الحوار الإسلامي الغربي: العوائق والشروط
لعل من المشكلات التي كان يعاني منها الواقع الإنساني، وما يزال، هي مسألة الحوار القائم على الاعتراف بالآخر، وحلحلة المشكلات والعوائق الذاتية والخارجية. وبدل السعي إلى اجتياز الحواجز النفسية والثقافية والفكرية، وإزاحة المطلقات والمسبقات من طريق أي حوار، لإقامة علاقات متوازنة بين الشعوب والدول، وبناء المجتمعات على أسس سليمة، نجد أنه يتم التعامل بين مختلف المواقع باستعلاء واستكبار، حيث يحاول القوي أن يتسلط على الضعيف. ولأهمية الحوار، ولما له من دور في إزالة الالتباسات والإشكالات من أجل إرساء قواعد سليمة في التعامل الإنساني، نجد أنّ سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل الله، ومن منظور قرآني، أطلق شعار "لا مقدسات في الحوار"، وأفرد له مساحات واسعة، وفي مختلف المواقع، في ما يخص الأمة وقضاياها المصيرية، ولاسيما في حركة علاقتها بالغرب، واضعاً بذلك الأسس والقواعد التي يجب أن تتوفر في أي عملية حوارية.
عقبات ذاتية
يرى سماحة السيِّد، أن الحوار كي ينجح، لا بد من إزالة العوائق التي تقف حائلاً أمام تحقيقه، وبالتحديد العوامل الذاتية، التي تشكل المقدسات التي نصنعها ونمنع الحوار فيها أولى هذه الخطوات، ولذلك يقول:
"نحن ربما اصطنعنا مقدسات ومنعنا الحوار في هذه المقدسات، لأننا نخاف على المقدسات أن تهتز في بعض مفرداتها أو في بعض تفاصيلها، فنحن لا نمنع أن يكون للإنسان مقدس، ولكن أن يفحص هذا المقدس في داخله، في عناصره الذاتية، فربما يكون شيئاً ورثه كما يرث أثاث بيته، وربما يكون شيئاً انفتح عليه نتيجة حالة ضعف، فهو يحاول دائماً أن يلجأ إلى المقدسات دون أن يفهمها جيداً، لذلك أطلقنا منذ سنين شعار: «لا مقدسات في الحوار»، وقلت إننا نستطيع أن نتحاور في كل شيء، والله سبحانه وتعالى تحدّث في القرآن الكريم عن الحوار"(1).
ولكن "إذا استقام للمتحاورين أنهما لا يحملان معنى عدوانياً، بإمكانهما أن ينطلقا من أجل أن يتحاورا في كل شيء، وبإمكان الإنسان أن يحاور الآخر في كل ما يختلف معه أو ما يريد أن يتفاهم حوله"(2).
تقبُّل الآخر
"لذلك، علينا أن ننتج مجتمعاً يتقبل الحوار مع الآخر، وإذا أردنا أن ندخل في الحوار مع الآخر، فإن علينا أن نقبله، أن نستمع إلى وجهة نظره في ما يفكِّر فيه، لنناقشه ونحاوره في القضية من خلال وجهة نظرنا، أن نتركه يتحدّث عن وجهة نظره لنحاوره في ذلك، كما نتحدّث عن وجهة نظرنا ليحاورنا فيها.
إن المشكلة في كثير مما نعيشه، هو أننا نتحدث مع الآخر من خلال ما نحن لا من خلال ما هو. ولذلك يتحول الحوار إلى ما يشبه حوار الطرشان،كما يقولون، فهو يتحدث من دون أن تفهم شيئاً، وتتحدث أنت من دون أن يفهم هو شيئاً، ولعل من أعظم شروط الحوار، هو أن تعترف بالآخر، هذا الشيء الذي نفقده في الشرق، وهو عدم الاعتراف بالآخر، وهي مسألة غير إنسانية وغير واقعية... ولذلك، يجب أن نعيش في الواقع، وأن تكون لنا شجاعة الاعتراف به، لأن ذلك هو الذي يجعلنا نكتشف إيجابية الآخر وسلبياته، لنعاونه أو نساعده على أن يكتشف إيجابياتنا وسلبياتنا، وأعتقد أن هذا الأسلوب، يمكن له أن يحقق الكثير من التقارب الفكري ومن الاحترام الإنساني، ولعل هذا يمثل ظاهرة في هذا العالم الشرقي، وربما يمتدُّ إلى العالم الثالث غير الشرقي. وقد ترى بعض الناس يحدّثونك عن عدم الجدوى من هذه التجربة، ليستحضر الكلمة المشهورة: الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا، ولذلك يعتبرون أن عدم اللقاء يمثل حتمية واقعية في هذا المجال"(3).
شروط الحوار:
أما في ما يخص شروط وظروف الحوار الحقيقي بين العالمين العربي والإسلامي وبين الغرب، فثمة من يرى أن هناك موروثات تاريخية تمنع من الحوار، وتتمثل هذه في محطتين أساسيتين: الحروب الصليبية، والجهاد، ولذلك لا يتحقق الحوار من دون الاتفاق أولاً على إعلان نهاية الحروب الصليبية والجهاد، وفي ذلك يقول سماحته:
"من شروط الحوار الهادف إلى الوصول إلى قاعدة الفهم المتبادل، هو أن لا تكون هناك شروط مسبقة يفرضها أحد الطرفين على الآخر، من خلال إصدار الحكم عليه بشكل حازم لا يقبل أية مناقشة. وعلى ضوء هذا، فإننا نبدأ من الحروب الصليبية التي ربما يخيل للبعض أنها تمثل عقبة في واقعية الحوار بين الغرب والإسلام. نحن نعتقد أن الحروب الصليبية كانت منطلقة من ظروف معينة تختزن في داخلها الرغبة الدينية المسيحية في تحرير الأراضي المقدسة للمسيحيين في القدس، والتي يعتبرها المسيحيون محتلة من قبل المسلمين، إضافة إلى بعض الظروف السياسية والداخلية الموجودة في الغرب أو خارجه في هذا المجال. ولذلك، لا نعتبر الحروب الصليبية التي عاشت في مرحلة زمنية معينة وانتهت بجميع مفاعيلها ومؤثراتها لاسيما بعد تحرير فلسطين من الاحتلال الصليبـي، أنها تمثل عقدة لدى المسلمين، لأن الغربيين في هذه المرحلة، كما المسلمين، لا يعيشون حركية هذه الحرب بالمعنى الديني إلا ما قد يعيشه بعض الناس من مشاعر سلبية أو إيجابية، كما يعيش البعض التاريخ السلبي أو الإيجابي في مجالاتهم.
أما مسألة الجهاد، فإن الغرب قد يحمّلها ما لا تحتمل، لأن الجهاد في الإسلام بقاعدته الوقائية والدفاعية، لا يختلف عن أي حرب يثيرها أي فريق في العالم لا يؤمن بالعدوان على الناس الآخرين، فالإسلام يمنع المسلمين من أن يعتدوا على أي إنسان مسالم لا يريد لهم حرباً ولا يضطهدهم أو يخرجهم من بلادهم، فالله يقول: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (البقرة:190)، ويقول: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} (الممتحنة: 8-9).
إن إعطاء كلمة الجهاد معنى عدوانياً، بحيث يخيَّل للآخرين أن المسلم يمسك سيفاً فوضوياً عدوانياً يحاول من خلاله أن يضرب أي إنسان غير مسلم ليقهره على الدين، هو أمر غير واقعي، ولا يمت إلى الحقيقة بصلة.
لذلك نقول، إذا بقيت هناك بعض الذهنيات التي قد تسيء فهم هذا العنوان، كما نجد ذلك في حديث بعض المسؤولين الغربيين، ومن بينهم بوش، وما تحدّث به بعد 11 (سبتمبر ـ أيلول)، وإن كان قد اعتذر عن كلامه بعد ذلك بأنه زلّة لسان لا يقصد به المعنى الديني، إذا بقيت بعض هذه الذهنيّات، فإنه لا مجال حينها للحوار.
من هنا، يمكن للغرب أن يطرح تصوره في القاعدة الفكرية التي يرتكز عليها، حيث يعتبر أن الدين خارج نطاق الحياة والسياسة والقانون وما إلى ذلك، وأن ينطلق من القاعدة الفلسفية المادية في نظرته إلى مسألة الحريات الفردية للإنسان، وفي مسألة الاقتصاد في أبعادها الرأسمالية أو الاشتراكية، أو التي تأخذ دور الوسط بين المادية والاشتراكية، في قضية التبادل بينه وبين الشعوب الأخرى، وفي العلاقات التي ينبغي أن تركز على أساس النفعية.
على ضوء هذا، فإننا كمسلمين، نشعر بأن علينا أن نحاور العالم كله، والإنسان كله، وفي كل شيء، لأن مسؤوليتنا في الدعوة إلى الإسلام تبدأ بأن يفهم الناس الإسلام، وأن يفهم المسلمون الأفكار التي يفكر بها الآخر، على أساس أن الإسلام يعلمنا أن نلتقي مع الآخرين على كلمة السواء، ثم نتحاور بيننا وبينهم في ما اختلفنا فيه. لذلك لا نجد أي مشكلة في مسألة الحوار بين الإسلام والغرب"(4).
لا حدود للحوار
ومن جانب آخر، يلفت سماحته إلى "أنه يجب علينا أن نفهم حقيقة، وهي أنه لم يعد هناك شرق وغرب، بل أصبح العالم، كما يقولون، قرية واحدة، يتأثر فيها الشرق بما يحدث في الغرب، كما يتأثر الغرب بطريقة وبأخرى ـ مع بعض الفوارق ـ بما يحدث في الشرق، أيضاً لم تعد هناك حواجز حتى في المسألة الثقافية. إننا نعرف أن الشرق تأثر بالغرب عندما انطلقت الترجمات من خلال الفلسفة اليونانية التي أثرت على الفلسفة الإسلامية، وهكذا في الترجمات المتنوعة في أكثر من موقع علمي أو ثقافي، كما أن الغرب تأثر أيضاً بالشرق، وهذا ما حصل في الفترة التي كان فيها المسلمون في الأندلس، حيث استطاع الغرب أن يتأثر بالكثير من الفكر الإسلامي المنفتح، ولعل البعض يتحدث أن الفكر الإسلامي لابن رشد وغيره، هو الذي دفع بالغرب إلى اعتبار التجربة مصدراً للمعرفة، لأن المعرفة كانت تنطلق من خلال التأمل العقلي.
وفي أيامنا هذه، وفي فترة خلت، نجد أن الشرق أقبل على الغرب، وبدأ يتعلم في جامعاته، كما أن الغرب زحف إلى الشرق، فكان الاستشراق يمثل مدرسة تنفتح على كل ما في الشرق من علوم وثقافات وأوضاع وسياسات. إذاً ليس هناك شرق وغرب بالمعنى الذي يفصل عالماً عن عالم، ربما يختلف الغرب في بعض خطوط فلسفته، في قضايا حرية الإنسان وأمثال ذلك، في سعة الحرية وضيقها على المستوى الفردي، عما يؤمن به الشرق. نحن لا نمانع في أن هناك فكراً مختلفاً، لكن لا على أساس أن كل هذا الفكر يختلف مع كل ذلك الفكر، نحن نعرف أن الغرب يختلف في ما يتحرك به من خطط ثقافية وفكرية، كما أن الشرق يختلف في ما يتحرك به من خطوط ثقافية وفكرية"(5).
الحوار والتنوع الأمريكي
وكما في الغرب مستشرقون، هناك في الشرق مستغربون أو متغربون إذا صحَّ التعبير، لهذا ليس الغرب واحداًٍ، وليس الشرق واحداً، سواء في المسائل الدينية أو الإنسانية، أو في قضايا حقوق الإنسان، أو في مسألة الحريات، وفي المسائل السياسية في الديمقراطية والدكتاتورية والاشتراكية وما إلى ذلك. ليس هناك غرب مطلق، وليس هناك شرق مطلق. ثم إن المشكلة التي نعيشها في الشرق أو في العالم الثالث، هي أننا عندما نتحدث عن الغرب، نتحدث عن الإدارات الغربية، وعندما نتحدث عن أمريكا بالذات، فإن الصورة التي تواجهنا وتحرك كل مواقفنا، هي صورة الإدارة الأمريكية في سياستها على مستوى الواقع العربي أو الإسلامي، أو على مستوى العالم، فكأننا عندما نتحدث عن أمريكا، لا نرى فيها إلاّ مظالمها وسياستها التي تدمِّر الكثير من أوضاعنا السياسية والاقتصادية وما إلى ذلك، ولا نتحدّث إلاّ عن الرئيس الأمريكي، وعن إدارته، وعن المحافظين الجدد وما إلى ذلك، ولكن أمريكا ليست هؤلاء، فنحن نعرف أن هناك مراكز علمية وثقافية ومراكز دراسية من أفضل المراكز في البحث والملاحقة لكل القضايا.
قد لا تلتقي بعض هذه المراكز بالخطوط التي نؤمن بها، وقد تلتقي مع الإدارة الأمريكية، ولكن هناك مراكز أخرى تلتقي بالخطوط التي نؤمن بها. لذلك، إذا كان لا بد لنا من أن نعيش في هذا المناخ الأمريكي، فعلينا أن نفهمه، خصوصاً وأنّ مصالحنا ارتبطت بمصالحه، ولأن الكثير من ثقافاتنا وتخصصاتنا ارتبطت بثقافته وتخصصاته، ولأن الكثير من سياساتنا ارتبطت بسياسته، وهكذا بالنسبة إلى أمننا واقتصادنا... نحن لا نستطيع أن ننعزل ونقول: "الموت لأمريكا"، إن أمريكا لا تموت بهذا الشعار. ولمعلوماتكم، إنني كنت ولا أزال من المعترضين على هذا الشعار، لأن أمريكا ليست الرئيس بوش وإدارته، أمريكا هي الشعب.
ولذلك، ليس لدينا مشكلة مع الشعب الأمريكي، وإن كنّا نختلف مع بعض ما يأخذ به هذا الشعب عندما ينتخب رئيساً له بطريقة خاصة، وعندما ينتخب أعضاء في الكونغرس مثلاً، بحيث يصوّتون على كل ما تريده إسرائيل، لكن ليست أمريكا هي كل ذلك.
نحن نريد أن نكون أصدقاء للشعب الأمريكي، وذلك من خلال الحوار، أن ندخل في الحوار مع المؤسسات الثقافية، مع مراكز الدراسات، مع المراكز الاقتصادية، مع الشعب الأمريكي العادي العامل، حتى إن علينا أن نفكر في أن يسعى كلّ الذين يعيشون في أمريكا، من الذين أخذوا جنسيتها وعاشوا فيها من العرب والمسلمين، أن يسعوا إلى الدخول في النسيج الأمريكي. وأنا أرسلت قبل أكثر من سنة رسالة إلى بعض المؤتمرات الإسلامية في أمريكا، وقلت للأمريكيين المسلمين والعرب احتفظوا بهويتكم، لأنه ليس معنى أن تعيشوا في أمريكا أو أن تأخذوا هويتها أن تفقدوا هويتكم، كما أن الكثيرين من الأمريكيين في كل العالم لم يفقدوا هويتهم، ولكن ليعرف الشعب الأمريكي، أنكم تعيشون الاهتمامات التي يعيشها. لا تحدثوهم فقط عن القضية الفلسطينية أو عن القضية العراقية، حدثوهم عن البيئة، عن الضرائب، عن الأمن، عن كل الأشياء التي يهتم الشعب الأمريكي بها. إن ذلك يمثل القاعدة التي تستطيعون من خلالها أن تحصلوا على ثقة الشعب الأمريكي. إنكم لستم مجرد مغتربين طارئين، بل أنتم جزء من هذا الشعب الذي لا يملك هوية واحدة، وإنما يمثل تجميعاً من كل شعوب العالم"(6).
واشنطن تسقط الحوار
ولهذا يقولون، إن الفرق بين أمريكا وأوروبا، أن أوروبا تملك كل دولة فيها حضارة، أما أمريكا، فلا تملك حضارة، فهي الآن تحاول أن تصنع حضارة لا ندري ما هو لونها أو طعمها. ونحن نعتقد بأن علينا أن ندخل في النسيج الأمريكي عن طريق الحوار، لذلك أثيرت مسألة الإرهاب ومسألة العنف والرفق، وتحولت أمريكا إلى ما يشبه العالم الثالث الذي يعاقب الإنسان لمجرد انتمائه العشائري أو القومي وما إلى ذلك، وعاش العرب والمسلمون، حتى من يشبههم من الهندوس وغيرهم، حالة طوارئ، ولذلك دعوناهم إلى أن يصبروا حتى تهدأ الضجة، وأن يحاولوا الوقوف إلى جانب الشعب الأمريكي في قضية الأمن، وقد كنت أول شخصية إسلامية أصدرت بياناً بعد أربع ساعات من أحداث 11 أيلول، استنكرت فيه ما حدث، وقلت إن هذا الأمر لا يقبله عقل ولا شرع ولا دين، ليفهم الإنسان الأمريكي أن الإسلام بريء من كل هذا.
إننا حتى لو اختلفنا مع السياسة الأمريكية، فإننا لا نحاربها بهذه الطريقة، كما أننا لا نحارب السياسة الأمريكية بإنزال العقاب على الشعب الأمريكي، كما لا نريد لأمريكا أن تحاربنا بهذه الطريقة، لذلك نحن نقول، إنه لا بد من الحوار مع الغرب بكل الوسائل الممكنة، وإذا كانت الإدارة الأمريكية مستعدة لأن تدخل في حوار موضوعي فلا مشكلة في ذلك، ولكننا نشك في أن تعيش الإدارة الأمريكية مسألة الحوار مع الآخرين، ولعل أفضل دليل على ما نقول، هو ما تحدث به الرئيس بوش، عندما ثار الجدل حول مسألة الإرهاب في قضية الحرب ضد الإرهاب، وتحدث الاتحاد الأوروبي أو بعض دوله، أن علينا أن نبحث في المسألة عن الإرهاب وعن طبيعته، فأصدر كلمته "الشهيرة": «إنه ليس هناك إرهاب سيّىء وإرهاب حسن؛ كله إرهاب»، وبهذا أدخل القضية الفلسطينية في دائرة الحرب ضد الإرهاب، ولا زالت تعاني، حيث أبعد المسألة السياسية عن القضية الفلسطينية، وجعلها في دائرة الأمن، وتلقفها شارون، وما يزال الفلسطينيون يعيشون هذه المشكلة في الطريقة التي أدارها الرئيس بوش، عندما وضع العربة قبل الحصان، ولم يضع الحصان قبل العربة، لأن المسألة الفلسطينية هي مسألة سياسية قبل أن تكون مسألة أمنية.
لذلك رفض أن يدخل في حوار، ونحن نعرف أن المرحوم الرئيس حافظ الأسد، أطلق هذه المسألة عندما قال: نحن معكم في الحرب ضد الإرهاب، ولكن حدّدوا لنا ما هو مفهوم الإرهاب؛ هل الذين يحاربون دفاعاً عن استقلال وطنهم هم إرهابيون أو لا؟ ورفض الرئيس بوش ذلك، لأنه يتحدث بلغة النبي الذي أرسله الله إلى العالم، من أجل أن يصلح العالم في رسالة الديمقراطية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك، مما يتمثل الآن في العراق وفي فلسطين"(7).
المسألة ليست ثقافية
وعن العلاقة المعقّدة بين الشرق والغرب، والسبل لإقامة علاقات متوازنة بينهما على الصعد كافة؛ الاستراتيجية، المصلحية، الفكرية، الثقافية، الاقتصادية والنفطية، يقول سماحته:
"عندما نتحدث عن العلاقة بين الشرق والغرب، فإننا لا نعتقد أن للبعد الجغرافي دوراً في تخطيط العلاقات، إلا من خلال ما يمثله هذا للإنسان في هذا الموقع الجغرافي من أفكار ومصالح ومخاوف، أما في الاتجاه الآخر، وفي الموقع الآخر، فإننا عندما ندرس المسألة في الشرق والغرب، نلاحظ أن التطورات الإنسانية في جميع المواقع والجوانب، جعلت كثيراً من الشرقيين غربيين، كما أنها أعطت الغرب بعض الملامح الشرقية هنا وهناك. هذا التداخل في الثقافات والأوضاع السياسية والاقتصادية، جعل هناك مجالاً واسعاً لأن يفرض فريق نفسه في كل أبعاده على الفريق الآخر، بحيث أصبح الفريق الثاني صورة مشوهة في بعض الحالات للصورة الموجودة لدى الفريق الأول.
على ضوء هذا، لا بد من أن ندرس المسألة في الجانب الفكري، وعلى المستوى الثقافي والديني والاجتماعي والإنساني، وعليه يمكن أن يتكفل في هذه المسألة بأن ندرس ما عند الشرق من أديان وأفكار ومفاهيم وعادات وتقاليد، وما عند الغرب، ليدور الحوار حول هذا أو ذاك، وحول ما إذا كان هناك تباين بين الخطتين الثقافيتين، أو أن هناك مواقع لقاء. فإذا لاحظنا وجود تباين في الذهنية، فمن الطبيعي أن يكون الحوار من أجل التقريب بين الذهنيتين، وإذا وجدنا مواقع لقاء كما هو الواقع في كثير من المجالات الفكرية العملية في أكثر من جانب من جوانب الحياة الإنسانية، فإننا نقف على مواقع اللقاء أو نتحاور في مواقع الخلاف.
إننا نتصوَّر أنّ المشكلة الآن بين الغرب والشرق، ليست في العمق على مستوى العلاقات الثقافية، وإن كان للثقافة دورها في أكثر من جانب، ولكنها تأخذ مناحي اقتصادية وسياسية وأمنية. فالغرب بما يملك من قوة عسكرية وتكنولوجيا مادية وما إلى ذلك، يحاول السيطرة على الشرق من خلال السيطرة على مواقعه الاستراتيجية. وعندما تحدث صراعات في الغرب نفسه حول الموقع الاستراتيجي الذي يسيطر به على مصادر القوة، كما البترول والأسواق الاستهلاكية والاستثمارات، فإننا نلاحظ أنه يحاول أن يسيطر على الشرق، لأن الشرق هو مخزن الثروات، ويتمتع بمواقع استراتيجية، فضلاً عن كونه يشكل مجالاً واسعاً للتوظيفات الاقتصادية والاستثمارات والأسواق الاستهلاكية"(8).
حدود المصالح
"ولذلك، نتصور أن المسألة إذا ما أريد لها أن تخضع لقاعدة، فلا بد من أن تكون هذه القاعدة مرتكزة على أساس الاحترام المتبادل. على الغرب أن يعي بأن مصالحه لن تستقر في الشرق إلا على أساس احترام الشرقي في قضاياه الحيوية، وفي قراراته المصيرية المتعلقة بمسألة الاكتفاء الذاتي، والحرية في سياسته واقتصاده وأمنه. لا بد من أن يكون الحوار والعلاقات مرتكزين على أساس أن يكفل الغرب للشرق قضاياه الحيوية، وأن لا يقبل عليه باستكبار واستعلاء، ليصادر سياسته لتكون على هامش سياسته واقتصاده وأمنه.
وهنا يجب أن نشير إلى أن العولمة الاقتصادية والسياسية والأمنية تمثل كلمة حق يراد بها باطل، باعتبار أن الغرب يحطم كل الحواجز التي تقوم بين شركاته الواسعة وبين مواقع الشرق، سواء كان الشرق عربياً أو إسلامياً، لذلك، فإنّ المسألة تحتاج إلى أن يحترم الغرب الشرق، وتحتاج إلى حوار حول الحدود الفاصلة بين مصالح الغرب ومصالح الشرق، لتكون العلاقات مبنية على المصالح المتبادلة.
لكننا نلاحظ أن الغرب يحاول دائماً أن يجعل الشرق في حالة ابتزاز، من خلال أجهزته الاستخباراتية، ومن خلال ضغوطاته العسكرية والاقتصادية، لتبقى له السيطرة على كل مقدرات الشرق. وعلى ضوء هذا، لا نرى أية إمكانية واقعية للحوار على أساس التكافؤ في المواقع والقضايا. فعلاقة الغرب بالشرق هي علاقة استكبار يراد بها إضعاف المستضعفين وقهرهم بوسيلة أو بأخرى"(9).
تمايز أوروبي _ أمريكي
"ثم إن هناك أيضاً نقطة أخرى، وهي مسألة العلاقات الاقتصادية بيننا وبين الغرب، ولا سيما بيننا وبين الاتحاد الأوروبي، وعلينا أيضاً ونحن نتحاور مع الغرب، أن نفرِّق بين الغرب الأمريكي، طبعاً على المستوى السياسي، وبين الغرب الأوروبي، لأننا نعرف أن الغرب الأوروبي بدأ يفهم بشكل جيد الواقع الذي يعيش فيه الشرق، سواء الشرق العربي أو الإسلامي، حتى وإن كان لا يزال يخضع للضغط الأمريكي"(10)، ولذلك "لا بد لنا من أن ندرس طبيعة المساحة، مساحة الصراع بين الفريقين الغربيين، فقد نلاحظ أن أوروبا أقرب إلينا من حيث فهمها لقضايانا، أو من خلال قربها إلينا، أو من خلال تقاطع مصالحها مع مصالحنا. ربما نكون في حاجة إلى حركة ذكية، واعية، نقترب بها من أوروبا التي لم تستكمل حتى الآن قوتها، لأنها لاتزال خاضعة في كثير من خطوطها السياسية والأمنية للسيطرة الأميركية. إنها لاتزال في حال تململ اقتصادي، وتحاول أن تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، لتحتفظ لنفسها باقتصاد مستقل من خلال الاتحاد الأوروبي. نعتقد أن علينا أن ندرس الثغرات المفتوحة لنا التي يمكن أن ننفذ منها.
ليست المسألة أن نكون أوروبيين فقط، أو نكون أميركيين، بل أن نحاول أن نستفيد من بعض مواقف الأوروبيين بحسب مصالحهم، ومواقف أميركا بحسب مصالحها. إن العالم يرتكز على أساس المصالح، والمصالح غالباً ما تتركز على أساس الاقتصاد. علينا أن ندرس مواقع أقدامنا في خطواتنا، من أجل العلاقات المتوازنة مع هذا الفريق أو ذاك، وإن كانت المرحلة الحاضرة قد تجعلنا أقرب إلى أوروبا من أميركا، لأن أوروبا أقرب إلينا من خلال مصالحها من أميركا"(11).
نأخذ من الغرب
وإذا ما كان الغرب، كحضارة تكنولوجية ـ فكرية، يخترق معظم مناحي الحضارة العربية ـ الإسلامية، وإذا ما كان الحوار معه يشكل في العمق حواراً أيضاً مع الذات العربية ـ الإسلامية، يقول سماحته:
"من الطبيعي أن علينا أن نستفيد من حضارة الآخرين، فقد سبقنا الغرب في التكنولوجيا، وكنا سبقناه في مصادر المعرفة إلى جانب التأمل والتفكير، ولكننا وقفنا عند حدودنا وتحرك الغرب في هذا المجال. لذلك نشعر أن علينا أن نأخذ من الغرب كل العناصر التي تمثل التقدم العلمي والتكنولوجي وما إلى ذلك، ونحاول أن نوفق بين ما نأخذه وبين ما نملكه من مبادئ، ثم نحاول أن ندرس لماذا تخلفنا؟ ولماذا لم نأخذ بسياسة التصنيع؟ ولماذا لم نشجع العلماء عندنا من أجل أن يبدعوا ويأخذوا بأسباب التقدم، لماذا طردنا علماءنا وضيقنا عليهم، واستطاع الغرب، ولاسيما الغرب الأميركي، أن يشتري أدمغتهم، وأن يوظفهم ليعملوا على أساس تطوير علومه التي يسيطر من خلالها علينا؟
إنّ مشكلتنا، أن الواقع العربي الإسلامي لا يحكم من خلال الشعوب، بل من خلال أشخاص عاشوا لذواتهم ولم يعيشوا لأمتهم، ولهذا ركَّزوا التبجيل والتخلف، لأنه هو الذي يبقيهم في مواقعهم التي ربما وظفها الاستكبار العالمي.
والمشكلة عندنا أيضاً أن العلماء الذين يبلغون درجة عالية من العلم في كل مواقع العلم، لا يجدون الفرصة لتفجير طاقاتهم العلمية في بلاد العرب والمسلمين، لهذا يهاجرون إلى الخارج. لذا علينا أن نعيد النظر فيما نحن فيه، لأن إعادة النظر في ذلك قد تجعلنا نكتشف نقاط الضعف فينا، ونقاط القوة عند الآخرين، لنحاول تقوية نقاط ضعفنا من خلال ما ندرسه من مواقع القوة عند الآخرين، أو من خلال ما ندرسه من عناصر القوة فيه"(12).
إدارة العلاقات مع أوروبا:
وحول كيفية إدارة العلاقة مع الأوروبيين، قال سماحته:
"لطالما شعرنا ـ كمسلمين ـ بأن حوارنا مع أوروبا يستدعي حركة تقارب وتفاعل في العلاقات معها، بما يفضي إلى تكاشف على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الدينية، باعتبار أن الإسلام لا يحمل أية عقدة تجاه الآخر، ولا يعمل على تعزيز الفوارق مع الآخرين، بل يتحرك في خطِّ إلغاء هذه الفوارق أو التخفيف منها، لأن الأساس العقيدي الذي يستند إليه، يعمل لصداقة واسعة مع شعوب العالم كلها وليس العكس. ولطالما أحسسنا بأن أوروبا التي أقلعت عن عقلية الاستعمار، وغادرت طموحات الاستكبار، يمكن أن تكون الأقرب إلينا من الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تعمل على استعداء الشعوب الإسلامية واستلاب خيراتها ونهب ثرواتها فحسب، بل تتحرك في خط تصاعدي لاجتياح العالم، ضمن عقلية عدوانية تحملها شخصيات بارزة في الإدارات الأمريكية، باتت تحتقر حتى أوروبا وتنعتها بـ"أوروبا القديمة"، وغيرها من الأوصاف التي تستبطن الرغبة في محاصرة دول الاتحاد الأوروبي، ومنعها من الاحتفاظ بشخصيتها أو التطلع نحو دور قيادي عالمي.
إننا نشعر بأن ثمة هواجس مفتعلة لمنع حصول تقارب وتفاعل حقيقي بين شعوب العالم الإسلامي والشعوب الأوروبية، ونحن نعرف أن الإعلام الصهيوني، والشخصيات الإسرائيلية واليهودية، يعملون على إذكاء نيران هذه الهواجس، واختلاق أحداث ومعطيات موهومة لتوسيع نطاق هذه الهوة، ولتحذير أوروبا كي تعمل على إنقاص عدد المسلمين فيها، أو المهاجرين المفترضين إليها، كما تحدث بذلك أكثر من مسؤول إسرائيلي حالي أو سابق، كشمعون بيريز.
ونحن في الوقت عينه، نعرف أن ما تقوم به الجهات التكفيرية في العالم الإسلامي، من إساءة إلى بعض الغربيين، أو ما تتحرك به في الخطاب المتخلّف، يساهم في تقديم نظرة مشوّهة عن الإسلام للمواطن الأوروبي، أو حتى للناخب الأوروبي الذي له دوره الكبير في توسعة أو تضييق العلاقات مع هذا البلد الإسلامي أو ذاك، أو في مسألة انضمام هذا البلد الإسلامي أو ذاك لعضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن ذلك لا يعفي المسؤولين الأوروبيين الرسميين، والكثير من الأحزاب الأوروبية ووسائل الإعلام الأوروبية المتعددة، من مسؤولياتها في إثارة العقد والحساسيات وحتى الأحقاد حيال الشعوب والبلدان والمجموعات الإسلامية.
إنّ على الأوروبيين أن يفهموا أن المسلمين الذين اندمجوا معهم في مواطنيتهم، أو الذين يهاجرون إليهم طلباً للعلم أو الرزق، لا يعملون لاجتياح أوروبا، بل يشاركونهم في حياتهم، وحتى في مشاريعهم وأوضاعهم، حتى في الوقت الذي يقدّمون فكرهم وآراءهم السياسية والثقافية والدينية، فإنهم في الأغلبية الساحقة منهم لا يمثلون عنصر تخريب أو إقلاق أو تعقيد للعلاقات مع الشعوب الأوروبية وهذا ما ينبغي أن يشكل عاملاً حاسماً في إسقاط الهواجس المفتعلة في خط العلاقات الإسلامية الأوروبية.
إننا ـ ومن موقعنا الإسلامي ـ ندعو إلى إدارة حوار إسلامي أوروبي، وعربي أوروبي، على نطاق واسع وشامل، تشترك فيه الشخصيات الثقافية الأوروبية، والأحزاب السياسية، والشخصيات الرسمية، ومراكز الدراسات الأوروبية، كما يشترك فيه مراجع المسلمين وعلماؤهم ومثقفوهم ومراكزهم الدراسية المنفتحة، والحركات الإسلامية، لتوضيح الصورة الحقيقية للإسلام، في نظرته إلى الغرب، وتصوره للعلاقة مع الآخر الديني أو السياسي أو العلماني وما إلى ذلك. كما نريد للدول والأنظمة الإسلامية، أن تعمل على تحسين سجلها في مجالات حقوق الإنسان، انطلاقاً من القيم التي ركّز عليها الإسلام في احترام الإنسان وحفظ حقوقه ورعايته ورفض اضطهاده والإساءة إليه إلى أي دين أو عرق انتمى... إننا نريد لورشة الحوار مع الغرب، وخصوصاً مع أوروبا، أن تنطلق، ولكننا في الوقت نفسه نقول للأوروبيين: أخرجوا من عقليتكم التاريخية، غادروا حقدكم وهواجسكم حيال الإسلام، وتعالوا إلى كلمة سواء في التعاون والتقارب ورفض الظلم الاجتماعي والسياسي والديني على مستوى العالم كله"(13).
المصادر:
(1) الحوار مع الغرب، منطلقات وآفاق، محاضرة عاليه:10 جمادى الأولى 1425 هـ، الموافق في 28 حزيران - يونيو 2004 م.
(2) الحوار مع الغرب، منطلقات وآفاق، المصدر نفسه.
(3) الحوار مع الغرب، منطلقات وآفاق، المصدر نفسه.
(4) مجلة الزمن الأسبوعية الكويتية- العدد 199، 07 أيلول-سبتمبر-2002 بيروت ـ سعد محيو.
(5) الحوار مع الغرب، منطلقات وآفاق، المصدر السابق.
(6) الحوار مع الغرب، منطلقات وآفاق، المصدر نفسه.
(7) الحوار مع الغرب، منطلقات وآفاق، المصدر نفسه.
(8) مجلة الزمن الأسبوعية الكويتية، المصدر السابق.
(9) مجلة الزمن الأسبوعية الكويتية، المصدر السابق.
(10) الحوار مع الغرب، منطلقات وآفاق، المصدر السابق.
(11) مجلة الزمن الأسبوعية الكويتية، المصدر السابق.
(12) مجلة الزمن الأسبوعية الكويتية، المصدر نفسه.
(13) الموقف الأسبوعي، 5 رمضان 1425 هـ /19 تشرين أول- أكتوبر 2004م. |