في رحلته إلى المعرفة البرهانيَّة للتَّوحيد الَّذي يؤكّد وحدانيَّة الخالق في الله وينفي غيره، كان إبراهيم يفكّر في الظَّواهر الكونيَّة ويبحث فيها ويلاحقها، فيتطلّع إلى السّماء التي تذخر بالكواكب المتناثرة في الفضاء بأوضاع وأشكال مختلفة، ثم يتطلّع إلى القمر وهو يشرق في نور متدرّج هادئ، وينتقل إلى الشَّمس الَّتي تملأ الكون بإشراقها المتفجّر بالنّور الَّذي يضيء كلّ شيء، ويتساءل ـ تساؤل الإنسان الطّالب للمعرفة ـ أمام الفئات الّتي قد تؤمن بألوهيَّة الكوكب والقمر والشَّمس، من دون أن يتعمّق ذلك في عقله ووجدانه، لأنَّ فطرته الصّافية الخفيّة ترفض ذلك، ولكنّه كان يريد الدّليل على بطلان هذه الاتّجاهات، وسقوط هذه الاحتمالات، طلباً لليقين التّفصيليّ الّذي يملك من خلاله الدّخول في حوار مع أصحابه على أساس تقديم البرهان الوجدانيّ ضدّهم.
مسيرة التَّوحيد في بداياتها
وبذلك، يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[1]، فقد أراد الله أن يفتح عقل إبراهيم على الكون في ظواهر الطَّبيعة المميّزة التي تترك تأثيرها في إعطاء الكون نوراً خافتاً تارةً، وهادئاً أخرى، وقويّاً ثالثةً، ما يوحي بأنَّ وراء ذلك سرّاً خفيّاً تختزنه في داخلها ويؤثّر في الحياة العامّة، ليوقن بأنها ليست آلهة، بل هي من صنع الإله الواحد، ذلك أنّ رؤية إبراهيم لم تكن رؤيةً ساذجةً سطحيَّةً، بل كانت رؤية عميقة تأمّليّة يحاكم فيها العقلُ الواقع.
وقد ورد في بعض الروايات ما يشير إلى أنَّ إبراهيم منذ ولادته كان محبوساً في كهف لا يبصر منه النور، خوفاً من أن يقتله النمرود، فلمّا خرج منه، فوجئ برؤية الكواكب والشَّمس والقمر، فانجذب إليها بطريقةٍ توحي باستشعاره ربوبيَّتها. ولكن في متابعتنا للأحداث في حركة إبراهيم، ما يشير إلى أنَّ النمرود كان لا يزال حيّاً في حياة إبراهيم، ولم يصحّ عنه أنه كان يقتل الأولاد اعتقاداً منه بتحذير المنجّم له في ولادة مولود "يكون هلاكنا على يديه". ثم إنَّ الله سبحانه أكَّد أنّه أراه ملكوت السّماوات والأرض، وقد كان إبراهيم يعيش في الأرض، ما يجعله يعرفها، فإذا كان ما تشير إليه الرواية ينسجم مع السماء التي لم يرها وهو في الكهف، فإنّه لا ينسجم مع الأرض التي عاينها وهو فيه.
وفي روايةٍ أخرى، أنّ الله كشف له عن الأرض ومن عليها، والسَّماء ومن عليها، والملك الَّذي يحملها، والعرش ومن عليه. ولكنَّ الظاهر أنَّ إبراهيم لم يتحدَّث عن هذه التفاصيل، ولم يكن بحاجة إليها في استدلاله على بطلان ربوبيَّتها للناس، بل تحدَّث عن هذه الظواهر المرئيَّة الّتي يراها كلّ أحد، وتترك تأثيرها في الكون.
ولكنّ الظاهر القرآني أكَّد أنَّ الله ألهمه التفكير في هذه الظواهر الكونيَّة، ليكون على حالة من اليقين، على هدى قوله تعالى، عندما طلب منه إبراهيم أن يريه كيف يحيي الموتى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[2].
