الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع): قدوة في التّوحيد والطاعة

الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع): قدوة في التّوحيد والطاعة

علم الرّضا(ع)

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).

من أهل هذا البيت ومن أئمتهم، الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في السابع عشر من هذا الشهر، شهر صفر، وهناك رواية تقول في التاسع والعشرين منه. ويروى أن هذا الإمام العظيم توفي بالسم، وهناك بعض العلماء يتحفَّظ عن ذلك. وفي ذكراه، لا بدّ لنا من الوقوف عند سيرته، وهو الذي قال أبوه الإمام موسى الكاظم(ع) عنه لبنيه: «وهذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمَّد، فسلوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم».

والذي حدَّثتنا كتب السيرة عنه فيما ورد في الأحاديث عن بعض أصحابه، وهو إبراهيم بن العباس، قال: «ما رأيت الرضا يُسأل عن شيء قطّ إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوَّل إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلِّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن ـ بمعنى أنّه كان يستوحي آيات القرآن في كل ما يُسأل عنه وما يجيب فيه ـ وكان يختمه في كل ثلاث (ثلاث ليالٍ) ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت، ولكني ما مررت بآية قطّ إلا فكّرت فيها، وفي أيّ شيء أنزلت، وفي أي وقت، فلذلك صرت أختمه في كلّ ثلاث».

ويقول إبراهيم بن العباس واصفاً أخلاق الإمام الرضا(ع): "ما رأيت الرضا جفا أحداً بكلام قطّ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتَّكأ بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه، ولا رأيته تفل قط ـ أمام الناس ـ ولا رأيته يقهقه في ضحكه، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصب مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتى البوّاب والسائس، وكان(ع) قليل النّوم باللّيل، كثير السّهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصّبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر. وكان كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ـ فكان(ع) يدور على بيوت الفقراء، ويعطيهم الصدقة من دون أن يعرفوه ـ فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه".

عبادته وتقواه

وقال رجل للرضا(ع): "والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً. فقال(ع): «التقوى شرّفتهم وطاعة الله أحظتهم». فقال له آخر: أنت والله خير الناس، فقال(ع) له: «لا تحلف يا هذا، خيرٌ مني من كان أتقى لله وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}»(الحجرات:13). والإمام(ع) هو خير الناس لأنه أتقى الناس، ولكنّه تحدَّث عن المبدأ، حتى يعرف الناس أن الموقع العظيم عند الله إنّما يناله الإنسان بالتقوى.

وعن إبراهيم بن العباس قال: سمعت عليَّ بن موسى الرضا يقول: «حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلاّ أعتقت رقبةً وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان يرى أنه خير من هذا (وأومى إلى عبد أسود من غلمانه) بقرابتي من رسول الله, إلا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل منه به».

وعلى هذا الأساس، يجب على كلّ الذين ينتسبون إلى النبيّ(ص) أن لا يشعروا بالعلوّ أمام الآخرين لمجرد انتسابهم إلى النبي(ص)، إنّما يرتفع النَّاس عند الله ويتقرَّبون إليه سبحانه وتعالى من خلال التقوى.

وورد عن أبي الصلت الهرويّ أنه قال: "ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالِم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد، علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحدٌ إلا أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور".

وكانت للإمام الرِّضا(ع) الهيبة الكبرى في نفوس كلِّ علماء عصره، وكان إذا دخل إلى المسجد والنَّاس يسألون العلماء، قام العلماء بتوجهيهم إلى الإمام الرضا(ع) لما يملكه من العلم كلّه. وقد عرض المأمون على الإمام(ع) ولاية العهد، إلاّ أنّه امتنع عن ذلك، ولكن المأمون ألحّ عليه، وذلك بعد مشاكل حصلت بين المأمون وأخيه، ولم يستطع الإمام(ع) الرفض، لكنَّه اشترط عليه عدّة شروط للقبول، وقد استفاد(ع) من هذا الموقع في قضاء حوائج المؤمنين، وفي دعوة النّاس للرّجوع إلى التراث الذي انطلق به رسول الله(ص) وآباؤه(ع)، وفي تصحيح ما أخطأ به الآخرون، وتقويم ما انحرفوا فيه.

السلسلة الذّهبيّة وأصالة التوحيد

وعندما وصل إلى مدينة مرو، في مسيرته إلى طوس التي كان يسكنها المأمون اجتمع عليه الرواة يسألونه أن يحدّثهم، فحدّثهم بحديث سلسلة الذهب الذي قال عنه أحمد بن حنبل: "لو عُرض هذا الحديث على المجنون لأفاق"، قال(ع): «حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدَّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: حدثني رسول الله عن جبرائيل عن الله أنّه قال: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِن من عذابي».

فقد أراد(ع) أن يؤكّد للناس من خلال هذه الكلمة، أصالة التوحيد التي انطلقت بها كل رسالات الأنبياء، وأنّ الله هو خالق كلّ شيء وربّ كلّ شيء، له القوّة والعزّة جميعاً، وهو المهيمن على الأمر كلّه، والقاهر فوق عباده، وهو الذي يستجيب لعباده ويريد لهم أن يسألوه وحده ولا يسألوا غيره. وهذا هو التوحيد الخالص أكّده القرآن والنبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع). ولذلك علينا، عندما نسأل الله الرزق والشفاء، أن نلتزم بالتّوحيد، لأنّ هناك بعض الناس لا يسألون الله، بل يسألون الأنبياء والأئمة، وهذا خلاف التوحيد وأقرب إلى الشرك، لأنّ الله تعالى يقول: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}(الجنّ:18). نعم، نحن نتوسَل بأهل البيت(ع) ونرجو من الله أن يشفّعهم بنا، وهذا ما ورد في دعاء الخميس: «واجعل توسلي بهم شافعاً، يوم القيامة نافعاً»، فالسؤال ينبغي أن يكون لله، وأهل البيت يملكون الشفاعة بما منحهم الله من كرامة في هذا الشأن، فأنا أتوسل لله بالنبي وبأهل البيت لمكانتهم عند الله، والله هو الذي يشفّع ويُكرم، مع تعظيمنا للنبي(ص) ولأهل البيت(ع). لذلك علينا أن نؤصّل عقائدنا في خطِّ التوحيد، والله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60).

من توجيهاته الأخلاقيّة والعقيديّة

ونقف عند بعض التّوجيهات الأخلاقية للإمام الرضا(ع)، فنروي عن علي بن شعيب أنه قال: "دخلت على أبي الحسن الرضا(ع) فقال لي: «يا علي، مَن أحسن النّاس معاشاً؟، قلت: أنت يا سيدي أعلم به مني، فقال: «يا علي، مَن حَسُن معاش غيره في معاشه. يا عليّ، مَن أسوأ الناس معاشاً؟»، قلت: أنت أعلم، قال: «مَن لم يعش غيره في معاشه. يا عليّ، أحسنوا جوار النعم فإنها وحشية ـ فالإمام(ع) يشبّه النّعم بالحيوان الوحشي الذي إذا هرب فإنه لا يعود ـ ما نأت عن قوم فعادت إليهم. يا عليّ، إن شرّ الناس من منع رفده، وأكل وحده، وجلد عبده. أحسن الظن بالله، فإن مَن حَسُن ظنه بالله كان الله عند ظنه، ومن رضي بالقليل من الرزق قُبِل منه اليسير من العمل، ومن رضي باليسير من الحلال خفّت مؤونته ونَعُم أهلُه، وبصّره الله داء الدنيا ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام».

وسأل رجل الإمام علي الرضا(ع) وهو في الطواف: أخبرني عن الجواد؟ قال(ع): «إن لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق، فإن الجواد الذي يؤدِّي ما افترض الله تعالى عليه، والبخيل من بخل بما افترض الله عليه، وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، لأنه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له».

