربوبيّة المطلقة، هذا إلى جانب تطهيره من كلّ ما يبتعد عن معنى العبادة الخالصة،
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}9 له. ونلاحظ أنّ الله يوحي إلى إبراهيم في هذه الآية ـ كما فيما سبقها من الآيات ـ ببناء البيت على أساس التّوحيد، والابتعاد عن الشّرك في العبادة، ليكون في موقع الطّهارة الروحيّة لا في موقع القذارة، وليكون بناء أيّ موقع من مواقع العبادة، مرتكزاً على أساس التّوحيد في القيم الروحيّة، بحيث لا يشعر الدّاخل إلى هذا البيت بأنّه يمارس العبادة ممارسةً عاديةً، بل يكون في قيامه وركوعه وسجوده وطوافه ملتزماً بكلّ قيم التوحيد في عبادته.
ويلتفت إبراهيم إلى المجتمعات الوثنيّة الّتي نشأ فيها وعاش الصّراع مع أهلها، بمن فيهم أهله القريبون، وإلى المنطقة الّتي تحيط بالبلد الحرام والبيت الحرام، ويبتهل إلى الله ـ من جديد ـ أن يجعل هذا البلد بلد الأمن والسّلام، ليعيش الناس فيه في راحة واطمئنان، بعيداً عن أية حالة سلبيّة أو عدوانيّة:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً}. ثم يدعو الله إلى أن يبقى في جذوره الفكريّة الذاتيّة موحّداً، وأن يجنّبه ويجنّب أولاده عبادة الأصنام، تأكيداً للاستمرار في إسلامه لله، وتوحيده له في الألوهيّة، ورفضه للشّرك كلّه، لا خوفاً من طروء الانحراف العقيديّ على ذاته، بل للتَّدليل على عمق إخلاصه للمبدأ التّوحيديّ، ورفضه لأيّ حالة مضادّة.
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}10، مؤكّداً في ذلك خطر هذه الأصنام في وجودها الاجتماعيّ على حياة الناس البسطاء، من خلال اعتقادهم بها، وجعلها في موقع الربوبيَّة أو القريب من الربّ في أسرارها الخفية...
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}11، إذ فاضت رحمتك ومغفرتك عليهم بهدايتهم إلى الطريق المستقيم في نهاية المطاف.
فرض الحجّ على المسلمين
وقد انتهت مهمّة إبراهيم في بناء البيت وتشييد البلد من حوله، وأراد السّفر إلى مكان آخر ليقوم بمهمة الدّعوة، فأسكن بعض أهله هناك،
{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}، من دون أن أوفّر لهم حاجاتهم الغذائيّة، لأني أريد أن يكون ذلك دافعاً للآخرين للقدوم إلى هذا البلد، والاقتداء بهم في الإخلاص لك في العبادة، وقد تركتهم لرحمتك التي تفيض على العباد بالخير،
{رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}12، عندما ينفتحون على نعمك، ويعيشون في ظلّ رحمتك.
ولم يكن البيت الحرام مجرّد مسجد محدود في مهمّاته المحليّة، ولكنّه كان ـ كما أراده الله ـ مسجداً للعالم كلّه، بحيث تشدّ الرّحال إليه بالحجّ، لكلّ من يستطيع الحجّ والقيام بفرائضه، وذلك في نداء الله لإبراهيم بأن يقوم بالدّعوة إليه، وذلك هو قوله تعالى:
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}13. وقوله تعالى:
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}14.
وبذلك، أكّد الله فريضة الحجّ على كلّ مستطيع:
{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}15. وهكذا استكمل النّبي إبراهيم(ع) رسالته في بناء البيت والدَّعوة إلى الحجّ، وحقّق الممارسة التّوحيديّة، لتبقى مسؤوليَّة الناس في كلّ زمان ومكان، وهذا ما منحه الميزة الروحيّة الشاملة في أداء رسالته في تنوّع مواقعها، وفي حركتها في مدى التّاريخ إلى قيام الساعة.
دعاء إبراهيم لأبيه!
وفي ختام الحديث، نلتقي بما ذكره الله من دعاء النّبيّ إبراهيم:
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}16. وجاء في تفسير الميزان، قال: وفي الآية دليل على أنّه(ع) لم يكن ولد آزر المشرك، فإنّه ـ كما ترى ـ يستغفر لوالديه، وهو على الكِبَر وفي آخر عهده. وقد تبرّأ من آزر في أوائل عهده بعدما استغفر له عن موعدة وعدها إياه في قوله تعالى:
{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}17.
وفي ضوء ذلك، فقد ذهب إلى أنَّ آزر هو عمّه، وليس أباه، ولكن الظاهر أنّ كلمة العمّ بأفراده لا تطلق على الأب، ولا سيّما أنّ القرآن قد ذكر اسمه بصراحة، فكيف نفسّر استغفاره له؟
ويمكن الجواب عنه، أنه قد آمن في آخر أيامه، وابتعد عن الالتزام بالشّرك، بحيث تكون هذه دلالة الآية، وربما كان الاستغفار على أساس الإحساس بالرحمة لوالديه، لأنّه لم يكن بهذه المثابة من الابتعاد عن الله، ولكنَّ قوله تعالى:
{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}18، لا يتناسب معه. والله العالم. والحمد للّه ربّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
1 [البقرة: 127].
2 [آل عمران: 96].
3 [البقرة: 128].
4 [البقرة: 129].
5 [البقرة: 125].
6 [العنكبوت: 67].
7 [البقرة: 125].
8 [البقرة: 126].
9 [الحج: 26].
10 [إبراهيم: 35].
11 [إبراهيم: 36].
12 [إبراهيم: 37].
13 [الحج: 27 ـ 29].
14 [الحج: 33].
15 [آل عمران: 97].
16 [إبراهيم: 41].
17 [الشعراء: 86].
18 [التوبة: 114].