ومن الأحاديث الَّتي كانت تؤكّد أنّه كان طالباً للحقّ، ولم يكن ـ في أية لحظة ـ مؤمناً بربوبيَّة هذه الظواهر، ما ورد عن أحد الإمامين الباقر أو الصَّادق(عليهما السلام)، في رواية محمّد بن مسلم، عن أحدهما(ع) قال في إبراهيم إذ رأى كوكباً، قال: "إنَّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً، وإنّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنـزلته"[3]. وأيضاً جاء في تفسير القمي قال: وسُئل أبو عبد الله جعفر الصادق(ع) عن قول إبراهيم: {هَـذَا رَبِّي} لغير الله، هل أشرك في قوله؟ فقال(ع): "من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم شرك، وإنما كان في طلب ربّه، وهو من غيره شرك"[4].
ونستوحي من ذلك، أنه كان يتابع الواقع الاعتقاديّ للناس، أو الاحتمالات الَّتي كانت تدور في أذهانهم، فأراد أن يتساءل تساؤل الطّالب للحقيقة، كأيّ إنسانٍ يواجه القضايا الّتي يؤمن بها الآخرون، ليطرح الردّ بأسلوب السؤال، ويطرح السؤال من موقع الإعداد للردّ.
والسرّ فيما قرّرناه، أنّ الظاهر من حياة إبراهيم مع أبيه ومع قومه، أنه كان موحِّداً بالله منذ بداية حياته، سواء كان ذلك من وحي الفطرة، أو من وحي الاستدلال على بطلان عقيدة الآخرين المنحرفة.
لقد كان إبراهيم ـ في تلك اللّحظة ـ يتطلَّع إلى السّماء، كما لو كان قد شاهدها لأوّل مرة، لأنّ المشاهدة السابقة العادية كانت طبيعيّة في بُعدها الحركي للنظر في الكون. أما في هذه الحالة ـ فيما توحي به الآية ـ فإنه كان يواجهها كتجربة جديدة لم يلتق بها من قبل، وذلك بما تعنيه التجربة من حركة في الحسّ البصريّ كمادّةٍ للتفكير، للانتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن المادّة إلى المعنى، فقد كان يشاهدها سابقاً في رؤية جامدة لا تعني له شيئاً إلا بمقدار ما يعنيه انعكاس الصورة في العين، كمجرّد تجميع للصور في الوجدان مما يلتقي به الإنسان في مألوفاته العادية في حياته اليومية.
استعراض العقائد المنحرفة
وهكذا، نجد أن الرؤية التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[5]، هي الرؤية التي تبعث على القناعة واليقين، من خلال تحرّكها في خطّ اكتشاف الحقيقة التوحيدية ضدّ الباطل الإشراكي، في حركة تتجاوز الفطرة البسيطة إلى العقل المفكّر.
وكانت البداية أنه أخذ يستعرض عقلياً عقائد قومه في عبادتهم للكواكب وللقمر وللشمس، فالتقى بالكواكب المتناثرة في الفضاء في صورةٍ بديعةٍ في روعة التنسيق والتكوين، فما إن لمح كوكباً يتلألأ ويشعّ في قلب هذا الظلام المترامي، حتى سيطرت عليه أجواء الروعة، واستولى على فكره الخشوع الروحي أمام هذا الشعاع الهادئ في الأفق البعيد، فخيّل إليه أن وراء هذه الأنوار سرّاً غيبياً يطل على الكون بنوره في حالةٍ من العظمة، ولذلك فمن الممكن أن يكون هو الإله العظيم الذي لا بدّ للناس من أن يتعبّدوا له، لأنّ الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلى البعيد الذي تتطلّع إليه الأبصار برهبةٍ وخشوع، ولا تستطيع الخلائق أن تصل إليه أو تدرك كنهه.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي}، في صرخة الإنسان الطيّب الساذج الذي لم يدخل في تجربةٍ مماثلة، بحيث خيِّل إليه أنه اكتشف السرّ الكبير الذي يبحث عنه كلّ الناس كما لو لم يكتشفه أحد غيره، وكأنه أقبل عليه في خشوع العابد، وفي لهفة المسحور، وفي اندفاعة الإيمان. وربما ردّد هذه الكلمة {هَـذَا رَبِّي}، ليوحي إلى نفسه بالحقيقة التي اكتشفها بعيداً عن كلّ حالات الشكّ والرّيب.
وبدأ ذلك "الإله" يقترب من نهايته، وبدأت الكواكب تشحب وتفقد لمعانها، ثم بدأت تبهت وتبهت حتى غابت عن العيون، وربما حاول أن يلاحقها هنا وهناك؛ لقد ضاع "الإله" في الأجواء الأولى للصباح، وانكشفت له ـ بذلك ـ الحقيقة الصارخة، فقد كان يعيش في وهمٍ كبير، لقد أفل الكوكب، ولكنّ الإله لا يأفل، لأنه القوّة التي تمدّ الكون بالوجود في حركته، كما تمثّل الحضور الدائم في الحياة كلّها، فلا يمكن أن تبتعد عن حركتها المتنوعة، لأن ذلك يتنافى مع الرعاية المطلقة للكون ولما فيه من موجودات حيّة وغير حيّة، فاهتزّت قناعاته من جديد، وبدأ يسخر من الفكرة، {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}[6]. ولعلّ التعبير بنفي الحبّ، يدلّ على أنه ليس في المستوى الذي يختزن السرّ العظيم ويمثّل الإله الواحد الذي يجتذب الشعور بالحبّ من خلال الإيمان بالألوهية والسرّ الغيبـي.
{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً}[7]، في صفاء اللّيل ووداعة السكون، وكان الشعاع الفضي الساحر يلقي على الكون دفقاً من النور الهادئ الذي يتسلّل إلى العيون، فيوحي إليها بالأحلام الساحرة، ويطلّ على الطبيعة فيغلّفها بغلافه الشفّاف الوادع الذي يثير في آفاقها الكثير من الأحلام، بدأت المقارنة بين ذلك النور الكوكبي الخافت الذي يأتي إلينا متعباً واهناً في جهد كبير، وهذا النور القمري الذي يتدفّق كشلاّلٍ في قلب الأفق، فأين هذا من ذاك؟! فهذا هو السرّ الإلهي الذي كان يبحث عنه؛ {قَالَ هَـذَا رَبِّي}، وعاش في حالةٍ روحيةٍ من التصوّف والعبادة لهذا الربّ النوراني الذي يتمثل في السماء قطعةً فضيةً من النور الهادئ الساحر.
وفجأةً، بدأ الشّعاع يبهت ثم يغيب، وانطلقت الحيرة في وعيه من جديد؛ أين ذهب "الإله"؟ وأين غاب؟ وهل يمكن للإله أن يغيب ويأفل؟ وضجّت علامات الاستفهام في روحه: من هو الإله؟ وأين هو؟ فأخذ يتوسَّل بالربِّ الذي لا يعرف كنهه، أن يهديه سواء السبيل لئلا يضلّ ويضيع، {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}[8].
وفجأةً، أشرقت الشّمس بأشعّتها الذهبيّة الدافئة، فأخذت عليه وجدانه. {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ}، فأين حجم الشَّمس من حجم القمر والكواكب؟! فلا بدّ من أن تكون هي الإله الّذي يبحث عنه، لأنّها تتميّز عنهما بصفات كثيرة، وبدأ يتابعها وهي تتوهّج وتشتعل وتملأ الكون كلّه دفئاً وحرارةً وحياةً وإشراقاً وجمالاً، فإذا به يهتزّ ويتحرّك في قوّة وامتداد وحيويّة دافقة، ولكن ماذا؟ وبدأ يفكّر؛ فها هي تبهت وتبرد وتكاد تتضاءل ثم تغيب وتأفل، وتترك الكون في ظلام دامس، فكيف يمكن أن تكون إلهاً ما دامت تغيب في المجهول تاركةً الكون كلّه في ظلام وفراغ؟!
صرخة البراءة والتّوحيد
ولمّا وصل إلى هذا المستوى، أطلق الصّرخة في من هم حوله من الّذين يعبدون الكواكب والقمر والشّمس، {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}[9]، بريء من عبادة هذه المخلوقات الّتي انطلقت من العدم، ولا يزال العدم يعشِّش في كلّ حركةٍ من حركاتها، أو خطوةٍ من خطواتها.
وتمرّد على كلّ هذه الاتجاهات الإشراكيَّة، لأنَّ الإله لا يمكن أن يكون أحد هذه الأشياء المحدودة، بل لا بدَّ من أن يكون شيئاً أعظم من ذلك وأكبر، وفوق المحدود في القدرة والقوّة وكلّ صفات الكمال والجلال. وقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً}.
وهكذا تدفّقت إشراقة الإيمان في وعيه وقلبه، فأحسّ بأنَّ الله هو شيء لا كالأشياء، وأنّ الأشياء نتاج قدرته، وأدرك أنَّ الله لا يُحَسّ كما تُحَسُّ الموجودات الأخرى بالسَّمع والبصر واللّمس، ولكنّه يدرَك بالعقل والقلب والشّعور من خلال كلِّ هذه المخلوقات الّتي تحيط بالإنسان في هذا الكون الكبير، من سمواتٍ وأرضٍ وما فيهنّ وما بينهنّ، فتترك لديه انطباعاً بأنّ الله هو الّذي فطرها وأوجدها. ومن خلال هذه الانطلاقة الإيمانيّة الرّائعة التي أحسّ معها بالرّاحة والطّمأنينة والانفتاح، وقف بكلِّ كيانه ليتحوَّل كلّ وجهه ـ والوجه هنا كناية عن الذّات بجميع التزاماتها وعلاقاتها وتطلّعاتها ـ إلى الله حنيفاً مخلصاً، مائلاً عن خطِّ الانحراف، فهو ـ وحده ـ الّذي تتوجَّه إليه العقول والقلوب والوجوه، بالخضوع والطّاقة المطلقة، بإحساس العبوديّة وحركة الإيمان الَّذي يعلن هذا التّوحيد بما يشبه الصّرخة الهادرة الرافضة لكلِّ الوجودات المحدودة التي تتألّه، أو الّتي يحسبها النّاس في عداد الآلهة، {وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[10].
رحلة الإيمان بالله
والسؤال الذي ينطلق من وحي هذه الآيات هو: هل هذه الحالة تمثّل الرحلة الأولى في طريق الإيمان لدى إبراهيم، أو هي محاكاة استعراضيَّة للأجواء المحيطة، من خلال ما يعتقده النّاس من ألوهيّة الكواكب والقمر والشّمس، في محاولةٍ إيحائيّة إلى من حوله بسخافة هذه العقائد وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصّافي، وذلك من موقع ابتعاده عنها بعد اقترابه منها، ما يعطي لموقفه بعض القوّة في الإيحاء، باعتباره الموقف الّذي عاش التّجربة وعاناها ثم تمرّد عليها؟
إنّنا نعتقد أنَّ هذا الرأي قد يكون الأقرب إلى ما تنطوي عليه شخصيّة النبيّ إبراهيم(ع) فيما حدَّثنا القرآن عن حياته، وربما كان ذلك في بداية وعيه في شبابه، فنحن لم نلمح ـ في غير هذه الآية ـ أيّ حالة تأثّر عنده بالجوّ المحيط به، بل ربما نرى أنَّ الأمر عكس ذلك في حالة التمرّد على البيئة المحيطة به، وخصوصاً فيما يتعلَّق بالجوّ العائليّ المتمثِّل بأبيه الّذي نقل لنا القرآن موقف إبراهيم منه.
وقد نستطيع الاستيحاء من الآية الّتي حدَّثنا القرآن فيها عن كلام إبراهيم(ع) حول الأصنام، أنَّ هذا الموقف سابق لموقفه من هذه العقائد، هذا إضافةً إلى أنّ الرؤية التي حدّثنا الله عنها لملكوت السموات والأرض، تشير إلى الرؤية الوجدانيّة الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها، وليست الرّؤية البصريّة الساذجة، لأنها تبدأ مع الإنسان منذ اللّحظة التي يفتح فيها عينيه على الكون ليتطلَّع إلى ما فيه من موجودات يدركها البصر.
وربما كانت كلمة: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[11]، إشارة إلى ذلك، لتلتقي بكلمة: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[12]، ما يوحي بأنّ إبراهيم كان يعيش حركة الفكر الّذي يريد أن ينمِّي من خلاله أفكاره وإيمانه بكلّ الأشياء التي تركّز للفكرة قوّتها وفاعليّتها وثباتها وحركتها أمام التحدّيات الّتي تواجهها، حتى فيما يشبه الأوهام، ليواجه الصّراع الّذي يعيشه بانفتاحٍ واقتناعٍ وقوّة لا تعرف الضّعف ولا التّراجع في كلّ المجالات.
أمّا الاحتمال الأوّل، فقد يقرّبه القائلون بأنّه من الممكن أن تكون الحادثة قد حصلت في بداية طفولته الأولى، عندما بدأ يتطلَّع إلى الأشياء ويتأمَّل في الكون، ولعلَّ هذا الذي نستوحيه من الجوّ النفسيّ السّاذج الذي توحي به الآية، فهذا هو إبراهيم يواجه الكوكب البعيد في السّماء، ولكنّه يشرق في قلب الظّلام، فيشعر بالرّهبة والرّوع، فيصرخ ـ في مثل اللّهفة الطفوليّة: {هَـذَا رَبِّي}، انطلاقاً مما كان يسمعه بأنَّ الإله بعيد عن الإنسان، فلما أفل أحسّ بالانقباض، وقال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}، فقد نجد في كلمة "لا أحبّ" بعض كلمات الطفولة البريئة، لا كلمات المعادلة العقليّة المفكّرة التي تتحرك على أساس أن تحبّ الشّيء أو لا تحبّه من خلال مشاعرها السّاذجة إزاء الأشياء. وتتكرّر التجربة مع القمر، وتنطلق الصرخة الطفوليّة من جديد، تماماً كمثل الهتاف الذي يهتف به الطّفل عندما يجد شيئاً قد أضاعه أو شيئاً قد طلبه، وتتكرَّر خيبة الأمل من جديد، ولكنّ الوعي يتنافى هنا، فلا نجد ردَّ الفعل طفوليّاً، بل نلاحظ في ردّ الفعل حالة حيرةٍ وذهولٍ وتوسّل إلى هذا الربّ المجهول الّذي يتمثَّله في وعيه هادياً لعباده، أن يهديه إلى الحقّ لئلا يكون من القوم الضالّين.
ثمّ تشرق الشَّمس في هذا الدَّفق اللاهب من النّور الذهبيّ، في إطار هذا الوجه الواسع الذي يتفايض بالشّعاع كما يتفايض الينبوع بالماء الصّافي الرقراق، فتكبر الصّرخة في طفوليّة ظاهرة: {هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ}، والاعتبار هذه المرّة للحجم الّذي لا تستوحيه إلا أفكار الطفل أو ما يشبه الطفل، لأنَّ الأشياء الكبيرة توحي إلى الفكر السَّاذج بالهيبة والعظمة، بما لا توحي به الأشياء الأقلّ حجماً. وتتجدَّد خيبة الأمل بالأفول، ولكن تلك الإشراقة السَّاطعة للشمس استطاعت أن تبعث في نفسه إشراقة الإيمان الرّافض لكلّ هذه الأوهام والظنون.
هذه هي وجهة نظر هؤلاء، الّتي ربما يؤكّدها ما ورد عن الإمام جعفر الصَّادق(ع) في تفسير هذه الآيات، من أنَّ إبراهيم كان في طلب ربّه، أو أنه "كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً"، كما قدَّمنا ذلك في بداية الحديث. وربما كان إبراهيم(ع) يبحث عن أساس بطلان هذه الأفكار بطريقة استحضارها في موقفه، كما لو كان معتقداً بها، ليردّ بذلك عليها...
ولكنَّنا قدّمنا أنَّ الاحتمال الثاني قد يكون أقرب، لأنَّ حديث القرآن عن إبراهيم لا يوحي بشيء من هذا القبيل، ما يدلّ على أنه كان موحِّداً بالفطرة منذ البداية. ولذلك، لاحظنا أنه بعد إبطاله لربوبيَّة هذه الظَّواهر الكونيَّة، بادر إلى توجيه وجهه إلى الَّذي فطر السَّماوات والأرض، بعيداً عن خطِّ المشركين، ما يوحي بأنَّ عقيدة التوحيد كانت كامنةً في أعماقه من خلال فطرته الصّافية، لأنّه لو لم يكن كذلك، لما كان هناك تناسب بين إبطال تلك العقائد، والمبادرة إلى إعلان التَّوحيد لله والتزامه العمليّ به في الحياة.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [الأنعام: 75].
[2] [البقرة: 260].
[3] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 3، ص 2709.
[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 11، ص 77.
[5] [الأنعام: 75].
[6] [الأنعام: 76].
[7] [الأنعام: 77].
[8] [الأنعام: 77].
[9] [الأنعام: 78].
[10] [الأنعام:79].
[11] [الأنعام: 75].
[12] [البقرة: 260].