تجربة النّبيّ إبراهيم(ع) مع أبيه

تجربة النّبيّ إبراهيم(ع) مع أبيه

إنَّنا أمام حوارٍ مثيرٍ يديره إبراهيم(ع) مع أبيه، في رأينا، أو عمّه الّذي تبنّاه، في رأي الكثيرين، وقد كان كافراً كقومه. وقد رأى إبراهيم(ع) أنَّ من أولى مهامه في الدَّعوة إلى الله، أن يبدأ بدعوة أبيه، لأنَّه الحلقة الأقرب إليه، كما أنَّ بقاءه على الكفر قد يطبع موقف إبراهيم(ع) بنقطة ضعف، ويخلق له مصاعب داخليَّة يمكن أن تعطِّل بعض خطواته الرّساليَّة، أو تجلب له مشاكل غير منتظرة.

إبراهيم(ع) يحاور أباه

وقد واجه هذا الحوار صعوبةً في البداية، لأنّه حوار الابن مع أبيه في مجتمعٍ يعطي للأبوَّة قيمةً كبيرةً قد ترقى إلى درجة التَّقديس الَّذي يلزم الأبناء بالخضوع المطلق لآبائهم، ولهذا، استخدم إبراهيم أسلوباً جديداً حذِراً، فلم يلجأ إلى أيِّ عنصرٍ من عناصر الإثارة الَّتي تتناول الذّات بالتَّجريح والتّبكيت، بل حاول ـ على العكس من ذلك ـ أن يشحن أسلوبه في الحوار بالعاطفة، إلى درجةٍ تجعل من يقرأه يتصوّر أنّه في حالةٍ من حالات التوسّل إلى أبيه، تماماً كما هي حالة من يخاطب إنساناً عزيزاً معرّضاً للسّقوط أو للهلاك، حيث يتحدَّث الإنسان فيها عادةً بكلّ هلعٍ ومحبّةٍ لإنقاذ من يودّه بأيِّ طريق، وبذلك، نجد في الحوار الَّذي تمثّله الآيات الآتية، بساطة الفكرة ووضوحها، في إطار الجوِّ الحميم الَّذي يسود الموقف.

فنحن نلاحظ في أسلوب إبراهيم محاولةً لتبرير دعوته لأبيه، في قوله: {قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}[1]. ولذا، لا مانع من وجهةٍ اجتماعيَّة، أن يدعو الابن أباه، مع حفظ موقع الأبوّة في موقفه الَّذي عبّر عن شعوره العاطفيّ تجاه ضلال أبيه وخوفه من أن يمسَّه عقاب الله. وقد جاء ردُّ أبيه من موقع مَنْ يشعر بسلطة الأبوّة الَّتي تضغط على الابن ليسير في خطاها، وتهدِّده بالقوَّة والطّرد والهجران إن خالف ذلك، فلا حوار ولا كلام بين الابن وأبيه، إنّما هو الأمر والطَّاعة، فللأب أن يعلن رغبته قبل أمره، وللابن أن ينفِّذ دون تردّد أو تفكير.

إنّها شريعة المجتمع آنذاك، الَّتي تجعل من علاقة الأبناء بآبائهم علاقةً تشبه علاقة العبوديّة الّتي يعيشها العبيد أمام المالكين.

الوعد بالاستغفار

ولم يتراجع إبراهيم(ع) عن إثارة الجوّ العاطفيّ في إعلان موقفه الرّساليّ لأبيه بعد أن رفض دعوته، وقد استطاع أن يوفّق بين الرّسالة والعاطفة، فجعل العاطفة طريقاً إلى رسالته، وشعوراً بالمسؤوليَّة تجاه أبيه، محوِّلاً موقفه إلى موقف إنقاذ، فكان ردُّ فعله أن توجَّه إلى أبيه بالسَّلام، ووعده بأن يدعو له بالمغفرة، بأن يوفِّقه الله لأسبابها من خلال الاهتداء إلى الإيمان، ثمَّ أعلن له ولقومه، باعتبار أنَّ أباه يمثِّل فريق الكفر، بأنّه سيعتزلهم وما يعبدون من دون الله بعد أن قام بواجبه تجاههم.

وقد كان هذا الوعد من إبراهيم(ع) لأبيه بالاستغفار، ناشئاً من أمله في أن يتراجع أبوه عن موقفه ويعود إلى الله، وليس ناشئاً على الإطلاق من إحساسه بأنَّ القرابة تمثِّل امتيازاً يميِّز أباه عن غيره؛ ولذا أعلن البراءة منه بعد أن يئس من إيمانه وظهرت عداوته لله.

