عندما يتحدَّث المحدثون عن عبادته وهو في السجن، فإنهم يروون عن أحد سجّانيه قوله لشخص اسمه (عبدالله) قال: "دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح، فقال لي: أشرف على هذا البيت وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوباً مطروحاً، فقال: انظر حسناً، فتأمّلت، فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسى بن جعفر، أتفقّده اللّيل والنّهار، فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على هذه الحالة، إنّه يصلّي الفجر فيعقّب إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد، فلايزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة"، لأنّ البيت كما يبدو كان مظلماً، "فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء وهو دأبه"، لأنه يعرف أنه لم ينم، "فإذا صلّى العتمة، أفطر ثم يجدّد الوضوء، ثم يسجد، فلايزال يصلي في جوف اللّيل حتى يطلع الفجر".
وقال بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه: "اللّهمّ إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهم وقد فعلت ولك الحمد"، فكان يريد أن يعيش مع الله ليله ونهاره، وأن يناجيه ويبتهل إليه أن يتحدث معه حديث الحبيب إلى حبيبه، وكانت أشغاله قد تحول بينه وبين ذلك، وإن كانت أشغاله عبادة متحرّكة مع الله، لكنه أراد عبادة المناجاة وعبادة الروح وعبادة التفرّغ إلى الله من موقع القلب المفتوح عليه سبحانه وتعالى.
ولذلك، فإنه يحمد الله على سجنه كما لو كان نعمة أنعمها الله عليه، وكان يقول في سجوده: "قَبُحَ الذّنب من عبدك، فليحسُن العفو والتجاوز من عندك"، وكان يتحدث لا عن ذنب، ولكن عن تواضع لله سبحانه وتعالى، وعن استغفار لمعنى الإنسان ومعنى العبد في داخل ذاته. ومن دعائه: "اللّهمّ إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب"، وهذا مما ينبغي لكلّ واحد منا أن يعيشه، لأنّ الإنسان يمرّ بعقبتين عندما يموت، فقد يموت متعباً من ذنوبه، مرهقاً من خطاياه، قلقاً عل مصيره، وقد يموت تائباً، فإذا مات مطمئنّاً، فإنه يعيش الراحة في نفسه ويتقبّل الموت بفرح. وأما العقبة الثانية، فهي عند الحساب، لأن الذي يحاسب هو الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، العالم بالسرّ والنجوى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}. ولذلك، فالإنسان عندما يقف أمام ربّه، يشعر بالخوف من الخسارة، إلا أن يأتيه العفو من الله سبحانه وتعالى.
رعايته للفقراء
وكان يتفقّد فقراء أهل المدينة، يحمل إليهم في اللّيل الأشياء العينية والورق وغير ذلك، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أيّ جهة هو، وكان يصل بالمائة دينار إلى الثّلاثمائة دينار، وكانت صرار موسى مثلاً.
صورة من أخلاقه
أما أخلاقه، فينقل لنا كُتّاب سيرته قصة لافتة للنظر لسعة الصّدر، وفي الأسلوب العملي لما أراده الله من أن نحوّل أعداءنا إلى أصدقاء {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. ينقل كُتّاب سيرته كما جاء في (الإرشاد) لـ(الشيخ المفيد): "إنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى الكاظم (ع) ويسبّه إذا رآه ويشتم عليّاً (ع)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وزجرهم أشدّ الزّجر، وسأل عن العمري أين هو، فذكر أنّه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعته، فدخل المزرعة بحماره، فصاح العمري، لا توطئ زرعنا، فتوطّأه أبو الحسن بالحمار حتى وصل إليه وجلس عنده وباسطه وضاحكه، وقال له: كم غرمت في زرعك هذا، أي كم صرفت عليه؟ فقال له مائة دينار، قال: وكم ترجو أن تصيب فيه؟" أي تربح، "قال: أرجو فيه مائتي دينار، قال: خُذ هذا المبلغ، وهذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو. قال: فقام العمري فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه"، أي عمّا فرط منه من السوء، "فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف".
قال: وراح إلى المسجد، فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: "والله أعلم حيث يجعل رسالته"، قال فوثب أصحابه إليه، فقالوا ما قصّتك؟ أي قالت له زمرة الحاقدين: "قد كنت تقول غير هذا. قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن، فخاصموه وخاصمهم".
وهنا محلّ الشاهد، فالإمام أراد أن يعطي أصحابه درساً في الحُلُم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: "أيما كان خيراً؛ ما أردتم أو ما أردت؟ وإنّني أصلحت أمره بالمقدار الّذي عرفتم وكفيت به شرّه".
وهذا هو الخطّ ـ أيها الأحبة ـ في كل علاقتنا بالناس الذين يسيئون إلينا ويسبّوننا ويشتموننا ويحقدون علينا، وهو أن نحاول أن ندفع السيّئة بالحسنة. وقد ذكرت لكم أكثر من مرة، أن مشكلتنا ليست مع إنسانيّة الإنسان الذي يعادينا أو الذي يكفر بالله أو يفسق، بل هي مع عداوة الإنسان وكفره واستكباره، فإذا استطعنا أن نقتل العداوة فيه لتنفتح إنسانيته على المحبة، أو أن نقتل الكفر في داخله لتنطلق إنسانيّته بالإيمان، فالإسلام يقول لا تتحدّ إنسانيّة الإنسان، بل تحدّ الجانب السلبي فيه لتحوّله إلى جانب إيجابي، وهي عملية تحتاج إلى ضبط أعصاب وسعة صدر {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} من الوعي ومن الإيمان، وهذا هو درس الإمام الكاظم (ع).
محادثة العلماء
وكان الإمام الكاظم (ع) يريد من الناس أن يحادثوا العلماء في أيّ علم كانوا فيه، إذ ليس من الضّروري أن يكون العلماء علماء الفقه، وإنّ الإسلام في الوقت الذي يؤكّد علم الإنسان الذي يتّصل بالعقيدة أو بالشّريعة وبجوانب المسؤوليّة كلّها، ويؤكد أيضاً كلّ العلوم التي يحتاجها الإنسان في الحياة فيما يقيم أمره ويقوّي موقعه، ويؤكد عزّته وحريته وكرامته، كان يقول: "
محادثة العالم على المزابل"، يعني لو فرضنا أنّ هذا الإنسان المثقّف يجلس في مكان مثل المزبلة "
خير من محادثة الجاهل على الزرابي"، والزرابي هي البسط والفرش.
وجاء في حديثه عن رسول الله (ص) قال: "دخل رسول الله (ص) المسجد، فإذا جماعة قد أحاطوا برجل، فقال ما هذا؟ فقيل علّامة، فقال: وما العلّامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهليّة والأشعار العربية"، قال رسول الله (ص) "ذلك علمٌ لا يضرّ من جهله"، لأنه لا يتّصل بواقع الحياة ولا بشيء من مسؤوليّتك فيها، "ولا ينفع من علمه"، وأيضاً لا يزيد في علم الإنسان المسلم، بمعنى أنه حشو، "إنما العلم ثلاثة: آية محكمة" بها تستطيع أن تتعرّف كتاب الله وتنتفع به، فيما يملأ عقلك بمعرفة الله وبمعرفة ما يتفرَّع عن ذلك كلّه من رسالاته ورسله وملائكته وما إلى ذلك.
"أو فريضة عادلة"، يعني خطّاً من الخطوط الإلزامية التي تقف في الوسط من مصلحة الإسلام، كما فسّرت بذلك، "أو سنّة قائمة"، وهي الخطّ الأخلاقي والروحي والاجتماعي الذي يسير الناس عليه، فكأنّ النبي (ص) يريد أن يقول: خذوا من العلم ما يتصل بمسؤولياتكم في الدنيا والآخرة، ولا تأخذوا من العلم ما لا يتصل بمسؤوليّاتكم المعرفية أو العلمية في الواقع والحياة، وبذلك يمكن لنا أن نستغني عن كثير من العلم الّذي لا غنى فيه للإنسان في دنياه وفي آخرته.
*من كتاب "النّدوة"، ج 5.