كان إبراهيم مسلماً بكلِّ ذاته، فقد أسلم وجوده الحركيَّ لله في كلِّ أموره، لأنَّ طبيعة العبوديَّة المطلقة لله، إذا تجسَّدت في الإنسان، فلا يبقى له شيءٌ لنفسه مما تدعوه إليه في أموره الخاصَّة الّتي تنطلق من ذاتيَّة غرائزه، ولا يبقى للآخرين أيُّ موقعٍ في حياته مما يفرضونه عليه أو يطلبونه منه، وهذا هو الَّذي عبَّر عنه الله في كتابه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}. وربّما كان القول من الله وحياً أو إلهاماً، وربما كان فكراً وشعوراً وإحساساً يتحسَّسه من داخل روحيَّته الذاتيَّة وفكره الإيمانيّ، بأنَّ الله يريد منه أن يسلم أمره إليه، فلا تكون له كلمة أمام كلمته، ولا خطٌّ غير خطِّه، ولا قضاء إلا قضاءه، ولا منهج إلا منهجه، فذلك من وحي الإيمان الصَّافي النّقيّ، والعقل المنفتح على الحقيقة الّذي يسمع من خلاله أوامر الله ونواهيه ووحيه إليه. وقد عُبّر عن العقل في بعض الكلمات بالرَّسول الباطنيّ.
إبراهيم يعيش عمق الإيمان
وكانت استجابة إبراهيم لوحي ربّه سريعة، حيث التزم بالإسلام بشكلٍ مطلق: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[1]، فعاش الإسلام لله بكلِّ عمق الإيمان، واستقامة الطّريق، ووضوح المنهج، وصفاء الشّعور، وانفتاح الرّوح. ولم يكن إسلامه إسلام الكلمة المنطلقة من اللّسان، البعيدة عن القلب، أو إسلام الرّغبة والرّهبة من دون اقتناع، أو إسلام الشَّكل من غير مضمون، فذلك هو الإسلام الّذي لا يعيش حركة الوجود في الذّات، بل هو الصّورة في الظّاهر، لا الحقيقة في الباطن. ولكنَّ إسلام إبراهيم(ع) كان الإسلام الكلّيّ، لأنَّ الله يريد من الإنسان أن يُخلص له بكلِّه، ويستغرق في عبوديّته له، كي لا يبقى لأحدٍ منه شيء حتى لنفسه، ليكون محياه ومماته له.
وقد سبقت هذه الآية آيةٌ أخرى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}، وربما كان المراد بهذا الاصطفاء، اختياره نبيّاً، ورسولاً، وإماماً، وداعياً إلى الله وإلى الحقِّ من بين النّاس كلّهم، ذلك لتميّزه عنهم بعقله وروحه واستقامته وإخلاصه لله، وهكذا أراد الله له أن يملك الموقع القويَّ المميَّز، الّذي يملك زمام الأمور في مسؤوليَّته الشَّاملة في الحياة، ليكون رسول الله إلى الإنسان، ليخرجه من الظّلمات إلى النّور، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}[2]، فهو في هذه الزّمرة الطيّبة الطّاهرة التي انطلقت في الدّنيا لتجسِّد الصَّلاح في روحيَّتها وتفكيرها وسلوكها واستقامتها على خطِّ الله. وكان إبراهيم(ع) قد تمنّى أن يلحقه الله بهؤلاء لينال الدَّرجة العليا التي نالوها، وليعيش القرب إلى الله الَّذي عاشوه، وليبلغ النَّعيم الّذي بلغوه. وهذا هو التَّعبير الكنائي عن صلاحه في الدّنيا، الّذي يجعله من الصَّالحين في الآخرة، وقد ارتفع في هذه الدَّرجة، حتى اتخذه الله خليلاً.
وهناك سؤال: هل كان الاصطفاء قد تمَّ بعد أن أمره الله بأن يُسلم، باعتبار أنَّ كلمة "إذ" هي في موضع نصب اصطفينا؟
قد يكون الأمر كذلك على أساس الجانب التّعبيريّ، ولكنَّ ذلك ليس ضروريّاً، فربما كانت المسألة منطلقةً من الإشارة إلى أنَّ سبب هذا الاصطفاء هو إخلاصه لله في إسلامه المطلق له، لأنَّ الله يختار لرسالته الإنسان الَّذي يعيش عمق الصَّفاء الرّوحيّ الّذي يؤهِّله لاحتضان روح الرِّسالة بفكره وكلِّ كيانه.
وربما كان ذلك بدايةً للحديث عن حركته الرّساليَّة التي ابتدأت من إحساسه الذّاتي لتمتدَّ في بنيه، ما يوحي بأنّه استطاع أن يجذِّرها في الجيل الّذي جاء بعده، من خلال تجذّرها في مهمَّته الرّساليَّة.
وصيَّة الإسلام
ولم يقتصر على نفسه في إسلامه هذا، بل وصَّى به بنيه، لأنَّ الإسلام هو الّذي اصطفاه الله للنَّاس، فلا بدَّ لهم من أن يحيوا بالإسلام ويموتوا وهم يحملون كلمته. وحملها يعقوب ـ حفيد إبراهيم ـ وصيَّةً يختم بها حياته، فلم يقف في اللّحظات الأخيرة ليتحدَّث عن شؤونه الحياتيّة فيما يخلفه من إرثٍ ماليّ، كما يتحدَّث النَّاس إلى ورثتهم في ذلك عندما يفكِّرون في الوصيَّة إليهم، بل وقف ليطمئنَّ إلى انسجامهم مع الخطِّ العباديّ التَّوحيديّ في إسلامهم لله، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}، فقد انطلقت هذه التَّجربة في حياة الجدّ في حديثه مع بنيه، وفي حياة الحفيد في وصيَّته لأولاده، في دلالة على الأهميَّة الرّوحيَّة للرّسالة، والّتي لم يكتفيا بالجهاد في سبيلها في حياتيهما، بل انطلقا ليدفعا بها للاستمرار في الجيل الجديد بعد وفاتهما، لأنَّ الوصيَّة تعبّر في مضمونها عن القلق النّفسي الّذي يشعر به الإنسان تجاه ما أوصى به ومن أوصى له.
{يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}، أي اختار الدِّين لكم منهجاً للنّجاة في الحياة، ووسيلةً للسّعادة في الآخرة، من خلال برامجه الّتي تكفل لكم العيش الرّغيد والسّلامة المريحة، ومن خلال انفتاحه على معرفة الله وطاعته للوصول إلى رضوانه، وذلك من خلال قاعدة واحدة، وهي إسلام القلب والوجه والحياة كلِّها لله، ليلتقي الإسلام بمعنى العبوديّة الحقّة الخاضعة للألوهيّة المطلقة، فليكن هذا الدّين ـ الإسلام ـ هو الخطّ المستقيم الّذي تتحركون فيه في حياتكم كلّها، فلا تنحرفوا عنه أو تتركوه إلى غيره، مهما اشتدَّت الضّغوط واهتزّت الأرض تحت أقدامكم، وتنوَّعت الإغراءات حتى نهاية حياتكم، {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[3]، لتلتقوا بالله على خطِّ الإسلام عندما يقوم الناس لربِّ العالمين.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}، واجتمع إليه بنوه الإثنا عشر، وهم الأسباط، {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ}، سائلاً سؤال الإنسان الَّذي يبدي لهم رغبته الأخيرة في أن يسلكوا مستقبلاً الخطَّ الّذي بدأه إبراهيم في إسلام الرّوح لله، وحمله كمسوؤليَّةٍ رساليَّةٍ يبلّغه للنّاس، {مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي}؟ هل تتراجعون عن هذا الخطِّ المستقيم لتتبعوا مجتمعاتكم الوثنيَّة، أو تستمرّون في السّير عليه، لتنسجموا مع خطِّ آبائكم وأجدادكم من الرسل؟
فكان الجواب الّذي يبعث الاطمئنان في نفسه، ليموت وهو قرير العين مطمئنّ النفس باستمرار الخطّ الرساليّ في التوحيد الخالص لله من بنيه من بعده: {قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً}، فلن نشرك بعبادته غيره، ولن نؤمن بإلهٍ سواه، فهي العبادة الخالصة لله الواحد الأحد، الَّتي تجعل الحياة كلَّها في نطاق الإسلام، ليكون الإسلام هو الطّابع الذي يطبع شخصيَّتهم في كلّ مجالاتهم الفكريّة والعمليّة. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[4]، في الأقوال والأفعال والعلاقات والمواقف، وفي كلِّ مجالات الحياة العامَّة والخاصَّة.
الإسلام عنوان الرّسالات
وامتدَّت كلمة الإسلام لتكون عنواناً للدِّين، الّذي أرسل الله به النّبيّ محمّداً(ص)، وذلك في قوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}[5]، فقد انطلقت شرائع الأنبياء بعد إبراهيم(ع) من القاعدة العامَّة الّتي أكّدها في مبادئ شريعته العامَّة، بحيث كانت الرّسالات اللاحقة بمثابة التَّفاصيل المتنوِّعة لتلك المبادئ، وهو أوَّل من أسلم لله بالإعلان الكلّي الّذي انطلق من عقله وروحه، وتحرّك في كلِّ مواقفه.
وقد أكَّد القرآن صفة الإسلام للنّبيّ إبراهيم(ع)، ردّاً على اليهود والنّصارى في نسبتهم إبراهيم إليهم، وذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[6]، وقوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[7].
ونستوحي من ذلك، أنَّ الحنيفيَّة المنفتحة على الإسلام التّوحيدي، هي الملّة التي لا بدَّ لمن يؤمن به، من أن ينتمي إليها، وأنَّ أقرب النّاس إليه هم الّذين اتّبعوه في عمليّة الانتماء العقيديّ التوحيديّ، وفي مقدّمهم النبيّ محمّد(ص) وأتباعه، وذلك هو قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[8]. وقد انطلق هذا الانتماء في إيمان المؤمنين واتّصافهم بصفة المسلمين، والتزامهم بالإسلام وإيمانهم بالرّسل كلِّهم، لأنَّ ذلك هو الّذي يؤصِّل هذه الصّفة، لأنَّ الرّسل يمثِّلون الإسلام لله في رسالتهم وفي حركة الدَّعوة إلى الله.
وهذه هي العقيدة الّتي أريد للمسلمين أن يؤمنوا بها ويلتزموها، وذلك هو قوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[9].
وهكذا نجد الإسلام متمثِّلاً بالإيمان بكلِّ الرّسل والرِّسالات، انطلاقاً من وحي الله: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[10]، وقال النّبيّ والمؤمنون معه في جدالهم مع أهل الكتاب: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[11]. وفي ختام جدالهم معهم، يقول لهم الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[12].
وقد أراد الله في وحيه للنّبيّ محمّد(ص)، أن يكون الالتزام بالإسلام الّذي تمثّله ملّة إبراهيم، التزاماً شموليّاً، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[13].
ويؤكِّد نوح(ع) الأمر الإلهيّ، بأن يكون في دعوته المسلم الّذي يريد للنّاس أن يقتدوا به، وذلك قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[14]. وتتمثّل الكلمة الآمرة في قوله تعالى عن النّبيّ محمّد(ص)، أن يكون المسلم في حركة الدّعوة، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[15]، وأن يكون المسلم الأوّل: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}[16].
وتنطلق الدَّعوة من الله إلى الإنسان بأن لا يموت إلا وهو من المسلمين، وذلك في عدّة مواقع من القرآن، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[17]، وقوله تعالى ـ على لسان السَّحرة الّذين توعَّدهم فرعون بالعذاب لما آمنوا ـ {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}[18]. وقوله تعالى في دعاء يوسف: {أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[19].
وهكذا انطلقت هذه الصِّفة الّتي تمثِّل عنواناً للدِّين كلِّه، باعتبار أنَّها تلخِّص كلَّ القاعدة الّتي يرتكز عليها، وكلَّ التّفاصيل المتنوّعة الّتي تنطلق منه، وهذا ما أراد الله أن يختصره في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ}[20]، وقوله تعالى: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ}[21]، وقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[22]. وهكذا كان الإسلام الدّين الواسع الّذي انطلقت به الأديان كلّها، وكان النّبيّ إبراهيم(ع) هو من أعطى دعوته هذا العنوان الكبير، وأراد لأبنائه أن يلتزموا به، ليكون امتداداً في كلِّ الواقع الَّذي يعيشون فيه، وليكونوا القدوة لكلِّ النّاس في الإيمان به.
الامتحان الصَّعب
وقد عاش النّبيّ إبراهيم(ع) تجربة الإسلام في أشدِّ التّجارب صعوبةً، كما عاشها ولده إسماعيل أيضاً، وهذا ما فصَّله القرآن في هذا الفصل من الآيات في سورة الصّافات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[23]، فقد عزم على الهجرة من بلده "أور" الكلدانيَّة، وهي تقع الآن في الناصريّة في العراق، إلى بلاد الشَّام، ليتفرَّغ لعبادة ربّه، وليبدأ تجربةً جديدةً من تجارب الدَّعوة في موقعٍ جديدٍ يكتشف فيه ساحةً مميّزةً يملك فيها حريّة الحركة لما يريد أن يقوله ويفعله.
وهناك تزوَّج واستقرّ به المقام، فطلب من الله أن يرزقه ولداً صالحاً، حيث كان يتوجَّه بحاجاته إلى ربّه من خلال روحيَّة الإيمان الَّتي تجعل الإنسان المؤمن ينفتح على الله في كلِّ حاجاته، باعتبار أنّه لا يملك أيَّ شيءٍ إلا منه سبحانه، {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}[24]، فهو لم يطلب أيَّ ولدٍ من خلال إرضاء غريزة الأبوَّة في داخله، بل أراده ولداً صالحاً يتحرَّك في طاعة الله، ليعزِّز خطَّ الصَّلاح في الحياة المرتكزة على قاعدة الإيمان بالله، لأنَّ المؤمن الّذي لا يبتعد عن الرغبات الطّبيعيَّة في شخصيَّته، يبقى دائماً في هاجس العلاقة بالله وبالحياة الإيمانيَّة في كلِّ قضاياه. واستجاب الله دعاءه، فرزقه إسماعيل(ع): {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}[25]، بما تمثّله هذه الصّفة الإنسانيَّة من وداعةٍ وهدوء طبع، وصفاء روح، وسعة صدر، وانفتاح على النَّاس كلّهم.
ولكنَّ الله كان يعدّ له مفاجأةً مدهشةً صعبة، فقد أراد ابتلاءه وامتحانه في محبَّته له، ليظهر فضله للنّاس، وليكون قدوةً لهم في المواقع الّتي يبحثون فيها عن القدوة الحسنة الرّائدة في أعلى صورها في المعنى المتجسِّد للإيمان، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}، وأصبح يتحرّك معه في غدوّه ورواحه، بعد أن بلغ سنَّ الرشد الّذي يستطيع معه السَّعي في حاجاته وحاجات الآخرين، {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، وهذا في وعي النبوَّة، أمرٌ إلهيّ يدفعه إلى تنفيذ هذه المهمَّة امتثالاً لأمر الله، لأنَّ الرّؤيا الصَّادقة الّتي قد تحدث للنبيّ، تمثِّل أسلوباً من أساليب الوحي الإلهيّ، {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}، لأنَّ المسألة خطيرة بالنِّسبة إليك، وهي تدفعك إلى التفكير تفكيراً عميقاً في الموضوع، في عمليّة الاختيار بين السّلب والإيجاب، وأنا والدك الّذي لا يحبّ الإقدام على التّنفيذ إلا بعد أن تأخذ قرارك بالإيجاب بالمقدار الَّذي يتعلّق بك، ليكون الموقف مني ومنك واحداً في الامتثال لأمر الله، مع صعوبته الذاتيّة بالنّسبة إلينا جميعاً.
ولعلَّ إبراهيم(ع) كان يعرف أنَّ ولده سيستجيب لنداء الله، لما يعرفه من إيمانه بالله وإسلامه له وصلاحه في خطِّ الشَّريعة الحقَّة. ولم ينتظر إبراهيم طويلاً، فقد أجابه ولده فوراً بشكلٍ حاسم، {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، فإذا كانت هذه إرادة الله، فلتكن إرادته هي الحاكمة علينا في أمورنا كلِّها، لأنّا لا نملك من أنفسنا إلا ما ملَّكنا إيّاه، {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[26]، فلن أجزع ولن أتهرَّب، بل سأقدِّم نفسي للذَّبح من موقع المستسلم لله، الخاضع لأمره، الخاشع في عبادته، فتلك هي إرادتي، وسأثبت عليها بمشيئة الله، لأنَّ كلَّ ما أتحرّك به أو أتَّصف به هو هبةٌ منه في اختياره لعباده.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} أمرهما إلى الله ورضيا بقضائه، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، أي صرعه على أحد جانبي وجهه، وهو الجبين، وبدا إبراهيم مستعدّاً للتّنفيذ والقيام بمقدِّمات الذَّبح، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} ، فلم تكن الصّورة في الرّؤيا أنّه ذبح ولده، بل كانت أن يبدأ بالعمليَّة بطريقةٍ إعداديّةٍ توحي بالجدّيّة والانتهاء بها إلى نتيجتها الطبيعيَّة، كما أنَّ الأمر الصّادر عن الله ليس أمراً جدّياً، بل هو أمر امتحانيّ للاختبار، ولإظهار الموقف الإسلاميّ البارز في حركة الإيمان بالله والاستسلام له بشكل مطلق، فيما يتمثّل به موقف إبراهيم وإسماعيل في التحرك نحو الامتثال، ولم تكن هناك مصلحة حقيقيّة في ذبح إبراهيم لولده إسماعيل كفعلٍ معّينٍ في ذاته.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[27]، جزاء المطيعين، والجزاء الأحسن في الدّنيا والآخرة، بعد أن يبتليهم الله ابتلاءً شديداً، ويمتحنهم في موقع الطَّاعة بالموقف الصَّعب، فينجحون في الامتحان بفعل ما يظهرونه من موقفٍ عظيمٍ في الطَّاعة لله، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ}[28]، لشدَّة ما كان ابتلاء إبراهيم شديداً، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[29]، وقد ذكرت الرّوايات أنَّ جبرئيل جاء بكبشٍ عظيمٍ من عند الله، ليكون فداءً عن إسماعيل، {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[30]، كرمزٍ لاحترام موقفه وتخليده في حياة النّاس، ليكون ذلك عبرةً ودرساً للآخرين، فيما يريد الله أن يؤكِّده في موقفهم الإسلاميّ في طاعته، وتحيّةً للقدوة الرائدة المتمثِّلة في شخص هذا النَّبيّ العظيم، الّذي تقدَّم بكلِّ وداعة الإيمان، وصفاء الإسلام، وقوَّة الإخلاص لله، ليذبح ولده الَّذي تجاوب معه، فاستعدَّ لتقديم نفسه قرباناً، فيما يريده الله له ولأبيه أن يجسّداه من طاعة. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[31]، الّذين يتحركون من قاعدة الإيمان، ليؤكِّدوا صفة العبوديَّة لله كموقفٍ حيٍّ للطّاعة والانقياد.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [البقرة: 131].
[2] [البقرة: 130].
[3] [البقرة: 132].
[4] [البقرة: 133].
[5] [الحجّ: 78].
[6] [آل عمران: 67].
[7] [البقرة: 135].
[8] [آل عمران: 68].
[9] [البقرة: 136].
[10] [آل عمران: 52].
[11] [آل عمران: 64].
[12] [العنكبوت: 46].
[13] [الأنعام: 161 ـ 163].
[14] [يونس: 72].
[15] [النّمل: 91].
[16] [الزّمر: 12].
[17] [آل عمران: 102].
[18] [الأعراف: 126].
[19] [يوسف: 101].
[20] [آل عمران: 19].
[21] [آل عمران: 20].
[22] [آل عمران: 85].
[23] [الصافات: 99].
[24] [الصافات: 100].
[25] [الصافات: 101].
[26] [الصافات: 102].
[27] [الصافات: 103 ـ 105].
[28] [الصافات: 106].
[29] [الصافات: 107].
[30] [الصافات: 108، 109].
[31] [الصافات: 110].