هل نحن هنا لتأكيد نصٍّ إسلاميٍ نبويٍّ في مسألة الخلافة، لنخلص من خلال ذلك إلى الحديث الحاسم في أن الإمام علي هو خليفة النبيّ (ص) حقاً؟
أم أننا في محاولةٍ لاكتشاف التجربة الحيّة من خلال استنطاق مفردات النص في حركة الواقع الإسلامي، ولا سيّما في وعي الإمام علي (ع) في تجربته الغنية الرائدة، أو للانفتاح على الدلالة الموحية في المعنى الذي يختزنه النصّ كقاعدةٍ فكريّةٍ مفتوحة على كل مواقع الحكم في المسيرة الإسلامية الطويلة.
بين الشرعية الفكرية والشرعية والواقعية
في العنوان الكبير، كان القرآن الكريم هو الأساس الأول لقاعدة اختيار الحاكم الخليفة بعد رسول الله (ص) {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}. ووقف النبي (ص) ليبلّغ ما أنزل إليه من ربّه، ليضمن للرسالة معنى الثبات في معنى الفكر الذي يحمل كل فكر الرسالة في مواقع القمة، وفي عمق الروح التي تعيش روحية الرسالة في عمق الحب لله والإخلاص له، وفي قوّة الحركة، في صلابة الإرادة وشجاعة الموقف وانفتاح القرار على المسؤوليَّة كلِّها.
وكان علي (ع) من خلال ذلك الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما كان النبي (ص) كذلك، لأن هذه الكلمة ليست عنواناً تشريفياً للذات، بل هي عنوان المسؤولية في الدور من خلال خطِّ الحاكمية في حركة الحاكم في الإسلام.
ومرّت الأيام.. وعاشت المسألة في حركة الواقع في اتجاهٍ آخر، أو بُعدٍ آخر، بحيث ابتعد النص عن الذاكرة، وتنوَّعت الأقوال في مصادرة، واختلفت الأفكار في تفسيره، وتعددت الاحتمالات في مدلوله، حتى أصبحت القضية مثاراً للجدل، يشتد تارةً ويضعف أخرى، انطلاقاً من أن المشكلة في أمثال هذه القضايا، أنها عندما تبتعد عن الجانب التنفيذي في واقع الناس، فإنها تفقد حيويّتها في الوعي العام، لأن الناس تحب دائماً تبرير الواقع في ما تعتاده من حركته في تفاصيل حياتها اليومية، بحيث يشغلها ذلك عن التفكير في معناه وفي شرعيته، ما يجعل من ذلك أساساً للشرعية الواقعية التي تتحوّل بفعل مرور الزمن إلى شرعيةٍ فكريةٍ تتمرّد في إحساسها الداخلي بامتداده في حياتها، على كل فكرٍ مضادٍّ أو احتمال مخالفٍ، ولا سيّما أن الأمر الواقع يجتذب الأكثرية من الناس بالطريقة التي قد توحي بأنه يمثل قوّة الحقيقة من خلال ما تمثِّله الأكثرية من قوّة الموقع.
ومن خلال ذلك، بدأ الموقف يتجه إلى لونٍ من ألوان الشعور بالاضطهاد لدى الفئات التي لا تعترف بشرعية الأمر الواقع في دوائرها الصغيرة المتمثّلة بالمواقع التي تحتلها الأقلية في الساحة.
موانع الحوار الموضوعي
وهكذا بدأ المسلمون يتحرَّكون على أساس المذهبية الفكرية في إيحاءاتها الشعورية، من خلال الأجواء التي يقتربُ فيها الإحساسُ من الفكر، ليحوِّل المضمون إلى معنىً في الإحساس الملتهب بعوامل الإثارة، بدلاً من أن يكون معنىً في الفكر المنطلق من عناصر الحجة والبرهان. وفي ضوء ذلك، تحوّلت المساجلة إلى نوعٍ من أنواع تسجيل النقاط المتبادلة، في تجربة الجدل الفكري في مثل هذه القضايا.
ثم اتّجهت الحركة من خلال النقاط الحادة في مواقع الهدف، إلى حالةٍ من التشنج والتعقيد بالمستوى الذي يدفع إلى التنازع والتحاقد والتباغض، وبالتالي إلى القتال. وهكذا تطورت المسألة لتتحول إلى مشكلة عميقة الجذور في مواقف المسلمين في علاقاتهم ببعضهم البعض، في الوقت الذي كانت مطروحة لتكون حلاً للمشكلة.
وأصبحت الطروحات تتحرك في الوسط الثقافي أو في الوسط السياسي الإسلامي، على أساس السؤال:
كيف نغلق باب الجدل في هذه المسألة الخلافية لنتجاوزها إلى عناصر الوحدة؟
أو كيف نخفف من تأثيرها على الواقع الإسلامي لتبقى في دائرةٍ جانبيةٍ من الاهتمامات الثقافية أمام الدوائر الحيوية التي تفرض علينا المزيد من الاهتمام الحركي في التطلع إليها؟
وربّما جرّب المسلمون الالتفاف على المسألة السلبية في مثل هذه الأمور، بالهروب من مواجهة المفردات الفكرية أو الحركية فيها، وذلك من خلال أسلوب «التقية الفكرية أو العملية» التي يلجأ إليها كلُّ فريق لا يملك القوة لطروحاته في مواقعه، أو لا يجد الفرصة سانحةً للحديث عنها بالطريقة المتوازنة التي لا تثير مشكلةً أو تعقيداً للقضايا الإسلامية الكبرى، أو للأمن الشخصي المحدود، الأمر الذي أدّى إلى إرباك الكثير من المفاهيم والأحكام والمواقف الإسلامية التي اختلط فيها جانب الجدية بالتقية في هذا الموقع أو ذاك.. ولا يزال الكثير من المفكرين والفقهاء في حيرةٍ أمام بعض المفاهيم أو الأحكام الشرعية، هل هي واردةً على سبيل التقية أو لبيان الواقع؟
وهل يكفي في الحمل على التقية موافقة الكلام للذهنية العامة لدى الفريق القوي في مقابل الذهنية العامة الأخرى لدى الفريق الضعيف، أم أن هناك وجوهاً أخرى؟
ما أدخل الكثير من القضايا في أبحاثٍ معقّدةٍ تختلف فيها العناوين والاحتمالات. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن التقية المتبادلة هنا وهناك قد أوجدت حالة من الشك المتبادل في جدّية ما يتحدث فيه كل فريقٍ أمام الآخر في ما يعتقده أو في ما يلتزمه، لأن احتمال التقية وارد في هذا الحديث أو ذاك.
إنَّنا لا نريدُ طرح المشكلة لإثارة المزيد من محاولات اتّهام الواقع الذي نعيشه وإدخاله في أجواء المأساة الإسلامية، لنصل - بالنتيجة - إلى ما تعارفنا الحديث عنه، من مشاكل انحطاط المسلمين وضعفهم وضرورة التخلّص من ذلك بالوعي والوحدة وما إلى ذلك من الكلمات الاستهلاكية، لأن ذلك لن يؤدي إلى أية نتيجةٍ حاسمةٍ على مستوى معالجة الواقع الإسلامي في العمق والامتداد.
إن القضية التي نريد أن نطرحها في العنوان البارز لهذا الحدث هي: إنَّ التاريخ الدامي المعقََّد الذي عاشته الأمة الإسلامية في حركة المذهبية في نطاق الخلافة والإمامة وفي دائرة الفقه، خلقت لدينا ذهنيةً معقدةً في مواجهة المسائل الخلافية، بحيث إنّه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل - عملياً - أن يفكّر عالم على مذهب أهل السنة أن يختار رأياً كلامياً أو فقهياً من آراء الشيعة، أو أن يفكر عالم شيعيّ في اختيار رأي في العقيدة أو في الشريعة يلتقي برأي عالم سني، لأن ذلك يمثل انحرافاً عن خط التسنن أو خط التشيع، بحيث تحوّل هذان العنوانان إلى عنوانين يحبس كل فريق من المسلمين نفسه في دائرة أحدهما، فلا يملك الخروج منه، بحيث لو اطَّلع على نصٍّ يؤكد رأي الفريق الآخر، فإنه يضطر - لا شعورياً - إلى الطعن في سنده أو في دلالته مهما كانت عناصر الطعن ضعيفةً.
أمّا إذا استطاع عالم من هذا الفريق أو ذاك أن يملك الشجاعة التي تجعله يختار رأياً غريباً عن أجواء فريقه، فإنه سوف يتهم بالانحراف عن المذهب، والتأثر الفكري بالمذهب الآخر ما يجعله بعيداً عن مواقع الثقة الفكرية أو الفقهية في النطاق المذهبي، ويؤدي به إلى أن تكون أفكاره مرفوضةً سلفاً في الدائرة العلمية.
هذا من جهةً، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ التعقيد في هذه الأمور في الأجواء الانفعالية السائدة في نظرة المسلمين إليها، جعل هناك خوفاً ثقافياً أو سياسياً من الدخول في جدلٍ فكريّ موضوعي حولها، لا سيّما أنَّ الكثير من دوائر المخابرات الاستكبارية في العالم، حاولت أن تحرّك الخلافات الإسلامية بطريقةٍ طائفيةٍ متخلّفة من خلال تحريك الجدل فيها، لتعقّد العلاقات بين المسلمين، أو لتربك أوضاعهم، أو لتشعل الفتن والحروب الحارة فيما بينهم، الأمر الذي أدّى إلى تكوين انطباعٍ سلبيّ لدى العاملين في الحقل الإسلامي السياسي حول كلِّ الذين يثيرون الجدل الفكري في هذه الأمور.
إننا أمام هذا الجوّ، قد نفكِّر بضرورة الرجوع إلى التجربة الإسلامية الرائدة لمعرفة كيفية التعاطي مع الواقع المعقد، انطلاقاً من النص، وكيفية ترجمته على أرض الواقع، وفي هذا المجال نلتقي بتجربة الإمام علي (ع) في طريقة مواجهته للواقع المعقّد الذي أبعده عن موقعه الشرعي الذي كفله النصّ له، في ما عرف بواقعة الغدير.
فنلاحظُ، أن الإمام علي «عليه السلام» لا يريد للمسألة أن تبتعد عن الذاكرة الإسلامية في الاهتمامات الفكرية المنفتحة عليها، لأن لذلك سلبيتين كبيرتين في مستقبل الإسلام الفكري والعملي:
السلبية الأولى: أن الامتناع عن الحديث في بعض القضايا التي يختلف عليها المسلمون، أو التي يتحرك الواقع الإسلامي - بفعل ظروف خاصة _ ليطرح صورةً معينة لها، قد يؤدّي إلى غياب كثير من المفاهيم المتصلة بالعقيدة أو الشريعة، لابتعادها عن الذهنية المألوفة لدى المسلمين، أو عن الواقع الرسمي الذي يهيمن على حياة المسلمين، لتتحول المسألة إلى أن يكون الفكر الإسلامي في كل قضاياه خاضعاً للظروف الموضوعية المتصلة بالواقع المحيط بالمسلمين في الداخل أو في الخارج، لتصادر كلَّ حقائقه، بفعل الأوضاع القلقة المضادّة له.
السلبية الثانية: أن المسلمين يتحولون - أمام ذلك - إلى كائناتٍ مذعورةٍ خاضعةٍ في حربها وسلمها، ووحدتها وتمزقها، إلى حساسياتٍ فكريةٍ مذهبية سريعة الاشتعال، بحيث تملك كل جهةٍ داخلية أو خارجية، عدوّةٍ أو صديقةٍ، أن تثير الأوضاع في داخلهم تبعاً للكلمات المثيرة، وتدفع بالمجتمع كلِّه إلى المجهول، بفعل عناصر الإثارة الشعورية الواقعة تحت تأثير الانفعالات المتنوّعة لهذه الشخصية المقدّسة أو تلك، أو لهذا السلوك المذهبي أو ذاك، من دون أيّة ضوابط رادعة، أو عوامل مهدئة، ما يؤدّي إلى الخطر الكبير على المصير العام للأمة على المستوى السياسي والأمني والاجتماعي.
وهذا ما يعيشه المسلمون في أوضاعهم العامة، فهم لا يملكون الجرأة على تحريك الكثير من المفاهيم المتنازع عليها، ما جعلها تعيش في حالة من الجمود الفكري، لأنهم لا يشعرون بالحرية للدخول في جدال منتج في تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، فيبقى كل فريق ملتزماً بما لديه، تحت تأثير جهله أو تخلفه أو تعصبه، من دون أن يجد أحداً ينقذه من ذلك، وبالتالي، فإن النتيجة الطبيعية، هي أن لا يملك المسلمون إمكانية الوصول إلى وحدة التصور في المفاهيم المتنوعة بفعل غياب الحوار وحساسية المشاعر، كما أنهم لا يملكون وحدة الموقف في قضاياهم المصيرية بفعل عناصر الإثارة التي تدفع بالواقع إلى حافة الهاوية.
النقد المسؤول
لقد واجه الإمام أمير المؤمنين (ع) هذه المسألة على مستوى حركة الحوار في الفكرة، والوحدة في الموقف، فنلاحظ أنه لم يهمل مسألة الخلافة في ما يراه _ كما نراه _ بأنّ له الحق الشرعي فيها، فحاول أن يحرّك علامات الاستفهام حولها من خلال موقفه السلبي في البداية، ليدفع الناس إلى التساؤل عن السبب في ذلك، ما يمهد الطريق إلى الدخول في حوارٍ معهم حول الموضوع.
في هذا المجال، فإن الإمام، في مدى الفترة التي عاشها قبل خلافته وفي أثنائها أثار موضوع حقه بأساليب متنوعة على أساس النص، وعلى أساس الكفاءة، ومن خلال الخلل في الموقف الآخر، وكان لا ينطلق في ذلك من عقدة الذات التي تبحث عن موقع، لتؤكد موقعها بالدفاع عن الحق الذي تملكه فيه، بل كان ينطلق من المبدأ في الانفتاح على قضية الحكم في شخصية الحاكم، وعلى رسالة الحاكم في خطِّ حكمه، ولذلك كانت المسألة لديه أن يقيم الحق ويدفع الباطل، كما جاء في حديثه مع ابن عباس، وهو يحدثه عن النعل التي كان يخصفها بنفسه، وهو خليفة: «إنها أعظم عندي من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً».
وهذا هو النهج الذي أراد للناس أن ينتهجوه في حياتهم، ليكون كل همّهم وطموحهم إطفاء الباطل وإحياء الحق، لا بلوغ لذة أو شفاء غيظ، كما جاء في كتابه لابن عباس:
«أمّا بعد، فإنَّ المرء ليفرحُ بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطلٍ وإحياء حق، وليكن سرورك في ما قدّمت وأسفك على ما خلَّفت، وهمّك في ما بعد الموت».
ولعلنا نستوحي من هذا الخط الأخلاقي في السلوك العملي والنفسي للإنسان المسلم، أنه لم يتحدث في الخطبة الشقشقية عن حرمانه من حقه في الخلافة من خلال الحزن على ما فاته منها، كما لم يتحدث عن حصوله عليها بزهوٍ وفرح، بل كان يتحدث بهدوء الإنسان المسؤول الذي يثير النقد للموقف، ليوجِّه الوعي إلى اكتشاف الخلل فيه، لئلا يبقى نهجاً للمستقبل في نظر الناس الذين انفتحوا عليه في واقع التجربة، أو في ما ينقله التاريخ منها، فهو لا يريد للخطأ أن يأخذ صورة الصواب، ولا يرضى للانحراف أن يأخذ دور الاستقامة في القداسة، ولذلك كان نقده نقداً رسالياً يستهدف تصحيح النظرة إلى التجربة، كما كان يخطِّط للمستقبل في مسألة الحكم أن يكون حركةً في اتجاه إقامة العدل وهدم الظلم، لا حالةً ذاتية في الطموح والعنفوان.
وربما استوحينا من هذه الخطبة في حديثه عن الناكثين والقاسطين والمارقين، أن انحراف التجربة في البداية هو الذي يؤدي إلى تعقيد الموقف في المستقبل، في ما تفرضه الحواجز النفسية والواقعية من صعوبات في حركة المسيرة، لأن الحكم في تجربة الحاكم يمثل معنىً في التربية كما يمثل معنىً في النظام.
الادارة المتوازنة لعناصر الخلاف
وإذا كانت المسألة في إثارتها الفكرية حركةً في تصحيح الوعي، وتركيز المفاهيم واستقامة الخط، فلا بد أن يعيش المسلمون مسؤولية ذلك، بحيث لا تكون القضية لديهم في أمثال هذه الأمور قضية شيء في الذات، لينفعل الإنسان به من خلال عناصره الذاتية في الإثارة الشعورية المضادّة، بل تكون قضيته هي قضية الخطِّ في معنى الخصوصية الإسلامية، وفي عمق المشاعر الإيمانية، فيتعامل معها بمسؤولية الإيمان في موضوعية النظرة والحوار، ليتعرف وجه الحق والباطل في احتمالاتها المتعدّدة، تماماً كأية فكرةٍ مجرّدة تتحرك في العمليات الفكرية للإنسان.
إن القضية تعيش في نطاق تربية الذهنية الموضوعية في الحسّ النقدي للإنسان المسلم، ليواجه الحياة بطريقة عقلانيةٍ لا بطريقةٍ انفعاليةٍ، فيحاكم الأمور بالمنطق لا بالعاطفة، وبذلك، لا يستطيع الآخرون أن يفرضوا على المسلمين الرساليين أيّة معركةٍ لا يختارونها من خلال عناصر الإثارة، واستناداً إلى هذا التوجه، سيمتلك الرساليون صلابة الأرض وقوّة الموقف ووضوح الأفق واستقامة الطريق وواقعية النظرة إلى التجربة.
وقد لاحظنا أن المسلمين لم يدخلوا في تلك الفترة التي عاشوها بعد وفاة النبي (ص) أيّة معركةٍ مذهبيةٍ، بالمعنى الذي يعرفونه الآن، بل كانت المعارك الداخلية تحمل مسألة انتفاضة ضد الحاكم أو تمرد عليه، فلم يكن للمسألة بعدٌ فكريّ مذهبيّ، بل كان لها بعدٌ سياسي في دائرة الواقع التنفيذي في قضايا الحكم، وإذا كان الخوارج قد طرحوا المسألة الفكرية في شعارهم «لا حكم إلا لله»، فإن الحرب عليهم لم تكن منطلقةً من البعد الفكري المضاد، بل من السلوك العدواني الذي تحركوا فيه بالإخلال بالنظام العام للأمة، وهذا ما دعا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن يطلق كلمته التي تُعتبر نهجاً في طريقة مواجهة الخلاف الفكري فيقول: «لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه».
إننا نستوحي من حركة الخلاف في جانب الخلافة في النطاق المذهبي، أن المسلمين كانوا يواجهونها بطريقة متوازنة بعيداً عن حالة التشنج والتعقيد بالشكل الذي نواجهه الآن، ولذلك فقد نلاحظ في ذلك، أنّ المسألة في وعي الذين عاشوا تجربة العناصر الأولى للخلاف كانت أكثر انفتاحاً مما يعيشه المسلمون الذين ورثوا الاختلاف الآن.
الانفتاح على الواقع
لقد أدرك الإمام أمير المؤمنين (ع)، بوعيه الإسلامي العميق المنفتح، أن على المسلمين أن يتحركوا في خلافاتهم على الطريقة القرآنية التي تمثِّل المنهج الموضوعي، الذي يجعل الفكرة في مواجهة الفكرة، ويحوّل الخلاف إلى تنافس في الوصول إلى الحق من خلال الأسس التي يرتكز عليها الحق، أي بأدوات الحجة والبرهان، ليكون الجدال بالتي هي أحسن، والدفع بالتي هي أحسن، وليقول الناس كلهم الكلمة التي هي أحسن، فذلك هو السبيل للتفاهم.
وفي هذا الجو، يمكن لهم أن يطرحوا كل وجهات النظر التي تختلف فيها الأفكار، من دون أن يخافوا الوقوع في سلبيات العداوة والبغضاء والتقاتل، فلا تبقى هناك حقيقة غامضة، ولا قناعة قلقة، بل كل ما هناك الوضوح والثبات والانفتاح على الإسلام كله.
ولا بد لنا من أن نجرّب التعالي عن الحساسيات في ما نعيشه من قناعات، وفي ما نلتزمه من انتماءات في تفاصيل المذهبية الإسلامية، لنتحاور في كلِّ شيءٍ بعيداً عن عوامل الإثارة والانفعال، ولنجمّد كلَّ الحساسيات اللاهبة، وذلك بالأخذ بالمنهج العملي في التزام الأفكار، وبالأسلوب القرآني في الحوار.
وقد لا يكون من السهل الوصول إلى هذا المستوى من الوعي الفكري والالتزام الشعوري، لا سيّما في الساحة الشعبية المليئة بالحساسيات، لكننا نستطيع ذلك من خلال الدخول في تجربة حوار العلماء والمثقفين من الذين لا يعيشون ذهنية العامة، من النخبة المفكرة الواعية، وذلك في نطاق الحوار المباشر في الدائرة الصغيرة، لتكون لنا من ذلك تجربة جديدة، كنموذج للانطلاقة الموضوعية في حركة الواقع الإسلامي الخالي من التعقيد، الذي لا يضطرنا إلى التقية في الدائرة الإسلامية الفكرية، ولا يؤدي بنا إلى المزيد من التكاذب المتبادل.
عليّ والمصلحة الإسلامية العليا
ضمن هذا الجو يمكن الإطلالة على موقف آخر للإمام علي (ع) في تجربته الإسلامية الرائدة، وذلك عندما انطلق في خطِّ الانفتاح على الواقع الذي أبعده عن موقعه في الخلافة، فلم يتعقَّد من ذلك، بل درس المسألة على أساسٍ واقعيٍّ، فليس هناك أيّ مجال للمطالبة بحقّه، أو للحصول عليه، أمام التطورات المتلاحقة التي أدخلت القضية في مرحلة جديدةٍ صعبةٍ، ورأى أن هناك أوضاعاً طارئة في الأجواء الإسلامية تفرض عليه أن يواجه الموقف من خلال المصلحة الإسلامية العليا، في ما تقتضيه من إعطاء الرأي وحلّ المشاكل، وتحريك الجهد في خطِّ التعاون مع هؤلاء، الذين تقدّموه في تجربتهم الإسلامية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، بحيث إن القضية لم تكن قضيتهم في مركزهم من الناحية الذاتية، بل هي قضية الإسلام في الأوضاع الجديدة التي فرضت نفسها على الواقع، ووضعت القيادة الحقيقية في مواجهة الحاجة الإسلامية إلى حركتها في الاتجاه السليم المنفتح على المستقبل في قضية المصير.
وهذا ما يجب علينا أن نعيشه في واقعنا الإسلامي في التحديات التي تواجه المسلمين جميعاً في قضاياهم السياسية والثقافية والاقتصادية والأمنية، في الساحات الإسلامية العامة، التي لا تنعكس تأثيراتها السلبية على فريق مذهبي معين من المسلمين، بل تشمل المسلمين جميعاً، لأن المطلوب هو القضاء على الإسلام في حركته الصاعدة نحو قيادة الحياة ليكون الدين كله لله، الأمر الذي يفرض علينا التأكيد على الوحدة الإسلامية في المسألة السياسية، بالإضافة إلى المسألة الثقافية والأمنية، لأن المرحلة ليست مرحلة الوقوف عند التفاصيل الصغيرة، بل هي مسألة الانطلاق من خلال الخطوط العامة، وهذا هو شعار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في كلِّ تجربته الإسلامية الغنية داخل الخلافة وخارجها، المتمثل بالكلمة الخالدة: «لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين».
ولا بد لنا للوصول إلى هذه النتائج، من التخطيط الواعي المسؤول المنفتح على الحياة كلها، وعلى الإسلام كله، وعلى المسلمين كلهم.
والحمد لله رب العالمين