وصايا قرآنيَّةٌ لحفظِ الحياةِ وتوازنِها

وصايا قرآنيَّةٌ لحفظِ الحياةِ وتوازنِها

كنَّا نتحدَّث في الأسبوع الماضي عن الوصايا العشر الَّتي ذكرها الله في كلِّ الكتب الَّتي أنزلها على رسله، ومنها القرآن: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}[الإسراء 33].
إنَّ النفس الإنسانيَّة هي ملك الله، الحياة ملك الله، وليس لأيِّ أحد أن يقتل الحياة، إلَّا بما أذن الله سبحانه وتعالى فيه، وهذا هو مضمون هذه الآية: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، معناه أنَّ كلَّ نفس خلقها الله، فالأصل فيها أن يحرم قتلها، إلَّا بما أذن الله، مثل القتل قصاصاً، أو القتل للدّفاع عن النَّفس أو عن العرض، أو القتل في مواجهة المحتلّين والمستكبرين، وما إلى ذلك.
هناك حالات معيَّنة رخَّص الله لنا فيها بالقتل، وفيما عدا هذه الحالات، لا يجوز للإنسان أن يقتل أيَّ إنسان، بأيِّ وسيلة من الوسائل، سواء كان طفلاً أو شابّاً أو شيخاً أو امرأة أو رجلاً.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ للإنسان أن يحتاط في الدّماء، بمعنى أن يكون في تصرفاته الَّتي يمكن أن تنتهي إلى إزهاق نفس، محتاطاً أشدَّ الاحتياط، لأنَّ الله أراد لنا أن نحتاط فوق العادة بما يتَّصل بالدماء.
الاحتياطُ في حملِ السِّلاح
ولذلك، على الإنسان الَّذي يحمل سلاحاً، أن يعرف أنَّ حمل السِّلاح يمثِّل مسؤوليَّة شرعيَّة أمام الله، فعليه أن يحمي النَّاس من سلاحه، بأن لا يتحرَّك بطريقة غير مسؤولة في حالة غضبه، لأنَّ انتشار السِّلاح بأيدي النَّاس، مع هذه التوترات النفسيّة والعصبيّات الَّتي تحدث، تجعل الإنسان يغضب فيقتل النَّفس المحترمة. وكم من الحالات الَّتي قتل الإنسان فيها بعض أهله أو بعض جيرانه أو بعض النَّاس نتيجة غضب! وقد ورد في حديث الإمام محمَّد الباقر (ع): "أيُّ شيءٍ أشدُّ منَ الغضبِ؟ إنَّ الرَّجلَ ليغضبُ فيقتلُ النَّفسَ الَّتي حرَّم الله"، لأنَّه يفقد عقله بالغضب، وإذا فقد عقله، فإنَّه يرتكب أيَّ شيء غير معقول وغير مشروع.
لذا، ينبغي أن لا يحمل الإنسانُ سلاحَه إلَّا في مقام الحاجة إلى حمله من أجل الدِّفاع عن النَّفس، أمَّا أن يحمل سلاحه بشكلٍ عاديّ، وهو يتعرَّض لبعض التَّعقيدات وبعض المشاكل والخلافات بينه وبين الآخرين، فربَّما يدفعه غضبه إلى استخدام هذا السّلاح. لذلك، لا بدَّ للإنسان أن يحتاط في هذا المجال.
التَّوازنُ في قيادةِ السيَّارة
وهكذا أيضاً بالنِّسبة إلى النَّاس الَّذين يقودون سيَّاراتهم، ويتصرَّفون كما لو كانوا يركبون خيلاً. فكما الخيَّال الَّذي يأخذه العنفوان، فيحاول أن يطلق الفرس على مداها، كذلك بعض النَّاس يطلق السيَّارة على مداها، فيسير بها بسرعة 160 أو 200، ويعتبر ذلك دليلاً على الرّجولة والعنفوان، ولكنّها في الواقع دليل على الحمق واللا مسؤوليَّة في هذا المجال.
بعض النَّاس قد يقول إنَّ الحقَّ ليس عليَّ بل الحقُّ على الآخر. قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن عليك عندما تقود سيَّارتك في الشَّارع، أن تعتبر أنَّ هناك من لا يعرف القيادة، أو من لا يملك رخصة سير، وقد يكون هناك أشخاص يقطعون الشَّارع، أو أيّ احتمال آخر...
إنَّ عليك أن لا تحسب المشكلة فقط من باب أن لا يكون الحقّ عليك، بل أن تحتاط للنَّاس، بحيث تحاول أن تحسب حساب الاحتمالات غير الواردة، حتَّى لا نقع في قتل النَّاس ولو خطأً.
عادةُ إطلاقِ الرَّصاصِ!
كذلك من الحالات الموجودة عندنا، والَّتي تدلُّ على التخلّف، عادة إطلاق الرصاص في الأعراس والأعياد والمناسبات، وإطلاق المفرقعات أيضاً.
فكم من حالةٍ أطلق فيها الرَّصاص وقتل فيها شخص كان متواجداً على شرفة بيته أو في مكان آخر! إنَّ إطلاق الرصاص بهذه الطريقة، سواء كان في عرس، أو في عيد من الأعياد، أو ما أشبه ذلك، هو أمرٌ يدلّ على التخلّف والجهل، لأنَّ الرصاص لم يوضع للاحتفال وللتَّعبير عن حزن أو فرح، بل وضع من أجل الدّفاع عن النَّفس وعن العرض وعن الوطن وعن النَّاس المستضعفين... لكن حتَّى لو فرضنا أنَّ هناك من درجوا على هذه العادة، فلا بدَّ أن يحموا النَّاس من أنفسهم احتياطاً.
حرمةُ الإجهاض
وهناك نقطة لا بدَّ أن تُعرَف في مسألة الإجهاض.
تبدأ مسألة الإجهاض من أوَّل يومٍ تنعقد فيه النّطفة، يعني أوَّل يوم تلقَّحُ فيه البويضة بالنّطفة، وينشأ فيه الحمل، أي أوَّل يوم تبدأ حركة الحياة في النّطفة. ففي التَّشريع الإسلاميّ، لا يجوز إسقاط الحمل بمجرَّد أن تبدأ النطفة رحلة الحياة، فلا يجوز الإجهاض حتّى في أوَّل يوم من الحمل، إلَّا في حالتين؛ في الحالة الَّتي يؤدِّي فيها الحمل إلى ضررٍ فوق العادة، كما لو أدَّى إلى مرض تتعرَّض له الحامل، أو أدّى إلى شيء يقترب من الخطر.. في هذه الحال، على بعض الآراء، أنّه يجوز الإجهاض. هذا قبل نفخ الروح، أمَّا بعد نفخ الرّوح، فلا يجوز، إلَّا إذا شكَّل الحمل خطراً محقَّقاً على حياة الأمّ.
أمَّا أن يقول الطَّبيب إنَّ هذا الولد من الممكن أن يكون مشوَّهاً، فلا يجوِّزُ ذلك الإجهاض، لأنَّه إذا جاز لنا أن نقتل الجنين المشوَّه، فينبغي أن نقتل كلَّ المشوَّهين، فإذا كان التشوّه يبرّر قتل الجنين، فلماذا ننشئ دوراً للعجزة أو مؤسَّسات للمعوَّقين؟! فعلينا أن نقتل أيضاً العجزة، وأن نقتل المعوَّقين، باعتبار أنّهم مشوَّهون يزعجوننا ويزعجون الحياة من حولنا...
هناك أناس كثر أصبحوا يستسهلون الإجهاض.. ومن النَّاحية الشَّرعيَّة، على المرأة الحامل أن تعرف أنَّ ظروف الرَّجل الماديَّة أو ظروفه الاجتماعيَّة، أو أيّ حالة أخرى من الحالات، كما لو كان لا يحبُّ الأولاد، مثلاً، كلّ ذلك لا يبرِّر لها شرعاً الإجهاض، لأنَّه في مسألة الإجهاض، التَّكليف للمرأة وليس للرَّجل، بمعنى أنَّ أيّ عذر يتعذَّر به الرَّجل، لا يبرِّر للمرأة الإجهاض، بل هو حرام عليها. فقتل النَّفس محرَّم، وهو من الكبائر الَّتي يستحقُّ الإنسان عليها دخول النّار، وحتّى في قتل النّطفة الَّتي تبدأ رحلة الحياة، أو قتل الجنين، سواء كان قبل نفخ الرّوح أو بعد نفخها.
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ - وكما بيّنَّا، فالحقّ هو الحالات الَّتي شرَّع الله فيها جواز القتل، كالدّفاع عن النَّفس والعرض والمال والأهل والوطن، وما إلى ذلك، وأيضاً في حالة القصاص - ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ إنَّهُ كانَ مَنصُورًا}[الإسراء: 33]، ففي حالة القتل العمديّ، فإنَّ لوليِّ الدَّم أن يقتل القاتل، ولكن أن لا يسرف في القتل، فلا يقتل غير القاتل، ولا يمثِّل بالقاتل.
حفظُ مالِ اليتيم
ونقطة أخرى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}[الإسراء: 34].
فاليتيم هو أمانة الله في أعناق الأمَّة، وماله هو أمانة الله عند وليِّه، فلا يجوز لوليِّه أن يتصرَّف بماله أيَّ تصرفٍ، في بيعٍ أو شراءٍ أو قرضٍ أو وديعةٍ أو استثمارٍ، أو ما إلى ذلك، إلَّا بالَّتي هي أحسن، بما يحقِّق المصلحة لليتيم، ولا يجوز له أن يتصرَّف فيه بما لا مصلحة لليتيم فيه، باعتبار أنَّ اليتيم لا يملك الدّفاع عن ماله وعن نفسه، فعليه أن يعمل على أساس أن يحفظ له نفسه، وأن يحفظ له ماله، {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، أي حتّى يبلغ.
وفي آية ثانية: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى - اختبروا وعيهم وقدرتهم على الاستقلال، وقدرتهم على إدارة أموالهم - حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ - صاروا في سنِّ البلوغ - فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا - رأيتموهم راشدين قادرين على إدارة أمورهم بطريقة معقولة - فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النِّساء: 6].
الالتزامُ بالعهد
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء: 34].
فمنَ الأمورِ الَّتي أراد الله أن تُحفَظ وأن تركَّز، العهود الَّتي يعقدها النَّاسُ فيما يعاهِدُ به بعضُهم بعضاً، وهي تشمل كلَّ الالتزامات الَّتي تلتزمها أمامَ إنسانٍ آخر، ولا سيَّما في عقود المعاملات. فمثلاً، إذا بعْتَ فالبيع عهد، وإذا أجَّرت فالإجارة عهد، وكلُّ عمل من الأعمال هو عهد، وعليك أن تفي به بحسب التزاماتك، من دون فرقٍ بين أن تكتبه أو لا تكتبه. فإذا تعاقد إنسانٌ مع آخر وأعطاه كلمته، فليس عليه أن ينكر الأمرَ بعدَ ذلك، على أساس أنَّه ليس هناك وثيقة بينهما أو أنَّه ليس مكتوباً، فهذا يعدُّ عدم التزام بالعهد، وعلى الإنسان أن يلتزم بعهده مع الآخرين.
الزّواجُ ميثاقٌ غليظ
والزواج أيضاً هو عهدٌ بين المرأة والرَّجل، وقد عبَّر الله سبحانه وتعالى عن الزَّواج بأنَّه ميثاق غليظ، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}[النِّساء: 20 - 21].
عندما تعطي زوجتك العهد على المهر الَّذي تفرضه لها، فلا يجوز لك أن تقهرها أو تضغط عليها بأيِّ وجهٍ من الوجوه من أجل أن تبذلَ لك مهرها، أو من أجل أن تأخذ مهرها {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا - أي بدون حقّ - وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}، لأنَّ الزواج يمثِّل ميثاقاً غليظاً بين الرَّجل والمرأة.
وسيسألكم الله عن كلِّ العهود؛ هل وفيتم بها أم لم تفوا لها... فلا بدَّ للإنسان أن يعطي عهده بما يرضي الله، ولا يعطي عهده بما يغضبه سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}.
إيفاءُ الكيل
{وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ - ففي عالم البيع والشِّراء، عليك أن تلتزم بحدود الحقوق، سواء كان البيع والشِّراء بالوزن أو بالعدِّ أو بغير ذلك، فلا تُنقصِ مما للآخر عليك من حقّ، لأنَّ بعض النَّاس يغشّ، كما نلاحظ، مثلاً، في محطَّات البنزين، إذ يحاول تنقيص مقدارٍ من هنا ومقدارٍ من هناك، حتَّى يوفِّر على نفسه، كذلك يفعل بعض النَّاس في بيع السِّلع، والله يقول: {وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ}.
- وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ – والقسطاس هو الميزان، والمقصود هو الميزان المستقيم الَّذي ليس فيه نقصان - ذَٰلِكَ خَيْرٌ – خير لكم عند الله، وخير لكم عند النَّاس، لأنَّه يعبِّر عن الالتزام وعن الأمانة - وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[الإسراء: 35]، أحسن مرجعاً. فإذا وفيتم الكيل والميزان ووفيتم بكلِّ الالتزامات، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يعطيكم الخير والرّضوان عندما ترجعون إليه.
الانطلاقُ من موقعِ الحجَّة
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - إذا أردت أن تتبع فكراً أو خطّاً أو موقعاً، فينبغي أن تكون لك الحجَّة عليه.. لا تتحرَّك في الأمور الَّتي ليست لك حجَّة عليها، ولا علم لك بها، فلا تحكم بغير علم، ولا تقلْ ما ليس لك به علم، ولا تتبع أيَّ إنسان فيما يدعوك إليه إلَّا إذا كانت لك حجَّة على ما يدعوك إليه.
- إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36] لا تنطلق في أيّ شيء، وفي أيِّ تصرّف، وفي أيِّ علاقة أو معاملة أو موقف، إلَّا على أساس حجَّة، لأنَّ الله سيسأل سمعك فيما يُسمَع، وسيسأل بصرك فيما يُرى؛ هل رأيت؟ هل سمعت؟ وكيف رأيت، وكيف سمعت؟ وسيسأل الفؤاد، يعني العقل، إذا كانت من الأمور الّتي تخضع للتَّفكير، سيسألك الله عن ذلك كلِّه.
وقد ورد في حديث أمير المؤمنين (ع): "أما إنَّه ليس بين الحقِّ والباطل إلَّا أربع أصابع... الباطل أن تقول سمعت، والحقُّ أن تقول رأيت". فهناك فرقٌ بين أن تقول، مثلاً، رأيت فلاناً يقتل فلاناً، أو سمعت أنَّ فلاناً قتل فلاناً. فإذا كانت حجَّتك السَّماع، ولا سيَّما إذا لم يكن السَّماع من خلال جهة موثوقة، فليس لك أن تحكم بذلك.
{وَلَا تَقْفُ - يعني لا تتَّبع - مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - انطلق في كلِّ حياتك، في كلِّ أحكامك، في كلِّ كلماتك، في كلِّ مواقعك... انطلق من خلال العلم، والعلم يعبِّر عن الحجَّة الَّتي لو قدَّمتها أمام الله لقبلها منك، لأنَّه تعالى سيسأل سمعك عمَّا سمع، وبصرك عمَّا رأى، وعقلك عمَّا وعى وعمَّا فكَّر - إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
التكبُّرُ دليلُ عقدةٍ
{وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا - فعندما تمشي، امشِ بشكلٍ طبيعيّ، لأنَّ المشيَ هو وسيلة الإنسانِ لبلوغِ مقاصدِه، فامشِ بطريقةٍ طبيعيّةٍ كما يمشي النَّاس، أمَّا أن تمشي مشيةً استعراضيَّة، وأن تعرِّضَ أكتافك وترفعها، وتطرق الأرض بقدمك، فالله يقول لك: {وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا}. فكأنَّ الله يسخر من هؤلاء النَّاس الّذين يتبخترون ويتكبّرون في مشيتهم، والَّذين يستعرضون أجسادهم... فمهما رفعت أكتافك وطرقت في الأرض، فهل تستطيع أن تخرق الأرض بقدمك؟ وهل تستطيعُ أن تطاول الجبال؟ فلماذا لا تمشي بشكلٍ طبيعيّ؟ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان: 63] - إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء: 37].
فكأنَّ الله يريد أن يسخر من هذا الإنسان الَّذي يظنُّ أنَّه عندما يفعل ذلك، فسيصبح شخصيّةً عظيمةً عندَ النَّاس، فالله يقول له إنَّ الأمر ليس هكذا، فأنت إذا مشيت بشكلٍ طبيعيٍّ وهادئ كما يمشي النَّاس الآخرون، فالنَّاس سينظرون إليك نظرة احترام، وأنّك إنسان معتدل. أمَّا إذا مشيت مشية الخيلاء، فسينظر النَّاس إليك نظرة المتكبِّر الَّذي يعيش عقدة في نفسه، وقد ورد عن الإمام الباقر (ع) في وصف الإنسان الَّذي يتبختر ويمشي مشية الخيلاء: "ما من أحدٍ يتيهُ - تأخذه الخيلاء - إلَّا من ذلّةٍ يجدُها في نفسِهِ"، أي أنَّ هؤلاء الَّذين يستعرضون أنفسهم وعضلاتهم، عندهم عقدة نقص يحاولون تغطيتها بهذه الطَّريقة.
{كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء: 38]. فكلُّ هذه الأمور هي من الأمور الّتي يكرهها الله، وعلى الإنسان أن يتجنَّبها.
{ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ - يعني من الأشياء الَّتي تجعلك إنساناً حكيماً، يضعُ الأمور في مواضعها، فيعمل ما ينبغي أن يعمل، ويترك ما ينبغي أن يترك - وَلَا تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ - ابقَ مع الله وحده في طاعة العبادة، فإنَّك إن جعلت مع الله إلهاً آخر - فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا}[الإسراء: 39].
هذه هي الوصايا العشر الَّتي ذكرها الله في سورة الإسراء، وهي تمثِّل الوصايا الَّتي توازن لنا حياتنا، وتجعلنا في موقع الخير كلِّه، والتوازن كلِّه، والصَّلاح كلِّه.
أربعينُ الحسين (ع)
وفي نهاية المطاف، نلتقي غدا ًبذكرى أربعين الإمام الحسين (ع) الَّذي يصادف يوم السَّبت، لنتذكَّر عظمة الإمام (ع) في موقفه، وفي جهاده، وفي ثورته، وفي حركته من أجل إصلاح أمَّة جدّه والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر. وقصَّتنا مع الحسين (ع) هي قصَّة القدوة به، لأنَّه إمام مفترض الطَّاعة، ولا بدَّ لنا أن تقتدي به، وأن نتَّبعه في أقواله وفي أفعاله، لأنَّ الحسين (ع) لم يكن في مرحلة معيَّنة، ولم يكن لأرضٍ معيَّنة، بل كانَ للحياةِ كلّها، وللإنسانِ كلِّه، وعلى كلِّ منَّا أن يأخذ من الحسين (ع) ما يقرِّبه إلى الله، وما يفتح حياته على العدل والحريَّة والخير كلِّه. 
                                                           بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                             الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في تربية أنفسكم على الخير والهدى والمحبَّة لله، والمحبَّة للنَّاس، والعدل بين النَّاس، والوعي لكلِّ قضاياكم، ولكلِّ ما حولكم ومَنْ حولكم، لأنَّ الإنسان إذا كان واعياً للحياة من حوله، وواعياً للنَّاس من حوله، عرف كيف يضعُ قدمه في المواقع الثَّابتة التي لا يزلُّ فيها، والَّتي لا ينحرف فيها.
إنَّ الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نكون الواعين لواقعنا، والواعين لمسؤوليَّتنا، والواعين لما أمرنا ونهانا، وأرادنا أن نتذكَّر كلَّ ما يفتح قلوبنا عليه سبحانه وتعالى وعلى الحقّ والخير، وأن نتذكَّر الصَّالحين، لأنَّ ذكرى الصَّالحين هي الَّتي تجعلنا نفكِّر فيما قاموا به من الأعمال الصَّالحة، وفيما انفتحوا عليه.
ذكرى وفاةِ الخميني (رض)
ونحن نلتقي في هذا اليوم بذكرى وفاة إنسانٍ عاشَ للهِ وعاشَ للإسلام، وكانت كلُّ حياتِهِ جهاداً في سبيلِ الله، وفي سبيلِ الإسلام، وهو آية الله السيِّد الخميني (رض).
إنَّنا في ذكراه، نستعيدُ حركة الثَّورة في الخطِّ الإسلاميّ الأصيل، هذه الثّورة الَّتي أعادت إلى الإسلام معنى الرّسالة في عالميَّتها الشَّاملة للنَّاس كافَّة، وحركيّة الثّورة في إسقاط الطاغوت وتغيير الواقع من أجل الإنسان كلّه، فلم يعد الإسلام في الوجدان العامّ ديناً يعيش على هامش الحياة، فيبتعد عن العمل السياسيّ والجهاديّ والتَّخطيط الاقتصاديّ والمواجهة للاستكبار العالميّ، بل عاد، كما كان، ديناً شاملاً واسعاً متحركاً، وقاعدةً للفكر والعاطفة والحياة، وهذا ما ينبغي للمسلمين جميعاً أن يعيشوه في روحيَّة الدَّعوة إلى الله، وحركيَّة التَّغيير وإصلاح الواقع، وقوَّة الإسلام في صلابته أمام كلِّ التحدّيات الدَّاخليّة والخارجيّة.
وقد نجح الإمام الخميني في حركته، في تأسيس الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، وتركيزها على قاعدة قويَّة ثابتة، وسط الأعاصير والزَّلازل المتحركة من كلِّ مكان، وقد استطاعت هذه الجمهوريَّة أن تتخطَّى كلَّ الحواجز، وتنتصر على كلِّ ألوان الحرب العسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والإعلاميَّة، ولا يزال الاستكبار العالميّ، وفي مقدَّمه أمريكا، يعمل على أساس إخضاعها لسياسته، ولكنَّها استطاعت أن تصمد في وجهه، بالرّغم من المشاكل الصَّعبة التي تحيط بها من كلِّ جانب.
الفتنةُ المتحجِّرة
إنَّنا عندما نقف في الذّكرى العاشرة لرحيله (رض)، نستذكر ما واجهه من الفتنة الَّتي سمَّاها الفتنة المتحجِّرة، لأنَّه لم يواجه فقط الاستكبار العالميّ، ولم يواجه فقط المنافقين، ولكنَّه واجه الفئات المتحجِّرة في فهمها للإسلام، والَّتي أثارت عليه الكثير من الحرب في الدَّاخل، فنسبت إليه الكثير من الاتّهامات والكلمات، بحيث كادت أن تهزَّ الأرض تحت قدميه، لولا صلابة الإسلام في موقفه، ولولا وعي النَّاس لذلك.
نستذكر ما واجهه من الفتنة الَّتي سمَّاها الفتنة المتحجِّرة الّتي عاناها كلُّ المصلحين. وقد قال الإمام الخميني وهو يصوِّر معاناته أمام هذه الفتنة: "إنَّ ما قطَّعته هذه الفئة المتحجّرة من أنياط قلب أبيكم الشّيخ العجوز، لم تستطع أبداً أن تقطِّعه كلُّ ضغوط الآخرين عليَّ، والمشاقّ الَّتي سبَّبوها. فإضافةً إلى مواجهة ذلك الرَّصاص والمدافع – الَّتي وُجِّهت إليه من المستكبرين في الحرب المفروضة - كان هناك رصاص ينطلق من الجبهة الداخليَّة؛ كانت هناك رصاصات المكر والتَّظاهر بالقدسيَّة - هؤلاء الَّذين يتظاهرون بالتديّن وليسوا من التديّن بشيء - ورصاص التحجّر، كانت هناك رصاصات التَّعريض واللَّمز والنّفاق، وكانت أشدَّ ألف مرَّة من البارود والرّصاص، فهي تحرق القلوب والأكباد وتمزّقها".
وما تحدَّث عنه الإمام الخميني (رض) وابتلي به، هو ما يعانيه العلماء المصلحون المجاهدون الَّذين يعملون على إخراج الأمَّة من التخلّف، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، فيواجههم هؤلاء المتحجّرون بالكلمات الحاقدة، والفتاوى الضالَّة الَّتي لا ترتكز على أساسٍ من الدّين والتَّقوى، وبذلك يربكون الواقع الإسلاميَّ، ويثيرون الفتنة لدى المسلمين.
لذلك، لا بدَّ لنا من أن نراقب هؤلاء الَّذين قد يتحدَّثون بالدّين، ولكنَّهم في حركتهم ينطلقون على أساس التخلّف والتحجّر والكلام بغير الحقّ.
مسؤوليَّةُ استكمالِ المشروع
إنَّنا نتصوَّر أنَّ هناك الكثير مما يجب أن نقوم به، استكمالاً للمشروع الإسلاميّ الَّذي بدأه الإمام الخميني، في انفتاح الدَّعوة الإسلاميَّة على الإنسان كلّه، في العالم كلّه، وتأصيل المفاهيم الإسلاميَّة، وإبعادها عن الغلوِّ والخرافة، لتقتحم الواقع في حلِّها لمشاكل الإنسان المعاصر، فإنَّ الثَّورة إذا لم تنطلق من الدَّاخل ضدَّ قوى الجهل والتخلّف، فلن تملك الثَّبات والامتداد في واقع الإنسان. وتلك هي مسؤوليَّة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، والحركات الإسلاميَّة في العالم، في مواجهة الحرب المتحركة في كلِّ مكان ضدَّ الإسلام في عقيدته ومفاهيمه وحركيَّته، وضدَّ المسلمين في مقدّراتهم السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، بالوحدة الإسلاميَّة، وبالإعداد للقوَّة، والانفتاح على العالم بحوار الحضارات على الأسس الموضوعيَّة في خطِّ الفكر والعمل.
إنَّنا ندعو إلى عدم الوقوف عند المفاهيم الحركيَّة للدَّعوة وللثّورة، لنتجمَّد عند المرحلة السَّابقة، بل لا بدَّ لنا من مواجهة المتغيرات والتطوّرات، لنكتشف في حيويَّة الإسلام كلَّ الوسائل الَّتي تملك الارتفاع إلى مستواها.
قضيَّةُ كشمير
وهناك قضيَّة في الواقع الإسلاميّ، لا بدَّ لنا من أن نشير إليها، وهي قضيّة كشمير الإسلاميَّة، وهي مقاطعة بين الهند وباكستان، وهي مقاطعة إسلاميَّة، وقد ضمَّتها الهند إليها، وما زال المسلمون هناك يجاهدون من أجل الحصول على الاستقلال عن الهند، وقد أصدرت الأمم المتَّحدة أكثر من قرار يلبّي حاجات هؤلاء المسلمين، ولكنَّ الهند لا تزال تعمل على محاصرتهم، وعلى فرض سيطرتها عليهم، وها هي في هذه الأيَّام، ترسل الطائرات والمدافع، من أجل أن تلاحق المجاهدين هناك في الجبال وفي أيِّ مكان، وربما تندلع حرب بين الهند وباكستان من خلال ذلك، باعتبار أنَّ كشمير مقسَّمة بين الهند وباكستان.
إنَّنا نريد للمسلمين أن يقفوا مع هؤلاء المسلمين من أجل الوصول إلى حقِّ تقرير المصير.
المأساةُ المستمرَّةُ في كوسوفو
كما أنَّ قضيَّة كوسوفو لا تزال في دائرة التَّعقيد السياسيّ والعسكريّ والتَّهجير، وهي تمثِّل المأساة المتحركة بأبشع صورها الوحشيَّة، ولا بدَّ للمسلمين أن يتابعوها بكلِّ وسائل الدَّعم السياسي والإنساني، من أجل عودة أهلها إليها، فإنَّ ذلك هو المطلب الرَّئيس الَّذين ينبغي للجميع أن يتابعوه.
ونحن نلاحق الأحداث، ونرى أنَّ هناك إمكانيَّةً للحلِّ السياسي في هذه المرحلة، ولكن علينا أن نراقب الأمر، لنجدَ هل يستطيع هؤلاء المسلمون أن يحصلوا على حقوقهم وعلى حقّ تقرير المصير، أم أنَّ اللّعبة الدوليّة، سواء كانت لعبة الحلف الأطلسي، أو اللّعبة الروسيّة أو اليوغسلافيَّة، يمكن أن تتَّجه بالأمور إلى شكلٍ آخر؟!
خطورةُ المرحلةِ للقضيَّة
ولا بدَّ لنا من متابعة اللّعبة الإسرائيليَّة التي تفرض نفسها على الواقع العربي، والفلسطيني بشكلٍ خاصّ، وعدم الخضوع للتَّطمينات الأمريكيَّة وللضغوط الصهيونيَّة من أجل تقديم التنازلات، فإنَّ المرحلة الحاضرة هي من أكثر المراحل تعقيداً وصعوبةً للقضيَّة الفلسطينيَّة والقضيَّة العربيَّة، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرَّتين.
خروجُ العدوِّ من جزّين
وفي هذا الجوّ، لا تزال قضيَّة انسحاب العدوّ وعملائه من جزين، تشغل الساحة السياسيَّة في لبنان والمنطقة، وتؤكِّد للجميع أنَّ المقاومة، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة البطلة، كانت وراء ذلك، بضغوطها العسكرية والأمنية على الاحتلال، بالرّغم مما يملكه العدوّ من وسائل القوَّة الماديَّة، ما يؤكِّد أنّ استمرار الخطّ الجهادي هو الّذي يلحق الهزيمة بالعدوّ، ويفرض حركته على الواقع السياسي الصهيوني في الداخل والخارج.
فلا يحاول أحدٌ في لبنان أو في غيره إرباكَ حركةِ المقاومة بالأساليب الانفعاليَّة والعاطفيَّة في عمليَّة إثارةٍ للمشاعر، وتحريك للتَّهاويل من هنا وهناك، فإنّ أيَّ منطقة تعود إلى الوطن بتحريرها من الاحتلال، تجعل الجميع من الدَّولة والمقاومة والشّعب كلّه مسؤولين عن استقرارها وحمايتها وتأهيلها كأيِّ منطقة أخرى.
وعلينا أن لا نجزّئ الوطن، بحيث تكون منطقة بنت ستّ ومنطقة بنت جارية، فهو في كلِّ مناطقه وحدة متكاملة يدعم بعضها بعضاً، وأن نكفَّ عن كلِّ هذا اللّغو السياسيّ الّذي قد يثير المشاعر الطائفيَّة الَّتي لا مصلحة لأحد في إثارتها. لقد خرج الوطن من الحرب الداخليَّة، ولم تعد هناك أي فرصة لأيِّ حرب جديدة إلَّا الحرب على الاحتلال. فليكن الموقف واحداً، والحرب واحدة، من أجل خروج المحتلّين من أرضنا، ليتحرَّر الأرض والإنسان.
وعلينا أن لا نلتفت إلى تهديدات العدوّ، فإنَّها لا تمثِّل إلَّا تغطيةً لهزيمته، وسينتصرُ لبنان بفضل وحدته الوطنيَّة في خطِّ المواجهة للعدوّ، ولنواجه المستقبل لاستكمال عمليَّة التَّحرير، بالوقوف مع المجاهدين الَّذين يمثِّلون نقطة الضَّوء الكبيرة في هذا الظَّلام الواسع.
مسؤوليَّةُ الدَّولةِ في حلِّ الأزمة
وختاماً، ندعو الدولة اللبنانيَّة إلى الاستمرار في البحث عن الحلول الواقعيَّة للمشاكل الصَّعبة الَّتي يتخبَّط فيها الإنسان اللّبناني، ولا سيَّما المشكلة الاقتصاديَّة الخانقة الَّتي أحاطت بالمواطنين، فجمّدت كلّ حيوية الحياة عندهم.
وعلى الجميع تقديم المساعدة في أيّ جهد في هذا المجال، لأنّ قضيَّة الوطن ليست قضيَّة موالاة أو معارضة، بل هي قضيَّة الإنسان كلّه، والمستقبل كلّه. فليتحمَّل الجميع مسؤوليَّاتهم أمام التحدّي الكبير في هذه المرحلة الصَّعبة من تاريخ الوطن كلِّه.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 04/06/1999م.
كنَّا نتحدَّث في الأسبوع الماضي عن الوصايا العشر الَّتي ذكرها الله في كلِّ الكتب الَّتي أنزلها على رسله، ومنها القرآن: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}[الإسراء 33].
إنَّ النفس الإنسانيَّة هي ملك الله، الحياة ملك الله، وليس لأيِّ أحد أن يقتل الحياة، إلَّا بما أذن الله سبحانه وتعالى فيه، وهذا هو مضمون هذه الآية: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، معناه أنَّ كلَّ نفس خلقها الله، فالأصل فيها أن يحرم قتلها، إلَّا بما أذن الله، مثل القتل قصاصاً، أو القتل للدّفاع عن النَّفس أو عن العرض، أو القتل في مواجهة المحتلّين والمستكبرين، وما إلى ذلك.
هناك حالات معيَّنة رخَّص الله لنا فيها بالقتل، وفيما عدا هذه الحالات، لا يجوز للإنسان أن يقتل أيَّ إنسان، بأيِّ وسيلة من الوسائل، سواء كان طفلاً أو شابّاً أو شيخاً أو امرأة أو رجلاً.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ للإنسان أن يحتاط في الدّماء، بمعنى أن يكون في تصرفاته الَّتي يمكن أن تنتهي إلى إزهاق نفس، محتاطاً أشدَّ الاحتياط، لأنَّ الله أراد لنا أن نحتاط فوق العادة بما يتَّصل بالدماء.
الاحتياطُ في حملِ السِّلاح
ولذلك، على الإنسان الَّذي يحمل سلاحاً، أن يعرف أنَّ حمل السِّلاح يمثِّل مسؤوليَّة شرعيَّة أمام الله، فعليه أن يحمي النَّاس من سلاحه، بأن لا يتحرَّك بطريقة غير مسؤولة في حالة غضبه، لأنَّ انتشار السِّلاح بأيدي النَّاس، مع هذه التوترات النفسيّة والعصبيّات الَّتي تحدث، تجعل الإنسان يغضب فيقتل النَّفس المحترمة. وكم من الحالات الَّتي قتل الإنسان فيها بعض أهله أو بعض جيرانه أو بعض النَّاس نتيجة غضب! وقد ورد في حديث الإمام محمَّد الباقر (ع): "أيُّ شيءٍ أشدُّ منَ الغضبِ؟ إنَّ الرَّجلَ ليغضبُ فيقتلُ النَّفسَ الَّتي حرَّم الله"، لأنَّه يفقد عقله بالغضب، وإذا فقد عقله، فإنَّه يرتكب أيَّ شيء غير معقول وغير مشروع.
لذا، ينبغي أن لا يحمل الإنسانُ سلاحَه إلَّا في مقام الحاجة إلى حمله من أجل الدِّفاع عن النَّفس، أمَّا أن يحمل سلاحه بشكلٍ عاديّ، وهو يتعرَّض لبعض التَّعقيدات وبعض المشاكل والخلافات بينه وبين الآخرين، فربَّما يدفعه غضبه إلى استخدام هذا السّلاح. لذلك، لا بدَّ للإنسان أن يحتاط في هذا المجال.
التَّوازنُ في قيادةِ السيَّارة
وهكذا أيضاً بالنِّسبة إلى النَّاس الَّذين يقودون سيَّاراتهم، ويتصرَّفون كما لو كانوا يركبون خيلاً. فكما الخيَّال الَّذي يأخذه العنفوان، فيحاول أن يطلق الفرس على مداها، كذلك بعض النَّاس يطلق السيَّارة على مداها، فيسير بها بسرعة 160 أو 200، ويعتبر ذلك دليلاً على الرّجولة والعنفوان، ولكنّها في الواقع دليل على الحمق واللا مسؤوليَّة في هذا المجال.
بعض النَّاس قد يقول إنَّ الحقَّ ليس عليَّ بل الحقُّ على الآخر. قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن عليك عندما تقود سيَّارتك في الشَّارع، أن تعتبر أنَّ هناك من لا يعرف القيادة، أو من لا يملك رخصة سير، وقد يكون هناك أشخاص يقطعون الشَّارع، أو أيّ احتمال آخر...
إنَّ عليك أن لا تحسب المشكلة فقط من باب أن لا يكون الحقّ عليك، بل أن تحتاط للنَّاس، بحيث تحاول أن تحسب حساب الاحتمالات غير الواردة، حتَّى لا نقع في قتل النَّاس ولو خطأً.
عادةُ إطلاقِ الرَّصاصِ!
كذلك من الحالات الموجودة عندنا، والَّتي تدلُّ على التخلّف، عادة إطلاق الرصاص في الأعراس والأعياد والمناسبات، وإطلاق المفرقعات أيضاً.
فكم من حالةٍ أطلق فيها الرَّصاص وقتل فيها شخص كان متواجداً على شرفة بيته أو في مكان آخر! إنَّ إطلاق الرصاص بهذه الطريقة، سواء كان في عرس، أو في عيد من الأعياد، أو ما أشبه ذلك، هو أمرٌ يدلّ على التخلّف والجهل، لأنَّ الرصاص لم يوضع للاحتفال وللتَّعبير عن حزن أو فرح، بل وضع من أجل الدّفاع عن النَّفس وعن العرض وعن الوطن وعن النَّاس المستضعفين... لكن حتَّى لو فرضنا أنَّ هناك من درجوا على هذه العادة، فلا بدَّ أن يحموا النَّاس من أنفسهم احتياطاً.
حرمةُ الإجهاض
وهناك نقطة لا بدَّ أن تُعرَف في مسألة الإجهاض.
تبدأ مسألة الإجهاض من أوَّل يومٍ تنعقد فيه النّطفة، يعني أوَّل يوم تلقَّحُ فيه البويضة بالنّطفة، وينشأ فيه الحمل، أي أوَّل يوم تبدأ حركة الحياة في النّطفة. ففي التَّشريع الإسلاميّ، لا يجوز إسقاط الحمل بمجرَّد أن تبدأ النطفة رحلة الحياة، فلا يجوز الإجهاض حتّى في أوَّل يوم من الحمل، إلَّا في حالتين؛ في الحالة الَّتي يؤدِّي فيها الحمل إلى ضررٍ فوق العادة، كما لو أدَّى إلى مرض تتعرَّض له الحامل، أو أدّى إلى شيء يقترب من الخطر.. في هذه الحال، على بعض الآراء، أنّه يجوز الإجهاض. هذا قبل نفخ الروح، أمَّا بعد نفخ الرّوح، فلا يجوز، إلَّا إذا شكَّل الحمل خطراً محقَّقاً على حياة الأمّ.
أمَّا أن يقول الطَّبيب إنَّ هذا الولد من الممكن أن يكون مشوَّهاً، فلا يجوِّزُ ذلك الإجهاض، لأنَّه إذا جاز لنا أن نقتل الجنين المشوَّه، فينبغي أن نقتل كلَّ المشوَّهين، فإذا كان التشوّه يبرّر قتل الجنين، فلماذا ننشئ دوراً للعجزة أو مؤسَّسات للمعوَّقين؟! فعلينا أن نقتل أيضاً العجزة، وأن نقتل المعوَّقين، باعتبار أنّهم مشوَّهون يزعجوننا ويزعجون الحياة من حولنا...
هناك أناس كثر أصبحوا يستسهلون الإجهاض.. ومن النَّاحية الشَّرعيَّة، على المرأة الحامل أن تعرف أنَّ ظروف الرَّجل الماديَّة أو ظروفه الاجتماعيَّة، أو أيّ حالة أخرى من الحالات، كما لو كان لا يحبُّ الأولاد، مثلاً، كلّ ذلك لا يبرِّر لها شرعاً الإجهاض، لأنَّه في مسألة الإجهاض، التَّكليف للمرأة وليس للرَّجل، بمعنى أنَّ أيّ عذر يتعذَّر به الرَّجل، لا يبرِّر للمرأة الإجهاض، بل هو حرام عليها. فقتل النَّفس محرَّم، وهو من الكبائر الَّتي يستحقُّ الإنسان عليها دخول النّار، وحتّى في قتل النّطفة الَّتي تبدأ رحلة الحياة، أو قتل الجنين، سواء كان قبل نفخ الرّوح أو بعد نفخها.
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ - وكما بيّنَّا، فالحقّ هو الحالات الَّتي شرَّع الله فيها جواز القتل، كالدّفاع عن النَّفس والعرض والمال والأهل والوطن، وما إلى ذلك، وأيضاً في حالة القصاص - ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ إنَّهُ كانَ مَنصُورًا}[الإسراء: 33]، ففي حالة القتل العمديّ، فإنَّ لوليِّ الدَّم أن يقتل القاتل، ولكن أن لا يسرف في القتل، فلا يقتل غير القاتل، ولا يمثِّل بالقاتل.
حفظُ مالِ اليتيم
ونقطة أخرى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}[الإسراء: 34].
فاليتيم هو أمانة الله في أعناق الأمَّة، وماله هو أمانة الله عند وليِّه، فلا يجوز لوليِّه أن يتصرَّف بماله أيَّ تصرفٍ، في بيعٍ أو شراءٍ أو قرضٍ أو وديعةٍ أو استثمارٍ، أو ما إلى ذلك، إلَّا بالَّتي هي أحسن، بما يحقِّق المصلحة لليتيم، ولا يجوز له أن يتصرَّف فيه بما لا مصلحة لليتيم فيه، باعتبار أنَّ اليتيم لا يملك الدّفاع عن ماله وعن نفسه، فعليه أن يعمل على أساس أن يحفظ له نفسه، وأن يحفظ له ماله، {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، أي حتّى يبلغ.
وفي آية ثانية: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى - اختبروا وعيهم وقدرتهم على الاستقلال، وقدرتهم على إدارة أموالهم - حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ - صاروا في سنِّ البلوغ - فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا - رأيتموهم راشدين قادرين على إدارة أمورهم بطريقة معقولة - فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النِّساء: 6].
الالتزامُ بالعهد
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء: 34].
فمنَ الأمورِ الَّتي أراد الله أن تُحفَظ وأن تركَّز، العهود الَّتي يعقدها النَّاسُ فيما يعاهِدُ به بعضُهم بعضاً، وهي تشمل كلَّ الالتزامات الَّتي تلتزمها أمامَ إنسانٍ آخر، ولا سيَّما في عقود المعاملات. فمثلاً، إذا بعْتَ فالبيع عهد، وإذا أجَّرت فالإجارة عهد، وكلُّ عمل من الأعمال هو عهد، وعليك أن تفي به بحسب التزاماتك، من دون فرقٍ بين أن تكتبه أو لا تكتبه. فإذا تعاقد إنسانٌ مع آخر وأعطاه كلمته، فليس عليه أن ينكر الأمرَ بعدَ ذلك، على أساس أنَّه ليس هناك وثيقة بينهما أو أنَّه ليس مكتوباً، فهذا يعدُّ عدم التزام بالعهد، وعلى الإنسان أن يلتزم بعهده مع الآخرين.
الزّواجُ ميثاقٌ غليظ
والزواج أيضاً هو عهدٌ بين المرأة والرَّجل، وقد عبَّر الله سبحانه وتعالى عن الزَّواج بأنَّه ميثاق غليظ، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}[النِّساء: 20 - 21].
عندما تعطي زوجتك العهد على المهر الَّذي تفرضه لها، فلا يجوز لك أن تقهرها أو تضغط عليها بأيِّ وجهٍ من الوجوه من أجل أن تبذلَ لك مهرها، أو من أجل أن تأخذ مهرها {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا - أي بدون حقّ - وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}، لأنَّ الزواج يمثِّل ميثاقاً غليظاً بين الرَّجل والمرأة.
وسيسألكم الله عن كلِّ العهود؛ هل وفيتم بها أم لم تفوا لها... فلا بدَّ للإنسان أن يعطي عهده بما يرضي الله، ولا يعطي عهده بما يغضبه سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}.
إيفاءُ الكيل
{وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ - ففي عالم البيع والشِّراء، عليك أن تلتزم بحدود الحقوق، سواء كان البيع والشِّراء بالوزن أو بالعدِّ أو بغير ذلك، فلا تُنقصِ مما للآخر عليك من حقّ، لأنَّ بعض النَّاس يغشّ، كما نلاحظ، مثلاً، في محطَّات البنزين، إذ يحاول تنقيص مقدارٍ من هنا ومقدارٍ من هناك، حتَّى يوفِّر على نفسه، كذلك يفعل بعض النَّاس في بيع السِّلع، والله يقول: {وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ}.
- وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ – والقسطاس هو الميزان، والمقصود هو الميزان المستقيم الَّذي ليس فيه نقصان - ذَٰلِكَ خَيْرٌ – خير لكم عند الله، وخير لكم عند النَّاس، لأنَّه يعبِّر عن الالتزام وعن الأمانة - وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[الإسراء: 35]، أحسن مرجعاً. فإذا وفيتم الكيل والميزان ووفيتم بكلِّ الالتزامات، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يعطيكم الخير والرّضوان عندما ترجعون إليه.
الانطلاقُ من موقعِ الحجَّة
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - إذا أردت أن تتبع فكراً أو خطّاً أو موقعاً، فينبغي أن تكون لك الحجَّة عليه.. لا تتحرَّك في الأمور الَّتي ليست لك حجَّة عليها، ولا علم لك بها، فلا تحكم بغير علم، ولا تقلْ ما ليس لك به علم، ولا تتبع أيَّ إنسان فيما يدعوك إليه إلَّا إذا كانت لك حجَّة على ما يدعوك إليه.
- إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36] لا تنطلق في أيّ شيء، وفي أيِّ تصرّف، وفي أيِّ علاقة أو معاملة أو موقف، إلَّا على أساس حجَّة، لأنَّ الله سيسأل سمعك فيما يُسمَع، وسيسأل بصرك فيما يُرى؛ هل رأيت؟ هل سمعت؟ وكيف رأيت، وكيف سمعت؟ وسيسأل الفؤاد، يعني العقل، إذا كانت من الأمور الّتي تخضع للتَّفكير، سيسألك الله عن ذلك كلِّه.
وقد ورد في حديث أمير المؤمنين (ع): "أما إنَّه ليس بين الحقِّ والباطل إلَّا أربع أصابع... الباطل أن تقول سمعت، والحقُّ أن تقول رأيت". فهناك فرقٌ بين أن تقول، مثلاً، رأيت فلاناً يقتل فلاناً، أو سمعت أنَّ فلاناً قتل فلاناً. فإذا كانت حجَّتك السَّماع، ولا سيَّما إذا لم يكن السَّماع من خلال جهة موثوقة، فليس لك أن تحكم بذلك.
{وَلَا تَقْفُ - يعني لا تتَّبع - مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - انطلق في كلِّ حياتك، في كلِّ أحكامك، في كلِّ كلماتك، في كلِّ مواقعك... انطلق من خلال العلم، والعلم يعبِّر عن الحجَّة الَّتي لو قدَّمتها أمام الله لقبلها منك، لأنَّه تعالى سيسأل سمعك عمَّا سمع، وبصرك عمَّا رأى، وعقلك عمَّا وعى وعمَّا فكَّر - إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
التكبُّرُ دليلُ عقدةٍ
{وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا - فعندما تمشي، امشِ بشكلٍ طبيعيّ، لأنَّ المشيَ هو وسيلة الإنسانِ لبلوغِ مقاصدِه، فامشِ بطريقةٍ طبيعيّةٍ كما يمشي النَّاس، أمَّا أن تمشي مشيةً استعراضيَّة، وأن تعرِّضَ أكتافك وترفعها، وتطرق الأرض بقدمك، فالله يقول لك: {وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا}. فكأنَّ الله يسخر من هؤلاء النَّاس الّذين يتبخترون ويتكبّرون في مشيتهم، والَّذين يستعرضون أجسادهم... فمهما رفعت أكتافك وطرقت في الأرض، فهل تستطيع أن تخرق الأرض بقدمك؟ وهل تستطيعُ أن تطاول الجبال؟ فلماذا لا تمشي بشكلٍ طبيعيّ؟ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان: 63] - إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء: 37].
فكأنَّ الله يريد أن يسخر من هذا الإنسان الَّذي يظنُّ أنَّه عندما يفعل ذلك، فسيصبح شخصيّةً عظيمةً عندَ النَّاس، فالله يقول له إنَّ الأمر ليس هكذا، فأنت إذا مشيت بشكلٍ طبيعيٍّ وهادئ كما يمشي النَّاس الآخرون، فالنَّاس سينظرون إليك نظرة احترام، وأنّك إنسان معتدل. أمَّا إذا مشيت مشية الخيلاء، فسينظر النَّاس إليك نظرة المتكبِّر الَّذي يعيش عقدة في نفسه، وقد ورد عن الإمام الباقر (ع) في وصف الإنسان الَّذي يتبختر ويمشي مشية الخيلاء: "ما من أحدٍ يتيهُ - تأخذه الخيلاء - إلَّا من ذلّةٍ يجدُها في نفسِهِ"، أي أنَّ هؤلاء الَّذين يستعرضون أنفسهم وعضلاتهم، عندهم عقدة نقص يحاولون تغطيتها بهذه الطَّريقة.
{كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء: 38]. فكلُّ هذه الأمور هي من الأمور الّتي يكرهها الله، وعلى الإنسان أن يتجنَّبها.
{ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ - يعني من الأشياء الَّتي تجعلك إنساناً حكيماً، يضعُ الأمور في مواضعها، فيعمل ما ينبغي أن يعمل، ويترك ما ينبغي أن يترك - وَلَا تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ - ابقَ مع الله وحده في طاعة العبادة، فإنَّك إن جعلت مع الله إلهاً آخر - فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا}[الإسراء: 39].
هذه هي الوصايا العشر الَّتي ذكرها الله في سورة الإسراء، وهي تمثِّل الوصايا الَّتي توازن لنا حياتنا، وتجعلنا في موقع الخير كلِّه، والتوازن كلِّه، والصَّلاح كلِّه.
أربعينُ الحسين (ع)
وفي نهاية المطاف، نلتقي غدا ًبذكرى أربعين الإمام الحسين (ع) الَّذي يصادف يوم السَّبت، لنتذكَّر عظمة الإمام (ع) في موقفه، وفي جهاده، وفي ثورته، وفي حركته من أجل إصلاح أمَّة جدّه والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر. وقصَّتنا مع الحسين (ع) هي قصَّة القدوة به، لأنَّه إمام مفترض الطَّاعة، ولا بدَّ لنا أن تقتدي به، وأن نتَّبعه في أقواله وفي أفعاله، لأنَّ الحسين (ع) لم يكن في مرحلة معيَّنة، ولم يكن لأرضٍ معيَّنة، بل كانَ للحياةِ كلّها، وللإنسانِ كلِّه، وعلى كلِّ منَّا أن يأخذ من الحسين (ع) ما يقرِّبه إلى الله، وما يفتح حياته على العدل والحريَّة والخير كلِّه. 
                                                           بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                             الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في تربية أنفسكم على الخير والهدى والمحبَّة لله، والمحبَّة للنَّاس، والعدل بين النَّاس، والوعي لكلِّ قضاياكم، ولكلِّ ما حولكم ومَنْ حولكم، لأنَّ الإنسان إذا كان واعياً للحياة من حوله، وواعياً للنَّاس من حوله، عرف كيف يضعُ قدمه في المواقع الثَّابتة التي لا يزلُّ فيها، والَّتي لا ينحرف فيها.
إنَّ الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نكون الواعين لواقعنا، والواعين لمسؤوليَّتنا، والواعين لما أمرنا ونهانا، وأرادنا أن نتذكَّر كلَّ ما يفتح قلوبنا عليه سبحانه وتعالى وعلى الحقّ والخير، وأن نتذكَّر الصَّالحين، لأنَّ ذكرى الصَّالحين هي الَّتي تجعلنا نفكِّر فيما قاموا به من الأعمال الصَّالحة، وفيما انفتحوا عليه.
ذكرى وفاةِ الخميني (رض)
ونحن نلتقي في هذا اليوم بذكرى وفاة إنسانٍ عاشَ للهِ وعاشَ للإسلام، وكانت كلُّ حياتِهِ جهاداً في سبيلِ الله، وفي سبيلِ الإسلام، وهو آية الله السيِّد الخميني (رض).
إنَّنا في ذكراه، نستعيدُ حركة الثَّورة في الخطِّ الإسلاميّ الأصيل، هذه الثّورة الَّتي أعادت إلى الإسلام معنى الرّسالة في عالميَّتها الشَّاملة للنَّاس كافَّة، وحركيّة الثّورة في إسقاط الطاغوت وتغيير الواقع من أجل الإنسان كلّه، فلم يعد الإسلام في الوجدان العامّ ديناً يعيش على هامش الحياة، فيبتعد عن العمل السياسيّ والجهاديّ والتَّخطيط الاقتصاديّ والمواجهة للاستكبار العالميّ، بل عاد، كما كان، ديناً شاملاً واسعاً متحركاً، وقاعدةً للفكر والعاطفة والحياة، وهذا ما ينبغي للمسلمين جميعاً أن يعيشوه في روحيَّة الدَّعوة إلى الله، وحركيَّة التَّغيير وإصلاح الواقع، وقوَّة الإسلام في صلابته أمام كلِّ التحدّيات الدَّاخليّة والخارجيّة.
وقد نجح الإمام الخميني في حركته، في تأسيس الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، وتركيزها على قاعدة قويَّة ثابتة، وسط الأعاصير والزَّلازل المتحركة من كلِّ مكان، وقد استطاعت هذه الجمهوريَّة أن تتخطَّى كلَّ الحواجز، وتنتصر على كلِّ ألوان الحرب العسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والإعلاميَّة، ولا يزال الاستكبار العالميّ، وفي مقدَّمه أمريكا، يعمل على أساس إخضاعها لسياسته، ولكنَّها استطاعت أن تصمد في وجهه، بالرّغم من المشاكل الصَّعبة التي تحيط بها من كلِّ جانب.
الفتنةُ المتحجِّرة
إنَّنا عندما نقف في الذّكرى العاشرة لرحيله (رض)، نستذكر ما واجهه من الفتنة الَّتي سمَّاها الفتنة المتحجِّرة، لأنَّه لم يواجه فقط الاستكبار العالميّ، ولم يواجه فقط المنافقين، ولكنَّه واجه الفئات المتحجِّرة في فهمها للإسلام، والَّتي أثارت عليه الكثير من الحرب في الدَّاخل، فنسبت إليه الكثير من الاتّهامات والكلمات، بحيث كادت أن تهزَّ الأرض تحت قدميه، لولا صلابة الإسلام في موقفه، ولولا وعي النَّاس لذلك.
نستذكر ما واجهه من الفتنة الَّتي سمَّاها الفتنة المتحجِّرة الّتي عاناها كلُّ المصلحين. وقد قال الإمام الخميني وهو يصوِّر معاناته أمام هذه الفتنة: "إنَّ ما قطَّعته هذه الفئة المتحجّرة من أنياط قلب أبيكم الشّيخ العجوز، لم تستطع أبداً أن تقطِّعه كلُّ ضغوط الآخرين عليَّ، والمشاقّ الَّتي سبَّبوها. فإضافةً إلى مواجهة ذلك الرَّصاص والمدافع – الَّتي وُجِّهت إليه من المستكبرين في الحرب المفروضة - كان هناك رصاص ينطلق من الجبهة الداخليَّة؛ كانت هناك رصاصات المكر والتَّظاهر بالقدسيَّة - هؤلاء الَّذين يتظاهرون بالتديّن وليسوا من التديّن بشيء - ورصاص التحجّر، كانت هناك رصاصات التَّعريض واللَّمز والنّفاق، وكانت أشدَّ ألف مرَّة من البارود والرّصاص، فهي تحرق القلوب والأكباد وتمزّقها".
وما تحدَّث عنه الإمام الخميني (رض) وابتلي به، هو ما يعانيه العلماء المصلحون المجاهدون الَّذين يعملون على إخراج الأمَّة من التخلّف، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، فيواجههم هؤلاء المتحجّرون بالكلمات الحاقدة، والفتاوى الضالَّة الَّتي لا ترتكز على أساسٍ من الدّين والتَّقوى، وبذلك يربكون الواقع الإسلاميَّ، ويثيرون الفتنة لدى المسلمين.
لذلك، لا بدَّ لنا من أن نراقب هؤلاء الَّذين قد يتحدَّثون بالدّين، ولكنَّهم في حركتهم ينطلقون على أساس التخلّف والتحجّر والكلام بغير الحقّ.
مسؤوليَّةُ استكمالِ المشروع
إنَّنا نتصوَّر أنَّ هناك الكثير مما يجب أن نقوم به، استكمالاً للمشروع الإسلاميّ الَّذي بدأه الإمام الخميني، في انفتاح الدَّعوة الإسلاميَّة على الإنسان كلّه، في العالم كلّه، وتأصيل المفاهيم الإسلاميَّة، وإبعادها عن الغلوِّ والخرافة، لتقتحم الواقع في حلِّها لمشاكل الإنسان المعاصر، فإنَّ الثَّورة إذا لم تنطلق من الدَّاخل ضدَّ قوى الجهل والتخلّف، فلن تملك الثَّبات والامتداد في واقع الإنسان. وتلك هي مسؤوليَّة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، والحركات الإسلاميَّة في العالم، في مواجهة الحرب المتحركة في كلِّ مكان ضدَّ الإسلام في عقيدته ومفاهيمه وحركيَّته، وضدَّ المسلمين في مقدّراتهم السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، بالوحدة الإسلاميَّة، وبالإعداد للقوَّة، والانفتاح على العالم بحوار الحضارات على الأسس الموضوعيَّة في خطِّ الفكر والعمل.
إنَّنا ندعو إلى عدم الوقوف عند المفاهيم الحركيَّة للدَّعوة وللثّورة، لنتجمَّد عند المرحلة السَّابقة، بل لا بدَّ لنا من مواجهة المتغيرات والتطوّرات، لنكتشف في حيويَّة الإسلام كلَّ الوسائل الَّتي تملك الارتفاع إلى مستواها.
قضيَّةُ كشمير
وهناك قضيَّة في الواقع الإسلاميّ، لا بدَّ لنا من أن نشير إليها، وهي قضيّة كشمير الإسلاميَّة، وهي مقاطعة بين الهند وباكستان، وهي مقاطعة إسلاميَّة، وقد ضمَّتها الهند إليها، وما زال المسلمون هناك يجاهدون من أجل الحصول على الاستقلال عن الهند، وقد أصدرت الأمم المتَّحدة أكثر من قرار يلبّي حاجات هؤلاء المسلمين، ولكنَّ الهند لا تزال تعمل على محاصرتهم، وعلى فرض سيطرتها عليهم، وها هي في هذه الأيَّام، ترسل الطائرات والمدافع، من أجل أن تلاحق المجاهدين هناك في الجبال وفي أيِّ مكان، وربما تندلع حرب بين الهند وباكستان من خلال ذلك، باعتبار أنَّ كشمير مقسَّمة بين الهند وباكستان.
إنَّنا نريد للمسلمين أن يقفوا مع هؤلاء المسلمين من أجل الوصول إلى حقِّ تقرير المصير.
المأساةُ المستمرَّةُ في كوسوفو
كما أنَّ قضيَّة كوسوفو لا تزال في دائرة التَّعقيد السياسيّ والعسكريّ والتَّهجير، وهي تمثِّل المأساة المتحركة بأبشع صورها الوحشيَّة، ولا بدَّ للمسلمين أن يتابعوها بكلِّ وسائل الدَّعم السياسي والإنساني، من أجل عودة أهلها إليها، فإنَّ ذلك هو المطلب الرَّئيس الَّذين ينبغي للجميع أن يتابعوه.
ونحن نلاحق الأحداث، ونرى أنَّ هناك إمكانيَّةً للحلِّ السياسي في هذه المرحلة، ولكن علينا أن نراقب الأمر، لنجدَ هل يستطيع هؤلاء المسلمون أن يحصلوا على حقوقهم وعلى حقّ تقرير المصير، أم أنَّ اللّعبة الدوليّة، سواء كانت لعبة الحلف الأطلسي، أو اللّعبة الروسيّة أو اليوغسلافيَّة، يمكن أن تتَّجه بالأمور إلى شكلٍ آخر؟!
خطورةُ المرحلةِ للقضيَّة
ولا بدَّ لنا من متابعة اللّعبة الإسرائيليَّة التي تفرض نفسها على الواقع العربي، والفلسطيني بشكلٍ خاصّ، وعدم الخضوع للتَّطمينات الأمريكيَّة وللضغوط الصهيونيَّة من أجل تقديم التنازلات، فإنَّ المرحلة الحاضرة هي من أكثر المراحل تعقيداً وصعوبةً للقضيَّة الفلسطينيَّة والقضيَّة العربيَّة، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرَّتين.
خروجُ العدوِّ من جزّين
وفي هذا الجوّ، لا تزال قضيَّة انسحاب العدوّ وعملائه من جزين، تشغل الساحة السياسيَّة في لبنان والمنطقة، وتؤكِّد للجميع أنَّ المقاومة، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة البطلة، كانت وراء ذلك، بضغوطها العسكرية والأمنية على الاحتلال، بالرّغم مما يملكه العدوّ من وسائل القوَّة الماديَّة، ما يؤكِّد أنّ استمرار الخطّ الجهادي هو الّذي يلحق الهزيمة بالعدوّ، ويفرض حركته على الواقع السياسي الصهيوني في الداخل والخارج.
فلا يحاول أحدٌ في لبنان أو في غيره إرباكَ حركةِ المقاومة بالأساليب الانفعاليَّة والعاطفيَّة في عمليَّة إثارةٍ للمشاعر، وتحريك للتَّهاويل من هنا وهناك، فإنّ أيَّ منطقة تعود إلى الوطن بتحريرها من الاحتلال، تجعل الجميع من الدَّولة والمقاومة والشّعب كلّه مسؤولين عن استقرارها وحمايتها وتأهيلها كأيِّ منطقة أخرى.
وعلينا أن لا نجزّئ الوطن، بحيث تكون منطقة بنت ستّ ومنطقة بنت جارية، فهو في كلِّ مناطقه وحدة متكاملة يدعم بعضها بعضاً، وأن نكفَّ عن كلِّ هذا اللّغو السياسيّ الّذي قد يثير المشاعر الطائفيَّة الَّتي لا مصلحة لأحد في إثارتها. لقد خرج الوطن من الحرب الداخليَّة، ولم تعد هناك أي فرصة لأيِّ حرب جديدة إلَّا الحرب على الاحتلال. فليكن الموقف واحداً، والحرب واحدة، من أجل خروج المحتلّين من أرضنا، ليتحرَّر الأرض والإنسان.
وعلينا أن لا نلتفت إلى تهديدات العدوّ، فإنَّها لا تمثِّل إلَّا تغطيةً لهزيمته، وسينتصرُ لبنان بفضل وحدته الوطنيَّة في خطِّ المواجهة للعدوّ، ولنواجه المستقبل لاستكمال عمليَّة التَّحرير، بالوقوف مع المجاهدين الَّذين يمثِّلون نقطة الضَّوء الكبيرة في هذا الظَّلام الواسع.
مسؤوليَّةُ الدَّولةِ في حلِّ الأزمة
وختاماً، ندعو الدولة اللبنانيَّة إلى الاستمرار في البحث عن الحلول الواقعيَّة للمشاكل الصَّعبة الَّتي يتخبَّط فيها الإنسان اللّبناني، ولا سيَّما المشكلة الاقتصاديَّة الخانقة الَّتي أحاطت بالمواطنين، فجمّدت كلّ حيوية الحياة عندهم.
وعلى الجميع تقديم المساعدة في أيّ جهد في هذا المجال، لأنّ قضيَّة الوطن ليست قضيَّة موالاة أو معارضة، بل هي قضيَّة الإنسان كلّه، والمستقبل كلّه. فليتحمَّل الجميع مسؤوليَّاتهم أمام التحدّي الكبير في هذه المرحلة الصَّعبة من تاريخ الوطن كلِّه.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 04/06/1999م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية