ـ الشَّاعر هو إنسان يعيش إحساسه الإنسانيّ في شعره، لذلك فإنَّ مسألة احتواء التَّجربة الشّعريَّة للقيمة الإنسانيَّة تنطلق من احتضان الإنسان للقيمة في حياته الوجدانيَّة والفكريّة والعمليّة.. وهذا الّذي يجعلنا نلاحظ أنّ هناك من الشّعراء من يعيش إنسانيّته في مستوى القيمة، كالشّعراء الكبار العالميّين، وبعض شعراء العربيّة، ولا سّيما في العصر الحديث، وفي التّجارب الشعريّة الّتي يطلّ منها الشّاعر على أفق رساليّ، سواء في المسألة السياسيّة أو الاجتماعيّة أو ما إلى ذلك.
ولذلك، علينا أن لا نفصل بين الشَّاعر والإنسان في هذا المجال؛ فالشَّاعر هو إنسانٌ يملك الحسّ الفنّيّ، ويملك الطّاقة الإبداعيَّة، ويملك الصّورة والوسائل للتَّعبير عمّا يعيشه، أمّا مدى الانفتاح والعمق، فإنّ هذا ينطلق من خلال غنى إنسانيَّته وعمقها.
ـ أنا مع الإسلام في تأثيره في وجدان الإنسان وحسّه وحركته في الحياة. وعندما يعيش الإنسان الإسلام في كلّ امتداداته في الحياة، فمن الطّبيعيّ أن تتأثّر تجربته الوجدانيّة بالمفاهيم الإنسانيّة، لينطلق الإسلام في شعره عفويّاً.
أنا لا أؤمن بالشّعر الملتزم على أساس أن يجتذب الشّاعر الفكرة في حالة متكلّفة ليقحمها في تجربته الشّعريّة، ولكن أؤمن بأنّ على الإنسان أن يعيش التّجربة في حسّه وفي وجدانه، وأن يعبّر عنها في شعره أو في أيّ نتاج أدبي... ولهذا، أنا أدعو إلى شعر إسلاميّ يكون شعراً، ولا يكون مجرّد تعبير تقريريّ عن الأفكار الإسلاميّة والمفاهيم الإسلاميّة.
ـ والآية القائلة:
{وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}[الشّعراء: 224]؟
ـ الآية تقول:
{وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}[الشّعراء: 224 ـ 226]. إذاً، المسألة هي أنَّ الشّعراء لا يعيشون شعرهم، فهم يقولون الكلمة ولا يحرِّكونها في واقعهم. هم لا يلتزمون خطّاً معيّناً، ولكنّهم يهيمون في كلّ واد، لأنَّ الشّعر هو ابن الخيال والانفعال، ويخضع في كثيرٍ من الحالات للحيرة والتنقّل الّذي لا يستقرّ على موقع.
وهذا لا ينسجم مع الخطِّ المنهجيّ الّذي يُراد للرِّسالة أن تعيش فيه، ولذلك نجد أنَّ هناك استثناءً
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً}، وعاشوا الانفتاح على كلّ مواقع الخير في الحياة، وذكروا الله، فعاشوا آفاقهم معه
{وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}[الشّعراء: 227]، وعاشوا الالتزام المبدئيّ في مسألة العدل والظّلم.
إذاً، الآية لم تعالج الشعر كأسلوب تعبيريّ لترفضه، ولكنّها عالجته في شخصيّة الشّاعر وفي مضمونه الشّعريّ، فلو كان هناك مضمون يمكن أن يغني تجربة الحياة وحركيّتها، فإنّ الآية لا تمتنع عن اعتباره شيئاً إيجابيّاً.
الشّعر والدّين
ـ
يقال إنّ الدين أثّر سلباً في مسيرة الشعر العربي، على الرغم من أنّ الشّعراء العرب ـ أو بعضهم ـ كانوا خطباء منابر في مسيرتهم؟
ـ أعتقد أنَّ المسألة يمكن أن تكون على العكس، فنحن نعتقد أنَّ القرآن أغنى التَّجربة الشعريَّة، لأنَّ القرآن عندما نريد أن نعيش أجواءه الفنيَّة المبدعة، فهو شعر، ومن يقرأ "سورة مريم"، يرَ هناك شعراً متدفّقاً من دون وزن مصطلح، كذلك عندما يقرأ الإنسان: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}[التَّكوير:17، 18]، فإنه يعيش اللَّفتات الشّعريَّة الّتي تحمل موسيقى في داخل الكلمة، إذا لم تحمل موسيقى في الوزن.
لذلك، نحن عندما ندرس مرحلة الشِّعر المتأخِّرة عن العهد الأوَّل للإسلام، الّذي لم تكن ظروفه تسمح بوجود حركة ثقافيَّة بسبب انشغال المسلمين بالحروب وبتركيز الوضع الإسلاميّ الجديد، نجد أنَّ الشّعراء العرب استطاعوا أن يبلغوا مستوى فنيّاً كبيراً من خلال القرآن.
ـ يعني توضيحاً، ما العلاقة بين الشّعر والدّين؟
ـ إنَّ الدّين في تطلّعاته نحو الله ونحو الحقّ ونحو العدل ونحو الحياة المنفتحة على كلّ معاني الرّوح، هو مصدر إلهام للشّعر، ولكنَّنا عندما نحوّل الدّين إلى طقوس وعادات وتقاليد، فإنّه يجمّد الإنسان ولا يجمّد الشّعر فقط..
الدّين في تطلّعاته نحو الله ونحو الحقّ ونحو العدل، هو مصدر إلهام للشّعر
ـ
هل تؤمن بأنّ الشّعر يجب أن يكون للحياة، على الرغم من أنَّ البعض يؤكّد أنّه يجب أن يكون فنّاً يُصنع؟
ـ أنا لا أفهم تعبير "إنّ الفنّ للفنّ" "والفنّ للحياة"، لأنَّنا لا نستطيع أن نعطي الفنّ صفته في مدلوله الذاتيّ إذا لم يكن تعبيراً عن الحياة.. فعندما يعبّر الفنّ عن وجدان الإنسان، عن إحساسه بالجمال والحريّة والعدل، عن إحساسه بكلّ الأشياء الّتي تعيش في حياته، فهو إنسان يحرّك فنّه للحياة.
إنّ هذه المسألة هي بعض جوانب الحياة وبعض حركة الحياة، ولكنّ القضيّة ـ كلّ القضيّة في الفنّ ـ هي أن يعبّر عن الحياة بطريقة فنيّة ومبدعة، وهذا ما نستطيع أن نؤكّده في أنّ الفنّان ليس فنّاناً عندما يلتقي بكلّ مظاهر البؤس والسّقوط والانهيار والعذاب والمرارة والألم وما إلى ذلك، ولا يتأثّر بها.
عندما يتحول الدّين إلى عادات وتقاليد، فإنَّه يجمِّد الإنسان ولا يجمِّد الشِّعر فقط
التَّعقيد والإبداع الشّعريّ
ـ يقال: "بمقدار ما تكون معقَّداً أكثر، تكون مبدعاً أكثر"، ونحن نرى أن هناك الكثير من المبدعين أو الّذين يدَّعون الإبداع، أي المعقّدين. فهل بتنا نحتاج إلى أطبّاء نفسانيّين لحلّ المشكلة؟
ـ هنا نحتاج إلى أن ندخل إلى كلمة المعقَّد، إذ قد توحي بكلمة المتكلّف الّذي لا يتحرّك في الحياة بعفويّة وانفتاح، وقد تعني الحالة الّتي يعيش فيها الإنسان تنوّع الجوانب الّتي تتحرّك في شخصيّته، والتفاف خيوطها مع بعضها البعض، بحيث يقف الإنسان في وجدانه الشّعريّ ليجد أنّ هناك حركةً تضجّ فيها الأحاسيس المتضادّة والمشاعر المتنوّعة وتختلف فيها التطلّعات، بحيث تترك الإنسان يعيش حالة التمزّق بين شيء يجذبه إلى الأمام وشيء يشدّه إلى الوراء، أو بين شيء يتّجه به إلى العمق وشيء يعلو به في الفضاء.
فإذا كان ذلك هو معنى التّعقيد المقصود، فإنَّ هذه الحالة قد تعطي الشّعر غنى كبيراً، لأنَّها تجعله يشمل الحياة بكلِّ ضجيجها وجوانبها، وبكلّ حالة الصّراع فيها، وكلَّما عشنا الصّراع أكثر، تبلورت مشاعرنا وأحاسيسنا أكثر. عند ذلك، يمكن أن نقول إنَّ التَّعقيد في هذا المجال لا يبتعد عن البساطة، لأنَّ البساطة ليس معناها أن تظلَّ تعيش في السَّطح، بل أن تعيش ذاتك في عفويَّتك، وعندما تعيش الذَّات هذا الجوّ الّذي تضجّ فيه الأحاسيس، ويعبّر الإنسان من دون أن يحاول الظّهور بالمظهر الهادئ وما إلى ذلك، وعندما يتحرَّك ليعبِّر عن شكّه وحيرته وتمرّده ورفضه، فإنَّه يكون بسيطاً في إحساسه، وإن كان معقَّداً في مضمون هذا الإحساس.
الشّعر المتغرّب
ـ
قلت في وقتٍ لاحق إنّ الشّعر العربيّ الأخير لم يعد عربيّاً، ماذا تقصد؟
ـ قصدت أنّ الشّعر عادةً يمثّل وجدانيّة الأمّة الّتي يتحرّك فيها أو ينطلق بلغتها، والملحوظ في أكثر الشعراء العرب المحدثين في تجربتهم الشعريَّة وفي أساليبهم، أنهم انطلقوا من خلال استغراقهم في التّجربة الشعريّة لشعراء غير عرب بشكل عام، من خلال انبهارهم بالتّغريب أو بالتّجارب الشعريّة غير العربيّة، ما يعني أنَّ هناك نوعاً من الاحتقار اللاشعوري للتّجربة العربيّة. ومن هنا، نجد أنَّهم عندما يتحدَّثون عن الشّعر العموديّ، فإنَّهم يتحدّثون عنه باستهزاء وسخرية، من دون أن يتوقَّفوا أمام الإبداع الرّائع في كثير من تجارب الشّعر العموديّ الّذي لا تزال الأمَّة في مدى تاريخها كلّه تشعر بأنّه يحرّكها، من دون أن تشعر بأنّ قصيدةً واحدةً من قصائد الشّعر الحديث يمكن أن تحرّك حتَّى الشّعراء الّذين ينظمونها، فهم عندما ينطلقون، قد يتمثّلون ببيتٍ للمتنبّي أو لامرئ القيس، ولكنَّهم لا يتمثّلون ببيتٍ لهذا الشّاعر المعاصر أو ذاك.
الملحوظ في أكثر الشّعراء العرب المحدثين انبهارهم بالتَّغريب أو بالتَّجارب الشّعريَّة غير العربيَّة
ـ يُقال إنَّ العلامة فضل الله ضدَّ شعراء النّخبة؟
ـ عندما تتحوَّل النّخبة إلى حالة من التَّرف الّذي يجعل الشَّاعر ينظم لنفسه ولا ينظم للنَّاس، باعتبار أنَّه يطلّ دائماً على نفسه ولا يطلّ على الحياة من خلال نفسه، فيما هو الضّيق في تمثّل الإنسان لذاته، فإنَّ من الطّبيعيّ أنَّ مثل هؤلاء لا يمكن أن يغنوا التَّجربة الحياتيَّة.
لقد كنت في إحدى الحفلات في لبنان العام 1952، وكان هناك شاعر أحترم شعره، وهو المرحوم محمد علي الحوماني، كان يُلقي قصيدةً في أربعين المرحوم السيِّد محسن الأمين، وكان يُعيد بنفسه قراءة الشّعر من دون أن يستعيده الجمهور، وكانت قصيدته جيِّدة، وهنا لا أتوقَّف بالاستشهاد به عند قصيدته، لأنَّه شاعر حيّ في عقيدتي، لكنَّه كان يقول: اسمحوا لي إذا كنت أعيد من دون استعادة، لأنَّني لا أقرأ لأحد وإنَّما أقرأ لنفسي.
قد تكون هذه حالة عنفوان في الشّعر، عندما يرى الشّاعر أنّ النّاس لا تتأثّر بالشّعر الجيِّد، لكنَّ بعض الناس قد يطلقون المسألة على أساس أنّهم يحتقرون النّاس. كنت أريد أن أتحدَّث عن الكلمة، ولا أتحدَّث عن الشَّاعر في أحاسيسه عندما أطلق الكلمة.
النّخبة عادةً تعيش في أبراج عاجيَّة تطلّ على النّاس من فوق، ولذلك فإنَّنا لا نجد في تجربتهم الشّعريَّة نبضة الإحساس الوجدانيّ الّذي يمكن أن يخترق القلب وينساب في الشّعور.
النّخبة عادةً تعيش في أبراج عاجيَّة، ولذلك لا نجد في تجربتهم الشّعريَّة نبضة الإحساس الوجدانيّ الّذي يخترق القلب
ـ وما هو الشّعر الّذي يلفتك ويهزّك؟
ـ ليس هناك تجربة معيَّنة في الشّعر، ولكن كلّ شعرٍ ينفتح على جمالات الحياة وعلى حركة الحياة وعلى آلام الحياة بأسلوب فنّيّ مبدع يعرف كيف يحرِّك الكلمة والأخيلة والأحاسيس والمشاعر، لا بدَّ من أن يهزّني..
ـ وما الّذي يعجبك في شعر السيَّاب وعبد الصّبور والفيتوري؟ وهل تابعت الشّعراء المحدثين، كأدونيس ومحمود درويش؟
ـ يعجبني العمق والعفويَّة والإحساس القريب من الحياة، إضافةً إلى الموسيقى الّتي يتحسَّسها الإنسان في وجدانهم الشّعريّ وتجربتهم الشعريَّة.
هناك شاعر مفكّر، وهناك شاعر يحرّك الفكرة لتهزّه في وجدانه وليهزّ النّاس من خلالها.. لقد قرأت لأدونيس، ولكنّي لا أدري لماذا يتمثَّل لي الجدب الإنسانيّ عندما أقرأ تجربته. وقرأت لمحمود درويش، وكنت أتأثّر ببعض قصائده، ولا سيّما القصائد الّتي تعبّر عن المأساة الفلسطينيّة. أمَّا الآخرون، فربّما عشت بعض تجاربهم، ولكنّي لا أتذكّرها الآن...
ـ ونزار قبَّاني، هل قرأته؟ وما رأيك في شعره؟
ـ لقد قرأت أغلب نتاج نزار قباني، فهو شاعر الكلمة المترفة الّتي تتحرّر حتّى من قيود القاموس، فيما يعطيه لكلمته من خيال.
وأستطيع أن أقول إنّه الشّاعر الرّاقص، وإذا كانت لنزار قباني بعض التّجارب الإنسانيّة، فإنّها تتحرّك في أجواء الرقص.
ـ
كيف ذلك؟
ـ يشعر الإنسان بنزار قبّاني وهو ينظم القصيدة، بأنّه يهتزّ ولا يتوقّف طويلاً أمام الحالة الشّعورية التي يحرّكها.
ـ
لا أفهم ماذا تقصد بالاهتزاز؟
ـ الاهتزاز هو الّذي يجعل الإنسان لا يتماسك.
ـ
وهل نسميها حالةً هستيريّة مثلاً؟
ـ ليست هستيريا، ولكنّها تمثّل حالة استغراق وقلق سريع في التّجربة الإنسانيّة الّتي يتمثّلها في الواقع ليعيشها في نفسه أو في حسّه الشّعريّ.
ـ هناك موقف معارض منك ضد الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، لماذا؟
ـ الواقع أن الإنسان عندما يقرأ الشاعر البياتي، قد يتحسّس من الأفكار البعيدة والمعقّدة ـ إذا صحّ التّعبير ـ في شعره، ولكنّي لم أشعر بالاهتزاز الوجدانيّ في كلّ ما قرأت له من قصائد، بينما عندما نقرأ أو نلتقي ببدر شاكر السيّاب أو بشعراء آخرين يمثّلون مرحلة البياتي ولا يبتعدون عما يعتبر إبداعاً، فإنّنا نشعر بالفكرة المنفتحة على مختلف جمالات الحياة، كما نشعر بالاهتزاز الّذي هو الشّرط الأساس ليكون الشّعر شعراً.
تساؤلات في أجواء الشّعر
ـ وشعر المرأة، أين تضعه؟
ـ المرأة إنسان. أنا لا أفهم أن يكون هناك شعر امرأة أو شعر رجل. المرأة عندما تكون شاعرةً تكون إنساناً قد يكون صريحاً في التَّعبير عن مشاعره وقد لا يكون، كما هم الرّجال عندما يتحدّثون، ولكنّني أشير في هذا المجال إلى نازك الملائكة وفدوى طوقان، وبعض التّجارب الصّغيرة لسعاد صباح الّتي قرأتها أخيراً...
أنا لا أفهم أن يكون هناك شعر امرأة أو شعر رجل، المرأة عندما تكون شاعرةً تكون إنساناً
ـ
هل تتوقَّف في شعرك عند المصطلحات الفنيَّة والإيديولوجيَّة المبرمجة؟
ـ أنا لا أعتقد أنّ الشّعر يمثّل بحثاً فكريّاً ليستعير له الإنسان المصطلحات. الشّعر هو حالة انسياب فنّي شعوريّ وجدانيّ، وهو يتحرّك مع اللّغة التي تنساب، لا اللّغة الّتي تحتاج إلى الكثير من المجلّدات لتشرحها.
ـ
وماذا اكتشفت في الشّعر؟
ـ اكتشفت الحياة. فهناك إحساس الإنسان عندما يشمّ العطر، وهناك إحساس الإنسان عندما يعيش أجواء الفكرة في العطر، فهما يتكاملان.
ـ
وأين وجدت ذاتك كإنسان؛ في الشِّعر أم في السياسة أم في قضايا الدّين؟
ـ الشِّعر، السياسة، الدّين، اللّعب، اللذّة، هي حركة الحياة التي نعيشها، لذلك فإنَّ الإنسان يجد ذاته في كلِّ ما يؤمن به، وفي كلِّ ما يعيشه، وفي كلِّ ما يتحسَّسه وفي كلِّ ما يتحرَّك به.
"الدّين" يمثِّل انفتاحنا على الله، وانفتاحنا على الحياة من خلال الله، وحركتنا في خطّ المسؤوليّة من خلال الله، والشّعر يمثّل الأسلوب التّعبيريّ الّذي نستطيع من خلاله أن نطلق الصّورة المبدعة والإحسان المرهف والتّجربة العميقة. ولذلك، فإنّ الدّين قد يتكامل مع الشّعر في هذا المجال.. وهكذا عندما نلعب ونلهو فيما يستسلم فيه الإنسان لحالة الغياب عن الجدّ في الحياة، ليفضفض عن نفسه وعن روحه وعن ضغط مشاعره. إنّها حالة إنسانيّة نعيشها.
الشّعر هو حالة انسياب فنّي، وهو يتحرّك مع اللّغة التي تنساب لا الّتي تحتاج إلى مجلّدات لشرحها
ـ
هل فكرت في أن تمارس هذه الحالة في الموقع الّذي أنت فيه؟
ـ إنَّ الإنسان قد يجد في بعض فجوات حياته ما يدفعه إلى ذلك، وأنا أتصوَّر أنَّ الطِّفل يبقى في عمق الشّابّ، وأنَّ الطّفل والشابّ يبقيان في عمق الشّيخوخة...
ـ
هنا الزّمن يلعب دوراً ما؟
ـ الزّمن قد يجمّد بعض حركة المرحلة الّتي يتجاوزها الإنسان، ولكنّه لا يلغيها.
وهذا الملعون ـ الزَّمن، ماذا تقول عنه وهو يمرّ علينا ولا يتركنا حيث نشتهي أن نكون؟
ـ في الواقع، إنّ حالة الزّمن بالنّسبة إلى رغباتنا كحالة طفل عندما يتحرّك في رغباته بما قد لا يخدم حياته.. فلو تركنا الزّمن في مواقعنا، لتجمّدنا ولم ننطلق، ولم نعش حركة الأحلام في حياتنا، ولم نعش أجواء الحيرة والتطلّع والقلق الّتي تجدّد إحساسنا بالحياة.. لذلك الزّمن ليس ملعوناً عندما لا يقف بنا حيث نشتهي، لأنّه يعرف أنّ ما نشتهيه لن يكون دائماً في مصلحة حركة الحياة في كياننا.
معادلة حوارـ لكنّ علاقة الزّمان بالمكان هي علاقة المتغيّر بالمتغيّر، وهي معادلة جدليّة تقبل الحوار؟
ـ من الطّبيعيّ أنّ الزّمان عندما يتغيَّر، فإنّه قد يتغيّر في خطوطه الامتداديّة، ولكن تبقى للإنسان حالة ثابتة في العناوين الكبرى للزّمن، فنحن قد نودّع هذه السّنة، نودّع ربيعها وخريفها وصيفها وشتاءها، ولكنّنا في الوقت نفسه، نبقى مع الرّبيع الّذي يتجدّد.. فالزّمن يبقي لنا الرّبيع، وإن كان يجعلنا نتجاوز كثيراً من مفردات الرّبيع.
ولذلك، فإنَّنا نستطيع أن نجد في الزَّمن حالة الثَّابت والمتغيِّر، كما نجد في المكان حالة الثَّابت والمتغيّر، فنحن قد ننطلق من مكان إلى مكان، ولكن قد تكون العناصر الأساسيّة لهذا المكان هي نفسها. وعلى هذا الأساس، فالزَّمن يحمل معنى الثَّبات، فيما هي الحياة في طبيعتها، ويحمل معنى التغيّر فيما هي حركة الحياة...
ـ يقال إنّ نتاجك الفني ملتزم ومجتزأ، هل تملك وسيلة للدّفاع عن هذه الفكرة؟
ـ أنا لا أعتقد أنَّه ملتزم بالمعنى المصطلح للالتزام الّذي يحبس الإنسان في دائرة إيديولوجيّة معيّنة، بحيث يتجمّد الفنّ عندها، لأنّني أملك التنوّع في المجالات الفنيّة الّتي مارستها، حتى إنّني عندما أتحدّث عمّا يرتبط بالالتزام السياسيّ أو الدّينيّ، فإنّي أتحدّث عنه بطريقة فنيّة، ولا أتحدّث عنه بطريقة تقريريّة، إلا في بعض التجارب الشعريّة المبكرة...
ـ
ولماذا لا تتَّخذ منحى مجدّداً في تجربتك الشّعريَّة؟ هل هذا بسبب حالات روحيّة عفويّة؟
ـ أعتقد أنّني حاولت أن أدخل في بعض تجارب الشّعر الحرّ، وهناك عدّة تجارب في ديواني الأوّل "قصائد للإسلام والحياة"، ولا أزال أقرأ الشّعر الحرّ وأتأثّر ببعض تجاربه، ولكنّني شغلت عن ممارسة الشّعر، ولذلك لم أستمرّ في هذه التّجربة، باعتبار أنّني توفّرت على قراءات جديدة وعلى الكتابة في أكثر من موقع...
ـالفقيه في خدمة الإنسان
ـ نعرفك مرشداً روحيّاً وفلسفيّاً ودينيّاً أكثر منه شاعراً، لماذا لا تواكب هذه الحركات بعضها بعضاً، وهل على رجل الدّين فقط أن يكون قمّةً روحيّة؟
ـ أنا لم أعش هذا الإحساس أبداً، لم أعش إحساس الفقيه، ولم أعش إحساس المرشد أو الفيلسوف أو ما إلى ذلك. كنت أعيش إنسانيَّتي، ولذلك لم أكن تقليديّاً في طريقتي في إدارة هذه الصّفات في حياتي، وربَّما كنت في كثيرٍ من ممارساتي لهذه الحياة شاعراً بالرّوح، وإن لم أمارسها شاعراً بالكلمة الشّعريَّة.
من هنا، فإنَّ المسألة لا تتَّخذ مجالها الإنسانيّ في غربة الشّعر عن الذّات، ولكنَّها تتّخذ مجالها الإنسانيّ في ضجيج المسؤوليَّات الّتي تحيط بالإنسان في بعض مجالات حياته، وهذه مسألة عاشها كثير من الشّعراء الّذين اندفعت حياتهم في مسؤوليَّات كبيرة شغلتهم عن التَّجربة الّتي تشمل كلَّ حياتهم.
ـ وأين ترتاح أكثر إذاً؛ في السّياسة أم في الشِّعر أم في الدّين؟!
ـ إنّني أرتاح في الشّعر عندما أعيش حالات الاسترخاء الشّعوريّ والنّفسيّ، وأرتاح في الدّين عندما أتمثَّله كحالةٍ روحيَّةٍ تنفتح على الله وحالة رساليَّة تنفتح على النَّاس، وأرتاح في السياسة عندما أشعر بأنَّها تستطيع أن تفتح عيون النَّاس على واقعهم أكثر، وتستطيع أن تقودهم نحو تغيير هذا الواقع إلى الأفضل.
أرتاح في الشِّعر عندما أعيش حالات الاسترخاء الشّعوريّ، وأرتاح في الدّين عندما أتمثَّله كحالةٍ روحيَّةٍ تنفتح على الله
العلاقة مع الموت
ـ العلاقة بينك وبين الموت حدوديَّة، هذا ما لاحظناه في كتاباتك الشّعريَّة وغيرها، ومنذ قليل، تطرَّقت إلى قصَّة وجودكم في النَّجف ورؤيتكم اليوميَّة للحالة الكربلائيَّة... ويبدو أنَّك تستوعب الموت وتتآلف معه، فيما بعض الشّعراء خافوا منه وتقوقعوا، مثل ابن الرّوحي وبعده السيَّاب وأبو ماضي. ما هو تفسيرك لهذه المعادلة القدريَّة، وماذا هيَّأت لها؟
ـ عندما يعيش الإنسان ضغوط الحياة، فقد يجد في الموت تخفّفاً منها، وعندما يعيش الإنسان قيودها، فقد يشعر ولو في حالة وجدانيَّة غير عقلانيَّة بأنّ الموت يمثّل أجواء الحريّة الّتي يتحرّر فيها من هذه القيود، وإذا كنّا من خلال وجداننا الدّينيّ نطلّ على نعيم الجنّة وعلى أجواء رضوان الله فيما بعد الموت، فإنّنا قد نتمثّل في حسّنا الباطنيّ أو اللاشعوريّ امتداد الحياة في الموت، وعند ذلك، يكون الفرق بين الموت والحياة، وهو أنَّ الحياة الّتي نعيشها، تعيش في نطاق ضيّق محدود، بينما يتمثّل الإنسان اللانهاية في الحياة الأخرى الّتي يكون الموت جسر العبور إليها.
ـ وما رأيك في موهبة القصيدة التّجريديّة السّائدة؟
ـ لم أعش هذه التَّجربة، ولكنّني لا أعتبر التّجريد شيئاً يغني الحياة.
ـ التَّجريد أحياناً يدخل في محراب الصّوفيَّة؟
ـ عندما يعيش الإنسان الإحساس في القصيدة، فإنّه لا يكون تجريديّاً.
ـ نرى ذلك تصوّف عاشق، والشِّعر فكرة ومنطق وقصائد روحيّة، إلى أيّ من الأنماط ترتاح وتتنفَّس طويلاً؟
ـ كنت أتنفّس طويلاً في كلّ تجربة أعيشها، ولكنّني ربّما في المرحلة الأخيرة من حياتي الشّعريّة، كنت أتنفّس الحالة الصّوفيّة الّتي تنفتح عليّ ولا أزال.