في الخامس من شهر شعبان، نلتقي بولادة إمام من أئمَّة أهل البيت (ع)؛ إنّه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين وسيّد السّاجدين (ع)، هذه الشخصيّة الرّساليّة الإسلاميّة الّتي أعطت كلَّ ما لديها من أجل حياة الإنسان، وأغنت كلَّ مفاصله ومحطّاته، في تعدّد أبعادها وعطاءاتها الروحيّة والأخلاقيّة والجهاديّة، كما أغنت كلّ التاريخ الإسلاميّ، ومثّلت الشّموخ والسّموّ في كلّ المجالات، فشكَّلت منارةً عبر كلّ العصور والأجيال، مخلِّفةً إرثاً رساليّاً إسلاميّاً أصيلاً، يعبّر بكلّ تفاصيله عن روح الإسلام ونضارته وسموِّه1 ...
إنَّ الناس يعرفون زين العابدين (ع) في الدّعاء وفي البكاء، ولكن عندما تقرأه، فإنَّك تجده في حياته الَّتي بدأت في قلب المأساة، حيث شاهد في يوم واحد كلَّ هذه الصّفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحاب أبيه، وفي طليعتهم أبوه، مجزَّرين كالأضاحي، وكان في قمّة الصّبر، لأنه كان في قمّة الرّوح، ولأنه كان في تلك اللّحظة يعيش مع الله سبحانه وتعالى، كما كان أبوه في آخر لحظات حياته يعيش مع الله، وقد صوَّر الشَّاعر مشاعره آنذاك بقوله:
تركتُ الخلق طرّاً في هواك وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطّعتني في الحب إربـاً لما مـال الفؤاد إلى سواك
وعاش الإمام زين العابدين (ع) في تلك المرحلة، ووقف في مجلس ابن زياد ليؤنّبه، وليردّ عليه بما أثار حقده، فكاد أن يقتله لولا تدخّل عمَّته السيّدة زينب (ع)، وعاش في الطريق مع السبايا، ولم يضعف، ولم يهن، ووصل إلى الشَّام، ورأى كلَّ مظاهر الشَّماتة والفرح بمقتل أبيه وأهله، وبقي قويّاً صامداً، ودخل مجلس يزيد، وتحدَّث بكلِّ القوَّة والعنفوان الرساليّ2 ...
أهميّةُ الدّعاءِ
[وقد عمل (ع) على] أن يدخل الإسلام كلَّه في قيمه وأخلاقه وعقيدته في مفاصل الدعاء؛ فإذا قرأت زين العابدين (ع) في أدعيته، فإنَّك تشعر بأنَّ الدّعاء يثقّفك في العقيدة، وفي الأخلاق، وفي حركة الحياة، وفي الواقع الإسلاميّ الّذي يحارب هنا ويسالم هناك...
وكان (ع) يقضي النَّهار مع الناس، وكان يعلّمهم، ويرشدهم، ويعظهم، ويجيب عن أسئلتهم، ويخطِّط لهم ما ينبغي معرفته من الحقوق الإنسانيَّة التي ركّزها الإسلام. ولأوَّل مرة، نقرأ دستور الحقوق في الإسلام في كلِّ ما يتَّصل بحياة الإنسان المؤمن مع الله ومع نفسه ومع النَّاس ومع مسؤوليَّاته، حتى إنّ كلّ مسؤوليّة من مسؤوليَّاتك لها حقّ عليك، فالصَّلاة لها حقّ عليك، والصَّوم له حقّ عليك، والزكاة لها حقّ عليك، والحجّ له حقّ عليك، فرسالة الحقوق هي الرّسالة التي سبقت كلّ دساتير حقوق الإنسان، لأنها لم تكتفِ بحقوق الإنسان فقط، وإنما حركت حقوق المسؤوليَّة في الإنسان، وانفتحت في البداية على حقّ الله سبحانه وتعالى.
تثقيف المجتمع
كان (ع) مشغولاً بتثقيف المجتمع الإسلامي وتوعيته، وكان يريد أن يثقّف المجتمع بالثورة على الظّلم، بحيث تكون الثّورة على الظّلم جزءاً من إسلام الإنسان ومن إيمانه، ومما يتقرَّب به إلى الله، لأنَّه عندما عاش تجربة كربلاء، ورأى أنَّ الناس ساروا مع يزيد وخذلوا الحسين (ع)، وقبل ذلك خذلوا سفيره مسلماً (رض)، وخذلوا أخاه الحسن (ع) وأباه عليّاً (ع)، فإنه كان يرى أنّ هؤلاء الناس يعيشون الإسلام طقوساً وتقاليد، ولم يعيشوا الإسلام إيماناً بالله العادل الَّذي أنزل الرسالات ليقوم النَّاس بالقسط، والذي أراد للناس أن يكونوا الأعزاء، وللمستضعفين الوقوف بوجه المستكبرين، فلا يدفعهم استضعافهم أمام المستكبرين لتنفيذ خططهم.
لذلك، كانت الثّورة الإماميَّة بعد الحسين (ع) ثورة تثقيفيَّة تعبويّة توعويّة، تريد أن تربط الإنسان بالله، ليرتبط بكلِّ القيم الإسلاميَّة، بحيث لو أنَّ الدنيا كلّها ضغطت عليه، لبقي واقفاً على قدميه، كما قال عليّ (ع) لولده محمد بن الحنفيّة: "تزول الجبال ولا تزل... تِد في الأرض قدمك، أعِر الله جمجمتك، اِرم ببصرك أقصى القوم3" ، كانوا يريدون أن يقف الإنسان المسلم راسخاً أمام الطّغيان والظّلم والاستكبار، يثبّت قدمه، ويصلِّب موقفه، ولا يخاف أحداً إلَّا الله4 ...
إنّنا نرى أنَّ سيرة الإمام زين العابدين (ع) بحاجة إلى دراسة توثيقيّة واسعة تقف أمام كلِّ المفردات التي يحفل بها تاريخ هذا الإمام العظيم، لنستوحي منها أكثر من خطٍّ فكريّ وأخلاقيّ وروحيّ واجتماعيّ على مستوى النظريّة في النهج العام، ولتلتقي بالخطوط التفصيليّة في حركة السلوك العمليّ في هذه المسيرة على مستوى التطبيق، لتجد الإنسان تجسيداً للقيمة الروحيَّة المثلى، ولتكتشف في عمق هذه القيمة وامتدادها، عمق الإنسان وامتداد أبعاده في السرِّ الكامن في الفكر والعقل والروح في مداها الواسع5 ...
[1]فكر وثقافة، العدد 195، العام 2000م.
[2]ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة.
[3]شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، ص 241.
[4]ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة.
[5]في رحاب أهل البيت (ع)، ج2.