النوع الثاني: ما يكون ديناً قبل وقوع البيع عليه، وهو كل دين مستقر في الذمة بقرض أو بيع سابق أو زواج أو إتلاف أو غيرها مما ذكرناه في بداية مبحث الدين تفصيلاً.
وما لا يجوز منه هو خصوص (بيع الدين بالدين)، وهو تعبير متداول عند الفقهاء، ونريد به: ما يكون العوضان فيه دينين سابقين على العقد، سواءً كانا حالّين في ذمة المدينين أو مؤجلين أو كان أحدهما حالاًّ والآخر مؤجلاً، فلا يجوز أن يبيع أحد الدائنين دينه بدين الآخر، سواءً باع أحدهما الآخر، أو تبايعا بمالهما على غيرهما.
ومثال ما لو كان الدينان على غير المتبايعين، مع افتراض كون الدينين مؤجلين، هو ما يلي:
أ ـ سمير له على سعيد طنُّ قمحٍ قرضاً مؤجلاً إلى شهر.
ب ـ زينب لها على جميل ألف دولار مهراً مؤجلاً إلى شهر.
ج ـ لا يجوز لسمير أن يبيع زينب ذلك الطن من القمح الذي له على سعيد بتلك الألف دولار التي لزينب في ذمة جميل.
سواء كانا مؤجلين معاً ـ كما هو فرض المثال ـ أو كانا حالّين معاً، أو كانا مختلفين، أي: كان أحدهما حالاًّ والآخر مؤجلاً.
ومثـال مـا لـو كان الدينان على المتبايعين، مع الإفتراض بأنهما معاً مؤجلان ـ أيضاً ـ، هو ما يلي:
أ ـ سمير له على زينب طن قمح قرضاً مؤجلاً إلى شهر.
ب ـ زينب لها على سمير ألف دولار مهراً مؤجلاً إلى شهر.
ج ـ لا يجوز أن يبيع سمير لزينب قمحه الذي له في ذمتها بالألف دولار التي لها في ذمته، سواء كانا مؤجليـن معـاً ـ كمـا هو الفرض ـ أو كانا حالّين أو مختلفين.
ـ (الكمبيالة) أو (السند): وثيقة مكتوبة موقعة من المدين يُضَمِّنُها إقراره بأن لفلان في ذمته الدين الفلاني، إلى أجل معين أو بدون أجل، وهي (الكتابة) التي أمر بها الله تعالى في كتابه الكريم وحثَّ عليها استحباباً.
وتعتبر الكمبيالة مجرد وثيقة على الدين، دون أن يكون لها ـ بذاتها ـ مالية ولا قيمة، لذا فإنها لو تلفت عند حاملها لا يكون قد تلف منه مال، كما وأنه لا تبرأ ذمة المدين بذلك التلف، وهي من هذه الجهة بخلاف الأوراق النقدية إذا دفعت ثمناً لمبيع، فإن قيمتها الذاتية تجعلها مالاً، ويترتب على تلفها جميع الآثار المترتبة على تلف المال.
والكمبيالة على نوعين:
الأول: ما يعبر فيه عن وجود دين واقعي تشتغل به ذمة المدين الذي هو مُوقِّع الكمبيالة، للدائن الذي جُعلت الكمبيالة بإسمه ولصالحه.
الثاني: ما يعبر فيها عن وجود دين صُوري لا واقع له. ويكون الهدف منها إعطاء حاملها قدرة على أخذ مال بمقدارها من شخص آخر أو من البنك، لما تتضمنه من إثبات أن حاملها (وهو الدائن الصوري) يملك هذا المبلغ في ذمة المدين (الصوري) موقع الكمبيالة، وقد عرفت هذه الكمبيالة بإسم (كمبيالة المجاملة).
وحيث إن بعض الناس قد يرغب في الاستفادة من السند قبل حلول وقته ببيعه إلى شخص ثالث أو بنك، بحيث يصير ذلك الثالث هو الدائن الذي يحق له استيفاء الدين عند حلول أجله من المدين، فإن حكم هذا البيع يختلف بين النوعين على النحو التالي:
أما النوع الأول: فإنه يجوز فيه للدائن الذي يحمل سند الدين أن يبيعه إلى من يرغب في ذلك، كالبنك أو غيره من المؤسسات والأشخاص، بأقل من قيمته، رغبة منه في تعجيل الحصول على دينه ولو بأقل منه، سواءً كان الدين المباع حالاًّ ولا يقدر على الحصول عليه إذا طلبه، أو كان مؤجلاً لم يحن وقت استيفائه، وسواءً باع المؤجل بجنسه أو بغير جنسه، حالاًّ كان البيع أو مؤجلاً؛ ما لم يستلزم الربا، كما لو كان من المكيل أو الموزون، وباعه بجنسه، بل أو باعه بغير جنسه نسيئة، ونحو ذلك من المحاذير التي سبق ذكرها في ربا المعاملة؛ كما وأنه ينبغي ملاحظة أن لا ينطبق عليه عنوان (بيع الدين بالدين) بالنحو الذي ذكرناه في المسألة السابقة. غير أنه لا يخفى أن أكثر ما يحتاج إلى بيع سندات الدين فيما إذا كان الدين من النقود المستحدثة، وأراد الدائن بيعها بنقد من جنسها أو من غير جنسها، ومثل هذا البيع جائز ـ في رأينا ـ بجميع صوره كما ذكرنا، ما عدا بيعها نسيئة بالتفاضل مع اتحاد الجنس على الأحوط وجوباً. (
أنظر من الجزء الثاني المسألة: 784).
وأما النوع الثاني: فحيث إن حامل السند (وهو الدائن الصوري) ليس دائناً حقيقة، وحيث إن الوثيقة التي معه لا تتضمن أية قيمة على الإطلاق، ولو اعتبارية، وحيث إنه إذا باعها لا يكون قد باع شيئاً (متمولاً) ولا ذا قيمة مما يصح أن يبذل بإزائه الثمن، فإنه ـ من أجل ذلك ـ لا يصح البيع؛ فإذا (باعها) للبنك ـ كما هو الغالب ـ وأعطاه البنك قيمتها، لا يكون ذلك بيعاً، بل هو ـ في الواقع ـ قرض قدمه البنك له اعتماداً على هذه الكمبيالة، ولما كان ما أعطاه البنك أقل مما سيستوفيه من موقع الكمبيالة عند حلول الأجل فإنه يكون قرضاً ربوياً، إضافة إلى أن الذي سيتولى وفاء هذا القرض للبنك هو موقع الكمبيالة لا المستفيد من القرض، فيكون تحويل الوفاء عليه ـ بمقتضى كونه الموقِّـع ـ دون أن يناله شيء من القرض هو من نوع الحوالة على البريء، وهو أمر قد يوجب إشكال الوقوع في الربا عندما يريد مُوَقِّع الكمبيالة (البريء من الدين واقعاً) أخذ قيمتها من المستفيد بعد رجوع البنك عليه، في حين كان المستفيد قد أخذ من البنك أقل مما سيضمنه لموقع الكمبيالة.
ولكن ـ رغم ذلك ـ يمكن للخبير بدقائق أحكام البيع التخلص من الربا بطرق متعددة، وأفضل الطرق هي التالية:
أ ـ أن يعتبر البنك ـ بالإتفاق مع حامل الكمبيالة ـ أن ما يقتطعه من قيمة الكمبيالة ليس فائدة على القرض، بل هو في قبال قيام البنك بتسجيل الدين وتحصيله ونحوهما من الخدمات.
ب ـ إن رجـوع مُوَقِّـع الكمبيالـة ـ بعد رجوع البنك عليه بتمام قيمة الكمبيالة ـ على المستفيد وأخذ تمام قيمة الكمبيالة منه صحيح، لأن المستفيد لما كان قد أحال البنك على مُوَقِّع الكمبيالة بالقيمة المذكورة فيها، فإن معنى هذه الإحالة أن المستفيد سوف يضمن لموقع الكمبيالة تمام القيمة المذكورة بعدما صارت ذمة المستفيد مدينة للموقِّع بما يساوي ذلك المبلغ، حتى لو كان ما أخذه المستفيد من البنك أقل من قيمة الكمبيالة.
ـ إذا باع الدائن دينه بثمن من جنسه أقل منه مقداراً، أو بثمن من غير جنسه أقل منه قيمة، تحول المدين بالوفاء إلى المشتري بعدما صار الدين له بالشراء، ولزمه الوفاء للمشتري بتمام الدين الذي كان عليه قبل البيع، لا بالمقدار الذي اشترى به؛ فمثلاً لو كان لزيد في ذمة سعيد مئة جوزة، فباعها لسمير بتسعين، وجب على سعيد حين الوفاء للدائن الجديد ـ وهو سمير ـ دفع مئة جوزة لا تسعين.
ـ إذا تعذر على المشتري تحصيل الدين المباع من المدين إنفسخ البيع، وكان تلفه على البائع، واستحق المشتري عليه الثمن الذي دفعه لا غير، وهو نفس الحكم الثابت للمبيع إذا كان عيناً وتلف قبل قبضه.
نعم، إذا كان البائع (الدائن) قد تعهد للمشتري بتحصيل المبيع (الدين) عند حلوله فإن الحكم يختلف ـ حينئذ ـ على نحوين:
الأول: ما إذا كان مفاد ذلك التعهد هو اشتراط الفسخ للمشتري حين عجز البائـع عن تحصيل المبيع من المدين، فحكمـه ـ حينئذ ـ هو ما سبق، أي: فسخ البيع، وكون تلفه على البائع، وعدم استحقاق المشتري عليه غير الثمن الذي دفعه.
الثاني: ما إذا كان مفاد ذلك التعهد هو التزام البائع بدفعه بدلاً عن المدين حين عجزه، فحكمه ـ حينئذ ـ هو صحة البيع، ولزوم دفع البائع تمام الدين للمشتري بدلاً عن المدين؛ لكن البائع لا يمكنه الرجوع بما دفعه للمشتري على المدين ما لم يكن قد دفع ذلك بإذنه، إذ إن دفعه عنه دون إذن مسبق منه يعدّ تبرعاً، والمتبرع لا يستحق شيئاً على من تبرع عنه.
نعم، إذا رغب البائع بالتخلص من تبعات مثل هذا البيع، وبخاصة إذا كان يخشى عجز المدين عن الوفاء للمشتري، أمكنه بيع الدين مع ضميمة عين خارجية معه، حيث لا يمكنه الرجوع معها عند عجز المدين عن الوفاء له لكون البيع صحيحاً في الضميمة دائماً، إلا أن يفسخ البيع بخيار آخر، كخيار تبعض الصفقة أو غيره.