وإنّنا ـ في هذا المجال ـ نستطيع الاستفادة من هذا الأسلوب في المواقف الَّتي نحتاج فيها إلى دعوة الأشخاص الّذين تربطنا بهم بعض الرّوابط العائليَّة المتّصلة بالعاطفة من نسبٍ أو غيره، لنتعلَّم من إبراهيم(ع) كيف نشحن الحوار بالمشاعر الّتي تسهِّل المهمَّة، بما تثيره لديهم من مشاعر تسهّل انسجامهم مع الأجواء الحميمة للحوار، من دون أن يخلق ذلك انجرافاً مع العاطفة لمصلحة الكفر والضّلال، لأنَّ الأسلوب العاطفيّ في هذه الحال، لا ينبع من حالةٍ نفسيَّة عفويَّة، بل يرتكز على تخطيطٍ يعتبر العاطفة جزءاً من الخطَّة العامّة، تخضع لما تخضع له تلك الخطّة من مرونة ووعيٍ وثبات.

وفي ضوء هذا، نجد أنَّ من واجبنا إعطاء الأسلوب بعض القوَّة، وخصوصاً إذا عمد الّذين ندعوهم إلى استغلال أسلوبنا العاطفيّ لأغراضٍ في غير صالح الدّعوة إلى الله، تماماً كما كان عليه الأسلوب الآخر لإبراهيم(ع) مما أشرنا إليه، ليظلَّ الأسلوب في كلتا الحالتين منسجماً مع خطّ الحكمة الذي يريد الله للدَّعوة أن تسير عليه.

وقد نشعر ـ في نهاية هذا العرض ـ بالحاجة إلى الاستفادة من الأجواء الرّوحيَّة في بعض حالات الحوار، بين أسلوبٍ يربط المتحاورين بفضل الله ونعمه، وأسلوبٍ ينقل الموقف إلى ابتهالٍ خاشعٍ يمارسه الدَّاعية للتَّأثير النَّفسيّ في الآخرين، عندما يشغلهم عمَّا هم عليه بروعة المناجاة وخشوع الابتهال.

أسلوب إبراهيم(ع) في الدَّعوة

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً}[2]. قد يكون من الضَّروريّ للنَّبيّ أو للدَّاعية ـ بشكلٍ عامّ ـ أن يستحضر في وعيه ملامح الشَّخصيَّات الرّساليَّة الَّتي تمثِّل النَّموذج الأكمل لحركة الإنسان الرّساليّ في الدَّعوة، ليدرس أساليبها، ويستلهم روحيَّتها، وينتفع بتجربتها. ومن أبرز هؤلاء، النبيّ إبراهيم(ع)، وهو النبيّ الصّدّيق الّذي كانت حياته كلّها صدقاً مع نفسه، ومع ربّه، ومع النّاس من حوله، فلم يجامل أحداً في الحقّ، ولم يهادن قريباً أو بعيداً في مستلزمات الرّسالة، ولم يترك في حياته فراغاً لغير الرّسالة، بل كانت الرّسالة كلَّ فكره وهمّه وكلّ حياته، فقد كانت تجربته غنيّةً بالتنوّع الّذي يحكم جوانبها، كما كانت روحيَّته في علاقته بالله، وفي إخلاصه للرّسالة، في المستوى الأعلى من روحيَّة الأنبياء والصدِّيقين.

ومن تجاربه الرّائعة التي تعكس عمقه الرّوحيّ، تجربته مع أبيه؛ {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً}[3]، فقد رأى أباه يعبد الأصنام الحجريَّة الّتي يعبدها قومه، خاضعاً بذلك ـ كغيره ـ لعادة السَّير على خطى الآباء والأجداد وتقليدهم في السّلوك، بسبب غياب الوعي الفكريّ الّذي يكفل عدم صدور أيِّ عملٍ عن الإنسان إلا بعد دراسة طبيعته وخلفيّاته ونتائجه.

وهكذا، أراد إبراهيم(ع) أن يثير التّساؤل في تفكير أبيه، وذلك بأن يطرح الجانب اللامعقول في هذه العبادة، بطريقةٍ بسيطةٍ لا تكلُّفَ فيها، فلا يتكلّف الإنسان ـ من خلالها ـ بذل أيّ جهدٍ في التّفكير من أجل اكتشاف انحرافها عقيديّاً، محاولاً أن يهزَّ جمود الموقف عنده بطريقة الصّدمة وأسلوب الإثارة، فهاجم هذه المقدّسات الوثنيَّة الحجريَّة الجامدة بعنف، إذ كيف يمكن لعاقلٍ أن يعبد هذه الحجارة التي لا تسمعه إذا خاطبها في حاجةٍ أو سؤالٍ أو خضوعٍ وابتهال، ولا تبصره إذا وقف أمامها وقفة عبادة، لأنها لا تملك أيَّ حسٍّ يوحي بالتأثّر والانفعال فيما يقوم به الآخرون تجاهها؟! فكيف يمكن أن تكون آلهةً تُعبَد من دون الله، وهي لا تملك أيَّ إحساسٍ بنا وبالآخرين في غيابٍ كلّيّ عن الإنسان والكون والحياة؟! ثمّ ما الَّذي تملكه من قوّةٍ وقدرةٍ على التّأثير فيما حولها ومن حولها؟! إنها اللاشيء في عالم الحركة الحيَّة، فكيف تستجيب لدعوات النّاس الّذين يعبدونها ويتوسّلون إليها؟! وكيف تدفع عنهم الضَّرر، أو تجلب لهم النَّفع، أو ترفع ضغط الواقع عنهم؟! فما فائدة عبادتهم لها، وما قيمتها على مستوى الوجود كي تُعبد؟! إنها اللافائدة واللامعنى واللامعقول واللاإحساس بأيِّ شيء في الحياة.

