في ذكرى مولده.. هكذا دعا عليٌّ(ع) ربَّه

في ذكرى مولده.. هكذا دعا عليٌّ(ع) ربَّه

عشنا قبل أيّام ذكرى مولد أمير المؤمنين(ع). وعندما نلتقي بعليّ(ع)، فإنّنا نلتقي بالإسلام كلّه، لأنَّ الإسلام تجسّد في عليّ فكراً وعلماً، لأنّه عاش الإسلام من خلال رسول الله(ص) في كلّ مفرداته، ولا نجد هناك صحابيّاً عاش مع رسول الله(ص) منذ طفولته الأولى وهو في السنة الثّانية من عمره، يضمّه إليه، ويكنفه في فراشه، ويمضغ اللّقمة ويلقمه إيّاها، ويلقي إليه في كلّ يوم خلقاً من أخلاقه، وكان يتبعه اتّباع الفصيل إثر أمّه، فانطبعت كلّ شخصيّته الروحيّة بشخصيّة رسول الله(ص)، في ذلك الجوّ الرّوحاني الّذي كان يعيشه الرّسول مع ربّه تأمّلاً وابتهالاً وعبادةً في وحدته التي ليس معه فيها أحد إلا هذا الطفل الطاهر المنفتح على الله من خلال رسول الله(ص).

الإعداد الروحيّ للرّسالة

وكان رسول الله(ص) يعلّمه ويربّيه ويحدّثه، وكان عليّ(ع) يقول عن رسول الله(ص) في تلك الفترة: "ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره"[1]. وكان عليّ(ع) يعيش ذلك، وعندما بعث الله نبيّه بالرّسالة، كان عليّ(ع) يختزن روحيّة الإسلام التي اختزنها رسول الله(ص) قبل أن يبعث بالرسالة، لأنَّ الله سبحانه كان يعدّ رسول الله(ص) قبل أن يُبعث للرّسالة التي تمتدّ للحياة كلها، وهي رسالة تختلف عن الرسالات كلّها، لأنه ما من رسول إلا ولرسالته حدّ معين من الزمن من بعده، ليأتي رسول آخر فيبدأ رسالة جديدة، ولكنَّ الله أعدّ لرسوله رسالةً تمتدّ مع الحياة من بعده إلى قيام السَّاعة، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[2]، وهو القائل: "لا نبيَّ بعدي"[3].

ولذلك، كان الله تعالى يعدّ رسوله المستقبليّ إعداداً في روحه، لتكون روحه كلّها روحاً رسوليّة، وفي عقله ليحمل عقله عمق الرّسالة وامتدادها، وفي قلبه ليكون له قلب الرّسول الّذي يحرص على أمّته، ويشقّ عليه ما يشقّ عليها، ويرأف بها ويرحمها، ويلين قلبه ولسانه لها، ويتحرّك معها، وأراد أن يعدَّه ليكون في دربه الّذي هو درب الرّسالات الّذي يتحمّل فيه كلّ ضريبة الرّسالة، في الجهد الّذي يبذله، والتّحدّيات الّتي يواجهها، والمشاكل الّتي تفترس مجتمعه كلّه، ليكون الصّابر الصّامد الّذي ما أوذي نبيّ مثلما أوذي، ولكنّه كان القويّ بالله المنفتح عليه وعلى الإنسان من خلاله.

ربيب الرَّسول(ص)

وهكذا عاش عليّ(ع) هذا الجوَّ كلّه، فكان في بيت رسول الله(ص) الشَّخص الثّالث، لأنه كان يضمّ الرّسول وخديجة وعليّاً، وكان يقضي معه ليله ونهاره، وقد ولد في الكعبة وكان مع رسول الله وخديجة أوّل المصلّين فيها، فكان رسول الله(ص) يتقدَّمهما، وكان عليّ(ع) في جناحه الأيمن، وكانت خديجة الشّخص الثّالث وراءهما.

وعاش مع رسول الله(ص) في المرحلة الَّتي اضطهد المشركون الرّسول فيها، ويُقال إنّه كان يدافع عنه عندما كان مشركو قريش يثيرون الصّبيان ضدّه، وكان يسمع ويرى الوحي، ولكنّ النبيّ(ص) قال له: "إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبيّ"[4]. وامتدّ مع النبيّ(ص) علماً وخُلقاً وروحانيّة وحركيّة وتضحية، حتى بات على فراشه والخطر يتهدّده، ليغطّي هجرته من مكّة إلى المدينة بسلام، وعندما سأل الرّسول: "أوَتسلَم يا رسول الله؟ قال: بلى، قال: اذهب راشداً مهديّاً".

وانتقل مع الرّسول(ص) بعد أن أدّى أماناته، وانفتح ـ بعد ذلك ـ باب جديد لعليّ(ع)، إذ لم يكن قد تدرّب على الحرب، ولكنّه كان الفارس الأوَّل في (بدر) وفي (أحد) و(الأحزاب) و(حنين) و(خيبر)؛ كان الفارس المجلّي الّذي شهد له المسلمون كلّهم بأنّه هو الفتى الّذي يروى أنَّ جبريل(ع) قال عنه: "لا فتى إلا عليّ، ولا سيف إلا ذو الفقار"[5].

حركة عليّ(ع) العلميّة

وقد رأيناه يتحرّك بعد هجرته إلى المدينة وزواجه بسيِّدتنا فاطمة الزّهراء(ع)، حركة ناشطة، حيث كان بيته بيت رسول الله(ص) الّذي يرتاح إليه، إضافةً إلى بيوت زوجاته، وقد حدّثنا هو عن تجربته العلميّة مع رسول الله(ص) فقال: "علَّمني ـ رسول الله ـ ألف باب من العلم، فتح لي كلّ بابٍ ألف باب"[6]، ويروي المسلمون سنّة وشيعة أنّ الرّسول(ص) قال: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[7].

وكان إلى جانب ذلك، المنفتح على الإسلام كلّه، وعلى الواقع الإسلاميّ كلّه، حتى إنّه حين أُبعد عن حقّه في الخلافة والمشورة، رأى أنَّ مسؤوليَّته هي أن يساعد ويعاون ويعطي الرأي والنّصيحة والشّورى، لأنّ القضيّة هي قضيّة الإسلام كلّه.. وسرّ عليّ(ع) في ذلك كلّه ينطلق من عمق واحد، أنّه كان الإنسان الّذي أعطى نفسه كلَّها لله، ويروي المفسّرون أنَّ الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}[8]، نزلت في عليّ(ع).

وعاش(ع) مع الله ليله ونهاره، فكان يُقال ـ كما في بعض سيرته ـ إنَّه إذا سجد بين يدي الله، تحوّل كالخشبة اليابسة، حتى جاء شخص إلى الزّهراء(ع) فقال لها: "عظّم الله أجرك في عليّ، قالت: كيف وجدته؟ قال: وجدته ساجداً فحركته، فإذا لا حراك به، قالت: تلك غشية تغشاه عندما يسجد بين يدي الله".

ويقول كتّاب سيرته، إنَّه عندما اشتدّ الحرب في (صفين) ليلة الهرير، افتقدوه، فوجوده يصلّي بين الصفّين، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أهذا وقت الصَّلاة؟ قال: "علام نقاتلهم...؟ "[9]، فكأنّه أراد أن يقول إنَّ غاية هذا القتال هو عمق الصّلاة وإيحاءاتها وحركيّتها، وكلّ ما تعطيه من النّهي عن الفحشاء والمنكر، ومن معراج الإنسان بروحه إلى الله.

مع أدعية الإمام(ع)

وهذا يعني أنَّ علياً(ع) كان يعيش مع الله كما كان رسول الله(ص) يعيش مع الله، ونحاول في هذا اللّقاء اختيار بعض أدعية الإمام عليّ(ع)، مما ذكره (الشَّريف الرضي) في نهج البلاغة، وهي أدعية تتنوَّع في مواقعنا، ولكنّنا نعرف من خلالها أنَّ عليّاً كان يهرع إلى الله قبل أن يبدأ أيّ عمل، وكان يقدِّم حسابه إلى الله، وكان يفضي بكلِّ ما يعيشه من إخلاصٍ ومحبّةٍ لله، وكان يتحدَّث مع الله تعالى في بعض الحالات عن إحساسه برسول الله(ص) وشعوره به، وكان يطلب من الله أن يعطيه أعظم ما يعطي أيّ نبيّ، وكان يتحدّث مع الله في الحرب، وكان يقدّم تقريره إلى الله فيما كان يطلبه من الخلافة.

فلنقرأ بعض هذه الأدعية، فلعلَّنا نعيش مع عليّ(ع) هذا الفيض الروحيّ الَّذي كان يعيش فيه فيض الإيمان في عقله وقلبه وحياته، فنحن بحاجةٍ إلى ذلك في هذا الجوّ المادّي الّذي ليس فيه نبضة من روح وخفقة من محبّة؛ هذا الجوّ الذي تحجّرت قلوبنا من خلاله، وتصخَّرت مشاعرنا أمامه، فأصبحنا نعيش في عقلٍ من حجر، وقلبٍ من حجر، وإحساسٍ من حجر...

وإذا انفتحنا على بعضنا البعض، فإنّ مصالحنا وأطماعنا هي التي تنفتح، ولكن مَن منّا من يحبّ في الله ويبغض في الله؟! وكم منّا من يعتبر الحياة فرصته للقيام بالمسؤوليّة أمام الله؟! حتى صلاتنا تحجَّرت، حتى صومنا أصبح مجرَّد حالة تقليديّة نمارسها من دون أيّ تفاعل روحيّ مع معنى الصَّوم في تلك الإرادة المنفتحة على المسؤوليّة في الحياة، وأمّا الحجّ، فساحة نتحرّك فيها ولا نفهم ماذا نفعل، ولا نفهم ماذا نقول.

تعالوا إلى عليّ الرّوح، تعالوا إلى عليّ في عبوديّته لله الَّتي هي سرّ حركة الحريّة في حياته كلّها أمام الإنسان كلّه والحياة كلّها والطّموح كلّه، فلقد كان عليّ(ع) حرّاً أمام ذلك، لم يفرض عليه أيّ إنسان شيئاً لا يريده في نفسه، ولم تفرض عليه أية شهوة وأيّ مطمع خلاف قناعاته الإيمانيّة. تعالوا، فلعلّنا نأخذ شيئاً من روحانيته في دعائه لله سبحانه وتعالى.

في دعائه لنفسه(ع)

ونبدأ مع عليّ في حديثه مع ربّه: "اللّهمّ اغفر لي ما أنت أعلم به مني.. فإن عدْتُ فعُد عليّ بالمغفرة، اللَّهمَّ اغفر لي ما وأيت (عدت) من نفسي ولم تجد له وفاءً عندي"[10]. فعليّ(ع) لا يستغفر عن ذنب، ولكن عن تواضع وانحطاط لله سبحانه وتعالى، كما لو كان في حالة ذنب ـ وهو المبرأ من الذّنوب ـ وكأنّه يعلّمنا كيف نتحدّث مع الله، بأنّنا إذا أذنبنا نتوب ثم نذنب، ومع ذلك، فإنّ الله العارف بأنّنا الخطّاؤون، لأنَّ شهواتنا وظروفنا تضغط علينا، يريد منّا إذا أذنبنا أن نتوب، فإذا عدت تُب من جديد، لأنَّ الله يخاطب الذين أسرفوا على أنفسهم، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}[11].

ويقول: "اللّهمّ اغفر لي ما تقرَّبت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي"[12]، فقد أقدّم إليك يا ربّ بلساني الكثير من كلمات التّوبة والخير والعهد والوعد، ولكنَّ قلبي وهو يسمع في خفقاته لساني، كان ينبض بالتّخطيط لنقض العهد فيما أستقبل من عمري.

"اللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل"، فأيّ وصفٍ يا ربّ يقترب من وصفك؟ "والتعداد الكثير"، فأيّ تعدادٍ للكمالات والجمالات والعظمة يقترب من تعداد ما أنت فيه؟ "إن تؤمل" بانطلاق الآمال كلّها من عندك، "فخير مؤمَّل"، فمن هو المأمول الّذي هو خير منك؟! فأنت خير مأمولٍ ومرجوّ، لأنَّ رحمتك تفتح لنا أبواب الأمل فيما هو أوسع ما بين السَّماء والأرض، ولأنَّ ألوهيَّتك في كرمك وحنانك وعطفك وقربك لعبادك، تجعلنا ننفتح على أملٍ كبير.

"وإن تُرجَ فخير مرجوّ"، وأنت أهل الرّجاء يا ربّ، "اللّهمّ وقد بسطت لي" من الكلام، "فيما لا أمدح به غيرك"، لأنَّ بعض الكلمات لا تليق إلا بك، ولأنَّ كلّ مدح يشير إلى مدحك، لأنّنا عندما نمدح خلقك، فإننا نمدحهم فيما أعطيتهم من عندك، فما عندهم هو من عندك.. ولذلك، فإنّ أيّ كلمة تنفتح عليك في المدح، لا يمكن أن تكون لغيرك.

"ولا أثني به على أحدٍ سواك"، أوحّدك في المدح، وأوحّدك في الثناء، فلا بدَّ من أن لا نثني على أحد بما نثني به على الله، ولا نمدح أحداً بما نمدح به الله، {فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَداً}[13]، "ولا أوجّهه"، أي المدح، "إلى معادن الخيبة"، إلى من تخيب الآمال عندهم، "ومواضع الرّيبة"، أي من تحيط الرّيب والشّكوك في كلّ ما هم فيه، "وعدلت بلساني عن مدائح الآدميّين والثّناء على المربوبين المخلوقين"، فإذا كنت معك يا ربّ، فمَن يمكن أن يكون معي غيرك، وإذا كنت أمدح من كان قريباً إليك، فإني أمدحك من خلاله، لأنه لا أحد إلا وأنت الخالق والربّ له، وأنت الّذي أعطيته كلّ شيء.

"اللّهمّ ولكلّ مثنٍ على من أثنى عليه مثوبة من جزاء"، فالمادح له مثوبة، "أو عارفة من عطاء"، وعندما أمدحك بما أنت أهله، وأثني عليك فيما فيك من مجالات العظمة، "وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرّحمة وكنوز المغفرة"، فأعطني من ذخائر رحمتك وكنوز مغفرتك، فهذه هي جائزتي عندك.

"اللَّهمّ وهذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذي هو لك"، فأنت الواحد، والوحدانيّة صفتك، ولا وحدانيّة لغيرك، وأنا أقف من أجل أن يكون عقلي وقلبي وشعوري وإحساسي وكياني كلّه صرخة توحيد تنفتح على وحدانيّتك، "ولم يرَ مستحقّاً لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك"، أنا الفقير المحتاج، "لا يجبر مسكنتها"، المسكنة الّتي تتمثَّل في الفاقة، "إلا فضلك، ولا ينعش من خلتها إلا منّك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك"، ورضاك هو كلّ شيء، وكلّ السّعادة، وكلّ العظمة، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ}[14] من الجنَّة ومن نعيمها، وذلك معنى لا يفهمه إلا الصدّيقون الّذين يعيشون مع الله في أعماق الصّدق كلِّها.

"وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك، إنّك على كلّ شيء قدير"[15]، اجعل أيدينا ممدودةً إليك وحدك. وقد عبّر عن ذلك حفيده الإمام زين العابدين(ع): "وقلت سبحان ربّي كيف يسأل محتاج محتاجاً؟ وأنَّى يرغب معدم إلى معدم، فقصدتك يا إلهي بالرَّغبة، وأوفدت عليك رجائي بالثّقة بك..."[16].

في حمده لربِّه

ثم ينطلق الإمام(ع) في هذا الجوِّ الروحيّ في حمد الله، فكيف يحمد عليّ(ع) ربّه: "اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطي"، فإنَّ عطاءك هو عطاء الكريم الَّذي يفيض كرمه على عباده، وإنّ أخذك هو أخذ الحكيم الَّذي لا يأخذ إلا عن حكمة، وحكمته لا تبتعد عن رحمته، وإن لم يدرك النَّاس معنى الرّحمة فيما يأخذه الله منهم، "وعلى ما تعافي وتبتلي"، فمنك العافية، ومنك البلاء، ونحن نحمدك على البلاء كما نحمدك على العافية، "حمداً يكون أرضى الحمد لك"، يمتدّ ويمتدّ ليكون مبلغ رضاك، "وأحبّ الحمد إليك، وأفضل الحمد عندك، حمداً يملأ ما خلقت، ويبلغ ما أردت، حمداً لا يحجب عنك، ولا يقصر دونك". فكأنّه يقول: يا ربّ، أنا لا أملك الكلمات الدَّقيقة التي يمكن أن تجمع كلّ ما تستحقّه من حمد...

ولذلك يا ربّ، وأنا أتحدَّث عن حمدٍ هو أرضى من ذلك، وعن حمدٍ يبلغ ما عندك، وأنت تعرف يا ربّ آفاق ذلك الحمد الَّذي لا أعرفه إلا بالكلمات المطلقة: "حمداً لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده"، يمتدّ في الوقت كلّه، فأنا أحمدك في الصّباح وفي المساء، وفي شغلي وفراغي وكلّ مجالاتي، لأنَّ كلَّ لحظة أتنفَّس فيها، هي مظهر حمدك وكلّ عمل أتحرّك فيه، فهو عطيَّة حمدك، فهل يمكن أن أعيش في أيّة لحظةٍ لا يملؤها حمدك؟!

"فلسنا نعرف كُنه عظمتك"، فنحن نعرف بعض أسرار عظمتك فيما أبرزته وعرّفتنا إيّاه، "إلا أنّا نعلم أنّك حيٌّ قيّوم"، قائم على الكون كلّه والوجود كلّه، "لا تأخذك سنةٌ ولا نوم، لم ينتهِ إليك نظر، ولم يدركك بصر"، وهذا قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}[17]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[18]. ثم يخاطب الله تعالى بقوله: "أدركت الأبصار، وأحصيت الآمال، وأخذت بالنّواصي والأقدام"، كناية عن سيطرة الله على الإنسان في كلّ شيء.

"وما الّذي نرى من خلقك"، من أسرار عظمتك، "ونعجب له من قدرتك، ونصفه من عظيم سلطانك، وما تغيّب عنّا منه"، مما لم نره ولم ندرك شرّه، "وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه، أعظم ممن فرغ قلبه، وأعمل فكره، أي أفرغ قلبه لك، وأعمل فكره ليبلغ بعض معرفتك، "ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علقت في الهواء سماواتك"، تلك الّتي لا ترتكز على أيّ شيء في الأرض، "وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيراً"، إشارةً إلى قوله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}[19]، "وعقله مبهوراً، وسمعه والهاً، وفكره حائراً[20]".

بيان صفات الله والنّبيّ

هذه هي قصّة الإمام عليّ(ع) مع حمد الله تعالى، أمّا عندما نقترب منه وهو يريد أن يتحدَّث عن رسول الله(ص) بين يدي الله، فيقول في خطبةٍ له(ع) علَّم فيها النّاس الصَّلاة على النبيّ(ص)، وفيها بيان صفات الله سبحانه وصفة النبيّ(ص) والدّعاء له: "اللّهمّ داحي المدحوات"، مما دحاه الله من الأرض، "وداعم المسموكات"، الّتي لها سمك وحجم، "وجابل القلوب على فطرتها"، على ما فطرت عليه من الفطرة الّتي أنشأت الناس عليها، "شقيّها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمّد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق"، فقد فتح كلّ مغالق الأزمان ومغالق الأوضاع، "والمعلن الحقّ بالحقّ"، الَّذي أعلن الحقّ بكلمات الحقّ...

"والدّافع جيشات الأباطيل، والدَّامغ صولات الأضاليل، كما حمل فاضطلع"، أي حمل الرّسالة فاضطلع بها، "قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك"، أي مستعجلاً مسارعاً فيها، "غير ناكلٍ عن قُدْمٍ، ولا واهٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس"، أي حتى أشعل المواقع والمعالم التي تضيء للناس الطريق، "وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن"، وقد فتحت من خلال دعوته ورسالته قلوب الناس، "وأقام موضحات الأعلام، ونيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدّين، وبعيثك بالحقّ، ورسولك إلى الخلق".

وبعد أن يصف النّبيّ(ص) في حركته الرساليَّة، وهو هنا لم يتحدّث عن صفات النّبيّ الشّخصيّة، باعتبار أنه اتّبع أسلوب القرآن الّذي يتحدَّث عن النبيّ(ص) في خطّه كرسول لا كشخص، وإن كان شخصه في أعلى درجات السموّ والعلوّ والرفعة، وهذا هو منهج قرآني، يقول إنّ علينا أن نعطي اهتمامنا كلّه في الحديث عن الأنبياء والأولياء لصفاتهم الرسالية، لأن ذلك هو الذي تتحرك فيه القدوة وتنطلق منه العبرة، فبعد أن يصفه يدعو له فيقول: "اللّهمّ افسح له مفسحاً في ظلّك"، يوم لا ظلّ إلا ظلّك، "وأجزه مضاعفات الخير من فضلك، اللَّهمّ أعلِ على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك منزلته، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشّهادة"، أن تكون شهادته عن أمّته مقبولة، "ومرضيّ المقالة، ذا منطق عدل وخطّة فصل".

ثم يتحدَّث عن شوقه إليه فيقول: "اللّهمّ اجمع بيننا وبينه في برد العيش، وقرار النّعمة، ومنى الشّهوات، وأهواء اللذّات، ورخاء الدّعة، ومنتهى الطمأنينة، وتحف الكرامة"[21].

دعاؤه في الحرب

ثم ننظر لنرى كيف يتحدَّث الإمام عليّ(ع) مع ربّه في الحرب، فهل تشغله عن ربّه؟ وهل تتحرك ذهنيّة الحرب في نفسه، لتكون قسوةً وتدميراً، أم أنّه يتحرّك بعيداً عن ذلك؟

فمن كلامٍ له عند عزمه على المسير إلى الشَّام، وهو دعاء دعا به ربّه عند وضع رجله في الرّكاب: "اللَّهمَّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السَّفر"، فنحن نسافر سفراً طويلاً فيه الكثير من التّعب ومن الجهد، "وكآبة المنقلب"، نعوذ بك أن ننقلب ونحن على كآبة من خلال ما يتَّصل بموقعنا أمامك، "وسوء المنظر في الأهل والمال"، نعوذ بك أن نعود ويكون الواقع الّذي نعيشه واقعاً لا ينفتح على منظرٍ طيِّبٍ مشرقٍ فيما نملك من حالٍ، وما نشرف عليه من أهل وولد، اجعلنا يا ربّ نرى الصّورة المشرقة المنفتحة على محبَّتك ورضاك، وعلى عافيتك ودعتك وطمأنينتك.

"اللّهمّ أنت الصَّاحب في السّفر، وأنت الخليفة في الأهل"، فنحن في سفر، ونريدك أن تكون الصَّاحب في سفرنا هذا، ترعانا وتؤنسنا وتفتح لنا أبواب الخير، "وأنت الخليفة في الأهل"، فسنفارق أهلنا، ونبتعد عن إشرافنا عليهم، ونريدك أن تكون أنت الخليفة فيهم، "ولا يجمعهما غيرك"، فهاتان الصّفتان لا يجتمعان عند غيرك، بأن يكون المرء خليفةً في الأهل وصاحباً في السّفر في آنٍ معاً، "لأنَّ المستخلف لا يكون مستصحباً"، فهو لا بدَّ من أن يكون مع الأهل، "والمستصحب لا يكون مستخلفاً"[22]، لأنّه يكون معنا في السّفر.

ولما عزم على لقاء القوم في صفّين، قال: "اللّهمّ ربّ السّقف المرفوع"، كناية عن السماء، "والجوّ المكفوف"، أي المجموع بعضه إلى بعض، "الّذي جعلته مغيضاً للّيل والنّهار، ومجرىً للشّمس والقمر، ومختلفاً للنّجوم السيّارة"، الجوّ الذي يحتوي الكواكب الذي ينطلق فيه اللّيل والنّهار من خلال شروق الشّمس وغروبها، "وجعلت سكّانه سبطاً من ملائكتك"، يسكنون في السّماوات، أمّا كيف وأين، فلا نعرف ذلك.. "لا يسأمون من عبادتك، وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام"، ومهّدتها تمهيداً، "ومدرجاً للهوامّ"، أي الحشرات، "والأنعام، وما لا يحصى مما يرى وما لا يرى، ورب هذه الجبال الرّواسي الّتي جعلتها للأرض أوتاداً"، أي تقوي الأرض وتصلبها، "وللخلق اعتماداً"، أي ملجأ يلجأون إليه.

الدّعاء في النَّصر والانكسار

وهنا يبدأ(ع) في الانفتاح على الله تعالى، وفي دعوته في كِلا الحالين: الانتصار أو الانكسار، أن يكون متوازناً في خطِّ الله، "إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغي"، أبعدنا عن أن نبغي على أعدائنا، بالتصرّف بما لا حقَّ لنا فيه، "وسدِّدنا للحقّ"، اجعلنا نمارس مع أعدائنا خطَّ الحقّ الَّذي فرضته في الحرب عندما ينتصر النَّاس على أعدائهم، حتى لا نظلم أعداءنا، ولا نتحرّك بالباطل بما لا نستحقّه ولا يرضيك، "وإن أظهرتهم علينا"، فانتصروا علينا، "فارزقنا الشَّهادة، واعصمنا من الفتنة"[23]، لا تجعلنا نفتتن فنتراجع عن مواقفنا ومواقعنا من خلال هذه الهزيمة الّتي نمنى بها.

وهكذا كان في الحرب يعمل على أن يملأ قلوب جنوده وعقولهم، ويحفظ ألسنتهم من أن يسيئوا بالكلام بالسّباب والشَّتم، ويعلّمهم إذا انفتحوا على المسلمين الآخرين الّذين ابتلوا بالصّراع معهم، أن ينفتحوا بالمحبّة. إنّه يقول لك: حارب بمحبة، ولا تكن روحك روح التدمير في حربك، بل روح السلام، بحيث إنك تتحرك في الحرب من موقع ضرورة، وقلبك يهتف بالله الذي يقول لك ألقِ السّلام..

فعندما سمع(ع) قوماً من أهل العراق، وهم جنده، يسبّون أهل الشّام، قال لهم: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين"، فأنا لا أحبّ لجنودي أن يكونوا سبّابين لعّانين، لا شغل لهم إلا الكلمات التي تأتي بالمزيد من الحقد، ولا تحقِّق أيّ مكاسب إيجابيّة فيما تتحرّك به الحياة.

"إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم"، ليكن لكم منطق السؤال: لماذا نحاربهم، لأنهم خرجوا عن طاعة الإمام ـ الخليفة، ولأنهم عاثوا في الأرض فساداً، "ولكن لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم"، بكلّ أمانة، "كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر"، فإنّكم تقدّمون العذر من ذلك أمام النّاس الذين يسألونكم لماذا تحاربون، وهذا هو محلّ الشّاهد.. "وقلتم مكان سبِّكم إيّاهم: ربّنا احقن دماءنا ودماءهم"، فسندخل حركة تسيل فيها الدّماء منا ومنهم، ونحن مسلمون وهم مسلمون، وإن ضلّوا عن السبيل، لكن يا ربّ هيّئ لنا الجوّ الذي يمكن أن نصل به إلى أن تُحقن دماؤنا ودماؤهم، "وأصلح ذات بيننا وبينهم"، فلقد فسدت العلاقات بيننا وبينهم، ولا تفسد هذه العلاقات نتيجة حالة شخصيّة، وإنما هي قضية الخطّ الإسلامي الأصيل الذي عبثوا به وانفصلوا عنه، "أصلح ذات بيننا وبينهم"، بإصلاحهم، "واهدهم من ضلالتهم". ولاحظ الروحيّة التي كان الإمام(ع) يعلّم بها أصحابه بأن يدعوا للنّاس الضالّين الّذين يقفون في أقسى ساحات الصّراع الموجّه إلى عليّ(ع) بالذات، أن يهديهم الله من ضلالتهم، "حتى يعرف الحقّ من جهله"، لأنّ القضيّة هي في التفكير كيف تصلون إلى الحقّ، "ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"[24].

أيّها الأحبّة، أين ما عندنا من روح وأين هي روح عليّ؟ فإنّ ما عندنا هي الرّوح التي تحقد وتدمّر وتفكّر في أن تصادر الآخر، ولا تفكّر في أن تصل إلى حالة حقن دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم وهدايتهم من ضلالتهم، ولكنّ عليّاً(ع) يسمو ويسمو ويسمو، ونحن نهبط ونهبط حتى الوحل.

الاستنهاض للجهاد

وهكذا كان يستنهض أصحابه إلى جهاد أهل الشّام في زمانه: "اللّهمّ أيّما عبد من عبادك"، إنه يجلس بين يدي ربه، "سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة"، أي أنهم(ع) لا يتحدثون عن جور بل عن عدل، ويريدون أن يسمع الناس هذا العدل (والمصلحة غير المفسدة)، "فأبى بعد سمعه لها إلا النّكوص عن نصرتك"، إلا الابتعاد عن السّير في الخطّ الذي ينتصر به للحقّ الّذي أنزلته، "والإبطاء عن إعزاز دينك"، هؤلاء المتخاذلون الّذين يعيشون الحياة استرخاءً وضعفاً وانهزاماً وسقوطاً، "فإنّا نستشهدك عليه بأكبر الشّاهدين شهادة"، فأنت من أكبر الشّاهدين شهادة، وأيّ شهيد أكبر من الله سبحانه وتعالى!؟ "ونستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك وسماواتك، ثم أنت بعدُ المغني عن نصره والآخذُ له بذنبه"[25].

وهذا من أكثر الأساليب تأثيراً، فكأنَّه(ع) يشهد الله على أنَّ مقالته هي مقالة العدل، وأنَّ كلماته هي كلمات الإصلاح، ويقول يا ربّ اشهد عليهم أنهم سمعوها وأنهم لم يتفاعلوا بها، ولذلك فأنت الحكم بيننا وبينهم، وأغننا عن نصرتهم"، لتنصرنا بالّذين ينطلقون في خطّ الحقّ كله.

من دعائه في لقاء العدوّ

ومن دعاءٍ له إذا لقي العدوّ محارباً: "اللّهمّ إليك أفضت القلوب"، فالقلوب انفتحت عليك ووصلت إليك، "ومدّت الأعناق ـ وهي مبتهلة بين يديك ـ وشخصت الأبصار، ونقلت الأقدام"، فتحركت في طريقك في صراطك المستقيم، "وأنضيت الأبدان"، أي تعبت، "اللّهمّ قد صرّح مكنون الشنآن"، الناس الأعداء الذين اعتدوا علينا، والذين يقاتلوننا من غير حقّ عن حقد وعن عداوة، "وجاشت مراجل الأضغان"، والمراجل هي القدور، فكأنما تطبخ بها الأحقاد والأضغان.

"اللّهمّ إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا"، وقد انطلق الناس بعد غيابه كلٌّ في طريقه، فكان هو الّذي يجمعنا، وكانت كلماته هي التي يستمع إليها الكثيرون فتكون الحجَّة عليهم، وقد بقيت الحجَّة عليهم بعد ذلك، ولكنّهم أهملوها ولم يتّبعوها.. ولاحظوا كم ترسم هذه الكلمة من عمق الحزن في قلب عليّ، "وكثرة عدوّنا، وتشتّت أهوائنا"، فكلّ شخص له هوى، وكل جماعة لها هوى ومطمع، "ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين"[26]، إنه يطلب من الله أن يفتح بينه وبينهم بالحقّ، لأنّ عليّاً كان مع الحقّ، ولا يريد إلا الحقّ، ولا يقاتل إلا على أساس الحقّ، ولا يتحرّك في أيّ طريق إلا والحقّ معه، وهو مع الحقّ في ذلك كلّه.

المطالبة بالحكم

أمّا حينما يدعو الإمام مطالباً بالحكم، فلماذا يطلبه؟ هل لشهوة؟ هل لمطمع؟ هل لجاه؟ هل لنقطة ضعف؟ إنه يقدِّم تقريره إلى الله، والله أعلم بما في قلبه، ولكنّه يريد للناس أن يسمعوا ذلك منه، "اللّهمّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا"، من طلب الخلافة أو الإمامة أو الحكم، "منافسةً في سلطان"، ليكون السّلطان لنا من أجل تلبية شهواتنا ومطامحنا، وليزول الحكم عن سلطان آخر، "ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام"، حتى نحصل على شيء من الدّنيا، وقد خاطب عليّ(ع) الدّنيا، فقال لها: "طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها"[27].

"ولكن لنرد المعالم من دينك"، أي الخطوط الواضحة البيّنة التي يمثّلها الإسلام في كلّ ما يريد للنّاس أن يسيروا عليه وأن يستضيئوا به، "ونظهر الإصلاح في بلادك"، لأنَّ الفساد قد عمَّ الناس كلّهم، ومسؤوليّتنا هي أن نظهر الإصلاح، "فيأمن المظلومون من عبادك"، لأنَّ هناك ظلماً، ونريد للإصلاح أن يتحرّك في خطّ العدل، ليأخذ كلّ إنسانٍ حقّه، فلا يُظلَم أحد، ويعيش المظلومون في أمن، وإنّ هناك من يأخذ بحقوقهم ويرفع عنهم ظلامتهم، "وتقام المعطَّلة من حدودك"، ويطبق القانون على الجميع، "اللّهمَّ إنّي أوَّل من أناب"، أوّل من رجع إليك وآمن برسولك، "وسمع" دعوة الرّسول، "وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله(ص) بالصّلاة"[28]، فقد كنت أوّل من صلى إليك في تلك المرحلة بعد رسولك.

شكوى عليّ(ع) لله

ثم يشكو إلى الله ما يلقي من قريش، فقد أثقلته في حياة النبي(ص) بحروبها، وقد أثقلته بعد رسول الله(ص) بجحودها: "اللّهمَّ إنّي أستعديك على قريش، فإنّهم قطعوا رحمي"، وهم عشيرتي، فعليهم أن يصلوا الرّحم ولكنّهم قطعوه، "وصغّروا عظيم منزلتي"، لم يدركوا ما أتميّز به من عظيم المنزلة مما أسبغته علي ـ يا رب ـ ومما أعطانيه رسولك بأمرك، "وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنت أولى به من غيري"، فأنت قد أمرت رسولك كما قلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[29].

وعندما بلغ رسولك رسالته في الولاية، أنزلت عليه قولك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[30]، إن كمال الإسلام بالولاية، "وقالوا: ألا إنَّ في الحقِّ أن تأخذه"، يمكن تأخذه أنت، "وفي الحقِّ أن تمنعه، فاصبر مغموماً أو مُتْ متأسّفاً"، لن نعطيك هذا الحقّ، "فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنيّة، وأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشّجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم، وآلم للقلب من وخز الشّفار"[31]، ولم يكن ذلك، لأنَّ عليّاً يتألم لشخصه ولموقعه، ولكنَّه كان يملك خطّةً تفتح الإسلام على حركة الوعي كلّها، وتملأ الواقع الإسلاميَّ علماً وروحانيّةً واستقامةً وأمانةً وفتحاً في الخطّ الإسلاميّ الأصيل.

لذلك، لم تكن قصّة عليّ قصّة كرسي يفقده، ولكنّها قضيّة رسالة كان يريد أن يفتحها على النّاس، ليكمل الخطّ الرّساليّ الّذي بدأه رسول الله(ص)، ولكنّ الحواجز وقفت لتحول بينه وبين ذلك، وبقي عليّ(ع) مخلصاً لله ولرسوله ولرسالة الإسلام.. ولذلك أغمد سيفه وانفتح على الّذين أبعدوه وتقدَّموا عليه، فأعطاهم الرأي والمشورة والنّصيحة، وقال كلمته الخالدة: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّة"[32]، وقال لابن عبّاس وقد رآه يخصف نعله: "لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"[33]، وقال في آخر الخطبة الشقشقيّة: "لولا حضور الحاضر"، وهو خليفة على المسلمين آنذاك، "وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"[34].

مسؤوليَّة الانتماء إلى عليّ(ع)

ويبقى عليّ(ع) يسمو ويسمو ويسمو، لأنَّه عاش مع الله ولله، وكانت حياته قد انطلقت في صرخته الأولى في الكعبة، وكأنها تهليلة وتكبيرة لله، وصلّى في الكعبة مع رسول الله، وكان أوّل من صلّى بعده وحطّم الأصنام على الكعبة وفاءً لله، وهو يرقى على كتف رسول الله(ص)، وكانت حياته كعبةً كلّها ومسجداً كلّها وإخلاصاً لله كلّها، حتى إذا كانت التكبيرة الأخيرة في مسجد الكوفة في صلاة الجماعة، استشهد وهو يقول (الله أكبر)، وهنا أطلق عليّ صرخة الفرح الرّوحيّ، لأنّه فاز بالشّهادة، ولأنّه قتل بين يدي الله وفي محراب الله، قال: "بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربِّ الكعبة"[35].

أيّها الأحبّة، هذا هو عليّ(ع)، ومسؤوليّتنا أن ننتمي إليه، لا أن نهتف باسمه فقط، وهو الّذي يقول: "ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّةٍ وسداد"[36]، فأين الورعون في خطّ عليّ؟ وأين المجتهدون في طاعة الله في خطّ عليّ؟ وأين الأعفاء؟ أين الذين يتحركون في خط السداد؟ إنّ عليّاً ينتظرنا هنا، ونحن في امتحان أن نسير على خطّه، فهل ننجح في الامتحان؟!

وأختم كلمتي بما قاله الشّاعر المسيحي (بولس سلامة):

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي     واخشعـــــــــي إنّنـــي ذكرتُ عليّــــا

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 18 رجب 1419هـ/ الموافق: 7-11-1998م.


[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ(ع)، ج 2، ص 157.

[2]  [الأحزاب: 40].

[3]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 27.

[4]  نهج البلاغة، ج 2، ص 158.

[5]  بحار الأنوار، ج 20، ص 73.

[6]  المصدر نفسه، ج 40، ص 144.

[7]  المصدر نفسه، ج 10، ص 121.

[8]  [البقرة: 207].

[9]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 4، ص 247.

[10]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 127.

[11]  [الزمر: 53].

[12]  نهج البلاغة، ج 1، ص 128.

[13]  [الجن: 18].

[14]  [التوبة: 72].

[15]  نهج البلاغة، ج 1، ص 180، 181.

[16]  الصحيفة السجاديّة، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في طلب الحوائج إلى الله.

[17]  [الأنعام : 103].

[18]  [الشّورى: 11].

[19]  [الملك: 3، 4].

[20]  نهج البلاغة، ج 2، ص 55، 56.

[21]  نهج البلاغة، ج 1، ص 120 ـ 122.

[22]  المصدر نفسه، ج 1، ص 97.

[23]  المصدر نفسه، ج 2، ص 83، 84.

[24]  المصدر نفسه، ج 2، ص 185، 186.

[25]  المصدر نفسه، ج 2، ص 193.

[26]  المصدر نفسه، ج 3، ص 15.

[27]  المصدر نفسه، ج 4، ص 17.

[28]  المصدر نفسه، ج 2، ص 13، 14.

[29]  [المائدة: 67].

[30]  [المائدة: 3].

[31]  شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج 3، ص 330.

[32]  المصدر نفسه، ج 1، ص 125.

[33]  المصدر نفسه، ج 1، ص 81.

[34]  المصدر نفسه، ج 1،  ص 37.

[35]  شجرة طوبى، الشّيخ محمد مهدي الحائري، ج 1، ص 64.

[36]   نهج البلاغة، ج 3، ص 71.

عشنا قبل أيّام ذكرى مولد أمير المؤمنين(ع). وعندما نلتقي بعليّ(ع)، فإنّنا نلتقي بالإسلام كلّه، لأنَّ الإسلام تجسّد في عليّ فكراً وعلماً، لأنّه عاش الإسلام من خلال رسول الله(ص) في كلّ مفرداته، ولا نجد هناك صحابيّاً عاش مع رسول الله(ص) منذ طفولته الأولى وهو في السنة الثّانية من عمره، يضمّه إليه، ويكنفه في فراشه، ويمضغ اللّقمة ويلقمه إيّاها، ويلقي إليه في كلّ يوم خلقاً من أخلاقه، وكان يتبعه اتّباع الفصيل إثر أمّه، فانطبعت كلّ شخصيّته الروحيّة بشخصيّة رسول الله(ص)، في ذلك الجوّ الرّوحاني الّذي كان يعيشه الرّسول مع ربّه تأمّلاً وابتهالاً وعبادةً في وحدته التي ليس معه فيها أحد إلا هذا الطفل الطاهر المنفتح على الله من خلال رسول الله(ص).

الإعداد الروحيّ للرّسالة

وكان رسول الله(ص) يعلّمه ويربّيه ويحدّثه، وكان عليّ(ع) يقول عن رسول الله(ص) في تلك الفترة: "ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره"[1]. وكان عليّ(ع) يعيش ذلك، وعندما بعث الله نبيّه بالرّسالة، كان عليّ(ع) يختزن روحيّة الإسلام التي اختزنها رسول الله(ص) قبل أن يبعث بالرسالة، لأنَّ الله سبحانه كان يعدّ رسول الله(ص) قبل أن يُبعث للرّسالة التي تمتدّ للحياة كلها، وهي رسالة تختلف عن الرسالات كلّها، لأنه ما من رسول إلا ولرسالته حدّ معين من الزمن من بعده، ليأتي رسول آخر فيبدأ رسالة جديدة، ولكنَّ الله أعدّ لرسوله رسالةً تمتدّ مع الحياة من بعده إلى قيام السَّاعة، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[2]، وهو القائل: "لا نبيَّ بعدي"[3].

ولذلك، كان الله تعالى يعدّ رسوله المستقبليّ إعداداً في روحه، لتكون روحه كلّها روحاً رسوليّة، وفي عقله ليحمل عقله عمق الرّسالة وامتدادها، وفي قلبه ليكون له قلب الرّسول الّذي يحرص على أمّته، ويشقّ عليه ما يشقّ عليها، ويرأف بها ويرحمها، ويلين قلبه ولسانه لها، ويتحرّك معها، وأراد أن يعدَّه ليكون في دربه الّذي هو درب الرّسالات الّذي يتحمّل فيه كلّ ضريبة الرّسالة، في الجهد الّذي يبذله، والتّحدّيات الّتي يواجهها، والمشاكل الّتي تفترس مجتمعه كلّه، ليكون الصّابر الصّامد الّذي ما أوذي نبيّ مثلما أوذي، ولكنّه كان القويّ بالله المنفتح عليه وعلى الإنسان من خلاله.

ربيب الرَّسول(ص)

وهكذا عاش عليّ(ع) هذا الجوَّ كلّه، فكان في بيت رسول الله(ص) الشَّخص الثّالث، لأنه كان يضمّ الرّسول وخديجة وعليّاً، وكان يقضي معه ليله ونهاره، وقد ولد في الكعبة وكان مع رسول الله وخديجة أوّل المصلّين فيها، فكان رسول الله(ص) يتقدَّمهما، وكان عليّ(ع) في جناحه الأيمن، وكانت خديجة الشّخص الثّالث وراءهما.

وعاش مع رسول الله(ص) في المرحلة الَّتي اضطهد المشركون الرّسول فيها، ويُقال إنّه كان يدافع عنه عندما كان مشركو قريش يثيرون الصّبيان ضدّه، وكان يسمع ويرى الوحي، ولكنّ النبيّ(ص) قال له: "إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبيّ"[4]. وامتدّ مع النبيّ(ص) علماً وخُلقاً وروحانيّة وحركيّة وتضحية، حتى بات على فراشه والخطر يتهدّده، ليغطّي هجرته من مكّة إلى المدينة بسلام، وعندما سأل الرّسول: "أوَتسلَم يا رسول الله؟ قال: بلى، قال: اذهب راشداً مهديّاً".

وانتقل مع الرّسول(ص) بعد أن أدّى أماناته، وانفتح ـ بعد ذلك ـ باب جديد لعليّ(ع)، إذ لم يكن قد تدرّب على الحرب، ولكنّه كان الفارس الأوَّل في (بدر) وفي (أحد) و(الأحزاب) و(حنين) و(خيبر)؛ كان الفارس المجلّي الّذي شهد له المسلمون كلّهم بأنّه هو الفتى الّذي يروى أنَّ جبريل(ع) قال عنه: "لا فتى إلا عليّ، ولا سيف إلا ذو الفقار"[5].

حركة عليّ(ع) العلميّة

وقد رأيناه يتحرّك بعد هجرته إلى المدينة وزواجه بسيِّدتنا فاطمة الزّهراء(ع)، حركة ناشطة، حيث كان بيته بيت رسول الله(ص) الّذي يرتاح إليه، إضافةً إلى بيوت زوجاته، وقد حدّثنا هو عن تجربته العلميّة مع رسول الله(ص) فقال: "علَّمني ـ رسول الله ـ ألف باب من العلم، فتح لي كلّ بابٍ ألف باب"[6]، ويروي المسلمون سنّة وشيعة أنّ الرّسول(ص) قال: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[7].

وكان إلى جانب ذلك، المنفتح على الإسلام كلّه، وعلى الواقع الإسلاميّ كلّه، حتى إنّه حين أُبعد عن حقّه في الخلافة والمشورة، رأى أنَّ مسؤوليَّته هي أن يساعد ويعاون ويعطي الرأي والنّصيحة والشّورى، لأنّ القضيّة هي قضيّة الإسلام كلّه.. وسرّ عليّ(ع) في ذلك كلّه ينطلق من عمق واحد، أنّه كان الإنسان الّذي أعطى نفسه كلَّها لله، ويروي المفسّرون أنَّ الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}[8]، نزلت في عليّ(ع).

وعاش(ع) مع الله ليله ونهاره، فكان يُقال ـ كما في بعض سيرته ـ إنَّه إذا سجد بين يدي الله، تحوّل كالخشبة اليابسة، حتى جاء شخص إلى الزّهراء(ع) فقال لها: "عظّم الله أجرك في عليّ، قالت: كيف وجدته؟ قال: وجدته ساجداً فحركته، فإذا لا حراك به، قالت: تلك غشية تغشاه عندما يسجد بين يدي الله".

ويقول كتّاب سيرته، إنَّه عندما اشتدّ الحرب في (صفين) ليلة الهرير، افتقدوه، فوجوده يصلّي بين الصفّين، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أهذا وقت الصَّلاة؟ قال: "علام نقاتلهم...؟ "[9]، فكأنّه أراد أن يقول إنَّ غاية هذا القتال هو عمق الصّلاة وإيحاءاتها وحركيّتها، وكلّ ما تعطيه من النّهي عن الفحشاء والمنكر، ومن معراج الإنسان بروحه إلى الله.

مع أدعية الإمام(ع)

وهذا يعني أنَّ علياً(ع) كان يعيش مع الله كما كان رسول الله(ص) يعيش مع الله، ونحاول في هذا اللّقاء اختيار بعض أدعية الإمام عليّ(ع)، مما ذكره (الشَّريف الرضي) في نهج البلاغة، وهي أدعية تتنوَّع في مواقعنا، ولكنّنا نعرف من خلالها أنَّ عليّاً كان يهرع إلى الله قبل أن يبدأ أيّ عمل، وكان يقدِّم حسابه إلى الله، وكان يفضي بكلِّ ما يعيشه من إخلاصٍ ومحبّةٍ لله، وكان يتحدَّث مع الله تعالى في بعض الحالات عن إحساسه برسول الله(ص) وشعوره به، وكان يطلب من الله أن يعطيه أعظم ما يعطي أيّ نبيّ، وكان يتحدّث مع الله في الحرب، وكان يقدّم تقريره إلى الله فيما كان يطلبه من الخلافة.

فلنقرأ بعض هذه الأدعية، فلعلَّنا نعيش مع عليّ(ع) هذا الفيض الروحيّ الَّذي كان يعيش فيه فيض الإيمان في عقله وقلبه وحياته، فنحن بحاجةٍ إلى ذلك في هذا الجوّ المادّي الّذي ليس فيه نبضة من روح وخفقة من محبّة؛ هذا الجوّ الذي تحجّرت قلوبنا من خلاله، وتصخَّرت مشاعرنا أمامه، فأصبحنا نعيش في عقلٍ من حجر، وقلبٍ من حجر، وإحساسٍ من حجر...

وإذا انفتحنا على بعضنا البعض، فإنّ مصالحنا وأطماعنا هي التي تنفتح، ولكن مَن منّا من يحبّ في الله ويبغض في الله؟! وكم منّا من يعتبر الحياة فرصته للقيام بالمسؤوليّة أمام الله؟! حتى صلاتنا تحجَّرت، حتى صومنا أصبح مجرَّد حالة تقليديّة نمارسها من دون أيّ تفاعل روحيّ مع معنى الصَّوم في تلك الإرادة المنفتحة على المسؤوليّة في الحياة، وأمّا الحجّ، فساحة نتحرّك فيها ولا نفهم ماذا نفعل، ولا نفهم ماذا نقول.

تعالوا إلى عليّ الرّوح، تعالوا إلى عليّ في عبوديّته لله الَّتي هي سرّ حركة الحريّة في حياته كلّها أمام الإنسان كلّه والحياة كلّها والطّموح كلّه، فلقد كان عليّ(ع) حرّاً أمام ذلك، لم يفرض عليه أيّ إنسان شيئاً لا يريده في نفسه، ولم تفرض عليه أية شهوة وأيّ مطمع خلاف قناعاته الإيمانيّة. تعالوا، فلعلّنا نأخذ شيئاً من روحانيته في دعائه لله سبحانه وتعالى.

في دعائه لنفسه(ع)

ونبدأ مع عليّ في حديثه مع ربّه: "اللّهمّ اغفر لي ما أنت أعلم به مني.. فإن عدْتُ فعُد عليّ بالمغفرة، اللَّهمَّ اغفر لي ما وأيت (عدت) من نفسي ولم تجد له وفاءً عندي"[10]. فعليّ(ع) لا يستغفر عن ذنب، ولكن عن تواضع وانحطاط لله سبحانه وتعالى، كما لو كان في حالة ذنب ـ وهو المبرأ من الذّنوب ـ وكأنّه يعلّمنا كيف نتحدّث مع الله، بأنّنا إذا أذنبنا نتوب ثم نذنب، ومع ذلك، فإنّ الله العارف بأنّنا الخطّاؤون، لأنَّ شهواتنا وظروفنا تضغط علينا، يريد منّا إذا أذنبنا أن نتوب، فإذا عدت تُب من جديد، لأنَّ الله يخاطب الذين أسرفوا على أنفسهم، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}[11].

ويقول: "اللّهمّ اغفر لي ما تقرَّبت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي"[12]، فقد أقدّم إليك يا ربّ بلساني الكثير من كلمات التّوبة والخير والعهد والوعد، ولكنَّ قلبي وهو يسمع في خفقاته لساني، كان ينبض بالتّخطيط لنقض العهد فيما أستقبل من عمري.

"اللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل"، فأيّ وصفٍ يا ربّ يقترب من وصفك؟ "والتعداد الكثير"، فأيّ تعدادٍ للكمالات والجمالات والعظمة يقترب من تعداد ما أنت فيه؟ "إن تؤمل" بانطلاق الآمال كلّها من عندك، "فخير مؤمَّل"، فمن هو المأمول الّذي هو خير منك؟! فأنت خير مأمولٍ ومرجوّ، لأنَّ رحمتك تفتح لنا أبواب الأمل فيما هو أوسع ما بين السَّماء والأرض، ولأنَّ ألوهيَّتك في كرمك وحنانك وعطفك وقربك لعبادك، تجعلنا ننفتح على أملٍ كبير.

"وإن تُرجَ فخير مرجوّ"، وأنت أهل الرّجاء يا ربّ، "اللّهمّ وقد بسطت لي" من الكلام، "فيما لا أمدح به غيرك"، لأنَّ بعض الكلمات لا تليق إلا بك، ولأنَّ كلّ مدح يشير إلى مدحك، لأنّنا عندما نمدح خلقك، فإننا نمدحهم فيما أعطيتهم من عندك، فما عندهم هو من عندك.. ولذلك، فإنّ أيّ كلمة تنفتح عليك في المدح، لا يمكن أن تكون لغيرك.

"ولا أثني به على أحدٍ سواك"، أوحّدك في المدح، وأوحّدك في الثناء، فلا بدَّ من أن لا نثني على أحد بما نثني به على الله، ولا نمدح أحداً بما نمدح به الله، {فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَداً}[13]، "ولا أوجّهه"، أي المدح، "إلى معادن الخيبة"، إلى من تخيب الآمال عندهم، "ومواضع الرّيبة"، أي من تحيط الرّيب والشّكوك في كلّ ما هم فيه، "وعدلت بلساني عن مدائح الآدميّين والثّناء على المربوبين المخلوقين"، فإذا كنت معك يا ربّ، فمَن يمكن أن يكون معي غيرك، وإذا كنت أمدح من كان قريباً إليك، فإني أمدحك من خلاله، لأنه لا أحد إلا وأنت الخالق والربّ له، وأنت الّذي أعطيته كلّ شيء.

"اللّهمّ ولكلّ مثنٍ على من أثنى عليه مثوبة من جزاء"، فالمادح له مثوبة، "أو عارفة من عطاء"، وعندما أمدحك بما أنت أهله، وأثني عليك فيما فيك من مجالات العظمة، "وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرّحمة وكنوز المغفرة"، فأعطني من ذخائر رحمتك وكنوز مغفرتك، فهذه هي جائزتي عندك.

"اللَّهمّ وهذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذي هو لك"، فأنت الواحد، والوحدانيّة صفتك، ولا وحدانيّة لغيرك، وأنا أقف من أجل أن يكون عقلي وقلبي وشعوري وإحساسي وكياني كلّه صرخة توحيد تنفتح على وحدانيّتك، "ولم يرَ مستحقّاً لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك"، أنا الفقير المحتاج، "لا يجبر مسكنتها"، المسكنة الّتي تتمثَّل في الفاقة، "إلا فضلك، ولا ينعش من خلتها إلا منّك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك"، ورضاك هو كلّ شيء، وكلّ السّعادة، وكلّ العظمة، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ}[14] من الجنَّة ومن نعيمها، وذلك معنى لا يفهمه إلا الصدّيقون الّذين يعيشون مع الله في أعماق الصّدق كلِّها.

"وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك، إنّك على كلّ شيء قدير"[15]، اجعل أيدينا ممدودةً إليك وحدك. وقد عبّر عن ذلك حفيده الإمام زين العابدين(ع): "وقلت سبحان ربّي كيف يسأل محتاج محتاجاً؟ وأنَّى يرغب معدم إلى معدم، فقصدتك يا إلهي بالرَّغبة، وأوفدت عليك رجائي بالثّقة بك..."[16].

في حمده لربِّه

ثم ينطلق الإمام(ع) في هذا الجوِّ الروحيّ في حمد الله، فكيف يحمد عليّ(ع) ربّه: "اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطي"، فإنَّ عطاءك هو عطاء الكريم الَّذي يفيض كرمه على عباده، وإنّ أخذك هو أخذ الحكيم الَّذي لا يأخذ إلا عن حكمة، وحكمته لا تبتعد عن رحمته، وإن لم يدرك النَّاس معنى الرّحمة فيما يأخذه الله منهم، "وعلى ما تعافي وتبتلي"، فمنك العافية، ومنك البلاء، ونحن نحمدك على البلاء كما نحمدك على العافية، "حمداً يكون أرضى الحمد لك"، يمتدّ ويمتدّ ليكون مبلغ رضاك، "وأحبّ الحمد إليك، وأفضل الحمد عندك، حمداً يملأ ما خلقت، ويبلغ ما أردت، حمداً لا يحجب عنك، ولا يقصر دونك". فكأنّه يقول: يا ربّ، أنا لا أملك الكلمات الدَّقيقة التي يمكن أن تجمع كلّ ما تستحقّه من حمد...

ولذلك يا ربّ، وأنا أتحدَّث عن حمدٍ هو أرضى من ذلك، وعن حمدٍ يبلغ ما عندك، وأنت تعرف يا ربّ آفاق ذلك الحمد الَّذي لا أعرفه إلا بالكلمات المطلقة: "حمداً لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده"، يمتدّ في الوقت كلّه، فأنا أحمدك في الصّباح وفي المساء، وفي شغلي وفراغي وكلّ مجالاتي، لأنَّ كلَّ لحظة أتنفَّس فيها، هي مظهر حمدك وكلّ عمل أتحرّك فيه، فهو عطيَّة حمدك، فهل يمكن أن أعيش في أيّة لحظةٍ لا يملؤها حمدك؟!

"فلسنا نعرف كُنه عظمتك"، فنحن نعرف بعض أسرار عظمتك فيما أبرزته وعرّفتنا إيّاه، "إلا أنّا نعلم أنّك حيٌّ قيّوم"، قائم على الكون كلّه والوجود كلّه، "لا تأخذك سنةٌ ولا نوم، لم ينتهِ إليك نظر، ولم يدركك بصر"، وهذا قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}[17]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[18]. ثم يخاطب الله تعالى بقوله: "أدركت الأبصار، وأحصيت الآمال، وأخذت بالنّواصي والأقدام"، كناية عن سيطرة الله على الإنسان في كلّ شيء.

"وما الّذي نرى من خلقك"، من أسرار عظمتك، "ونعجب له من قدرتك، ونصفه من عظيم سلطانك، وما تغيّب عنّا منه"، مما لم نره ولم ندرك شرّه، "وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه، أعظم ممن فرغ قلبه، وأعمل فكره، أي أفرغ قلبه لك، وأعمل فكره ليبلغ بعض معرفتك، "ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علقت في الهواء سماواتك"، تلك الّتي لا ترتكز على أيّ شيء في الأرض، "وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيراً"، إشارةً إلى قوله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}[19]، "وعقله مبهوراً، وسمعه والهاً، وفكره حائراً[20]".

بيان صفات الله والنّبيّ

هذه هي قصّة الإمام عليّ(ع) مع حمد الله تعالى، أمّا عندما نقترب منه وهو يريد أن يتحدَّث عن رسول الله(ص) بين يدي الله، فيقول في خطبةٍ له(ع) علَّم فيها النّاس الصَّلاة على النبيّ(ص)، وفيها بيان صفات الله سبحانه وصفة النبيّ(ص) والدّعاء له: "اللّهمّ داحي المدحوات"، مما دحاه الله من الأرض، "وداعم المسموكات"، الّتي لها سمك وحجم، "وجابل القلوب على فطرتها"، على ما فطرت عليه من الفطرة الّتي أنشأت الناس عليها، "شقيّها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمّد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق"، فقد فتح كلّ مغالق الأزمان ومغالق الأوضاع، "والمعلن الحقّ بالحقّ"، الَّذي أعلن الحقّ بكلمات الحقّ...

"والدّافع جيشات الأباطيل، والدَّامغ صولات الأضاليل، كما حمل فاضطلع"، أي حمل الرّسالة فاضطلع بها، "قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك"، أي مستعجلاً مسارعاً فيها، "غير ناكلٍ عن قُدْمٍ، ولا واهٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس"، أي حتى أشعل المواقع والمعالم التي تضيء للناس الطريق، "وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن"، وقد فتحت من خلال دعوته ورسالته قلوب الناس، "وأقام موضحات الأعلام، ونيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدّين، وبعيثك بالحقّ، ورسولك إلى الخلق".

وبعد أن يصف النّبيّ(ص) في حركته الرساليَّة، وهو هنا لم يتحدّث عن صفات النّبيّ الشّخصيّة، باعتبار أنه اتّبع أسلوب القرآن الّذي يتحدَّث عن النبيّ(ص) في خطّه كرسول لا كشخص، وإن كان شخصه في أعلى درجات السموّ والعلوّ والرفعة، وهذا هو منهج قرآني، يقول إنّ علينا أن نعطي اهتمامنا كلّه في الحديث عن الأنبياء والأولياء لصفاتهم الرسالية، لأن ذلك هو الذي تتحرك فيه القدوة وتنطلق منه العبرة، فبعد أن يصفه يدعو له فيقول: "اللّهمّ افسح له مفسحاً في ظلّك"، يوم لا ظلّ إلا ظلّك، "وأجزه مضاعفات الخير من فضلك، اللَّهمّ أعلِ على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك منزلته، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشّهادة"، أن تكون شهادته عن أمّته مقبولة، "ومرضيّ المقالة، ذا منطق عدل وخطّة فصل".

ثم يتحدَّث عن شوقه إليه فيقول: "اللّهمّ اجمع بيننا وبينه في برد العيش، وقرار النّعمة، ومنى الشّهوات، وأهواء اللذّات، ورخاء الدّعة، ومنتهى الطمأنينة، وتحف الكرامة"[21].

دعاؤه في الحرب

ثم ننظر لنرى كيف يتحدَّث الإمام عليّ(ع) مع ربّه في الحرب، فهل تشغله عن ربّه؟ وهل تتحرك ذهنيّة الحرب في نفسه، لتكون قسوةً وتدميراً، أم أنّه يتحرّك بعيداً عن ذلك؟

فمن كلامٍ له عند عزمه على المسير إلى الشَّام، وهو دعاء دعا به ربّه عند وضع رجله في الرّكاب: "اللَّهمَّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السَّفر"، فنحن نسافر سفراً طويلاً فيه الكثير من التّعب ومن الجهد، "وكآبة المنقلب"، نعوذ بك أن ننقلب ونحن على كآبة من خلال ما يتَّصل بموقعنا أمامك، "وسوء المنظر في الأهل والمال"، نعوذ بك أن نعود ويكون الواقع الّذي نعيشه واقعاً لا ينفتح على منظرٍ طيِّبٍ مشرقٍ فيما نملك من حالٍ، وما نشرف عليه من أهل وولد، اجعلنا يا ربّ نرى الصّورة المشرقة المنفتحة على محبَّتك ورضاك، وعلى عافيتك ودعتك وطمأنينتك.

"اللّهمّ أنت الصَّاحب في السّفر، وأنت الخليفة في الأهل"، فنحن في سفر، ونريدك أن تكون الصَّاحب في سفرنا هذا، ترعانا وتؤنسنا وتفتح لنا أبواب الخير، "وأنت الخليفة في الأهل"، فسنفارق أهلنا، ونبتعد عن إشرافنا عليهم، ونريدك أن تكون أنت الخليفة فيهم، "ولا يجمعهما غيرك"، فهاتان الصّفتان لا يجتمعان عند غيرك، بأن يكون المرء خليفةً في الأهل وصاحباً في السّفر في آنٍ معاً، "لأنَّ المستخلف لا يكون مستصحباً"، فهو لا بدَّ من أن يكون مع الأهل، "والمستصحب لا يكون مستخلفاً"[22]، لأنّه يكون معنا في السّفر.

ولما عزم على لقاء القوم في صفّين، قال: "اللّهمّ ربّ السّقف المرفوع"، كناية عن السماء، "والجوّ المكفوف"، أي المجموع بعضه إلى بعض، "الّذي جعلته مغيضاً للّيل والنّهار، ومجرىً للشّمس والقمر، ومختلفاً للنّجوم السيّارة"، الجوّ الذي يحتوي الكواكب الذي ينطلق فيه اللّيل والنّهار من خلال شروق الشّمس وغروبها، "وجعلت سكّانه سبطاً من ملائكتك"، يسكنون في السّماوات، أمّا كيف وأين، فلا نعرف ذلك.. "لا يسأمون من عبادتك، وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام"، ومهّدتها تمهيداً، "ومدرجاً للهوامّ"، أي الحشرات، "والأنعام، وما لا يحصى مما يرى وما لا يرى، ورب هذه الجبال الرّواسي الّتي جعلتها للأرض أوتاداً"، أي تقوي الأرض وتصلبها، "وللخلق اعتماداً"، أي ملجأ يلجأون إليه.

الدّعاء في النَّصر والانكسار

وهنا يبدأ(ع) في الانفتاح على الله تعالى، وفي دعوته في كِلا الحالين: الانتصار أو الانكسار، أن يكون متوازناً في خطِّ الله، "إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغي"، أبعدنا عن أن نبغي على أعدائنا، بالتصرّف بما لا حقَّ لنا فيه، "وسدِّدنا للحقّ"، اجعلنا نمارس مع أعدائنا خطَّ الحقّ الَّذي فرضته في الحرب عندما ينتصر النَّاس على أعدائهم، حتى لا نظلم أعداءنا، ولا نتحرّك بالباطل بما لا نستحقّه ولا يرضيك، "وإن أظهرتهم علينا"، فانتصروا علينا، "فارزقنا الشَّهادة، واعصمنا من الفتنة"[23]، لا تجعلنا نفتتن فنتراجع عن مواقفنا ومواقعنا من خلال هذه الهزيمة الّتي نمنى بها.

وهكذا كان في الحرب يعمل على أن يملأ قلوب جنوده وعقولهم، ويحفظ ألسنتهم من أن يسيئوا بالكلام بالسّباب والشَّتم، ويعلّمهم إذا انفتحوا على المسلمين الآخرين الّذين ابتلوا بالصّراع معهم، أن ينفتحوا بالمحبّة. إنّه يقول لك: حارب بمحبة، ولا تكن روحك روح التدمير في حربك، بل روح السلام، بحيث إنك تتحرك في الحرب من موقع ضرورة، وقلبك يهتف بالله الذي يقول لك ألقِ السّلام..

فعندما سمع(ع) قوماً من أهل العراق، وهم جنده، يسبّون أهل الشّام، قال لهم: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين"، فأنا لا أحبّ لجنودي أن يكونوا سبّابين لعّانين، لا شغل لهم إلا الكلمات التي تأتي بالمزيد من الحقد، ولا تحقِّق أيّ مكاسب إيجابيّة فيما تتحرّك به الحياة.

"إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم"، ليكن لكم منطق السؤال: لماذا نحاربهم، لأنهم خرجوا عن طاعة الإمام ـ الخليفة، ولأنهم عاثوا في الأرض فساداً، "ولكن لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم"، بكلّ أمانة، "كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر"، فإنّكم تقدّمون العذر من ذلك أمام النّاس الذين يسألونكم لماذا تحاربون، وهذا هو محلّ الشّاهد.. "وقلتم مكان سبِّكم إيّاهم: ربّنا احقن دماءنا ودماءهم"، فسندخل حركة تسيل فيها الدّماء منا ومنهم، ونحن مسلمون وهم مسلمون، وإن ضلّوا عن السبيل، لكن يا ربّ هيّئ لنا الجوّ الذي يمكن أن نصل به إلى أن تُحقن دماؤنا ودماؤهم، "وأصلح ذات بيننا وبينهم"، فلقد فسدت العلاقات بيننا وبينهم، ولا تفسد هذه العلاقات نتيجة حالة شخصيّة، وإنما هي قضية الخطّ الإسلامي الأصيل الذي عبثوا به وانفصلوا عنه، "أصلح ذات بيننا وبينهم"، بإصلاحهم، "واهدهم من ضلالتهم". ولاحظ الروحيّة التي كان الإمام(ع) يعلّم بها أصحابه بأن يدعوا للنّاس الضالّين الّذين يقفون في أقسى ساحات الصّراع الموجّه إلى عليّ(ع) بالذات، أن يهديهم الله من ضلالتهم، "حتى يعرف الحقّ من جهله"، لأنّ القضيّة هي في التفكير كيف تصلون إلى الحقّ، "ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"[24].

أيّها الأحبّة، أين ما عندنا من روح وأين هي روح عليّ؟ فإنّ ما عندنا هي الرّوح التي تحقد وتدمّر وتفكّر في أن تصادر الآخر، ولا تفكّر في أن تصل إلى حالة حقن دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم وهدايتهم من ضلالتهم، ولكنّ عليّاً(ع) يسمو ويسمو ويسمو، ونحن نهبط ونهبط حتى الوحل.

الاستنهاض للجهاد

وهكذا كان يستنهض أصحابه إلى جهاد أهل الشّام في زمانه: "اللّهمّ أيّما عبد من عبادك"، إنه يجلس بين يدي ربه، "سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة"، أي أنهم(ع) لا يتحدثون عن جور بل عن عدل، ويريدون أن يسمع الناس هذا العدل (والمصلحة غير المفسدة)، "فأبى بعد سمعه لها إلا النّكوص عن نصرتك"، إلا الابتعاد عن السّير في الخطّ الذي ينتصر به للحقّ الّذي أنزلته، "والإبطاء عن إعزاز دينك"، هؤلاء المتخاذلون الّذين يعيشون الحياة استرخاءً وضعفاً وانهزاماً وسقوطاً، "فإنّا نستشهدك عليه بأكبر الشّاهدين شهادة"، فأنت من أكبر الشّاهدين شهادة، وأيّ شهيد أكبر من الله سبحانه وتعالى!؟ "ونستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك وسماواتك، ثم أنت بعدُ المغني عن نصره والآخذُ له بذنبه"[25].

وهذا من أكثر الأساليب تأثيراً، فكأنَّه(ع) يشهد الله على أنَّ مقالته هي مقالة العدل، وأنَّ كلماته هي كلمات الإصلاح، ويقول يا ربّ اشهد عليهم أنهم سمعوها وأنهم لم يتفاعلوا بها، ولذلك فأنت الحكم بيننا وبينهم، وأغننا عن نصرتهم"، لتنصرنا بالّذين ينطلقون في خطّ الحقّ كله.

من دعائه في لقاء العدوّ

ومن دعاءٍ له إذا لقي العدوّ محارباً: "اللّهمّ إليك أفضت القلوب"، فالقلوب انفتحت عليك ووصلت إليك، "ومدّت الأعناق ـ وهي مبتهلة بين يديك ـ وشخصت الأبصار، ونقلت الأقدام"، فتحركت في طريقك في صراطك المستقيم، "وأنضيت الأبدان"، أي تعبت، "اللّهمّ قد صرّح مكنون الشنآن"، الناس الأعداء الذين اعتدوا علينا، والذين يقاتلوننا من غير حقّ عن حقد وعن عداوة، "وجاشت مراجل الأضغان"، والمراجل هي القدور، فكأنما تطبخ بها الأحقاد والأضغان.

"اللّهمّ إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا"، وقد انطلق الناس بعد غيابه كلٌّ في طريقه، فكان هو الّذي يجمعنا، وكانت كلماته هي التي يستمع إليها الكثيرون فتكون الحجَّة عليهم، وقد بقيت الحجَّة عليهم بعد ذلك، ولكنّهم أهملوها ولم يتّبعوها.. ولاحظوا كم ترسم هذه الكلمة من عمق الحزن في قلب عليّ، "وكثرة عدوّنا، وتشتّت أهوائنا"، فكلّ شخص له هوى، وكل جماعة لها هوى ومطمع، "ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين"[26]، إنه يطلب من الله أن يفتح بينه وبينهم بالحقّ، لأنّ عليّاً كان مع الحقّ، ولا يريد إلا الحقّ، ولا يقاتل إلا على أساس الحقّ، ولا يتحرّك في أيّ طريق إلا والحقّ معه، وهو مع الحقّ في ذلك كلّه.

المطالبة بالحكم

أمّا حينما يدعو الإمام مطالباً بالحكم، فلماذا يطلبه؟ هل لشهوة؟ هل لمطمع؟ هل لجاه؟ هل لنقطة ضعف؟ إنه يقدِّم تقريره إلى الله، والله أعلم بما في قلبه، ولكنّه يريد للناس أن يسمعوا ذلك منه، "اللّهمّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا"، من طلب الخلافة أو الإمامة أو الحكم، "منافسةً في سلطان"، ليكون السّلطان لنا من أجل تلبية شهواتنا ومطامحنا، وليزول الحكم عن سلطان آخر، "ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام"، حتى نحصل على شيء من الدّنيا، وقد خاطب عليّ(ع) الدّنيا، فقال لها: "طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها"[27].

"ولكن لنرد المعالم من دينك"، أي الخطوط الواضحة البيّنة التي يمثّلها الإسلام في كلّ ما يريد للنّاس أن يسيروا عليه وأن يستضيئوا به، "ونظهر الإصلاح في بلادك"، لأنَّ الفساد قد عمَّ الناس كلّهم، ومسؤوليّتنا هي أن نظهر الإصلاح، "فيأمن المظلومون من عبادك"، لأنَّ هناك ظلماً، ونريد للإصلاح أن يتحرّك في خطّ العدل، ليأخذ كلّ إنسانٍ حقّه، فلا يُظلَم أحد، ويعيش المظلومون في أمن، وإنّ هناك من يأخذ بحقوقهم ويرفع عنهم ظلامتهم، "وتقام المعطَّلة من حدودك"، ويطبق القانون على الجميع، "اللّهمَّ إنّي أوَّل من أناب"، أوّل من رجع إليك وآمن برسولك، "وسمع" دعوة الرّسول، "وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله(ص) بالصّلاة"[28]، فقد كنت أوّل من صلى إليك في تلك المرحلة بعد رسولك.

شكوى عليّ(ع) لله

ثم يشكو إلى الله ما يلقي من قريش، فقد أثقلته في حياة النبي(ص) بحروبها، وقد أثقلته بعد رسول الله(ص) بجحودها: "اللّهمَّ إنّي أستعديك على قريش، فإنّهم قطعوا رحمي"، وهم عشيرتي، فعليهم أن يصلوا الرّحم ولكنّهم قطعوه، "وصغّروا عظيم منزلتي"، لم يدركوا ما أتميّز به من عظيم المنزلة مما أسبغته علي ـ يا رب ـ ومما أعطانيه رسولك بأمرك، "وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنت أولى به من غيري"، فأنت قد أمرت رسولك كما قلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[29].

وعندما بلغ رسولك رسالته في الولاية، أنزلت عليه قولك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[30]، إن كمال الإسلام بالولاية، "وقالوا: ألا إنَّ في الحقِّ أن تأخذه"، يمكن تأخذه أنت، "وفي الحقِّ أن تمنعه، فاصبر مغموماً أو مُتْ متأسّفاً"، لن نعطيك هذا الحقّ، "فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنيّة، وأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشّجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم، وآلم للقلب من وخز الشّفار"[31]، ولم يكن ذلك، لأنَّ عليّاً يتألم لشخصه ولموقعه، ولكنَّه كان يملك خطّةً تفتح الإسلام على حركة الوعي كلّها، وتملأ الواقع الإسلاميَّ علماً وروحانيّةً واستقامةً وأمانةً وفتحاً في الخطّ الإسلاميّ الأصيل.

لذلك، لم تكن قصّة عليّ قصّة كرسي يفقده، ولكنّها قضيّة رسالة كان يريد أن يفتحها على النّاس، ليكمل الخطّ الرّساليّ الّذي بدأه رسول الله(ص)، ولكنّ الحواجز وقفت لتحول بينه وبين ذلك، وبقي عليّ(ع) مخلصاً لله ولرسوله ولرسالة الإسلام.. ولذلك أغمد سيفه وانفتح على الّذين أبعدوه وتقدَّموا عليه، فأعطاهم الرأي والمشورة والنّصيحة، وقال كلمته الخالدة: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّة"[32]، وقال لابن عبّاس وقد رآه يخصف نعله: "لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"[33]، وقال في آخر الخطبة الشقشقيّة: "لولا حضور الحاضر"، وهو خليفة على المسلمين آنذاك، "وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"[34].

مسؤوليَّة الانتماء إلى عليّ(ع)

ويبقى عليّ(ع) يسمو ويسمو ويسمو، لأنَّه عاش مع الله ولله، وكانت حياته قد انطلقت في صرخته الأولى في الكعبة، وكأنها تهليلة وتكبيرة لله، وصلّى في الكعبة مع رسول الله، وكان أوّل من صلّى بعده وحطّم الأصنام على الكعبة وفاءً لله، وهو يرقى على كتف رسول الله(ص)، وكانت حياته كعبةً كلّها ومسجداً كلّها وإخلاصاً لله كلّها، حتى إذا كانت التكبيرة الأخيرة في مسجد الكوفة في صلاة الجماعة، استشهد وهو يقول (الله أكبر)، وهنا أطلق عليّ صرخة الفرح الرّوحيّ، لأنّه فاز بالشّهادة، ولأنّه قتل بين يدي الله وفي محراب الله، قال: "بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربِّ الكعبة"[35].

أيّها الأحبّة، هذا هو عليّ(ع)، ومسؤوليّتنا أن ننتمي إليه، لا أن نهتف باسمه فقط، وهو الّذي يقول: "ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّةٍ وسداد"[36]، فأين الورعون في خطّ عليّ؟ وأين المجتهدون في طاعة الله في خطّ عليّ؟ وأين الأعفاء؟ أين الذين يتحركون في خط السداد؟ إنّ عليّاً ينتظرنا هنا، ونحن في امتحان أن نسير على خطّه، فهل ننجح في الامتحان؟!

وأختم كلمتي بما قاله الشّاعر المسيحي (بولس سلامة):

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي     واخشعـــــــــي إنّنـــي ذكرتُ عليّــــا

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 18 رجب 1419هـ/ الموافق: 7-11-1998م.


[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ(ع)، ج 2، ص 157.

[2]  [الأحزاب: 40].

[3]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 27.

[4]  نهج البلاغة، ج 2، ص 158.

[5]  بحار الأنوار، ج 20، ص 73.

[6]  المصدر نفسه، ج 40، ص 144.

[7]  المصدر نفسه، ج 10، ص 121.

[8]  [البقرة: 207].

[9]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 4، ص 247.

[10]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 127.

[11]  [الزمر: 53].

[12]  نهج البلاغة، ج 1، ص 128.

[13]  [الجن: 18].

[14]  [التوبة: 72].

[15]  نهج البلاغة، ج 1، ص 180، 181.

[16]  الصحيفة السجاديّة، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في طلب الحوائج إلى الله.

[17]  [الأنعام : 103].

[18]  [الشّورى: 11].

[19]  [الملك: 3، 4].

[20]  نهج البلاغة، ج 2، ص 55، 56.

[21]  نهج البلاغة، ج 1، ص 120 ـ 122.

[22]  المصدر نفسه، ج 1، ص 97.

[23]  المصدر نفسه، ج 2، ص 83، 84.

[24]  المصدر نفسه، ج 2، ص 185، 186.

[25]  المصدر نفسه، ج 2، ص 193.

[26]  المصدر نفسه، ج 3، ص 15.

[27]  المصدر نفسه، ج 4، ص 17.

[28]  المصدر نفسه، ج 2، ص 13، 14.

[29]  [المائدة: 67].

[30]  [المائدة: 3].

[31]  شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج 3، ص 330.

[32]  المصدر نفسه، ج 1، ص 125.

[33]  المصدر نفسه، ج 1، ص 81.

[34]  المصدر نفسه، ج 1،  ص 37.

[35]  شجرة طوبى، الشّيخ محمد مهدي الحائري، ج 1، ص 64.

[36]   نهج البلاغة، ج 3، ص 71.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية