النسب
01/06/2023

ما به يتحقّق النسب

ما به يتحقّق النسب

ونريد به بيان حقيقة النسب المتقومة بتولد الإنسان من أبويه من نكاح أو سفاح، وبيان الأصل الذي يرتكز عليه إلحاق الولد بأبيه ونسبته إليه، والذي هو مضيُّ المدة التي يمكن تولده منه فيها، وذلك بمجرد مضيِّها أو مقروناً باللجوء إلى القرعة مع إمكان إلحاقه بأكثر من شخص، وهو ما نفصله في مسائل:


ـ (النسب) هو: (صلة القرابة الناتجة من تولد الإنسان من أبويه)، فتحدث بالولادة بُنوَّة الوليد لوالديه، وأبوة الوالد وأمومة الوالدة لولدهما، فإن وُلد لأبويه غيره تحقّقت بولادته الأخوة، فتكتمل بذلك أصول القرابة النسبية المباشرة، وهي: الأبوة والأمومة والبنوة والأخوة، وذلك إضافة إلى ما يتحقّق بالولادة من أنواع القرابة غير المباشرة، وهي التي تتمثل: في جانب الوالدين: بوالدي الأب ووالدي الأم مهما علوا، وهم الأجداد، وفي جانب الأبناء: بأبناء الإبن والبنت مهما نزلوا، وهم الأحفاد والأسباط، وفي جانب الإخوة: بأبناء الأخ والأخت مهما نزلوا، أو بلحاظ آخرٍ وهو وجود إخوة لآبائه وأمهاته مهما علوا، فيصير إخوة الآباء أعماماً لأولاد إخوتهم، وإخوة الأمهات أخوالاً لأولاد أخواتهم. وقد فصلنا ذكرهم في مباحث الفصل الأول عند الحديث عمن يحرم التزوج منه من المحارم.


ـ تتميز القرابة النسبية بعدة آثار، وهي:

أولاً: إن دائرة من يحرم التزوج منه من الأقارب النسبيين أوسع منها في الأقارب من الرضاع أو المصاهرة، وهو أمر قد سبق ذكره. إضافة إلى ما يترتب على ذلك من كونه من المحارم الذين يحل النظر إلى ما يجب عليهم ستره من أجسادهم عن غير المحرم عدا العورة، وكذا لمسها.


ثانياً: وجوب البر بالولدين والأجداد، ووجوب صلة غيرهم من الأقارب ممن يراه العرف واجب الوصل منهم بالنحو الذي سيأتي.


ثالثاً: مسؤولية الوالدين والأجداد عن الأبناء في إطار الولاية عليهم وحضانتهم بالنحو الذي سيأتي بيانه؛ وقد تتوسع الولاية لتشمل غيرهم من الأقارب في باب شؤون تجهيز الميت.


رابعاً: مسؤولية كل من الآباء والأبناء عن الإنفاق على الآخر عند حاجته وعجزه عن تحصيل ما يعتاش به، كما سيأتي بيانه.


خامساً: مسؤولية الأقارب النسبيين بعضهم عن البعض الآخر عن جنايته على الآخرين خطأً، وهم (العاقلة) الواردة في باب الديات.


سادساً: توارث الأقارب فيما بينهم طبقة بعد طبقة على أساس قوله تعالى: {وأولوا الأرْحامِ بعْضُهُم أوْلى ببعضٍ في كتابِ الله} [الأنفال:75].

وذلك بالنحو الذي سيأتي في باب المواريث.


ـ من المعلوم أنه لا تخفي نسبة الولد إلى أمه بعد وضوح تولده منها إلا في اللقيط الذي لا يعرف له أبوان، فيما قد يعتري الشكُّ نسبة الولد إلى أبيه، نظراً إلى طبيعة التناسل المتقومة بدخول نطفة الرجل إلى رحم المرأة واقترانها ببويضة المرأة، وهي من الأمور التي لا يمكن الجزم بها ـ غالباً ـ إلا اعتماداً على بعض القرائن، وإلا بعد ثبوت دخول نطفة هذا الرجل إلى رحم هذه المرأة بالجماع ونحوه؛ لذا فإنه لا بد لثبوت البنوة أو الأبوة بين الوالد وولده من توفر أمرين:


الأول: ثبوت وقوع مني هذا الرجل بالقذف في فرج هذه المرأة، أو على ظاهره، أو ثبوت دخول آلة الرجل الملوثة بالمني بعد قذفه خارج الفرج، أو ثبوت إدخال امرأة لمني الرجل المقذوف خارجاً إلى فرجها بواسطة آلةٍ أو نحوها، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يُعلم فيها بدخول مني هذا الرجل إلى فرج هذه المرأة. وذلك بغض النظر عن كون دخوله فيها بزواج أو سفاح، وبرضاً أو بدونه، ومع القصد أو بدونه.


الثاني: أن تمضي مدة من الزمن بين دخول المني بالنحو المذكور آنفاً وبين وضع الحمل لا تقل في حدها الأدنى عن ستة أشهر ولا تزيد عن السنة، وهي مدة أقل الحمل وأقصاه. فلو فرض أن رجلاً واقع زوجته، ثم مضى عنها مسافراً، فوضعت ولداً في غيبته بعد مضي السنة لم يكن ذلك الولد منه، وكذا لو ولدت المرأة ولداً قبل مضي ستة أشهر من تاريخ مواقعتها.


ـ إذا تحقّق هذان الأمران حكم بلحوق الولد بأبيه ونسبته له في حالتي كونه من نكاح شرعي أو من سفاح، وتفصيلهما كما يلي:


الحالة الأولى: يعتبر الولد (إبناً شرعياً) في كل حالة يكون انعقاد النطفة فيها عن نكاح بالعقد الصحيح، أو بالعقد الفاسد بواحد من أسباب الفساد التي ذكرناها ضمن المباحث المتقدمة مع جهل الزوجين بفساده؛ أو يكون عن نكاح بدون عقد لاشتباه الزوجة بغيرها بسبب الغفلة أو النوم أو الجنون أو غياب العقل بسبب من أسبابه، إلا ما يكون بتناول المسكر عمداً واختياراً؛ وكذا يكون الولد شرعياً في كل حالة يتم فيها إدخال نطفة الرجل في رحم المرأة بغير الجماع، أو تلقيحهما معاً خارج الرحم، سواءً كان بنطفة الزوج أو نطفة غيره، وسواءً كان حلالاً نفس الإدخال أو التلقيح أو حراماً.


الحالة الثانية: يعتبر الولد (إبن زنى) إذا تولد عن نكاح بدون عقد ولا شبهة، ومما يُعَدُّ بمنزلة (عدم العقد) ما لو كان نكاحهما عن عقد فاسد مع علمهما بفساده. كما أنه لا يعد من الشبهة ما لو ظن السكران الذي تعمد شرب الخمر أن هذه المـرأة زوجتـه فواقعهـا فحملت منـه، بـل يحكـم ـ حينئذ ـ بكون الولد من زنى، ولو من جهة أبيه فحسب إذا كانت أمه مشتبهة بشبهة يعتد بها. هذا، ولا يعد من الزنى مقاربة الزوج لزوجته التي حرم عليه وطؤها لعارض، كالحيض أو الإحرام أو نحوهما، وإن كان آثماً.


ـ كما يكون الولد ـ بمقتضى الحالتين المتقدمتين ـ إبناً شرعياً أو إبن زناً لكلا والديه، فإنه قد يكون ابناً شرعياً لأحدهما دون الآخر، فلو فرض أن أحد الوالدين كان مكرهاً على الزنى أو جاهلاً بفساد العقد أو مشتبهاً، دون الآخر، كان الولد إبناً شرعياً للمعذور في ذلك النكاح، وابن زناً لغير المعذور؛ ورغم ذلك فإن عنوان كونه ولداً شرعياً هو الذي يغلب عليه وتلحقه أحكامه المترتبة عليه بخصوصه، وهي الأمور المشروطة بطهارة المولد، كمرجعية الفتيا والقضاء وإمامة الجماعة وغيرها.


ـ لا يرفع عنوان (إبن الزنى) عن الولد ما لو تزوج الزاني بأمه بعد ما حملت منه.


ـ إذا زنى رجل بامرأة ثم تزوجها بعد ذلك، فإذا حملت منه بعد العقد عليها ولم يعلم كون الولد من النكاح المحرَّم أو المحلَّل حكم بأنه من المحلل واعتبر ولداً شرعياً.


ـ لا يمتد أثر الزنى في الأبناء والأحفاد، فمن كان والده ابن زنى فإنَّ ولدَهُ لا يكون كذلك إذا وُلِدَ من نكاح شرعي، وهكذا أحفاده.

ـ يثبت النسب بالزنى كثبوته بالبنوة الشرعية، ويترتب عليه جميع لوازم النسب، من حرمة التزوج منه، وثبوت حق الولاية عليه والحضانة له، ولزوم إنفاق القادر منهما على العاجز، وصلة الرحم، وغير ذلك، ما عدا الميراث، فإنَّ ولد الزنى لا يرث أبويه ولا يرثانه إن وقع الزنى منهما معاً، وإلا فإن كان الزنى من أحدهما دون الآخر ورث الولدُ المعذورَ من أبويه وورثه، دون الزاني.