وعظ إبراهيم لأبيه

ويدعو إبراهيم أباه من منطق العارف الَّذي ينطلق في منهجه من خلال علمه، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}، فقد عشت تجربة الفكر الَّتي أعطتني المعرفة التّأمّليَّة، وقد عشت تجربة الواقع، فمنحتني الثّقافة العمليَّة، وقد ألهمني الله من وحيه الكثير من تفاصيل العقيدة والشَّريعة والمنهج العمليّ في الحياة، واستطعت من خلال ذلك كلِّه أن أحصل على المعرفة الواسعة التي تتيح لي هداية الناس وإرشادهم ودعوتهم إلى الله. والمسألة هنا ليست مسألة ابن وأب، وإنما هي مسألة عالمٍ وجاهل، وليست قضيّة عُمر كبير أو عُمر صغير، لأنَّ أهميَّة العمر هي فيما يختزنه الإنسان من تجربة، لا فيما يستهلكه من لحظات زمنيَّة، فإذا كان العمر خالياً من تجربة الفكر وتجربة الواقع، فإنَّه لا يمثِّل امتداداً في قيمة الزّمن في حساب العلم.

{فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}[4]؛ الصِّراط الّذي يقودك إلى الإيمان بالله والعمل بما يرضيه، والانفتاح على الآفاق الرّحبة في الحياة، والوصول إلى جنَّته ورضوانه، وذلك هو سبيل السّعادة في الدّنيا والآخرة.

{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}، الَّذي يوسوس للإنسان بوساوس الشرّ، ويزيّن له أفعال الجريمة والابتعاد عن الله وعن خطِّه المستقيم، إلى غير ذلك مما يجلب له الشّقاء في الدّنيا والآخرة، فابتعد عنه، واقترب من ساحة الله في خطِّ عبادته، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}[5]، لأنَّ الشَّيطان عصى الله في البداية عندما أمره بالسّجود لآدم، وما زال مقيماً على معصيته، وداعياً الآخرين إليها، ليقودهم إلى عذاب السّعير.

{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن}، بسبب طاعتك للشَّيطان وعصيانك لله، {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}[6]، فيتولّى الشَّيطان أمرك، لأنَّك تتولّى مواقفه ومواقعه، ومن كان الشَّيطان مولاه، فإنّه سائرٌ إلى الهلاك، ومن كان الرّحمن مولاه، فإنّه سائرٌ إلى الخير والنَّجاح والفلاح.

فكان جواب الأب: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ}، كيف تتجرّأ على الانفصال عن خطِّ أبيك، فتتركه وتترك مقدَّساته، وترغب عن آلهته الَّتي يعبدها؟ وما هذا اللّغو الَّذي تتحدَّث به؟ وكيف تجرؤ على أن تتَّخذ لنفسك صفة الواعظ المرشد الموجِّه لأبيك؟ متى كان الصّغار يعلِّمون الكبار، أو يناقشونهم في أقوالهم وأفعالهم؟ هل تريد مني أن أناقشك في كلامك أو أستمع إليك؟ وإذا كان هذا ما تفكِّر فيه، فإنَّ ردّي الوحيد عليك هو: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ـ عن هذه الذهنيَّة، وهذا السّلوك، وهذا الكلام ـ لَأَرْجُمَنَّكَ}، وهذا تهديد له بالقتل رمياً بالحجارة، {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}[7]، ابتعد عني وقتاً طويلاً، واخرج من داري، بحيث لا أراك ولا تراني، لأني بريء منك ومن عقيدتك وسلوكك.

ردّ إبراهيم على التَّهديد

وهكذا، رأينا أنَّ أبا إبراهيم(ع) لجأ إلى أسلوب الكافرين المعاندين التقليديّ نفسه، الّذي لا يجد الكافر فيه ما يقوله دفاعاً عن موقفه، لأنَّ عقيدته لم تنطلق من موقع فكرٍ واقتناع، فيلجأ عندئذٍ إلى التَّهديد والوعيد، ليغطِّي بذلك ضعفه أمام الكلمة الواعية المسؤولة. وكان ردّ إبراهيم(ع) على هذا التّهديد: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ}، فلن أستخدم الأسلوب الّذي استخدمتَه معي، والَّذي ينذر بالحرب عليَّ، ولن أهدِّدك كما هدَّدتني، فإذا كنت قد أعلنت الحرب عليَّ، فإني أردُّ عليك بالسَّلام الّذي يعيشه المؤمن في علاقته بالآخرين، حتى مع الّذين يعادونه، فيعفو عنهم ويصفح إذا أساؤوا إليه أو أجرموا في حقِّه، ليدفع بالحسنة السيّئة، ويفسح لهم في المجال للتّراجع عن موقفهم السيِّئ، ولو بعد حين. فالمؤمن داعية سلام لا داعية حرب، لأنه ليس إنسان الصِّراع، بل إنسان الهداية والإرشاد.

{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}، لعلَّه يستجيب لي، فيفتح قلبك على الإيمان، ويهديك سواء السَّبيل، ولو بطريقةٍ خفيّةٍ غيبيَّة، فإن لم أستطع أن أهديك بطريقتي الخاصَّة، فإني أطمع أن تهتدي بلطف الله ورضوانه وعنايته، فسأدعوه بإخلاصٍ، وأبتهل إليه بخشوع، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}[8]، فلا بدَّ من أن يسمع دعائي، وهو الّذي يعرف صلاح الأمر كلّه، ولا أزال أطمع في أن تكون لك فرصة للخير في حياتك.

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، لأنَّ دعوتي إلى الخير منطلقة من الله، أمّا دعوتكم، فهي من الشرّ القادم من الشّيطان، ولن يلتقي الباحثون عن الخير بالباحثين عن الشرّ في أيّة نقطةٍ من الطّريق، لأنَّ طريق كلّ منهما مختلف عن طريق الآخر، ولذلك، فإنّي سوف أبتعد عنكم كما تريدون، وكما يفرض عليَّ الموقف والموقع العائليّ. {وَأَدْعُو رَبِّي}، وأرجع إليه، وأرجو رحمته ورضاه، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً}[9]، لأنّه يشمل عباده برحمته، فيستجيب لهم إذا دعوه، ويلبّيهم إذا نادوه، ويُقبل عليهم إذا ناجوه، فهو الربّ الرَّحيم الّذي سبقت رحمته غضبه، فلا يحجب رحمته عن السّائرين إليه، الرّاجين رضاه.

{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، فأعطى من نفسه المثَل الحيَّ والنّموذج الأكمل، الّذي يرفض كلَّ مشاعر القرابة في مقابل مواقف الإيمان، لأنَّ علاقته بالله تعلو فوق كلِّ علاقة، كما أنَّ رضا الله يسبق رضا كلِّ من يتَّصل بهم من النّاس. وهكذا ابتعد عنهم واعتزلهم، وانصرف إلى مجتمعٍ آخر يختلف عن مجتمعهم المعاند المليء بالحقد والعداوة، ليستكمل دعوته إلى الله، ويفتح قلوب النّاس على الحقّ، وبهذا يكون قد استكمل تجربته الأولى الصَّعبة، وبلّغ رسالة الله بكلِّ قوّةٍ وإخلاص.

انطلاق التَّجربة الجديدة

وأراد أن يبدأ تجربةً جديدةً في موقعٍ آخر، فأفاض الله عليه في تلك المرحلة بأن رزقه ولده إسحاق، ومن ورائه يعقوب، رحمةً به وكرامةً له، {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً}[10]، فكانت النبوّة في ذريّته، وامتدَّت الرّسالة في حياتهم، وارتفعت درجاتهم في مواقعها ومواقفها، بعد أن أسلموا لله كما أسلم إبراهيم، وأخلصوا له بكلِّ جهدهم الروحيّ والإيمانيّ، {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}[11]، بما يعبّر عن الثّناء الجميل، والذّكر الحسن، جزاءً لهم على إيمانهم وجهادهم وإخلاصهم لله.

وهكذا يكون جزاء العاملين في سبيل الله، الدّاعين إليه، المنفتحين على رسالته، الحصول على رضا الله. وهكذا انطلقت تجربة إبراهيم(ع) مع أبيه، في عمليّة إيحاء رساليّ وروحيّ وحركيّ، وتنوّعٍ في المشاعر والأحاسيس، لتكون درساً وعبرةً لكلِّ النّاس من بعده.

والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [مريم: 43].

[2]  [مريم: 41].

[3]  [مريم: 42].

[4]  [مريم: 43].

[5]  [مريم: 44].

[6]  [مريم: 45].

[7]  [مريم: 46].

[8]  [مريم: 47].

[9]  [مريم: 48].

[10]  [مريم: 49].

[11]  [مريم: 50].


إنَّنا أمام حوارٍ مثيرٍ يديره إبراهيم(ع) مع أبيه، في رأينا، أو عمّه الّذي تبنّاه، في رأي الكثيرين، وقد كان كافراً كقومه. وقد رأى إبراهيم(ع) أنَّ من أولى مهامه في الدَّعوة إلى الله، أن يبدأ بدعوة أبيه، لأنَّه الحلقة الأقرب إليه، كما أنَّ بقاءه على الكفر قد يطبع موقف إبراهيم(ع) بنقطة ضعف، ويخلق له مصاعب داخليَّة يمكن أن تعطِّل بعض خطواته الرّساليَّة، أو تجلب له مشاكل غير منتظرة.

إبراهيم(ع) يحاور أباه

وقد واجه هذا الحوار صعوبةً في البداية، لأنّه حوار الابن مع أبيه في مجتمعٍ يعطي للأبوَّة قيمةً كبيرةً قد ترقى إلى درجة التَّقديس الَّذي يلزم الأبناء بالخضوع المطلق لآبائهم، ولهذا، استخدم إبراهيم أسلوباً جديداً حذِراً، فلم يلجأ إلى أيِّ عنصرٍ من عناصر الإثارة الَّتي تتناول الذّات بالتَّجريح والتّبكيت، بل حاول ـ على العكس من ذلك ـ أن يشحن أسلوبه في الحوار بالعاطفة، إلى درجةٍ تجعل من يقرأه يتصوّر أنّه في حالةٍ من حالات التوسّل إلى أبيه، تماماً كما هي حالة من يخاطب إنساناً عزيزاً معرّضاً للسّقوط أو للهلاك، حيث يتحدَّث الإنسان فيها عادةً بكلّ هلعٍ ومحبّةٍ لإنقاذ من يودّه بأيِّ طريق، وبذلك، نجد في الحوار الَّذي تمثّله الآيات الآتية، بساطة الفكرة ووضوحها، في إطار الجوِّ الحميم الَّذي يسود الموقف.

فنحن نلاحظ في أسلوب إبراهيم محاولةً لتبرير دعوته لأبيه، في قوله: {قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}[1]. ولذا، لا مانع من وجهةٍ اجتماعيَّة، أن يدعو الابن أباه، مع حفظ موقع الأبوّة في موقفه الَّذي عبّر عن شعوره العاطفيّ تجاه ضلال أبيه وخوفه من أن يمسَّه عقاب الله. وقد جاء ردُّ أبيه من موقع مَنْ يشعر بسلطة الأبوّة الَّتي تضغط على الابن ليسير في خطاها، وتهدِّده بالقوَّة والطّرد والهجران إن خالف ذلك، فلا حوار ولا كلام بين الابن وأبيه، إنّما هو الأمر والطَّاعة، فللأب أن يعلن رغبته قبل أمره، وللابن أن ينفِّذ دون تردّد أو تفكير.

إنّها شريعة المجتمع آنذاك، الَّتي تجعل من علاقة الأبناء بآبائهم علاقةً تشبه علاقة العبوديّة الّتي يعيشها العبيد أمام المالكين.

الوعد بالاستغفار

ولم يتراجع إبراهيم(ع) عن إثارة الجوّ العاطفيّ في إعلان موقفه الرّساليّ لأبيه بعد أن رفض دعوته، وقد استطاع أن يوفّق بين الرّسالة والعاطفة، فجعل العاطفة طريقاً إلى رسالته، وشعوراً بالمسؤوليَّة تجاه أبيه، محوِّلاً موقفه إلى موقف إنقاذ، فكان ردُّ فعله أن توجَّه إلى أبيه بالسَّلام، ووعده بأن يدعو له بالمغفرة، بأن يوفِّقه الله لأسبابها من خلال الاهتداء إلى الإيمان، ثمَّ أعلن له ولقومه، باعتبار أنَّ أباه يمثِّل فريق الكفر، بأنّه سيعتزلهم وما يعبدون من دون الله بعد أن قام بواجبه تجاههم.

وقد كان هذا الوعد من إبراهيم(ع) لأبيه بالاستغفار، ناشئاً من أمله في أن يتراجع أبوه عن موقفه ويعود إلى الله، وليس ناشئاً على الإطلاق من إحساسه بأنَّ القرابة تمثِّل امتيازاً يميِّز أباه عن غيره؛ ولذا أعلن البراءة منه بعد أن يئس من إيمانه وظهرت عداوته لله.

وإنّنا ـ في هذا المجال ـ نستطيع الاستفادة من هذا الأسلوب في المواقف الَّتي نحتاج فيها إلى دعوة الأشخاص الّذين تربطنا بهم بعض الرّوابط العائليَّة المتّصلة بالعاطفة من نسبٍ أو غيره، لنتعلَّم من إبراهيم(ع) كيف نشحن الحوار بالمشاعر الّتي تسهِّل المهمَّة، بما تثيره لديهم من مشاعر تسهّل انسجامهم مع الأجواء الحميمة للحوار، من دون أن يخلق ذلك انجرافاً مع العاطفة لمصلحة الكفر والضّلال، لأنَّ الأسلوب العاطفيّ في هذه الحال، لا ينبع من حالةٍ نفسيَّة عفويَّة، بل يرتكز على تخطيطٍ يعتبر العاطفة جزءاً من الخطَّة العامّة، تخضع لما تخضع له تلك الخطّة من مرونة ووعيٍ وثبات.

وفي ضوء هذا، نجد أنَّ من واجبنا إعطاء الأسلوب بعض القوَّة، وخصوصاً إذا عمد الّذين ندعوهم إلى استغلال أسلوبنا العاطفيّ لأغراضٍ في غير صالح الدّعوة إلى الله، تماماً كما كان عليه الأسلوب الآخر لإبراهيم(ع) مما أشرنا إليه، ليظلَّ الأسلوب في كلتا الحالتين منسجماً مع خطّ الحكمة الذي يريد الله للدَّعوة أن تسير عليه.

وقد نشعر ـ في نهاية هذا العرض ـ بالحاجة إلى الاستفادة من الأجواء الرّوحيَّة في بعض حالات الحوار، بين أسلوبٍ يربط المتحاورين بفضل الله ونعمه، وأسلوبٍ ينقل الموقف إلى ابتهالٍ خاشعٍ يمارسه الدَّاعية للتَّأثير النَّفسيّ في الآخرين، عندما يشغلهم عمَّا هم عليه بروعة المناجاة وخشوع الابتهال.

أسلوب إبراهيم(ع) في الدَّعوة

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً}[2]. قد يكون من الضَّروريّ للنَّبيّ أو للدَّاعية ـ بشكلٍ عامّ ـ أن يستحضر في وعيه ملامح الشَّخصيَّات الرّساليَّة الَّتي تمثِّل النَّموذج الأكمل لحركة الإنسان الرّساليّ في الدَّعوة، ليدرس أساليبها، ويستلهم روحيَّتها، وينتفع بتجربتها. ومن أبرز هؤلاء، النبيّ إبراهيم(ع)، وهو النبيّ الصّدّيق الّذي كانت حياته كلّها صدقاً مع نفسه، ومع ربّه، ومع النّاس من حوله، فلم يجامل أحداً في الحقّ، ولم يهادن قريباً أو بعيداً في مستلزمات الرّسالة، ولم يترك في حياته فراغاً لغير الرّسالة، بل كانت الرّسالة كلَّ فكره وهمّه وكلّ حياته، فقد كانت تجربته غنيّةً بالتنوّع الّذي يحكم جوانبها، كما كانت روحيَّته في علاقته بالله، وفي إخلاصه للرّسالة، في المستوى الأعلى من روحيَّة الأنبياء والصدِّيقين.

ومن تجاربه الرّائعة التي تعكس عمقه الرّوحيّ، تجربته مع أبيه؛ {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً}[3]، فقد رأى أباه يعبد الأصنام الحجريَّة الّتي يعبدها قومه، خاضعاً بذلك ـ كغيره ـ لعادة السَّير على خطى الآباء والأجداد وتقليدهم في السّلوك، بسبب غياب الوعي الفكريّ الّذي يكفل عدم صدور أيِّ عملٍ عن الإنسان إلا بعد دراسة طبيعته وخلفيّاته ونتائجه.

وهكذا، أراد إبراهيم(ع) أن يثير التّساؤل في تفكير أبيه، وذلك بأن يطرح الجانب اللامعقول في هذه العبادة، بطريقةٍ بسيطةٍ لا تكلُّفَ فيها، فلا يتكلّف الإنسان ـ من خلالها ـ بذل أيّ جهدٍ في التّفكير من أجل اكتشاف انحرافها عقيديّاً، محاولاً أن يهزَّ جمود الموقف عنده بطريقة الصّدمة وأسلوب الإثارة، فهاجم هذه المقدّسات الوثنيَّة الحجريَّة الجامدة بعنف، إذ كيف يمكن لعاقلٍ أن يعبد هذه الحجارة التي لا تسمعه إذا خاطبها في حاجةٍ أو سؤالٍ أو خضوعٍ وابتهال، ولا تبصره إذا وقف أمامها وقفة عبادة، لأنها لا تملك أيَّ حسٍّ يوحي بالتأثّر والانفعال فيما يقوم به الآخرون تجاهها؟! فكيف يمكن أن تكون آلهةً تُعبَد من دون الله، وهي لا تملك أيَّ إحساسٍ بنا وبالآخرين في غيابٍ كلّيّ عن الإنسان والكون والحياة؟! ثمّ ما الَّذي تملكه من قوّةٍ وقدرةٍ على التّأثير فيما حولها ومن حولها؟! إنها اللاشيء في عالم الحركة الحيَّة، فكيف تستجيب لدعوات النّاس الّذين يعبدونها ويتوسّلون إليها؟! وكيف تدفع عنهم الضَّرر، أو تجلب لهم النَّفع، أو ترفع ضغط الواقع عنهم؟! فما فائدة عبادتهم لها، وما قيمتها على مستوى الوجود كي تُعبد؟! إنها اللافائدة واللامعنى واللامعقول واللاإحساس بأيِّ شيء في الحياة.

وعظ إبراهيم لأبيه

ويدعو إبراهيم أباه من منطق العارف الَّذي ينطلق في منهجه من خلال علمه، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}، فقد عشت تجربة الفكر الَّتي أعطتني المعرفة التّأمّليَّة، وقد عشت تجربة الواقع، فمنحتني الثّقافة العمليَّة، وقد ألهمني الله من وحيه الكثير من تفاصيل العقيدة والشَّريعة والمنهج العمليّ في الحياة، واستطعت من خلال ذلك كلِّه أن أحصل على المعرفة الواسعة التي تتيح لي هداية الناس وإرشادهم ودعوتهم إلى الله. والمسألة هنا ليست مسألة ابن وأب، وإنما هي مسألة عالمٍ وجاهل، وليست قضيّة عُمر كبير أو عُمر صغير، لأنَّ أهميَّة العمر هي فيما يختزنه الإنسان من تجربة، لا فيما يستهلكه من لحظات زمنيَّة، فإذا كان العمر خالياً من تجربة الفكر وتجربة الواقع، فإنَّه لا يمثِّل امتداداً في قيمة الزّمن في حساب العلم.

{فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}[4]؛ الصِّراط الّذي يقودك إلى الإيمان بالله والعمل بما يرضيه، والانفتاح على الآفاق الرّحبة في الحياة، والوصول إلى جنَّته ورضوانه، وذلك هو سبيل السّعادة في الدّنيا والآخرة.

{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}، الَّذي يوسوس للإنسان بوساوس الشرّ، ويزيّن له أفعال الجريمة والابتعاد عن الله وعن خطِّه المستقيم، إلى غير ذلك مما يجلب له الشّقاء في الدّنيا والآخرة، فابتعد عنه، واقترب من ساحة الله في خطِّ عبادته، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}[5]، لأنَّ الشَّيطان عصى الله في البداية عندما أمره بالسّجود لآدم، وما زال مقيماً على معصيته، وداعياً الآخرين إليها، ليقودهم إلى عذاب السّعير.

{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن}، بسبب طاعتك للشَّيطان وعصيانك لله، {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}[6]، فيتولّى الشَّيطان أمرك، لأنَّك تتولّى مواقفه ومواقعه، ومن كان الشَّيطان مولاه، فإنّه سائرٌ إلى الهلاك، ومن كان الرّحمن مولاه، فإنّه سائرٌ إلى الخير والنَّجاح والفلاح.

فكان جواب الأب: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ}، كيف تتجرّأ على الانفصال عن خطِّ أبيك، فتتركه وتترك مقدَّساته، وترغب عن آلهته الَّتي يعبدها؟ وما هذا اللّغو الَّذي تتحدَّث به؟ وكيف تجرؤ على أن تتَّخذ لنفسك صفة الواعظ المرشد الموجِّه لأبيك؟ متى كان الصّغار يعلِّمون الكبار، أو يناقشونهم في أقوالهم وأفعالهم؟ هل تريد مني أن أناقشك في كلامك أو أستمع إليك؟ وإذا كان هذا ما تفكِّر فيه، فإنَّ ردّي الوحيد عليك هو: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ـ عن هذه الذهنيَّة، وهذا السّلوك، وهذا الكلام ـ لَأَرْجُمَنَّكَ}، وهذا تهديد له بالقتل رمياً بالحجارة، {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}[7]، ابتعد عني وقتاً طويلاً، واخرج من داري، بحيث لا أراك ولا تراني، لأني بريء منك ومن عقيدتك وسلوكك.

ردّ إبراهيم على التَّهديد

وهكذا، رأينا أنَّ أبا إبراهيم(ع) لجأ إلى أسلوب الكافرين المعاندين التقليديّ نفسه، الّذي لا يجد الكافر فيه ما يقوله دفاعاً عن موقفه، لأنَّ عقيدته لم تنطلق من موقع فكرٍ واقتناع، فيلجأ عندئذٍ إلى التَّهديد والوعيد، ليغطِّي بذلك ضعفه أمام الكلمة الواعية المسؤولة. وكان ردّ إبراهيم(ع) على هذا التّهديد: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ}، فلن أستخدم الأسلوب الّذي استخدمتَه معي، والَّذي ينذر بالحرب عليَّ، ولن أهدِّدك كما هدَّدتني، فإذا كنت قد أعلنت الحرب عليَّ، فإني أردُّ عليك بالسَّلام الّذي يعيشه المؤمن في علاقته بالآخرين، حتى مع الّذين يعادونه، فيعفو عنهم ويصفح إذا أساؤوا إليه أو أجرموا في حقِّه، ليدفع بالحسنة السيّئة، ويفسح لهم في المجال للتّراجع عن موقفهم السيِّئ، ولو بعد حين. فالمؤمن داعية سلام لا داعية حرب، لأنه ليس إنسان الصِّراع، بل إنسان الهداية والإرشاد.

{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}، لعلَّه يستجيب لي، فيفتح قلبك على الإيمان، ويهديك سواء السَّبيل، ولو بطريقةٍ خفيّةٍ غيبيَّة، فإن لم أستطع أن أهديك بطريقتي الخاصَّة، فإني أطمع أن تهتدي بلطف الله ورضوانه وعنايته، فسأدعوه بإخلاصٍ، وأبتهل إليه بخشوع، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}[8]، فلا بدَّ من أن يسمع دعائي، وهو الّذي يعرف صلاح الأمر كلّه، ولا أزال أطمع في أن تكون لك فرصة للخير في حياتك.

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، لأنَّ دعوتي إلى الخير منطلقة من الله، أمّا دعوتكم، فهي من الشرّ القادم من الشّيطان، ولن يلتقي الباحثون عن الخير بالباحثين عن الشرّ في أيّة نقطةٍ من الطّريق، لأنَّ طريق كلّ منهما مختلف عن طريق الآخر، ولذلك، فإنّي سوف أبتعد عنكم كما تريدون، وكما يفرض عليَّ الموقف والموقع العائليّ. {وَأَدْعُو رَبِّي}، وأرجع إليه، وأرجو رحمته ورضاه، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً}[9]، لأنّه يشمل عباده برحمته، فيستجيب لهم إذا دعوه، ويلبّيهم إذا نادوه، ويُقبل عليهم إذا ناجوه، فهو الربّ الرَّحيم الّذي سبقت رحمته غضبه، فلا يحجب رحمته عن السّائرين إليه، الرّاجين رضاه.

{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، فأعطى من نفسه المثَل الحيَّ والنّموذج الأكمل، الّذي يرفض كلَّ مشاعر القرابة في مقابل مواقف الإيمان، لأنَّ علاقته بالله تعلو فوق كلِّ علاقة، كما أنَّ رضا الله يسبق رضا كلِّ من يتَّصل بهم من النّاس. وهكذا ابتعد عنهم واعتزلهم، وانصرف إلى مجتمعٍ آخر يختلف عن مجتمعهم المعاند المليء بالحقد والعداوة، ليستكمل دعوته إلى الله، ويفتح قلوب النّاس على الحقّ، وبهذا يكون قد استكمل تجربته الأولى الصَّعبة، وبلّغ رسالة الله بكلِّ قوّةٍ وإخلاص.

انطلاق التَّجربة الجديدة

وأراد أن يبدأ تجربةً جديدةً في موقعٍ آخر، فأفاض الله عليه في تلك المرحلة بأن رزقه ولده إسحاق، ومن ورائه يعقوب، رحمةً به وكرامةً له، {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً}[10]، فكانت النبوّة في ذريّته، وامتدَّت الرّسالة في حياتهم، وارتفعت درجاتهم في مواقعها ومواقفها، بعد أن أسلموا لله كما أسلم إبراهيم، وأخلصوا له بكلِّ جهدهم الروحيّ والإيمانيّ، {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}[11]، بما يعبّر عن الثّناء الجميل، والذّكر الحسن، جزاءً لهم على إيمانهم وجهادهم وإخلاصهم لله.

وهكذا يكون جزاء العاملين في سبيل الله، الدّاعين إليه، المنفتحين على رسالته، الحصول على رضا الله. وهكذا انطلقت تجربة إبراهيم(ع) مع أبيه، في عمليّة إيحاء رساليّ وروحيّ وحركيّ، وتنوّعٍ في المشاعر والأحاسيس، لتكون درساً وعبرةً لكلِّ النّاس من بعده.

والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [مريم: 43].

[2]  [مريم: 41].

[3]  [مريم: 42].

[4]  [مريم: 43].

[5]  [مريم: 44].

[6]  [مريم: 45].

[7]  [مريم: 46].

[8]  [مريم: 47].

[9]  [مريم: 48].

[10]  [مريم: 49].

[11]  [مريم: 50].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية