ما نزال مع الإمام عليّ(ع) في استيحائه لسورة التكاثر الَّتي انفتح على آفاقها كلّها، من حيث طبيعة الخطأ الّذي كان يعيشه أولئك الّذين يرون القيمة في الكثرة، ومن حيث غفلتهم عمَّا يمثِّله الموت والقبر والموتى، ليخرج بنتيجة حاسمة، وهي أنَّ الَّذين يموتون يواجهون أمراً بالغ الصّعوبة مما لا يمكن وصفه، كما أنهم ينقطعون عن الأحياء انقطاعاً كلّياً، كما ينقطعون عن بعضهم البعض.
العبرة في الموت
ولهذا، فإنَّ الإمام(ع) يركّز على فكرة أن لا ننظر إلى الموتى إلا نظرنا إلى قومٍ يمثّلون العبرة لنا، ويوقظون فينا وعي ما نقبل عليه مما أقبلوا عليه، فلا ندخلهم فيما نتفاضل فيه، بل إنَّ علينا أن ندخلهم فيما نعتبر به. ولعلَّنا، ونحن نتابع عليّاً(ع) في وصف حال هؤلاء، وفي طبيعة الموت، وكيف ينفذ إلى حياة الإنسان، لا نجد إنساناً وصف الموت كما وصفه عليّ(ع) في كلّ هذه اللّمسات والإيحاءات والعناصر الَّتي تنفتح بها الموعظة، ويعي فيها الإنسان معنى الحياة من خلال وعيه لمعنى الموت. تعالوا ـ من جديد ـ إلى عليّ(ع) في وصف هؤلاء الموتى، تعليقاً على ما قام به أولئك الّذين راحوا يعدّون الأموات ليضافوا إلى الأحياء، ليتضخَّم عددهم. "ولئن عميت آثارهم"، فلا تبصر شيئاً ولا نبصر منها شيئاً، "وانقطعت أخبارهم"، كما يصف ذلك عليّ بن الحسين(ع) في لمسة روحانيَّة: "مولاي وارحمني إذا انقطع من الدّنيا أثري، وامَّحى من المخلوقين ذكري، وكنت في المنسيّين كمن قد نسي"[1]. "لقد رجعت فيهم أبصارُ العبر"، بعد أن عميت الآثار، فكانوا بصراً للعقل وللقلب يبصر به النّاس العبر، وبصراً للعقل في معنى العبرة يعطيك ما لا يعطيك إيّاه بصر الوجه. "وسمعت عنهم آذان العقول"، ولم يسمع لهم صوت ولا خبر، فلقد أصبحوا خارج نطاق الضّوء، فهم في عالم لا يتحدَّث عنه الناس، لأنَّ الناس يتحدّثون عنهم ـ عادةً ـ في الذكريات، لا في واقعهم الّذي هم فيه، ولكنَّ العقول تسمع بآذانها عنهم عندما يخبرونها بصمتهم وما هم عليه من حال. يقول الإمام السجّاد(ع) في دعائه: "مولايوارحمني عند تغيّر صورتي وحالي إذا بلي جسمي، وتفرّقت أعضائي، وتقطّعت أوصالي"[2]، إنَّ آذان عقلك تسمع ذلك كلّه مما يوحي به الواقع الَّذي يعيشونه. "وتكلّموا من غير جهات النطق"، فكأنك عندما تقف أمام القبور وتسألهم عن حالهم فيها، فإنهم لا يردّون عليك بلسان ناطق كما كانوا يفعلون عندما كانوا أحياء، ولكنَّهم يجيبون بلسان الحال الَّذي ينطق عن واقع انقطاع أثرهم من الدّنيا، وأنهم لو عادوا فربما يعملون صالحاً، وأنهم حيل بينهم وبين ذلك، وأنَّ السَّعيد فيهم من مهَّد قبره بعمله، والشقيّ من ارتحل بأوزاره التي تثقل كاهله، وأنهم مقبلون على يومٍ لا ريب فيه، وسيجزون كلٌّ حسب عمله.
لسان حال الموتى
"فقالوا: كلحت الوجوه النواضر"، قالوا: هل كنتم ترون هذه الوجوه النّضرة الّتي تنبض بالحياة بين وجه أبيض، وآخر ورديّ، ووجه تموج الحياة وآثار العافية فيه، أمّا الآن، فقد عبست هذه الوجوه وتكدّرت بعدما كانت تبتسم، وتحوّل ابتسامها إلى عبوس وانفراجها إلى تكشير. "وخوت الأجساد النواعم"، أمّا الأجساد الناعمة المترفة، تلك التي كانت لا تسمح لأيّ شيء حتى لو كان ناعماً أن يلمسها، فقد تهدَّمت لأنها تقطّعت وتفرّقت وانفصلت عن بعضها البعض، وخشنت حتى يعجب من يراها متسائلاً: هل هذه هي الّتي كانت منعّمةً ترفل في غضارة العيش وبحبوحة النّعيم؟ "ولبسنا أهدام البلى"، هكذا يتحدَّثون بلسان الحال الَّذي يبدو أبلغ من لسان المقال.. يقولون بعد أن كنَّا نلبس الرّياش والدّيباج وأنفس الثّياب، بتنا نلبس ثياب الموت والبلى والفناء. "وتكاءدنا ضيق المضجع"، والتكؤدُّ هو المشقّة، أي أنّنا صرنا في ضيق المضجع الّذي يشقُّ تحمّله على من يبيت فيه. "وتوارثنا الوحشة"، فنحن في وحشةٍ لا وحشة مثلها، فليس هناك أنيس، حتى النّور الّذي كنّا نأنس به، وحتى السماء التي كنّا نتطلع إليها، وحتى السّهول والجبال وكلّ مناظر الطبيعة الأخرى توارت عنّا، فأصبحنا في حفرة ضيّقة. وهل يأنس الإنسان وليس له حسّ يوحي له بالأنس؟! بل حتى الحشرات والهوامّ الّتي تزحف على أجسادنا، لا نحسّ ولا نأنس بها ولا نستوحش منها، لأننا لا نملك شيئاً يعطي الوحشة أو يعطي الأنس. "وتهكَّمت علينا الرّبوع الصّموت"، وتهكَّمت هنا بمعنى تهدَّمت، فلقد انهارت وتهدَّمت تلك الرّبوع الّتي كانت تموج بالحركة، فأضحت بعد رحيل سكَّانها صامتةً خرساء يحكي بلاها وأطلالها قصَّة الّذين كانوا بالأمس هنا واليوم قد رحلوا، فلا البانون ولا السّاكنون، "فانمحت محاسن أجسادنا، وتنكّرت معارف صورنا"، وذلك ما قرأناه مع الإمام زين العابدين(ع): "وارحمني عند تغيّر صورتي". "وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا"، فلا نعرف إلى أيّ مدى تكون الإقامة، وكم ألف سنةٍ نحتاج ليأذن الله لهذه الأجداث أن تبعث من جديد. "ولم نجد من كرب فرجاً"، فالأحياء إذا وقعوا في الكرب، فإنهم ينتظرون الفرج، ويدعون الله أن يفرِّج كربهم، ولكن أيّ لسانٍ للموت لكي يطلب به الميتون الفرج!؟ "ولا من ضيق متّسعاً"، بل إنَّ الحفرة تضيق وتضيق لأنها تتهدم من جانب، فتزحف الحجارة إلى الجسد، ولأنها تتبعثر فتضيق الحفرة على من فيها.
تمثّل الموتى بالعقل
"فلو مثَّلتهم بعقلك"، وهم تحت الصّخور، فإنّك لا تستطيع أن تبصرهم، ولكنّك تستطيع أن تمثّلهم في عقلك، فالإمام يدعونا إلى أن نتمثّلهم في عقولنا، لأنّ على العقل أن يستوعب هؤلاء في وعيه، ليفهم ماذا هناك، وليقول لصاحبه هلمّ إلى هناك. "أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك، وقد ارتسخت أسماعهم بالهوامّ"، أي بالحشرات، "فاستكّت"، فالسّمع عندما يستكُّ، يفقد أيّ قابلية للسمع أو للحياة. "واكتحلت أبصارهم بالتّراب فخسفت"، لأنّ التراب دخل إلى عيونهم، فخسفت العيون وتعمَّقت، فإذا بالمهاجر الجميلة حفر مفرغة مفزعة. "وتقطّعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها"، فلقد كان الواحد منهم يخطب ويخطب، ويبدع ويبدع في لسانٍ ذلقٍ، ويحرّك لسانه في الخير وفي الشرّ، وأمَّا الآن، فقد تقطّعت الألسنة في أفواههم قطعاً قطعاً، ولم يعد هناك لسان يتفوّهون به، "وهمدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها"، وكانت القلوب تنبض فتمنح الجسد الحياة، وتعطي الإنسان الحبّ، وتهبه أحاسيس الخير، ولكنَّها همدت وسكنت وجفَّ نبضها، فلم يعد فيها أيّ نبض. "وعاث في كلّ جارحة منهم جديدُ بلى سمَّجها"، ويمتدّ البلى والفناء ليفسد الأعضاء كلّها، لأنّ في كلّ يوم بلى جديداً وفناءً جديداً، فلقد كان يخترق الروح ليأخذها، وأمّا في القبور، فإنّ الفناء يخترق الجسد لينخره ويحطّمه ويبليه، ولذلك ففي كلّ يوم فناء وبلى. "وسهّل طريق الآفة إليها"، فعندما يأتي جديد البلى، فإنه يفتح الطريق لكلّ آفة إلى الجسد لتأكله. "مستسلمات"، هذه الأجساد الهامدة، "فلا أيدٍ تدفع" الحشرات عنها بجميع أصنافها، حيث تنطلق لتأكل شيئاً من عيونهم، وشيئاً من قلوبهم، وشيئاً من ألسنتهم، وشيئاً مما كانوا يعزِّزون به وجودهم. "ولا قلوب تجزع" عندما ترى ذلك، لأنهم يعيشون داخل قبور مغلقة، "فلو مثّلتهم بعقلك"، ماذا ترى؟ "لرأيت أشجان قلوب"؛ القلوب الّتي تعيش الأشجان من خلال الأمر الواقع، لا من خلال الإحساس. "وأقذاء عيون"، ورأيت العيون الّتي ينزل بها القذى، وأيّ قذى ينزل بعيون الموتى؟! إنّه التراب في كلِّ ما فيه من أوساخ. "لهم في كلّ فظاعةٍ صفةُ حال لا تنتقل، وغمرةٌ لا تنجلي"، فعندما تتصوَّر الفظاعة بكلّ ما فيها من رعب، فإنَّك ستجد أنَّ لهم صفةً في الفظاعة، وأنّ لهم غمرةً لا تنجلي، فهي باقية حتى يأذن الله.
مصير الأموات في القبر
ويستمرّ الإمام عليّ(ع) في تصوير الموت، ليقول: "وكم أكلت الأرض من عزيز جسد"، حتى لم يبق منه إلا التراب، "وأنيق لونٍ كان في الدّنيا غذي ترف"، فهذا اللّون الذي كان ينفتح عليه أهله المترفون من أجل أن يلوِّنوا وجوههم بالمساحيق، ويطيّبوا أجسادهم بالعطور، فكيف تحوّل وتبدّل بعدما أكلته الأرض وأتلفته هوامّها وديدانها؟! "وربيب شرف يتعلّل بالسّرور في ساعة حزنه"، وهو هنا يصف ما كانوا عليه، فإذا جاءهم الحزن، فإنّهم يفزعون إلى السّرور ليتجاوزوا الحزن وليهربوا منه. "ويفزع إلى السّلوة إن مصيبة نزلت به"، فإذا ما نزلت بهم المصائب، فإنهم يحاولون أن يتناسوها، حتى لا يسيئوا إلى ما هو فيه من غضارة العيش. "ضنّاً بغضارة عيشه، وشحاحةً بلهوه ولعبه"، حتى لا تتحرّك المصيبة لتفسد غضارة عيشه ولهوه ولعبه. "فبينا هو يضحك إلى الدّنيا وتضحك إليه"، ولنراقب هذه المسألة في حياتنا عندما نضحك للدّنيا وتضحك الدّنيا لنا، فيما تمنحنا من لهوها وعبثها ولذَّاتها وشهواتها. "في ظلّ عيشٍ غفول"، لا يفكِّر في شيء، ولا يعبأ بشيء، ولا يكترث لشيء، بل يستغرق في اللذّات والشَّهوات، "إذ وطئ الدّهرُ به حسكه"، وإذا به من متنعّمٍ يتقلَّب في الفراش الناعم فيما تفرشه الأرض والحياة له، إلى محاصرٍ بالحجارة والحصى وكلّ ما يخزه، فيبعده عن نعومة الحياة وترفها. "ونقضت الأيّام قواه"، والنّقض هو الفكّ، ويستخدم عادةً للغزل، {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا}[3]، فدبّ الضّعف في أجسادهم، ففسَّخ قواها قوّةً قوّة، "ونظرت إليه الحتوفُ من كثب"، واقترب الأجل زاحفاً إليه. وهذا هو تصوير الدّعاء للموت كطائرٍ يرفرف على رأس الإنسان. "فخالطه بثّ لا يعرفه"، أي حالة الحزن، ففي القرآن: {أَشْكُو بَثِّي}[4]، أي هذه الحالة الحزينة التي تزحف إلى المشاعر فتكدّرها. "ونجيُّ همّ ما كان يجده"، فلقد كان يعيش هموماً كثيرة في الحياة، من ضيق الحال والخوف وما إلى ذلك، أمَّا الآن، فهذا الهمّ جديد بكلّ عناصره وإيحاءاته ورعبه. "وتولَّدت فيه فترات علل"، حيث بدأت الأمراض تزحف إليه، "آنسَ ما كان بصحّته"، أي انطلقت أنياب الموت والبلى لتفترس صحّته الَّتي لم يكن يظنّ معها أنّه سيمرض، "ففزع إلى ما كان عوَّده الأطبّاء"، حيث كان الأطبّاء يرون أنّ صحّة الجسم تعتمد على التوازن بين الحرارة والبرودة، فإذا ارتفعت الحرارة، حاولوا أن ينقصوها بالبرودة وبالعكس. "من تسكين الحارّ بالقارّ"، والقارّ هو البارد، "وتحريك البارد بالحارّ"، ولكن النتيجة هنا تختلف عن النتيجة في الدنيا، فلقد كان البارد يطفئ الحرارة، وكان الحارّ يخفِّف من البرودة، أمّا الآن "فلم يطفئ ببارد إلا ثوّر حرارة"، أي انقلب الأمر، "ولا حرّك بحارّ إلا هيّج برودة، ولا اعتدل بممازج لتلك الطبائع إلاّ أمدَّ منها كلّ ذات داء"، أي أنّه يمزج الدواء ليعطيه العافية، لكنّه ـ بخلاف ذلك ـ بات يعطيه مرضاً جديداً. "حتّى فتر معلّله"، أي ضعف، "وذهل ممرِّضه"، لأنّه لا يجد أيّ أملٍ في التَّمريض، "وتعايا أهله بصفة دائه"، أي أظهروا العيّ والعجز والسّكوت عند السؤال فلم يجيبوا، لأنهم لا يفهمون ماذا هناك ولا يعرفون حدوده، "وخرسوا عن جواب السّائلين عنه"، فلا يجيبون أحداً لما هم فيه من اليأس. "وتنازعوا دونه شجيّ خيرٍ يكتمونه"، أي يتناقشون فيما بينهم في خبرٍ يشجيهم ويحزنهم، ولا يريدون أن يظهروه للنّاس، "فقائلٍ يقول: هو لما به"، وكلمة (لما به) تقال عندما يصل الإنسان إلى حدّ لا يؤمل منه الصحَّة، فهي تقال في حال اليأس المطبق من السَّلامة والعافية. "وممن لهم إياب عافيته، ومصبّر لهم على فقده"، فشخص يعزّيهم بأمل استرجاع العافية، وشخص يطلب منهم الصّبر على المصيبة، "يذكِّرهم أسى الماضين من قبله"، فيقول لهم تذكَّروا الأنبياء(ع) وأهل البيت(ع)، وتذكَّروا الأولياء وغيرهم، "فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا وترك الأحبّة"، وما أروع هذا التّعبير الفني الأدبي الموحي! فكأنّ الموت هو جناح يحمل الإنسان إلى العالم الآخر، جناح يطير به إلى هناك. "إذ عرض له عارضٌ من غصصه، فتحيَّرت نوافذ فطنته"، فعندما يطبق الموت على الإنسان، ويستولي على حسّه كلّه، فلا يحسّ شيئاً، ولا يفهم شيئاً، ولا يعي شيئاً، "ويبست رطوبة لسانه"، أي تجمَّد لسانه عن النّطق والحركة. "فكم من مهمّ من جوابه عرفه فعييَ عن ردّه"، فكم هناك من أشياء مهمّة كان يسأل عنها ويجيب لأهميّتها، ولكنَّه الآن لا يستطيع أن يردَّ بشيء. "ودعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصامّ عنه"، فربما ناداه شخص يرحمه ويحبّه، ولكنّه لا يستطيع أن يسمعه فيردّ جوابه، "من كبيرٍ كان يعظّمه، أو صغيرٍ كان يرحمه". ثم يلخِّص الإمام(ع) معنى الموت: "وإنّ للموت لغمرات"، وهي الشّدائد والأهوال، "هي أفظع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدّنيا"[5].
كيف نكون مع عليّ(ع)؟
فكيف تفكِّرون وتفتخرون بمن مات، وتزحفون إلى قبورهم وأنتم في غفلةٍ عمّا كانوا فيه وعمَّا هم مقبلون عليه، فالقضيّة ليست قضيّة أرقام تتكاثر، ولا قضيّة أشخاص يبعثون على الفخر، ولو سألتموهم وأنتم تتفاخرون بأعدادهم: كيف أنتم؟ وماذا وجدتم؟! لقالوا لكم: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[6]. هذا هو كلّ زاد القبر وزاد المحشر وزاد المصير، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[7]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[8]، وينطلق النّداء: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[9]، وينطلق النداء: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[10]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}[11]. أيّها الأحبّة، خذوا من عليّ(ع) هذه الرّوح التي تحلّق بنا لأجل أن نفهم حقائق الموت.. وخذوا منه هذا العقل الّذي يحلّق لأجل أن نفهم حقائق الحياة، وخذوا عليّاً كلّه، لأنّ عليّاً كان الإسلام كلّه، ولأنّه باع كلّه لله، فليس فيه شيء لغير الله. ولهذا، ليس الانتماء إلى عليّ نسباً ولا صفةً: "ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد"[12]. لقد كانت حياته كلّها من أجل الله ومن أجل الإسلام، فإذا أردتم أن تسيروا معي ـ أي مع عليّ(ع) ـ فكونوا مع الله ومع رسول الله ومع القرآن ومع الإسلام، لأنّه لا مكان في حياتي إلا لهؤلاء، ولأنّني كنت مع الحقّ وكان الحقّ معي، فمن كان مع الباطل، كيف يقترب من عليّ(ع)، وهو لا مكان له في الباطل البتّة؟! ويبقى (نهج البلاغة) يعطينا وحي القرآن وامتداده وآفاقه، فانطلقوا مع النّهج لتفهموا القرآن جيّداً، لأنّ نهج البلاغة كلّه من وحي القرآن الّذي عاشه عليّ(ع) فكراً وروحاً وقلباً. يا سماء اخشعي ويا أرض قري واخضعي إنّـني ذكرت عليّاً
*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 20 شوّال 1419هـ/ الموافق: 6/2/1999م.
[1] الصحيفة السجاديّة، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في التذلّل لله عزّ وجلّ.
[2] المصدر نفسه.
[3] [النحل: 92].
[4] [يوسف: 86].
[5] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 209.
[6] [البقرة: 197].
[7] [المطففين: 6].
[8] [النحل: 111].
[9] [غافر: 17].
[10] [غافر: 16].
[11] [الانفطار: 19].
[12] نهج البلاغة، ج 3، ص 70.
ما نزال مع الإمام عليّ(ع) في استيحائه لسورة التكاثر الَّتي انفتح على آفاقها كلّها، من حيث طبيعة الخطأ الّذي كان يعيشه أولئك الّذين يرون القيمة في الكثرة، ومن حيث غفلتهم عمَّا يمثِّله الموت والقبر والموتى، ليخرج بنتيجة حاسمة، وهي أنَّ الَّذين يموتون يواجهون أمراً بالغ الصّعوبة مما لا يمكن وصفه، كما أنهم ينقطعون عن الأحياء انقطاعاً كلّياً، كما ينقطعون عن بعضهم البعض.
العبرة في الموت
ولهذا، فإنَّ الإمام(ع) يركّز على فكرة أن لا ننظر إلى الموتى إلا نظرنا إلى قومٍ يمثّلون العبرة لنا، ويوقظون فينا وعي ما نقبل عليه مما أقبلوا عليه، فلا ندخلهم فيما نتفاضل فيه، بل إنَّ علينا أن ندخلهم فيما نعتبر به. ولعلَّنا، ونحن نتابع عليّاً(ع) في وصف حال هؤلاء، وفي طبيعة الموت، وكيف ينفذ إلى حياة الإنسان، لا نجد إنساناً وصف الموت كما وصفه عليّ(ع) في كلّ هذه اللّمسات والإيحاءات والعناصر الَّتي تنفتح بها الموعظة، ويعي فيها الإنسان معنى الحياة من خلال وعيه لمعنى الموت. تعالوا ـ من جديد ـ إلى عليّ(ع) في وصف هؤلاء الموتى، تعليقاً على ما قام به أولئك الّذين راحوا يعدّون الأموات ليضافوا إلى الأحياء، ليتضخَّم عددهم. "ولئن عميت آثارهم"، فلا تبصر شيئاً ولا نبصر منها شيئاً، "وانقطعت أخبارهم"، كما يصف ذلك عليّ بن الحسين(ع) في لمسة روحانيَّة: "مولاي وارحمني إذا انقطع من الدّنيا أثري، وامَّحى من المخلوقين ذكري، وكنت في المنسيّين كمن قد نسي"[1]. "لقد رجعت فيهم أبصارُ العبر"، بعد أن عميت الآثار، فكانوا بصراً للعقل وللقلب يبصر به النّاس العبر، وبصراً للعقل في معنى العبرة يعطيك ما لا يعطيك إيّاه بصر الوجه. "وسمعت عنهم آذان العقول"، ولم يسمع لهم صوت ولا خبر، فلقد أصبحوا خارج نطاق الضّوء، فهم في عالم لا يتحدَّث عنه الناس، لأنَّ الناس يتحدّثون عنهم ـ عادةً ـ في الذكريات، لا في واقعهم الّذي هم فيه، ولكنَّ العقول تسمع بآذانها عنهم عندما يخبرونها بصمتهم وما هم عليه من حال. يقول الإمام السجّاد(ع) في دعائه: "مولايوارحمني عند تغيّر صورتي وحالي إذا بلي جسمي، وتفرّقت أعضائي، وتقطّعت أوصالي"[2]، إنَّ آذان عقلك تسمع ذلك كلّه مما يوحي به الواقع الَّذي يعيشونه. "وتكلّموا من غير جهات النطق"، فكأنك عندما تقف أمام القبور وتسألهم عن حالهم فيها، فإنهم لا يردّون عليك بلسان ناطق كما كانوا يفعلون عندما كانوا أحياء، ولكنَّهم يجيبون بلسان الحال الَّذي ينطق عن واقع انقطاع أثرهم من الدّنيا، وأنهم لو عادوا فربما يعملون صالحاً، وأنهم حيل بينهم وبين ذلك، وأنَّ السَّعيد فيهم من مهَّد قبره بعمله، والشقيّ من ارتحل بأوزاره التي تثقل كاهله، وأنهم مقبلون على يومٍ لا ريب فيه، وسيجزون كلٌّ حسب عمله.
لسان حال الموتى
"فقالوا: كلحت الوجوه النواضر"، قالوا: هل كنتم ترون هذه الوجوه النّضرة الّتي تنبض بالحياة بين وجه أبيض، وآخر ورديّ، ووجه تموج الحياة وآثار العافية فيه، أمّا الآن، فقد عبست هذه الوجوه وتكدّرت بعدما كانت تبتسم، وتحوّل ابتسامها إلى عبوس وانفراجها إلى تكشير. "وخوت الأجساد النواعم"، أمّا الأجساد الناعمة المترفة، تلك التي كانت لا تسمح لأيّ شيء حتى لو كان ناعماً أن يلمسها، فقد تهدَّمت لأنها تقطّعت وتفرّقت وانفصلت عن بعضها البعض، وخشنت حتى يعجب من يراها متسائلاً: هل هذه هي الّتي كانت منعّمةً ترفل في غضارة العيش وبحبوحة النّعيم؟ "ولبسنا أهدام البلى"، هكذا يتحدَّثون بلسان الحال الَّذي يبدو أبلغ من لسان المقال.. يقولون بعد أن كنَّا نلبس الرّياش والدّيباج وأنفس الثّياب، بتنا نلبس ثياب الموت والبلى والفناء. "وتكاءدنا ضيق المضجع"، والتكؤدُّ هو المشقّة، أي أنّنا صرنا في ضيق المضجع الّذي يشقُّ تحمّله على من يبيت فيه. "وتوارثنا الوحشة"، فنحن في وحشةٍ لا وحشة مثلها، فليس هناك أنيس، حتى النّور الّذي كنّا نأنس به، وحتى السماء التي كنّا نتطلع إليها، وحتى السّهول والجبال وكلّ مناظر الطبيعة الأخرى توارت عنّا، فأصبحنا في حفرة ضيّقة. وهل يأنس الإنسان وليس له حسّ يوحي له بالأنس؟! بل حتى الحشرات والهوامّ الّتي تزحف على أجسادنا، لا نحسّ ولا نأنس بها ولا نستوحش منها، لأننا لا نملك شيئاً يعطي الوحشة أو يعطي الأنس. "وتهكَّمت علينا الرّبوع الصّموت"، وتهكَّمت هنا بمعنى تهدَّمت، فلقد انهارت وتهدَّمت تلك الرّبوع الّتي كانت تموج بالحركة، فأضحت بعد رحيل سكَّانها صامتةً خرساء يحكي بلاها وأطلالها قصَّة الّذين كانوا بالأمس هنا واليوم قد رحلوا، فلا البانون ولا السّاكنون، "فانمحت محاسن أجسادنا، وتنكّرت معارف صورنا"، وذلك ما قرأناه مع الإمام زين العابدين(ع): "وارحمني عند تغيّر صورتي". "وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا"، فلا نعرف إلى أيّ مدى تكون الإقامة، وكم ألف سنةٍ نحتاج ليأذن الله لهذه الأجداث أن تبعث من جديد. "ولم نجد من كرب فرجاً"، فالأحياء إذا وقعوا في الكرب، فإنهم ينتظرون الفرج، ويدعون الله أن يفرِّج كربهم، ولكن أيّ لسانٍ للموت لكي يطلب به الميتون الفرج!؟ "ولا من ضيق متّسعاً"، بل إنَّ الحفرة تضيق وتضيق لأنها تتهدم من جانب، فتزحف الحجارة إلى الجسد، ولأنها تتبعثر فتضيق الحفرة على من فيها.
تمثّل الموتى بالعقل
"فلو مثَّلتهم بعقلك"، وهم تحت الصّخور، فإنّك لا تستطيع أن تبصرهم، ولكنّك تستطيع أن تمثّلهم في عقلك، فالإمام يدعونا إلى أن نتمثّلهم في عقولنا، لأنّ على العقل أن يستوعب هؤلاء في وعيه، ليفهم ماذا هناك، وليقول لصاحبه هلمّ إلى هناك. "أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك، وقد ارتسخت أسماعهم بالهوامّ"، أي بالحشرات، "فاستكّت"، فالسّمع عندما يستكُّ، يفقد أيّ قابلية للسمع أو للحياة. "واكتحلت أبصارهم بالتّراب فخسفت"، لأنّ التراب دخل إلى عيونهم، فخسفت العيون وتعمَّقت، فإذا بالمهاجر الجميلة حفر مفرغة مفزعة. "وتقطّعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها"، فلقد كان الواحد منهم يخطب ويخطب، ويبدع ويبدع في لسانٍ ذلقٍ، ويحرّك لسانه في الخير وفي الشرّ، وأمَّا الآن، فقد تقطّعت الألسنة في أفواههم قطعاً قطعاً، ولم يعد هناك لسان يتفوّهون به، "وهمدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها"، وكانت القلوب تنبض فتمنح الجسد الحياة، وتعطي الإنسان الحبّ، وتهبه أحاسيس الخير، ولكنَّها همدت وسكنت وجفَّ نبضها، فلم يعد فيها أيّ نبض. "وعاث في كلّ جارحة منهم جديدُ بلى سمَّجها"، ويمتدّ البلى والفناء ليفسد الأعضاء كلّها، لأنّ في كلّ يوم بلى جديداً وفناءً جديداً، فلقد كان يخترق الروح ليأخذها، وأمّا في القبور، فإنّ الفناء يخترق الجسد لينخره ويحطّمه ويبليه، ولذلك ففي كلّ يوم فناء وبلى. "وسهّل طريق الآفة إليها"، فعندما يأتي جديد البلى، فإنه يفتح الطريق لكلّ آفة إلى الجسد لتأكله. "مستسلمات"، هذه الأجساد الهامدة، "فلا أيدٍ تدفع" الحشرات عنها بجميع أصنافها، حيث تنطلق لتأكل شيئاً من عيونهم، وشيئاً من قلوبهم، وشيئاً من ألسنتهم، وشيئاً مما كانوا يعزِّزون به وجودهم. "ولا قلوب تجزع" عندما ترى ذلك، لأنهم يعيشون داخل قبور مغلقة، "فلو مثّلتهم بعقلك"، ماذا ترى؟ "لرأيت أشجان قلوب"؛ القلوب الّتي تعيش الأشجان من خلال الأمر الواقع، لا من خلال الإحساس. "وأقذاء عيون"، ورأيت العيون الّتي ينزل بها القذى، وأيّ قذى ينزل بعيون الموتى؟! إنّه التراب في كلِّ ما فيه من أوساخ. "لهم في كلّ فظاعةٍ صفةُ حال لا تنتقل، وغمرةٌ لا تنجلي"، فعندما تتصوَّر الفظاعة بكلّ ما فيها من رعب، فإنَّك ستجد أنَّ لهم صفةً في الفظاعة، وأنّ لهم غمرةً لا تنجلي، فهي باقية حتى يأذن الله.
مصير الأموات في القبر
ويستمرّ الإمام عليّ(ع) في تصوير الموت، ليقول: "وكم أكلت الأرض من عزيز جسد"، حتى لم يبق منه إلا التراب، "وأنيق لونٍ كان في الدّنيا غذي ترف"، فهذا اللّون الذي كان ينفتح عليه أهله المترفون من أجل أن يلوِّنوا وجوههم بالمساحيق، ويطيّبوا أجسادهم بالعطور، فكيف تحوّل وتبدّل بعدما أكلته الأرض وأتلفته هوامّها وديدانها؟! "وربيب شرف يتعلّل بالسّرور في ساعة حزنه"، وهو هنا يصف ما كانوا عليه، فإذا جاءهم الحزن، فإنّهم يفزعون إلى السّرور ليتجاوزوا الحزن وليهربوا منه. "ويفزع إلى السّلوة إن مصيبة نزلت به"، فإذا ما نزلت بهم المصائب، فإنهم يحاولون أن يتناسوها، حتى لا يسيئوا إلى ما هو فيه من غضارة العيش. "ضنّاً بغضارة عيشه، وشحاحةً بلهوه ولعبه"، حتى لا تتحرّك المصيبة لتفسد غضارة عيشه ولهوه ولعبه. "فبينا هو يضحك إلى الدّنيا وتضحك إليه"، ولنراقب هذه المسألة في حياتنا عندما نضحك للدّنيا وتضحك الدّنيا لنا، فيما تمنحنا من لهوها وعبثها ولذَّاتها وشهواتها. "في ظلّ عيشٍ غفول"، لا يفكِّر في شيء، ولا يعبأ بشيء، ولا يكترث لشيء، بل يستغرق في اللذّات والشَّهوات، "إذ وطئ الدّهرُ به حسكه"، وإذا به من متنعّمٍ يتقلَّب في الفراش الناعم فيما تفرشه الأرض والحياة له، إلى محاصرٍ بالحجارة والحصى وكلّ ما يخزه، فيبعده عن نعومة الحياة وترفها. "ونقضت الأيّام قواه"، والنّقض هو الفكّ، ويستخدم عادةً للغزل، {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا}[3]، فدبّ الضّعف في أجسادهم، ففسَّخ قواها قوّةً قوّة، "ونظرت إليه الحتوفُ من كثب"، واقترب الأجل زاحفاً إليه. وهذا هو تصوير الدّعاء للموت كطائرٍ يرفرف على رأس الإنسان. "فخالطه بثّ لا يعرفه"، أي حالة الحزن، ففي القرآن: {أَشْكُو بَثِّي}[4]، أي هذه الحالة الحزينة التي تزحف إلى المشاعر فتكدّرها. "ونجيُّ همّ ما كان يجده"، فلقد كان يعيش هموماً كثيرة في الحياة، من ضيق الحال والخوف وما إلى ذلك، أمَّا الآن، فهذا الهمّ جديد بكلّ عناصره وإيحاءاته ورعبه. "وتولَّدت فيه فترات علل"، حيث بدأت الأمراض تزحف إليه، "آنسَ ما كان بصحّته"، أي انطلقت أنياب الموت والبلى لتفترس صحّته الَّتي لم يكن يظنّ معها أنّه سيمرض، "ففزع إلى ما كان عوَّده الأطبّاء"، حيث كان الأطبّاء يرون أنّ صحّة الجسم تعتمد على التوازن بين الحرارة والبرودة، فإذا ارتفعت الحرارة، حاولوا أن ينقصوها بالبرودة وبالعكس. "من تسكين الحارّ بالقارّ"، والقارّ هو البارد، "وتحريك البارد بالحارّ"، ولكن النتيجة هنا تختلف عن النتيجة في الدنيا، فلقد كان البارد يطفئ الحرارة، وكان الحارّ يخفِّف من البرودة، أمّا الآن "فلم يطفئ ببارد إلا ثوّر حرارة"، أي انقلب الأمر، "ولا حرّك بحارّ إلا هيّج برودة، ولا اعتدل بممازج لتلك الطبائع إلاّ أمدَّ منها كلّ ذات داء"، أي أنّه يمزج الدواء ليعطيه العافية، لكنّه ـ بخلاف ذلك ـ بات يعطيه مرضاً جديداً. "حتّى فتر معلّله"، أي ضعف، "وذهل ممرِّضه"، لأنّه لا يجد أيّ أملٍ في التَّمريض، "وتعايا أهله بصفة دائه"، أي أظهروا العيّ والعجز والسّكوت عند السؤال فلم يجيبوا، لأنهم لا يفهمون ماذا هناك ولا يعرفون حدوده، "وخرسوا عن جواب السّائلين عنه"، فلا يجيبون أحداً لما هم فيه من اليأس. "وتنازعوا دونه شجيّ خيرٍ يكتمونه"، أي يتناقشون فيما بينهم في خبرٍ يشجيهم ويحزنهم، ولا يريدون أن يظهروه للنّاس، "فقائلٍ يقول: هو لما به"، وكلمة (لما به) تقال عندما يصل الإنسان إلى حدّ لا يؤمل منه الصحَّة، فهي تقال في حال اليأس المطبق من السَّلامة والعافية. "وممن لهم إياب عافيته، ومصبّر لهم على فقده"، فشخص يعزّيهم بأمل استرجاع العافية، وشخص يطلب منهم الصّبر على المصيبة، "يذكِّرهم أسى الماضين من قبله"، فيقول لهم تذكَّروا الأنبياء(ع) وأهل البيت(ع)، وتذكَّروا الأولياء وغيرهم، "فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا وترك الأحبّة"، وما أروع هذا التّعبير الفني الأدبي الموحي! فكأنّ الموت هو جناح يحمل الإنسان إلى العالم الآخر، جناح يطير به إلى هناك. "إذ عرض له عارضٌ من غصصه، فتحيَّرت نوافذ فطنته"، فعندما يطبق الموت على الإنسان، ويستولي على حسّه كلّه، فلا يحسّ شيئاً، ولا يفهم شيئاً، ولا يعي شيئاً، "ويبست رطوبة لسانه"، أي تجمَّد لسانه عن النّطق والحركة. "فكم من مهمّ من جوابه عرفه فعييَ عن ردّه"، فكم هناك من أشياء مهمّة كان يسأل عنها ويجيب لأهميّتها، ولكنَّه الآن لا يستطيع أن يردَّ بشيء. "ودعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصامّ عنه"، فربما ناداه شخص يرحمه ويحبّه، ولكنّه لا يستطيع أن يسمعه فيردّ جوابه، "من كبيرٍ كان يعظّمه، أو صغيرٍ كان يرحمه". ثم يلخِّص الإمام(ع) معنى الموت: "وإنّ للموت لغمرات"، وهي الشّدائد والأهوال، "هي أفظع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدّنيا"[5].
كيف نكون مع عليّ(ع)؟
فكيف تفكِّرون وتفتخرون بمن مات، وتزحفون إلى قبورهم وأنتم في غفلةٍ عمّا كانوا فيه وعمَّا هم مقبلون عليه، فالقضيّة ليست قضيّة أرقام تتكاثر، ولا قضيّة أشخاص يبعثون على الفخر، ولو سألتموهم وأنتم تتفاخرون بأعدادهم: كيف أنتم؟ وماذا وجدتم؟! لقالوا لكم: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[6]. هذا هو كلّ زاد القبر وزاد المحشر وزاد المصير، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[7]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[8]، وينطلق النّداء: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[9]، وينطلق النداء: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[10]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}[11]. أيّها الأحبّة، خذوا من عليّ(ع) هذه الرّوح التي تحلّق بنا لأجل أن نفهم حقائق الموت.. وخذوا منه هذا العقل الّذي يحلّق لأجل أن نفهم حقائق الحياة، وخذوا عليّاً كلّه، لأنّ عليّاً كان الإسلام كلّه، ولأنّه باع كلّه لله، فليس فيه شيء لغير الله. ولهذا، ليس الانتماء إلى عليّ نسباً ولا صفةً: "ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد"[12]. لقد كانت حياته كلّها من أجل الله ومن أجل الإسلام، فإذا أردتم أن تسيروا معي ـ أي مع عليّ(ع) ـ فكونوا مع الله ومع رسول الله ومع القرآن ومع الإسلام، لأنّه لا مكان في حياتي إلا لهؤلاء، ولأنّني كنت مع الحقّ وكان الحقّ معي، فمن كان مع الباطل، كيف يقترب من عليّ(ع)، وهو لا مكان له في الباطل البتّة؟! ويبقى (نهج البلاغة) يعطينا وحي القرآن وامتداده وآفاقه، فانطلقوا مع النّهج لتفهموا القرآن جيّداً، لأنّ نهج البلاغة كلّه من وحي القرآن الّذي عاشه عليّ(ع) فكراً وروحاً وقلباً. يا سماء اخشعي ويا أرض قري واخضعي إنّـني ذكرت عليّاً
*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 20 شوّال 1419هـ/ الموافق: 6/2/1999م.
[1] الصحيفة السجاديّة، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في التذلّل لله عزّ وجلّ.
[2] المصدر نفسه.
[3] [النحل: 92].
[4] [يوسف: 86].
[5] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 209.
[6] [البقرة: 197].
[7] [المطففين: 6].
[8] [النحل: 111].
[9] [غافر: 17].
[10] [غافر: 16].
[11] [الانفطار: 19].
[12] نهج البلاغة، ج 3، ص 70.