كذلك فإن لحياته حرمةً هي كحرمة حياة الإبن الشرعي، ولذا فإنه لا يجوز للأم إسقاط جنينها من الزنى، ولو قبل ولوج الروح فيه، إلا في موارد معينة نذكرها في محلها، وتثبت الدية والقصاص في قتله كثبوتهما في الولد الشرعي.


ـ إن الأصل في نسبة الولد لأبيه هو كونه من نطفته، كما أن الأصل ـ عندنا ـ في نسبة الولد إلى أمه هو كونه من بويضتها، دون أن يكون لاحتضانها له في رحمها وتولده منها مدخلية في هذه النسبة؛ وعليه فإنه لو لجأ الزوجان العقيمان ـ طلباً للوَلَد ـ إلى الطريقة المعروفة بــ (الرحم المستعارة)، وهي: (أن يُؤخذ «حويمن» من الرجل «وبويضة» من المرأة التي تعاني من مشاكل في الرحم تمنعها من الإنجاب، فتوضع النطفتان في رحم امرأة ثانية، فتلد طفلاً)، كان الطفل المتولد من هذه المرأة الثانية هو إبن صاحب الحويمن حتماً، أما والدته فالظاهر أنها صاحبة البويضة، لا مَنْ حَضَنتْهُ في رحمها وَوَلَدتْهُ.

هذا، وإنما يجوز اللجوء إلى هذه الطريقة في صورة ما لو كان الرجل زوجاً لكلا المرأتين، ولم يكن إخراج النطفتين ولا إدخالهما في رحم المرأة الثانية مستلزماً للإستمناء المحرَّم أو لكشف المرأة عورتها على الطبيب الرجل، لكنهم لو خالفوا هذين الشرطين، وارتكبوا الحرام، لا يكون الولد إبن زناً، ويتحقّق به النسب أيضاً.


ـ كما يتحقّق النسب بين الولد وصاحبي النطفتين إذا تم تكونه في الرحم وتولده منه، فإنه يتحقّق ـ أيضاً ـ بما لو تم جمع النطفتين خارج الرحم بطريقة ما يعرف في زماننا بــ (التلقيح الصناعي)، وهو: (أن يؤخذ «حويمن» من الرجل و«بويضة» من المرأة، فيجمعا في أنبوب خاص مدة الحمل، فيتولد منهما طفلٌ إنساني سوي)، إن ذلك الطفل المتولد هو إبن صاحبي النطفتين، ويتحقّق بتولده منهما بهذا النحو جميع صلاة القربى التي تتحقّق للمتولد من رحم الأم وبويضتها.


هذا، وإنما يجوز ذلك في صورة ما لو كان صاحبا النطفتين زوجين، ولم يكن إخراج النطفتين مستلزماً للوقوع في محرَّم آخر، كأن يضطر الرجل إلى الاستمناء بغير يد الزوجة، أو تضطر الزوجة إلى كشف عورتها على الطبيب الرجل من غير ضرورة مبيحة؛ فإنْ كان أحد صاحبي النطفتين ليس زوجاً للآخر، أو استلزم الإخراج وقوع الحرام منهما أو من أحدهما، كان آثماً، ولم يكن الولد إبن زنى، وتحقّق به النسب أيضاً.


ـ إذا أخذت الزوجة «حويمن» زوجها الميت بعد وفاته، بعد ما كان محفوظاً في بنوك مخصصة لحفظه، فإن الولد الذي تضعه يلحق بأبيه وأمه، لكنه لا يرث من أبيه، كما أن جواز قيام المرأة بهذا العمل لا يخلو من إشكال، والأجدر بها أن تحتاط وجوباً بترك وضع الحويمن في رحمها بعد وفاة زوجها.

ـ إذا وَاقَعَ المرأةَ أكثرُ من رجل، ثم حملت، فلإلحاق الولد بأبيه عدة صور:


الأولى: أن يكون الرجل قد طلق زوجته المدخولَ بها دون أن يتبين لها حمل، فتعتدُّ منه وتتزوج بغيره بعد انقضاء العدة، ثم يبين حملُها ويظهر، فالمرجع في إلحاقه بأحدهما هو ما سبق ذكره، أي: ملاحظة مضي مدة الإلحاق التي لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن السنة ما بين تحقّق الدخول أو ما بحكمه وما بين تولده؛ فينظر في هذه الصورة: فإن انطبق معيار الإلحاق على الزوج الثاني دون الأول، ألحق بالثاني دون إشكال، وإن انطبق على الأول دون الثاني، ألحق بالأول، لكن يلزم منه بطلان نكاح الثاني، لأن معنى كونها حاملاً من الأول هو أن عدتها منه بعد طلاقها هي أن تضع حملها، وحيث إن الثاني كان قد تزوجها قبل أن تضع حملها ودخل بها، فإن معنى ذلك أنه كان قد تزوجها في عدتها من طلاق زوجها الأول، فيبطل نكاحها من الثاني، ولكن لا تحرم عليه مؤبداً مع جهلهما بالحال كما هو فرض المسألة؛ وإن أمكن لحوقه بهما معاً، بأن كانت ولادته لستة أشهر من وطىء الثاني، ولدون السنة من وطىء الأول، ألحق بالثاني وكان ولده؛ وإن لم يمكن لحوقه بأحدهما، بأن ولدته لأزيد من السنة من وطىء الأول ولدون الستة أشهر من وطىء الثاني، لم يلحق بأحدهما، وكان أبوه غيرهما.


الثانية: أن يطلق الرجل زوجته الدائمة طلاقاً بائناً، أو يتوفى عنها، أو تكون متمتعاً بها فيهبها المدة أو تنتهي مدتها، فيطأُها رجل آخر أثناء عدتها وطئاً معذوراً فيه، أو تدخل في نفسها مني غير زوجها غفلة أو قصداً أو قهراً أثناء عدتها البائنة؛ وحكمها أنه يجري فيها ما ذكرناه في الصورة الأولى من الوجوه، غير أنه لو أمكن إلحاقه بكلا الرجلين لم يلحق هنا بالرجل الثاني كما هو حكم الصورة الأولى، بل يجب الإقراع بينهما.


الثالثة: أن تكون المرأة في عصمة زوجها، أو في عدة طلاقها الرجعي منه، فيطأُها رجل شبهةً، أو تدخل منيَّ غير زوجها في فرجها غفلة أو قهراً أو قصداً أثناء كونها معه أو في العدة الرجعية لطلاقها منه؛ وحكمها هو نفس حكم الصورة الثانية. وكذا لو كان وطؤها بالزنى، غيرَ أنه في صورة ما لو أمكن إلحاقه بهما لا يقرع بينهما، بل يلحق بالزوج لأنه ولد على فراشه.


الرابعة: أن تكون المرأة خلية من الزوج ومن العدة، فيطأها عدة رجال شبهة أو زنى؛ وحكمها هو نفس حكم الصورة الثانية، فيُنظر إن كان يمكن لحوقه بواحد منهم بعينه فيلحق به، وإن كان لا يمكن إلحاقه بواحد منهم ينتفي عنهم، وإن كان يمكن إلحاقه بالجميع أقرع بينهم، فمن خرجت القرعة باسمه كان ولده، وثبت به النَّسب بجميع آثاره التي سبق ذكرها للإبن الشرعي أو لإبن الزنى.


ـ إذا وَلَدتْ زوجتان لزوج واحد وَلَدين، فاشتبها ولم تَعَرِفْ الأُمُّ ولدها، أقرع بينهما فمن خرج اسمها كان الولد لها، وكان الثاني للثانية، وتحقّق به النسب بجميع لوازمه. وكذا يقرع بينهما لو كان الولدان لزوجين فاشتبها.


ـ إن ما ذكرناه من ثبوت النسب اعتماداً على مضي المدة لأقل الحمل أو لأقصاه، أو اعتماداً على القرعة مع التعدد وإمكان إلحاقه بالجميع، إنما هو حيث لا تتيسر طريقة أخرى جازمة لرفع الإشكال والإشتباه، فإنْ صحَّ ما يذكره أهل الخبرة بشأن وجود فحوصات طبية دقيقة يمكن الجزم من خلالها ببنوة طفلٍ لوالدٍ بعينه، لزم العمل بها وترتيب الأثر على نتائجها وتركُ الوسيلتين الظنيتين الآنفتي الذكر، فلو ألحق الولد به اعتماداً على إحداهما ثم تبين له بالفحص الطبي الجازم أنه ليس ولدَه لزمه العمل بمقتضى علمه المتأتي من الفحص الطبي، وهكذا.


ـ إذا اختلف الزوجان في تحقّق الدخول الموجب لإلحاق الولد ـ أو ما بحكمه ـ وعدمه، فادَّعته المرأة ليُلحق الولد به وأنكره الزوج، كان القول قول الزوج بيمينه؛ وكذا لو اختلفا في ولادته، فنفاها الزوج وادَّعى أنها أتت به من خارج؛ أما إذا اختلفا في المدة ـ مع الإتفاق في أصل الدخول أو ما بحكمه والولادة ـ فإن ادّعى الزوج ولادته لدون ستة أشهر، وادّعت هي خلافه، كان القول ـ أيضاً ـ قول الزوج مع يمينه، وإن ادّعى ولادته لأزيد من أقصى الحمل، وأنكرت هي، كان القول قولها مع يمينها، ويلحق به الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان.


ونريد به بيان حقيقة النسب المتقومة بتولد الإنسان من أبويه من نكاح أو سفاح، وبيان الأصل الذي يرتكز عليه إلحاق الولد بأبيه ونسبته إليه، والذي هو مضيُّ المدة التي يمكن تولده منه فيها، وذلك بمجرد مضيِّها أو مقروناً باللجوء إلى القرعة مع إمكان إلحاقه بأكثر من شخص، وهو ما نفصله في مسائل:


ـ (النسب) هو: (صلة القرابة الناتجة من تولد الإنسان من أبويه)، فتحدث بالولادة بُنوَّة الوليد لوالديه، وأبوة الوالد وأمومة الوالدة لولدهما، فإن وُلد لأبويه غيره تحقّقت بولادته الأخوة، فتكتمل بذلك أصول القرابة النسبية المباشرة، وهي: الأبوة والأمومة والبنوة والأخوة، وذلك إضافة إلى ما يتحقّق بالولادة من أنواع القرابة غير المباشرة، وهي التي تتمثل: في جانب الوالدين: بوالدي الأب ووالدي الأم مهما علوا، وهم الأجداد، وفي جانب الأبناء: بأبناء الإبن والبنت مهما نزلوا، وهم الأحفاد والأسباط، وفي جانب الإخوة: بأبناء الأخ والأخت مهما نزلوا، أو بلحاظ آخرٍ وهو وجود إخوة لآبائه وأمهاته مهما علوا، فيصير إخوة الآباء أعماماً لأولاد إخوتهم، وإخوة الأمهات أخوالاً لأولاد أخواتهم. وقد فصلنا ذكرهم في مباحث الفصل الأول عند الحديث عمن يحرم التزوج منه من المحارم.


ـ تتميز القرابة النسبية بعدة آثار، وهي:

أولاً: إن دائرة من يحرم التزوج منه من الأقارب النسبيين أوسع منها في الأقارب من الرضاع أو المصاهرة، وهو أمر قد سبق ذكره. إضافة إلى ما يترتب على ذلك من كونه من المحارم الذين يحل النظر إلى ما يجب عليهم ستره من أجسادهم عن غير المحرم عدا العورة، وكذا لمسها.


ثانياً: وجوب البر بالولدين والأجداد، ووجوب صلة غيرهم من الأقارب ممن يراه العرف واجب الوصل منهم بالنحو الذي سيأتي.


ثالثاً: مسؤولية الوالدين والأجداد عن الأبناء في إطار الولاية عليهم وحضانتهم بالنحو الذي سيأتي بيانه؛ وقد تتوسع الولاية لتشمل غيرهم من الأقارب في باب شؤون تجهيز الميت.


رابعاً: مسؤولية كل من الآباء والأبناء عن الإنفاق على الآخر عند حاجته وعجزه عن تحصيل ما يعتاش به، كما سيأتي بيانه.


خامساً: مسؤولية الأقارب النسبيين بعضهم عن البعض الآخر عن جنايته على الآخرين خطأً، وهم (العاقلة) الواردة في باب الديات.


سادساً: توارث الأقارب فيما بينهم طبقة بعد طبقة على أساس قوله تعالى: {وأولوا الأرْحامِ بعْضُهُم أوْلى ببعضٍ في كتابِ الله} [الأنفال:75].

وذلك بالنحو الذي سيأتي في باب المواريث.


ـ من المعلوم أنه لا تخفي نسبة الولد إلى أمه بعد وضوح تولده منها إلا في اللقيط الذي لا يعرف له أبوان، فيما قد يعتري الشكُّ نسبة الولد إلى أبيه، نظراً إلى طبيعة التناسل المتقومة بدخول نطفة الرجل إلى رحم المرأة واقترانها ببويضة المرأة، وهي من الأمور التي لا يمكن الجزم بها ـ غالباً ـ إلا اعتماداً على بعض القرائن، وإلا بعد ثبوت دخول نطفة هذا الرجل إلى رحم هذه المرأة بالجماع ونحوه؛ لذا فإنه لا بد لثبوت البنوة أو الأبوة بين الوالد وولده من توفر أمرين:


الأول: ثبوت وقوع مني هذا الرجل بالقذف في فرج هذه المرأة، أو على ظاهره، أو ثبوت دخول آلة الرجل الملوثة بالمني بعد قذفه خارج الفرج، أو ثبوت إدخال امرأة لمني الرجل المقذوف خارجاً إلى فرجها بواسطة آلةٍ أو نحوها، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يُعلم فيها بدخول مني هذا الرجل إلى فرج هذه المرأة. وذلك بغض النظر عن كون دخوله فيها بزواج أو سفاح، وبرضاً أو بدونه، ومع القصد أو بدونه.


الثاني: أن تمضي مدة من الزمن بين دخول المني بالنحو المذكور آنفاً وبين وضع الحمل لا تقل في حدها الأدنى عن ستة أشهر ولا تزيد عن السنة، وهي مدة أقل الحمل وأقصاه. فلو فرض أن رجلاً واقع زوجته، ثم مضى عنها مسافراً، فوضعت ولداً في غيبته بعد مضي السنة لم يكن ذلك الولد منه، وكذا لو ولدت المرأة ولداً قبل مضي ستة أشهر من تاريخ مواقعتها.


ـ إذا تحقّق هذان الأمران حكم بلحوق الولد بأبيه ونسبته له في حالتي كونه من نكاح شرعي أو من سفاح، وتفصيلهما كما يلي:


الحالة الأولى: يعتبر الولد (إبناً شرعياً) في كل حالة يكون انعقاد النطفة فيها عن نكاح بالعقد الصحيح، أو بالعقد الفاسد بواحد من أسباب الفساد التي ذكرناها ضمن المباحث المتقدمة مع جهل الزوجين بفساده؛ أو يكون عن نكاح بدون عقد لاشتباه الزوجة بغيرها بسبب الغفلة أو النوم أو الجنون أو غياب العقل بسبب من أسبابه، إلا ما يكون بتناول المسكر عمداً واختياراً؛ وكذا يكون الولد شرعياً في كل حالة يتم فيها إدخال نطفة الرجل في رحم المرأة بغير الجماع، أو تلقيحهما معاً خارج الرحم، سواءً كان بنطفة الزوج أو نطفة غيره، وسواءً كان حلالاً نفس الإدخال أو التلقيح أو حراماً.


الحالة الثانية: يعتبر الولد (إبن زنى) إذا تولد عن نكاح بدون عقد ولا شبهة، ومما يُعَدُّ بمنزلة (عدم العقد) ما لو كان نكاحهما عن عقد فاسد مع علمهما بفساده. كما أنه لا يعد من الشبهة ما لو ظن السكران الذي تعمد شرب الخمر أن هذه المـرأة زوجتـه فواقعهـا فحملت منـه، بـل يحكـم ـ حينئذ ـ بكون الولد من زنى، ولو من جهة أبيه فحسب إذا كانت أمه مشتبهة بشبهة يعتد بها. هذا، ولا يعد من الزنى مقاربة الزوج لزوجته التي حرم عليه وطؤها لعارض، كالحيض أو الإحرام أو نحوهما، وإن كان آثماً.


ـ كما يكون الولد ـ بمقتضى الحالتين المتقدمتين ـ إبناً شرعياً أو إبن زناً لكلا والديه، فإنه قد يكون ابناً شرعياً لأحدهما دون الآخر، فلو فرض أن أحد الوالدين كان مكرهاً على الزنى أو جاهلاً بفساد العقد أو مشتبهاً، دون الآخر، كان الولد إبناً شرعياً للمعذور في ذلك النكاح، وابن زناً لغير المعذور؛ ورغم ذلك فإن عنوان كونه ولداً شرعياً هو الذي يغلب عليه وتلحقه أحكامه المترتبة عليه بخصوصه، وهي الأمور المشروطة بطهارة المولد، كمرجعية الفتيا والقضاء وإمامة الجماعة وغيرها.


ـ لا يرفع عنوان (إبن الزنى) عن الولد ما لو تزوج الزاني بأمه بعد ما حملت منه.


ـ إذا زنى رجل بامرأة ثم تزوجها بعد ذلك، فإذا حملت منه بعد العقد عليها ولم يعلم كون الولد من النكاح المحرَّم أو المحلَّل حكم بأنه من المحلل واعتبر ولداً شرعياً.


ـ لا يمتد أثر الزنى في الأبناء والأحفاد، فمن كان والده ابن زنى فإنَّ ولدَهُ لا يكون كذلك إذا وُلِدَ من نكاح شرعي، وهكذا أحفاده.

ـ يثبت النسب بالزنى كثبوته بالبنوة الشرعية، ويترتب عليه جميع لوازم النسب، من حرمة التزوج منه، وثبوت حق الولاية عليه والحضانة له، ولزوم إنفاق القادر منهما على العاجز، وصلة الرحم، وغير ذلك، ما عدا الميراث، فإنَّ ولد الزنى لا يرث أبويه ولا يرثانه إن وقع الزنى منهما معاً، وإلا فإن كان الزنى من أحدهما دون الآخر ورث الولدُ المعذورَ من أبويه وورثه، دون الزاني.


كذلك فإن لحياته حرمةً هي كحرمة حياة الإبن الشرعي، ولذا فإنه لا يجوز للأم إسقاط جنينها من الزنى، ولو قبل ولوج الروح فيه، إلا في موارد معينة نذكرها في محلها، وتثبت الدية والقصاص في قتله كثبوتهما في الولد الشرعي.


ـ إن الأصل في نسبة الولد لأبيه هو كونه من نطفته، كما أن الأصل ـ عندنا ـ في نسبة الولد إلى أمه هو كونه من بويضتها، دون أن يكون لاحتضانها له في رحمها وتولده منها مدخلية في هذه النسبة؛ وعليه فإنه لو لجأ الزوجان العقيمان ـ طلباً للوَلَد ـ إلى الطريقة المعروفة بــ (الرحم المستعارة)، وهي: (أن يُؤخذ «حويمن» من الرجل «وبويضة» من المرأة التي تعاني من مشاكل في الرحم تمنعها من الإنجاب، فتوضع النطفتان في رحم امرأة ثانية، فتلد طفلاً)، كان الطفل المتولد من هذه المرأة الثانية هو إبن صاحب الحويمن حتماً، أما والدته فالظاهر أنها صاحبة البويضة، لا مَنْ حَضَنتْهُ في رحمها وَوَلَدتْهُ.

هذا، وإنما يجوز اللجوء إلى هذه الطريقة في صورة ما لو كان الرجل زوجاً لكلا المرأتين، ولم يكن إخراج النطفتين ولا إدخالهما في رحم المرأة الثانية مستلزماً للإستمناء المحرَّم أو لكشف المرأة عورتها على الطبيب الرجل، لكنهم لو خالفوا هذين الشرطين، وارتكبوا الحرام، لا يكون الولد إبن زناً، ويتحقّق به النسب أيضاً.


ـ كما يتحقّق النسب بين الولد وصاحبي النطفتين إذا تم تكونه في الرحم وتولده منه، فإنه يتحقّق ـ أيضاً ـ بما لو تم جمع النطفتين خارج الرحم بطريقة ما يعرف في زماننا بــ (التلقيح الصناعي)، وهو: (أن يؤخذ «حويمن» من الرجل و«بويضة» من المرأة، فيجمعا في أنبوب خاص مدة الحمل، فيتولد منهما طفلٌ إنساني سوي)، إن ذلك الطفل المتولد هو إبن صاحبي النطفتين، ويتحقّق بتولده منهما بهذا النحو جميع صلاة القربى التي تتحقّق للمتولد من رحم الأم وبويضتها.


هذا، وإنما يجوز ذلك في صورة ما لو كان صاحبا النطفتين زوجين، ولم يكن إخراج النطفتين مستلزماً للوقوع في محرَّم آخر، كأن يضطر الرجل إلى الاستمناء بغير يد الزوجة، أو تضطر الزوجة إلى كشف عورتها على الطبيب الرجل من غير ضرورة مبيحة؛ فإنْ كان أحد صاحبي النطفتين ليس زوجاً للآخر، أو استلزم الإخراج وقوع الحرام منهما أو من أحدهما، كان آثماً، ولم يكن الولد إبن زنى، وتحقّق به النسب أيضاً.


ـ إذا أخذت الزوجة «حويمن» زوجها الميت بعد وفاته، بعد ما كان محفوظاً في بنوك مخصصة لحفظه، فإن الولد الذي تضعه يلحق بأبيه وأمه، لكنه لا يرث من أبيه، كما أن جواز قيام المرأة بهذا العمل لا يخلو من إشكال، والأجدر بها أن تحتاط وجوباً بترك وضع الحويمن في رحمها بعد وفاة زوجها.

ـ إذا وَاقَعَ المرأةَ أكثرُ من رجل، ثم حملت، فلإلحاق الولد بأبيه عدة صور:


الأولى: أن يكون الرجل قد طلق زوجته المدخولَ بها دون أن يتبين لها حمل، فتعتدُّ منه وتتزوج بغيره بعد انقضاء العدة، ثم يبين حملُها ويظهر، فالمرجع في إلحاقه بأحدهما هو ما سبق ذكره، أي: ملاحظة مضي مدة الإلحاق التي لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن السنة ما بين تحقّق الدخول أو ما بحكمه وما بين تولده؛ فينظر في هذه الصورة: فإن انطبق معيار الإلحاق على الزوج الثاني دون الأول، ألحق بالثاني دون إشكال، وإن انطبق على الأول دون الثاني، ألحق بالأول، لكن يلزم منه بطلان نكاح الثاني، لأن معنى كونها حاملاً من الأول هو أن عدتها منه بعد طلاقها هي أن تضع حملها، وحيث إن الثاني كان قد تزوجها قبل أن تضع حملها ودخل بها، فإن معنى ذلك أنه كان قد تزوجها في عدتها من طلاق زوجها الأول، فيبطل نكاحها من الثاني، ولكن لا تحرم عليه مؤبداً مع جهلهما بالحال كما هو فرض المسألة؛ وإن أمكن لحوقه بهما معاً، بأن كانت ولادته لستة أشهر من وطىء الثاني، ولدون السنة من وطىء الأول، ألحق بالثاني وكان ولده؛ وإن لم يمكن لحوقه بأحدهما، بأن ولدته لأزيد من السنة من وطىء الأول ولدون الستة أشهر من وطىء الثاني، لم يلحق بأحدهما، وكان أبوه غيرهما.


الثانية: أن يطلق الرجل زوجته الدائمة طلاقاً بائناً، أو يتوفى عنها، أو تكون متمتعاً بها فيهبها المدة أو تنتهي مدتها، فيطأُها رجل آخر أثناء عدتها وطئاً معذوراً فيه، أو تدخل في نفسها مني غير زوجها غفلة أو قصداً أو قهراً أثناء عدتها البائنة؛ وحكمها أنه يجري فيها ما ذكرناه في الصورة الأولى من الوجوه، غير أنه لو أمكن إلحاقه بكلا الرجلين لم يلحق هنا بالرجل الثاني كما هو حكم الصورة الأولى، بل يجب الإقراع بينهما.


الثالثة: أن تكون المرأة في عصمة زوجها، أو في عدة طلاقها الرجعي منه، فيطأُها رجل شبهةً، أو تدخل منيَّ غير زوجها في فرجها غفلة أو قهراً أو قصداً أثناء كونها معه أو في العدة الرجعية لطلاقها منه؛ وحكمها هو نفس حكم الصورة الثانية. وكذا لو كان وطؤها بالزنى، غيرَ أنه في صورة ما لو أمكن إلحاقه بهما لا يقرع بينهما، بل يلحق بالزوج لأنه ولد على فراشه.


الرابعة: أن تكون المرأة خلية من الزوج ومن العدة، فيطأها عدة رجال شبهة أو زنى؛ وحكمها هو نفس حكم الصورة الثانية، فيُنظر إن كان يمكن لحوقه بواحد منهم بعينه فيلحق به، وإن كان لا يمكن إلحاقه بواحد منهم ينتفي عنهم، وإن كان يمكن إلحاقه بالجميع أقرع بينهم، فمن خرجت القرعة باسمه كان ولده، وثبت به النَّسب بجميع آثاره التي سبق ذكرها للإبن الشرعي أو لإبن الزنى.


ـ إذا وَلَدتْ زوجتان لزوج واحد وَلَدين، فاشتبها ولم تَعَرِفْ الأُمُّ ولدها، أقرع بينهما فمن خرج اسمها كان الولد لها، وكان الثاني للثانية، وتحقّق به النسب بجميع لوازمه. وكذا يقرع بينهما لو كان الولدان لزوجين فاشتبها.


ـ إن ما ذكرناه من ثبوت النسب اعتماداً على مضي المدة لأقل الحمل أو لأقصاه، أو اعتماداً على القرعة مع التعدد وإمكان إلحاقه بالجميع، إنما هو حيث لا تتيسر طريقة أخرى جازمة لرفع الإشكال والإشتباه، فإنْ صحَّ ما يذكره أهل الخبرة بشأن وجود فحوصات طبية دقيقة يمكن الجزم من خلالها ببنوة طفلٍ لوالدٍ بعينه، لزم العمل بها وترتيب الأثر على نتائجها وتركُ الوسيلتين الظنيتين الآنفتي الذكر، فلو ألحق الولد به اعتماداً على إحداهما ثم تبين له بالفحص الطبي الجازم أنه ليس ولدَه لزمه العمل بمقتضى علمه المتأتي من الفحص الطبي، وهكذا.


ـ إذا اختلف الزوجان في تحقّق الدخول الموجب لإلحاق الولد ـ أو ما بحكمه ـ وعدمه، فادَّعته المرأة ليُلحق الولد به وأنكره الزوج، كان القول قول الزوج بيمينه؛ وكذا لو اختلفا في ولادته، فنفاها الزوج وادَّعى أنها أتت به من خارج؛ أما إذا اختلفا في المدة ـ مع الإتفاق في أصل الدخول أو ما بحكمه والولادة ـ فإن ادّعى الزوج ولادته لدون ستة أشهر، وادّعت هي خلافه، كان القول ـ أيضاً ـ قول الزوج مع يمينه، وإن ادّعى ولادته لأزيد من أقصى الحمل، وأنكرت هي، كان القول قولها مع يمينها، ويلحق به الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان.


اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية