وفيه مسائل:
ـ لا بد في الكفالة من العقد المبرز لرضا الطرفين ـ وهما بخاصة: الكفيل وصاحب الحق ـ بمضمونها، والمشتمل على الإيجاب والقبول، والمتحقّق بكل لفظ يدل على مضمونهما أو بالفعل المفهم لهما، كغيره من العقود؛ وكلما كان العقد باللفظ الصريح المشتمل على جميع التفاصيل المرادة للمتعاقدين كان ذلك أولى وأفضل.
أما المكفول فإن رضاه ليس شرطاً في تحقّق الكفالة إجمالاً، وإن كان لرضاه أثر من جهات أخرى كما سيأتي، فيصح العقد وينفذ في كفالة النفس، حتى لو صرح بعدم الرضا، إذا كان الكفيل واثقاً من قدرته على إقناعه بالحضور، فضلاً عن صحته بدونه في كفالة المال؛ وإن كان الأحوط استحباباً اعتبار رضاه في كلتا الكفالتين، بل الأحوط منـه ـ استحبابـاً ـ جعله طرفاً ثانياً في القبول، بحيث يوجب الكفيل فيقبل المكفول وصاحب الحق معاً.
ـ يشترط في الكفيل جميع شروط الأهلية بالنحو المعتبر في غير الكفالة من العقود، ومنها عدم الحجر عليه لفلس، إلا في كفالة النفس إذا لم يترتب عليها دفع مال. وكذلك الأمر في المكفول له، بل والمكفول بناءً على اعتبار رضاه، وإلا لم يشترط فيه شيء من ذلك.
ـ كما تتحقّق الكفالـة بالعقد فإنها تتحقّق ـ أيضـاً ـ بالشرط في ضمن عقد لازم، فإذا اشترط البائع زيد في ضمن عقد البيع ـ مثلاً ـ على سعيد المشتري أن يكون كفيلاً لـه عند سميـر، أو أن يكـون كفيـلاً لغيـره ـ كجاره أو ولده ـ عند سمير، فقبل المشروط عليه صحت الكفالة ونفذت؛ نعم إذا كان الإشتراط بصيغة (أن يكفل) لا بصيغة (أن يكون كفيلاً) فإن تحقّق الكفالة ـ حينئذ ـ يحتاج إلى عقدها الخاص ليتحقّق به الشرط.
ـ لا تصح الكفالة إلا عند توفر أمور:
الأول: أن يكون الشيء المكفول لأجله حقاً مشروعاً للمكفول له على المكفول، فلو كان داعي الكفالة هو (الدَيْنُ)، وكان الدين نتاجَ ثمن الخمر أو من الربا أو جائزة على الظلم، أو كان داعي الكفالة هو إحضاره إلى الظالم لحبسه أو للشهادة عنده زوراً، أو نحو ذلك، لم تصح الكفالة، فيما تصح في كل مورد يكون الداعي فيه (حقاً) عدا كفالة المطلوب بحد أو تعزير فإنها غير صحيحة. وسيأتي بيان ذلك.
الثاني: أن يكون الحق على درجة من اللزوم موجبة لحضور من عليه الحق بنفسه أو وليه أو وكيله لأدائه إلى صاحبه، فلو كان الحق غير واجب بنفسه، كالتصدّق على الفقير أو زيارة الرحم أو نحو ذلك، لم تصح الكفالة فيه.
الثالث: أن يكون الكفيل قادراً على إحضار المكفول، ويكفي فيه عدم العلم بعجزه عن إحضاره؛ والمراد بالقدرة: قدرته على إحضاره بكل وسيلة ممكنة، ولو بإقناعه ليحضر هو بنفسه إذا طلب منه، أو بإجباره، أو غير ذلك؛ ولو ظن الكفيل قدرته على إحضاره فتبين عجزه عنه من الأول بطلت الكفالة من حين الإنكشاف لا من الأول.
ـ يجوز أن يكون الكفيل جهة أو مؤسسة، ومنها المصارف، فإنه يجوز للبنك أن يكون كفيلاً مالياً لزبائنه بالنحو الموافق لأحكام الكفالة المذكورة هنا، كذلك فإنه يجوز له أخذ مال من المكفول في قبال هذه الخدمة.
ـ قد أشرنا سابقاً إلى أن الكفالة تشرع في كل مورد يكون موجبها فيه حقاً، عدا كفالة المطلوب بحد أو تعزير، وتفصيل ذلك نبيّنه كما يلي:
أولاً: يجوز التكفل بإحضار الشخص لأداء ما عليه لصاحب الحق، سواءً في ذلك ما لو كان الداعي مالياً، كالدين وتسليم المبيع ورد العارية وأداء العمل المستأجر عليه وتسليم العين المستأجرة ونحو ذلك من (الحقوق المالية)، بما في ذلك دية الجناية على النفس أو الأعضاء؛ أو كان الداعي غير مالي، كالحضور لأداء الشهادة عند الحاكم الشرعي، أو للترافع عنده، أو للإقتصاص منه بجناية على النفس أو الأعضاء، أو لمساكنة الزوج، أو نحو ذلك، عدا المطلوب بحد أو تعزير.
وهذا هو الذي اصطلحنا عليه بـ (كفالة النفس)، أي: ما ابتنت فيه الكفالة على إحضار الشخص الذي عليه الحق.
ثانياً: يجوز التكفل لصاحب الحق بإيصال حقه إليه وأدائه له من ماله إذا لم يف المكفول؛ ولا يخفى اختصاصها بالأمور المالية دون غيرها، ديناً كان المال أو عيناً.
وهذه هي التي إصطلحنا عليها بـ (كفالة المال)، وهي المعمول بها كثيراً في زماننا، بل هي المعروفة والمتبادرة إلى الذهن عند الإطلاق.
ثالثاً: تصح الكفالة بقسميها ـ أي كفالة النفس وكفالـة المـال ـ في الأمور المالية مطلقاً، سواء في ذلك ما كان الحق ثابتاً قد اشتغلت به الذمة، كالديون التي هي نتاج المعاملات وعوض التالف وأرش الجناية ونحوها، أو ما كان سببه موجوداً ولما ينجز بعد، كتكفل الجَعْل في الجعالة قبل وجدان المجعول لأجله؛ بل تصح الكفالة قبل وجود السبب إذا كان متوقع الحصول، وذلك كأن يقول الكفيل: «بعه الدار وأنا كفيل لك بالثمن» أو: «دع باب دكانك مفتوحاً وأنا كفيل لك بما يسرق منه» ونحو ذلك؛ بل تصح ـ أيضاً ـ كفالة استرجاع الثمن أو الأجرة إذا ظهر للمشتري أو المستأجر كون العين مغصوبة، حيث يجوز للمكفول له الرجوع على الكفيل بما دفعه عوضاً للعين المغصوبة أو منفعتها، ومثله في الحكم ما أشبهه من الموارد.
ـ لا يشترط في صحة الكفالة العلم بمقدار المال المكفول، بل تصح كفالة (ما في ذمة الغير)، أو دية جنايته، أو غير ذلك دون معرفة الكفيل بمقدار المكفول.
ـ إذا كان الحق حالاًّ أو مؤجلاً صح إيقاع الكفالة حالّة أو مؤجلة، ومع إطلاق العقد تكون حالّة، ويجب في الأجل أن يكون مضبوطاً على نحو لا يختلف زيادة ولا نقصاً.
ـ تصح الكفالة بقسميها في الموارد التي يُطلب فيها المكفول ظلماً ليُحبَسَ أو ليُُؤَدي شهادة محرَّمة أو ليُسلب ماله قهراً، وذلك فيما لو ترتب على كفالته دفع ضرر أكبر عنه، فيجوز للمكلّف أن يتعهد للظالم بإحضار من يطلبه ليحبسه مثلاً، إذا كان إحضاره سبباً للتخفيف من مدة حبسه ومن الضرر الواقع عليه.
ـ يجوز أن يكفل الكفيلَ شخصٌ ثانٍ، والثانيَ ثالثٌ، وهو ما يسمى بـ (ترامي الكفالات)، كما يجوز أن يكفل الكفيلُ أكثرَ من شخص.
ـ الكفالة عقد لازم لا ينفسخ إلا بالإقالة أو بجعل الخيار له أو بسقوطها بما يوجبه مما سيأتي.