بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلامة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله
(رض)، نتوقَّف عند ما ورد في خطبة الجمعة التي ألقاها سماحته من على منبر مسجد
الإمامين الحسنين (ع) بتاريخ 14 ذو القعدة 1426هـ، الموافق: 16-12-2005م ـ والّتي
تحدَّث فيها عن الإمام الرِّضا (ع) في ذكرى ولادته، متطرِّقاً إلى الحديث عن بعض
محطَّات حياة هذا الإمام، وما اتّصف به من خصائص إسلاميّة وإنسانيّة عالية، وما
عبَّر عنه من خلقٍ قرآنيٍّ رفيعٍ لنا فيه كلّ الأسوة الحسنة، وما دعا إليه من
الصلاح والإصلاح. جاء في الخطبة:
"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33]. من أئمة هذا
البيت، الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، الذي مرّت ذكرى ولادته علينا قبل أيّام، في
الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام.
قمّة العلم والعبادة
والإمام الرّضا (ع) هو الإمام الذي بلغ القمّة في المرحلة التي عاش فيها، سواء في
المدينة أو في إيران، عندما ولاّه المأمون ولاية العهد بعده، من خلال اعترافه بفضله
ورؤيته بأنّه ليس هناك في العالم الإسلامي، لا من العباسيّين ولا من العلويين، من
يقاربه علماً وفضلاً وحكمةً وروحانيةً وقوّةً في الله. وينقل بعض معاصريه وهو
يتحدّث عن المستوى العلمي للإمام الرّضا (ع)، يقول: "ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى
الرّضا، ولا رآه عالم، إلا وشهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون ـ الخليفة
العباسي ـ في مجالس له ذوات عدد من علماء الأديان ـ من اليهود والنصارى والمجوس وكل
أصحاب التيارات الفكرية، وأراد لهم أن يوجّهوا الأسئلة إلى الإمام الرضا (ع) بكلّ
حرية، وكان (ع) يجيبهم عن كلّ سؤال، كلٌ بحسب دينه أو فكره ـ وفقهاء الشّريعة
والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقرّ له بالفضل وأقرّ على
نفسه بالقصور".
لقد كان الإمام الرضا (ع) فيما يرويه بعض معاصريه، يجلس في مسجد النبي (ص) قرب
الرّوضة الشّريفة، وكان المسجد يعجّ بالعلماء الذين كان الناس يسألونهم، ولكنهم
كانوا يعجزون عن الإجابة عن بعض الأسئلة، فيشيرون إلى الإمام الرّضا (ع) ليجيبهم
عمّا عجزوا عنه، ولقد قال بعض معاصريه، وهو إبراهيم بن العباس: "ما سئل الرّضا عن
شيء من مسائل الدين والدنيا إلا وعلمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى
عصره، وكان المأمون يمتحنه بالسّؤال عن كلّ شيء، فيجيبه الجواب الشّافي، فكان جوابه
وكلامه وتمثّله انتزاعات من القرآن"، فالقرآن الكريم كان عمق ثقافته.
وكان في عبادته مضرب المثل، في خشوعه لله تعالى في كلّ لياليه، بابتهالاته وأدعيته
وصلواته وعبادته، وكان المثل الأعلى في تواضعه، يقول بعض أصحابه: كنت مع الإمام
الرّضا في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السّودان
وغيرهم، فقلت: جُعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال (ع): "إنّ الربّ واحد،
والأمّ واحدة ـ أمّنا حوّاء ـ والأب واحد ـ وهو آدم(ع) ـ والجزاء بالأعمال".
وقال لبعض أصحابه، وهو يشير (ع) إلى بعض السّود من بعض خدّامه والعبيد له: "أترى
إلى هذا العبد الأسود"؟ قال: بلى، قال (ع): "حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلا
أعتقت رقبة، وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كنت أرى أنّي خير من هذا، بقرابتي من
رسول الله، إلا أن يكون لي عمل صالح أفضل منه". فالتفضيل هو بالعمل لا بالقرابة،
والله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}. بهذه الروح
العالية التي تحترم الإنسان من خلال إنسانيته، كان يعتبر أنّ التفاضل بين الناس
ينطلق من خلال الأعمال لا من خلال الأنساب. وهذا توجيه لكلّ الّذين يعتبرون أنفسهم
أعظم من الآخرين لانتسابهم إلى رسول الله (ص)، وقد قال عليّ (ع): "إنّ وليّ محمد من
أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنّ عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته".
حديث السلسلة الذهبيّة
وكان الإمام الرضا (ع) يسير إلى خراسان، فاجتمع الناس عليه، وخصوصاً الذين يكتبون
الأحاديث عن النبيّ (ص) وعمّن روى عن النبيّ، اجتمعوا حول محمله وقالوا: حدّثنا يا
بن رسول الله، فحدّثهم بهذا الحديث الذي يسمّى سلسلة الذهب، قال: "حدّثني أبي موسى
بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدَّثني أبي محمد بن علي قال: حدّثني
أبي علي بن الحسين قال: حدَّثني أبي الحسين بن علي قال: حدَّثني أبي علي بن أبي
طالب قال: حدّثني رسول الله قال: حدّثني جبرائيل عن الله أنّه قال: كلمة لا إله إلا
الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي". كان (ع) يريد أن يقول إنَّ التّوحيد هو
الأساس؛ أن يوحّد الناس ربهم ولا يشركوا به شيئاً، فهذه هي دعوة الأنبياء وكلّ
مفردات الأديان التي تتحرّك في خطّ التوحيد، فالرسالة تنطلق من خلال خطّ التوحيد
الذي أرسل الله إلى العباد رسلاً يبلّغونهم به. كان (ع) يريد أن يحرِّر الناس من
كلّ عبادة للأشخاص، لتكون عبادتهم لله وحده، ولتكون طاعتهم لله وحده، وليكون
اعتقادهم بالله وحده.
كلامه (ع) عن القرآن
وكان(ع) يشدّد على أن يلتزم النّاس بالقرآن، ففي بعض كلماته عن القرآن، وقد سأله
شخص: ما تقول في القرآن؟ قال (ع): "كلام الله فلا تتجاوزوه ـ قفوا عند حدوده
وتعاليمه ـ ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا".
ويروي الإمام الرّضا (ع) عن أبيه الإمام الكاظم (ع)، أنّ رجلاً سأل أبا عبد الله
(ع) قال: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلا غضاضةً؟ فالناس يقرأون
القرآن ويدرسونه منذ أن بعث الله تعالى النبي (ص) به، فلا يزداد إلا تجدّداً،
والعادة في الكتب التي يمرّ عليها الزّمن أنها تسقط أمام القِدَم، فقال (ع): "لأنّ
الله لم يجعله لزمان دون زمان ـ فالقرآن كتاب الحياة ـ ولا لناسٍ دون ناس، فهو في
كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ ـ حيويّ ـ إلى يوم القيامة"، ولذلك علينا أن
نستنطق القرآن في كلّ ما يستجدّ عند الناس، لنجد فيه حلولاً لمشاكلنا.
رسائله إلى الشّيعة
وكان الإمام الرِّضا (ع) يبعث برسائله إلى شيعته ليوجّههم إلى ما فيه صلاحهم،
وشيعته هم التابعون للخط الإسلامي الأصيل الّذي يتمثل في خط الأئمة من أهل البيت
(ع) الذين يجسّدون رسالة رسول الله (ص). أرسل (ع) رسالة مع السيد عبد العظيم
الحسني، وهو من العلماء المقرّبين، ومن أبناء الإمام الحسن (ع)، قال له: "يا عبد
العظيم، أبلغ عني أوليائي السلام، وقل لهم ألا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً ـ
أن لا يتبعوا خطوات الشيطان ولا يعبدوه، بل أن يعتبروه عدوّاً لهم ـ ومرهم بالصّدق
في الحديث ـ فلا أريد لشيعتي أن يكونوا الكذّابين الذين يكذبون في ما يتحدّثون به
وفي ما يعاهدون ويعدون ـ وأداء الأمانة ـ أن يكونوا الأمناء على كلّ ما يأتمنهم
النّاس ـ وبالسّكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم ـ إذا أرادوا أن يتجادلوا حول بعض
القضايا، فعليهم أن يتحاوروا في الأمور التي تمثِّل مسؤوليَّاتهم في العقيدة أو
الشَّريعة أو الحياة ـ وإقبال بعضهم على بعض ـ أن ينفتح أوليائي وشيعتي على بعضهم
البعض بالمحبَّة ـ والمزاورة، فإنَّ ذلك قربة إليّ، ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم
بعضاً، فإني آليت على نفسي أنّه من فعل ذلك ـ من قام بتمزيق الواقع الإسلاميّ
بالفتن والكلام غير المسؤول ـ وأسخط وليّاً من أوليائي ـ وأهانه ـ دعوت الله
ليعذّبه في الدنيا أشدَّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين ـ هذه دعوة مخيفة
لكلِّ الذين يعملون على تمزيق كرامات الناس، ولكلّ الذين يفتنون بينهم ويهدّمون
المجتمع ـ وعرّفهم أنّ الله قد غفر لمحسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، إلا من أشرك به أو
آذى ولياً من أوليائي أو أضمر له سوءاً، فإنّ الله لا يغفر له حتى يرجع عنه، فإن
رجع عنه، وإلا نُزع روح الإيمان من قلبه، وخرج من ولايتي، ولم يكن له نصيب في
ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك".
كيف نحيي أمرهم؟!
كان (ع) يوجّه الناس إلى إحياء أمر أهل البيت (ع) حتى يتبع الناس خطّهم، ولكن كيف
نحيي أمرهم (ع)؟ بعض الناس يعتبر أنّ إحياء أمر أهل البيت باللطم وضرب الرؤوس
بالسيف، وضرب الظهور بالزناجيل والسياط، ماذا يقول الإمام الرضا (ع)؟ يقول: "رحم
الله عبداً أحيا أمرنا"، قالوا له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: "يتعلم علومنا ـ كل ما
قاله أهل البيت في جانب العقيدة والشريعة والأخلاق، وكلّ ما يرفع مستوى الإنسان،
ويثبت حضارية الإسلام ـ ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا
لاتّبعونا".
مشكلة أحاديث الغلوّ
وكان (ع) يؤكِّد نقاطاً ثلاثاً، وهو يعالج مشكلة بعض النّاس الذين ينسبون إلى أهل
البيت (ع) أحاديث الغلوّ، يقول: "فإنّ الناس إذا سمعوا هذه الأحاديث التي تنسب
إلينا كفّرونا"، وهناك بعض الناس ممن يضع الأحاديث في إنزال أهل البيت (ع) عن
مراتبهم، والبعض الثالث يضع الأحاديث في مثالب أعداء أهل البيت (ع)، فـ "يشتمون
أعداءنا، فإذا شتموا أعداءنا شتمونا".
وكان (ع) يؤكّد إعانة الضعفاء ويقول: "عونك الضّعيف من أفضل الصّدقة"، وكان (ع)
يريد للإنسان أن يستنطق عقله ويصادقه، فيقول (ع): "صديق كلّ امرئ عقله، وعدوّه
جهله".
الإمام الرِّضا (ع) هو قمّةٌ من قمم الإسلام، وهو الإنسان الذي بلغ من القرب إلى
الله، ما يجعلنا نتقرّب به إليه تعالى، كما نتقرّب إليه تعالى بآبائه وأبنائه، هذا
هو خطّ أهل البيت (ع)، خط الإسلام الذي يقودنا إلى الصراط المستقيم".