وورد عنه(ع) عن آبائه(ع) قال: «قال رسول الله(ص): الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللّسان، وعمل بالأركان».

ولما قَبِل الإمام الرضا(ع) ولاية العهد، استنكر عليه البعض هذا الأمر، ونحن نعرف أنّ هناك من يأخذ ببعض الاعتقادات التي ترى أنّ الأئمة أفضل من الأنبياء، ولكن الإمام(ع) عالج هاتين المسألتين في هذه الرواية الواردة في الجزء الثاني من "عيون أخبار الرضا"، عن الحسن بن موسى قال: "روى أصحابنا عن الرضا(ع) أنه قال له رجل: أصلحك الله، كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ وكأنه أنكر عليه ذلك، فقال له أبو الحسن الرضا(ع): «يا هذا، أيُّهما أفضل؛ النبي أو الوصي"؟ فقال: لا بل النبي، قال: «فأيهما أفضل؛ مسلم أو مشرك»؟ قال: لا بل مسلم، قال: «فإنَّ العزيز عزيز مصر كان مشركاً وكان يوسف نبيّاً، وإنّ المأمون مسلم، وأنا وصيّ، ويوسف سأل العزيز أن يولِّيه حيث قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، وأنا أُجبرت على ذلك».

لقد كان الإمام الرضا(ع) القمَّة في العلم والعبادة والأخلاق والقرب من الله في عبادته وطاعته، وعلينا أن نعمل على أساس الالتزام بسيرته التي تمثّل الإسلام كلّه، كما هي سيرة آبائه وأبنائه، وعليكم عندما تزورون الإمام الرضا(ع)، أن تقفوا لتتأملوا كلَّ حياته، ولتقتدوا به، فأهل البيت(ع) هم القدوة لنا في كل ما يريده الله منّا في توحيده وطاعته. والسلام على الإمام الرضا(ع)، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يُبعث حياً.

علم الرّضا(ع)

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).

من أهل هذا البيت ومن أئمتهم، الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في السابع عشر من هذا الشهر، شهر صفر، وهناك رواية تقول في التاسع والعشرين منه. ويروى أن هذا الإمام العظيم توفي بالسم، وهناك بعض العلماء يتحفَّظ عن ذلك. وفي ذكراه، لا بدّ لنا من الوقوف عند سيرته، وهو الذي قال أبوه الإمام موسى الكاظم(ع) عنه لبنيه: «وهذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمَّد، فسلوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم».

والذي حدَّثتنا كتب السيرة عنه فيما ورد في الأحاديث عن بعض أصحابه، وهو إبراهيم بن العباس، قال: «ما رأيت الرضا يُسأل عن شيء قطّ إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوَّل إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلِّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن ـ بمعنى أنّه كان يستوحي آيات القرآن في كل ما يُسأل عنه وما يجيب فيه ـ وكان يختمه في كل ثلاث (ثلاث ليالٍ) ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت، ولكني ما مررت بآية قطّ إلا فكّرت فيها، وفي أيّ شيء أنزلت، وفي أي وقت، فلذلك صرت أختمه في كلّ ثلاث».

ويقول إبراهيم بن العباس واصفاً أخلاق الإمام الرضا(ع): "ما رأيت الرضا جفا أحداً بكلام قطّ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتَّكأ بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه، ولا رأيته تفل قط ـ أمام الناس ـ ولا رأيته يقهقه في ضحكه، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصب مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتى البوّاب والسائس، وكان(ع) قليل النّوم باللّيل، كثير السّهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصّبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر. وكان كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ـ فكان(ع) يدور على بيوت الفقراء، ويعطيهم الصدقة من دون أن يعرفوه ـ فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه".

عبادته وتقواه

وقال رجل للرضا(ع): "والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً. فقال(ع): «التقوى شرّفتهم وطاعة الله أحظتهم». فقال له آخر: أنت والله خير الناس، فقال(ع) له: «لا تحلف يا هذا، خيرٌ مني من كان أتقى لله وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}»(الحجرات:13). والإمام(ع) هو خير الناس لأنه أتقى الناس، ولكنّه تحدَّث عن المبدأ، حتى يعرف الناس أن الموقع العظيم عند الله إنّما يناله الإنسان بالتقوى.

وعن إبراهيم بن العباس قال: سمعت عليَّ بن موسى الرضا يقول: «حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلاّ أعتقت رقبةً وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان يرى أنه خير من هذا (وأومى إلى عبد أسود من غلمانه) بقرابتي من رسول الله, إلا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل منه به».

وعلى هذا الأساس، يجب على كلّ الذين ينتسبون إلى النبيّ(ص) أن لا يشعروا بالعلوّ أمام الآخرين لمجرد انتسابهم إلى النبي(ص)، إنّما يرتفع النَّاس عند الله ويتقرَّبون إليه سبحانه وتعالى من خلال التقوى.

وورد عن أبي الصلت الهرويّ أنه قال: "ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالِم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد، علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحدٌ إلا أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور".

وكانت للإمام الرِّضا(ع) الهيبة الكبرى في نفوس كلِّ علماء عصره، وكان إذا دخل إلى المسجد والنَّاس يسألون العلماء، قام العلماء بتوجهيهم إلى الإمام الرضا(ع) لما يملكه من العلم كلّه. وقد عرض المأمون على الإمام(ع) ولاية العهد، إلاّ أنّه امتنع عن ذلك، ولكن المأمون ألحّ عليه، وذلك بعد مشاكل حصلت بين المأمون وأخيه، ولم يستطع الإمام(ع) الرفض، لكنَّه اشترط عليه عدّة شروط للقبول، وقد استفاد(ع) من هذا الموقع في قضاء حوائج المؤمنين، وفي دعوة النّاس للرّجوع إلى التراث الذي انطلق به رسول الله(ص) وآباؤه(ع)، وفي تصحيح ما أخطأ به الآخرون، وتقويم ما انحرفوا فيه.

السلسلة الذّهبيّة وأصالة التوحيد

وعندما وصل إلى مدينة مرو، في مسيرته إلى طوس التي كان يسكنها المأمون اجتمع عليه الرواة يسألونه أن يحدّثهم، فحدّثهم بحديث سلسلة الذهب الذي قال عنه أحمد بن حنبل: "لو عُرض هذا الحديث على المجنون لأفاق"، قال(ع): «حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدَّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: حدثني رسول الله عن جبرائيل عن الله أنّه قال: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِن من عذابي».

فقد أراد(ع) أن يؤكّد للناس من خلال هذه الكلمة، أصالة التوحيد التي انطلقت بها كل رسالات الأنبياء، وأنّ الله هو خالق كلّ شيء وربّ كلّ شيء، له القوّة والعزّة جميعاً، وهو المهيمن على الأمر كلّه، والقاهر فوق عباده، وهو الذي يستجيب لعباده ويريد لهم أن يسألوه وحده ولا يسألوا غيره. وهذا هو التوحيد الخالص أكّده القرآن والنبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع). ولذلك علينا، عندما نسأل الله الرزق والشفاء، أن نلتزم بالتّوحيد، لأنّ هناك بعض الناس لا يسألون الله، بل يسألون الأنبياء والأئمة، وهذا خلاف التوحيد وأقرب إلى الشرك، لأنّ الله تعالى يقول: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}(الجنّ:18). نعم، نحن نتوسَل بأهل البيت(ع) ونرجو من الله أن يشفّعهم بنا، وهذا ما ورد في دعاء الخميس: «واجعل توسلي بهم شافعاً، يوم القيامة نافعاً»، فالسؤال ينبغي أن يكون لله، وأهل البيت يملكون الشفاعة بما منحهم الله من كرامة في هذا الشأن، فأنا أتوسل لله بالنبي وبأهل البيت لمكانتهم عند الله، والله هو الذي يشفّع ويُكرم، مع تعظيمنا للنبي(ص) ولأهل البيت(ع). لذلك علينا أن نؤصّل عقائدنا في خطِّ التوحيد، والله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60).

من توجيهاته الأخلاقيّة والعقيديّة

ونقف عند بعض التّوجيهات الأخلاقية للإمام الرضا(ع)، فنروي عن علي بن شعيب أنه قال: "دخلت على أبي الحسن الرضا(ع) فقال لي: «يا علي، مَن أحسن النّاس معاشاً؟، قلت: أنت يا سيدي أعلم به مني، فقال: «يا علي، مَن حَسُن معاش غيره في معاشه. يا عليّ، مَن أسوأ الناس معاشاً؟»، قلت: أنت أعلم، قال: «مَن لم يعش غيره في معاشه. يا عليّ، أحسنوا جوار النعم فإنها وحشية ـ فالإمام(ع) يشبّه النّعم بالحيوان الوحشي الذي إذا هرب فإنه لا يعود ـ ما نأت عن قوم فعادت إليهم. يا عليّ، إن شرّ الناس من منع رفده، وأكل وحده، وجلد عبده. أحسن الظن بالله، فإن مَن حَسُن ظنه بالله كان الله عند ظنه، ومن رضي بالقليل من الرزق قُبِل منه اليسير من العمل، ومن رضي باليسير من الحلال خفّت مؤونته ونَعُم أهلُه، وبصّره الله داء الدنيا ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام».

وسأل رجل الإمام علي الرضا(ع) وهو في الطواف: أخبرني عن الجواد؟ قال(ع): «إن لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق، فإن الجواد الذي يؤدِّي ما افترض الله تعالى عليه، والبخيل من بخل بما افترض الله عليه، وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، لأنه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له».

وورد عنه(ع) عن آبائه(ع) قال: «قال رسول الله(ص): الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللّسان، وعمل بالأركان».

ولما قَبِل الإمام الرضا(ع) ولاية العهد، استنكر عليه البعض هذا الأمر، ونحن نعرف أنّ هناك من يأخذ ببعض الاعتقادات التي ترى أنّ الأئمة أفضل من الأنبياء، ولكن الإمام(ع) عالج هاتين المسألتين في هذه الرواية الواردة في الجزء الثاني من "عيون أخبار الرضا"، عن الحسن بن موسى قال: "روى أصحابنا عن الرضا(ع) أنه قال له رجل: أصلحك الله، كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ وكأنه أنكر عليه ذلك، فقال له أبو الحسن الرضا(ع): «يا هذا، أيُّهما أفضل؛ النبي أو الوصي"؟ فقال: لا بل النبي، قال: «فأيهما أفضل؛ مسلم أو مشرك»؟ قال: لا بل مسلم، قال: «فإنَّ العزيز عزيز مصر كان مشركاً وكان يوسف نبيّاً، وإنّ المأمون مسلم، وأنا وصيّ، ويوسف سأل العزيز أن يولِّيه حيث قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، وأنا أُجبرت على ذلك».

لقد كان الإمام الرضا(ع) القمَّة في العلم والعبادة والأخلاق والقرب من الله في عبادته وطاعته، وعلينا أن نعمل على أساس الالتزام بسيرته التي تمثّل الإسلام كلّه، كما هي سيرة آبائه وأبنائه، وعليكم عندما تزورون الإمام الرضا(ع)، أن تقفوا لتتأملوا كلَّ حياته، ولتقتدوا به، فأهل البيت(ع) هم القدوة لنا في كل ما يريده الله منّا في توحيده وطاعته. والسلام على الإمام الرضا(ع)، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يُبعث حياً.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية